فاجعة فتيان عقربا تتطلب لجنة تحقيق رسمية
التاريخ: 
10/01/2022
المؤلف: 

أعتقد أنه جرى التسرع في اعتبار فاجعة عقربا والشعب والوطن، بسقوط ثمانية شبان في عمر الورد في حادث طرق رهيب في أريحا، مجرد شهداء لقمة العيش. إن نتائج الحادث الأليم هي بحجم مجزرة بحق العائلات الثكلى وبحق الشعب الفلسطيني. لقد محا حادث السير شريحة من الحضور الشبابي الناشئ في هذه البلدة.

للأسف، هذا الحادث الأليم يعيدني إلى مرحلة السجن، وبالذات إلى الأسرى الذين اعتُقلوا ضمن ما يُطلَق عليها "انتفاضة السكاكين"، أو "العمليات الفردية"، وتم اعتقالهم وهم فتياناً دون الثامنة عشرة وباتوا شباباً في السجن. ضمن البرامج والورشات التثقيفية والتعليمية، كنت ألاحظ أن عدداً كبيراً منهم لم ينهِ الدراسة الثانوية، والبعض الآخر لم ينهِ الصف السابع حتى. كان ردهم الأول شبه موحّد بأن كل واحد منهم، وهم بالعشرات، أراد أن يساعد والده في إعالة الأسرة. وحين ولجنا إلى عمق المسألة، بدأت الأجوبة تتنوع، لكن كان هناك شبه إجماع أيضاً على ظاهرة قائمة، سواء في مخيم شعفاط في القدس، أم في جنين، أم في نابلس وكل مكان، وهي أن هؤلاء، في معظمهم، كانوا يعانون عسراً تعلّمياً، أو كانوا يعانون جرّاء قلة التركيز، يُضاف إلى ذلك شقاوة الأولاد والفتية، وهي من طبيعة وسِمات هذا الجيل في كل مكان.

فماذا كان رد فعل المسؤول التربوي والإدارة؟ وبالطبع من دون التعميم على كل المدارس، فقد كرر الأسرى الشبان ظاهرة أن يقوم المعلم المسؤول أو المدير بدفعهم نحو ترك مقاعد الدراسة، وهو يلتزم تسجيل حضورهم، وذلك مقابل إصرارهم على "مساعدة الوالد في إعالة الأخوة الصغار"، ويبتزون المدرسة بأنهم سيواصلون الشغب إذا لم تستجب لطلباتهم. وهكذا وُلدت منظومة غير رسمية تدفع بالطلاب الضعاف التحصيل إلى سوق العمل. إلا إن مفهوم "ضعاف التحصيل" هو إشكالي، إنها مسؤولية المدرسة في الرعاية وإيجاد الحلول التربوية. 

كان عدد لا بأس به لا يجيد القراءة والكتابة، وكان مؤلماً تدريس ابن التاسعة عشرة في كتاب اللغة العربية المخصص للصف الخامس ابتدائي. وكان عدد منهم يطلب مني أن أعلّمه اللغة العبرية لأنه يحتاج إليها للعمل في المرافق التابعة لدولة الاحتلال، وفي الأساس في البناء ومجالاته. كنت أرفض، وأصرّ على العربية، وللحقيقة كانوا يقتنعون. 

وقد أحسن مهند عبد الحميد بتقديم تلخيص مكثف للحالة عبر هذا الموقع في 21/12/2020 في هذا المقال:

"حضور خليل السكاكيني وغيابه في المشهد التعليمي"، وقد بيّن ما لاحظته ميدانياً أعلاه، وهو أن  40% من الطلاب الفلسطينيين في الضفة الغربية في المرحلة الابتدائية لا يجيدون القراءة والكتابة، ليصل إلى النتيجة المأساوية الأُخرى، وهي أنه "عند تعديل السنوات الدراسية، بحسب جودة التعليم الفلسطيني، فإن 12 سنة دراسية تعادل 8 سنوات". ما كان السكاكيني يرى الفشل والإخفاق في هؤلاء الفتية، بل في المدرسة التي اعتبرها فاشلة ومسؤولة عن الفشل في مثل هذه الحالات. كما يرى أن دور المدرسة هو بناء إنسان حر وشخصية مستقلة فردية تتمتع بكرامة واحترام، وقادرة على حل مشكلاتها بنفسها، والتلاميذ فيها "يحكمون أنفسهم بأنفسهم".

لا يمكن حصر الموضوع في الجهاز التعليمي الفلسطيني، فهو نتاج الحالة الفلسطينية، وهو وحده غير قادر على أن يكون عنواناً للتحرر من هذه الحالة، مع أنه أدى دوراً آخر في حالات نهضوية أُخرى. فقد كان جهازاً تثويرياً نهضوياً تحررياً تحت الاحتلال، ليس بفضل الاحتلال، بل رغماً عنه ونقيضاً له، وبفضل تحمُّل المجتمع الفلسطيني المسؤولية الذاتية عن تحرره، وهكذا كانت الانتفاضة الأولى خير مدرسة.

البعد الآخر الذي يتعلق بعمالة الأطفال الفلسطينيين هو سماسرة العمل الرخيص في الاقتصاد الاحتلالي. وهذا يفتح مجالاً إلى أن سوق العمل الفلسطينية في الاقتصاد الإسرائيلي تمر عبر منظومة فساد احتلالي وفساد فلسطيني، من خلال التحكم في مسارات وصول الفتية الفلسطينيين إلى مرافق العمل.

وتساءل الكثيرون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لماذا تسرّب هؤلاء من المدرسة المنتظمة إلى سوق العمل، ولماذا يجري تشغيلهم حتى في المستعمرات الاحتلالية، وماذا عن سماسرة التشغيل وظروفه غير القانونية فلسطينياً، وما يحيط بذلك. وتساءل آخرون وأخريات: أين العائلة والأسرة، وما هو دورها تجاه أبنائها، وغيرهم من الأطر الشبابية والرياضية وأطر التأهيل المهني، وكيف يضبط قانون منع تشغيل الأولاد؟ وغير ذلك الكثير، وكلها تساؤلات مشروعة، بل صارخة تشكل مرآة للواقع الفلسطيني المأساوي. ويبقى السؤال الأكبر: أين دور المؤسسة الكيانية السيادية، أي السلطة الوطنية الفلسطينية، في مناطق نفوذها؟ إن دور الحكومة الفلسطينية ليس النعي، ولا الحزن، ولا منح النياشين، بل بداية أولية بالتفكير في الخلاص من هذا الواقع المأساوي.

في مثل هذه الحالة من التضعضع المؤسساتي والسياسي والقانوني، فإن المطلب هو لجنة تحقيق فلسطينية رسمية، ليس من موظفي الدوائر المسؤولة، بل من شخصيات مستقلة موثوق بها، قادرة على تقديم تصوّر لما يمكن القيام به، وكي لا تذهب دماء الضحايا هدراً وراء صدى كلمات الحزن.

عدم التجرؤ على التحقيق الموسع في مجزرة عمالة الأولاد سوف يؤدي إلى ضحايا آخرين. لا يكفي أن نطلق عليهم اسم شهداء لقمة العيش، فهم ضحايا الإهمال الرسمي أيضاً، وضحايا المدرسة والعائلة والمجتمع والسلطة الحاكمة وإنفاذ القانون. إن التحقيق ليس مجرد لائحة اتهام، بل بالأساس لتكريم هؤلاء الضحايا وكي لا يسقط آخرون. كي ننحو في اتجاه التحرر، لا التبعية لاقتصاد المحتل ووكلائه في سوق التشغيل والعمل، وكي نفكر في اقتصاد وطني، وكي نحترم القانون الفلسطيني المعقول نصاً، وغير المعقول تطبيقاً، وفي الأساس كي نفكر في الإنسان الفلسطيني وكرامته، فهو يستحق أكثر.

عن المؤلف: 

أمير مخول: كاتب من حيفا.