محطات شفيق الحوت بين الوطن والمنفى والثورة
التاريخ: 
26/10/2021

من يافا بدأ المشوار، منذ أول صرخة لمولود صغير سمّاه والده شفيق، ليصبح بعد أعوام طويلة الصحافي والسياسي والمناضل والمفكر الفلسطيني شفيق الحوت الذي هُجِّر من الوطن إلى المنافي المتعددة. رحلة طويلة سجّلها في 554 صفحة ضمن كتاب عنوانه "بين الوطن والمنفى: من يافا بدأ المشوار"، والذي كان ذكر بعض أحداثها في 13 لقاءً تلفزيونياً مع المذيع أحمد منصور في برنامج "شاهد على العصر" سنة 2003، أي قبل صدور المذكرات بـ 4 أعوام. سرديات وكواليس كثيرة ومهمة، من أول الطفولة والتربية والتهجير، إلى التعليم والحراك الطالبي في الجامعة الأميركية في بيروت، ثم الاعتقال والخروج، والسفر إلى الكويت، وصولاً إلى تأسيس المنظمات وحلِّها وكواليس لقاءاتها، وحروبها ضد الأطراف المتعددة، إلى أن جاءت الاتفاقيات والمعاهدات ومحاولات الاغتيال. كل تلك الأعوام شهدت تغييراً سياسياً وجغرافياً وتنظيمياً وفكرياً كبيراً في المحيط الفلسطيني والعربي، عاصره شفيق الحوت وكان شاهداً عليه. نروي هنا أبرز محطاته وآرائه.

من يافا إلى بيروت  

في بداية الحكاية، حكى شفيق عن أول 16 عاماً في حياته في يافا الفلسطينية، من سنة 1932 حتى التهجير في سنة 1948. أحاطت بشفيق بيئة وتربية محافظة، من مدرسة المنشية الابتدائية إلى العامرية الثانوية، توغلت الحياة في نفس شفيق وعقله، سمع عن الحرب العالمية الثانية وأدرك أنهم، كفلسطينيين، محاطون بقوة احتلالية صهيوبريطانية متعاونة لنزعهم من أرضهم. كانت يافا، كما يذكر، جزءاً رئيسياً لمساعدته على إدراك مفهوم المقاومة لهذا الاحتلال، نظراً إلى مركزيتها النضالية الشعبية - بعيداً عن النخبة البورجوازية- المتمثلة في الطلاب والعمال، ولجغرافيتها القريبة من تل أبيب، حيث كانت يافا تستنفر عند المواجهات، إلى أن جاء شهر نيسان/أبريل 1948، وتحديداً غروب شمس يوم 23، حين كان شفيق مهجَّراً على ظهر سفينة من يافا إلى بيروت.  

كان لبنان هو المُستقبِل لشفيق وآلاف المهجرين اللاحقين به، أمسى حظ شفيق وعائلته أفضل من غيرهم، هؤلاء الذين توزعت أجسادهم في أحضان العشرات من مخيمات اللاجئين في مختلف أرجاء لبنان. التحق شفيق بالجامعة الأميركية في لبنان، حيث ظهرت نتيجة امتحان "المتريكيوليشن" التي أهّلته لدراسة الطب في الجامعة، فكانت الجامعة المحطة الثانية لرؤية الاختلاف والتنوع العرقي والأيديولوجي، فمن فلسطين ولبنان وسورية والأردن والعراق ومصر، كانوا مؤدلَجين بين الشيوعية والبعثية والناصرية وخليط بين اتجاهات متداخلة. اندمج شفيق بين كل ذلك، تبنى الشيوعية واختار أن يكون ناصرياً بعد ذلك. حاول تأسيس أي رابطة تساند تشرُّد وتيه اللاجئين الفلسطينيين لتوفير المأوى ولقمة العيش لهم، قابَل شفيق ومعه أصحابه الحاج أمين الحسيني مفتي عام القدس، وطلبوا منه مساعدتهم لتأسيس "نادي فلسطين"، لكنه لم يبالِ، وقال لهم "افعلوا ما تشاؤون". ومع ازدياد الحراك المؤدلج لتلك التوجهات، اعتقل الأمن اللبناني شفيق مدة يومين بتهمة حيازة الفكر الشيوعي، ومعه اثنان من زملائه اللذين رُحِّلا بعد ذلك إلى بلديهما، العراق والأردن، حيث استقبلتهم السجون هناك، وبعد ذلك صدر قرار بفصل شفيق ومعه 60 طالباً من الجامعة مدة عام. 

مرة أُخرى أُعيدَ اعتقال شفيق، وصدر بحقّه حكم بالسجن ثلاثة أشهر أمضاها في السجون اللبنانية، بالإضافة إلى المرسوم الذي صدر بحقّه قبل ذلك، والذي يقضي بإبعاده من لبنان. أمضى الحوت مدة سجنه وخرج في نيسان/أبريل 1951، ولم يستطع استكمال دراسته في كلية الطب، لكنه حصل على شهادة البكالوريوس في علم النفس من الجامعة الأميركية في بيروت سنة 1953. لكن، كانت قضية "الاستبعاد" ما زالت قائمة، وكان لها حل وحيد، أن يذهب والده إلى السجل المدني في لبنان ليبحث عن شهادة ميلاده هناك، حيث سجّله جدّه اللبناني في لبنان عند ولادته منذ أكثر من عشرين عاماً، لكن الغريب بالنسبة إلى الابن يومها كان رفض الوالد الذهاب واستخراج شهادة الميلاد، لأنه لا يريد التخلي عن هويته الفلسطينية. بعد ذلك ذهبت القضية إلى المحكمة، وكان القاضي هنري الشاغوري متعاوناً جداً مع شفيق، فاستمع إلى قصته من البداية وساعده بنفسه على تحصيل شهادة ميلاده، وهكذا حصل على الجنسية اللبنانية التي، بموجبها، لا يستطيع أي مسؤول لبناني إبعاد شفيق الحوت المواطن اللبناني. 

تعرّف الحوت إلى الصحافي اللبناني سليم اللوزي الذي أخذه للعمل معه في مجلة الحوادث، لكن قدر المجلة المادي لم يكن ليسعف شفيق وأسرته، الذين تدقّعت أحوالهم المعيشية كغيرهم من الفلسطينيين، إلى أن وصلت بعثة من الكويت إلى لبنان تريد التعاقد مع مدرسين للعمل هناك. فرح شفيق بعقد العمل، لكنه تأخر عدة أشهر في الوصول إلى الكويت، نظراً إلى صعوبة استخراج جواز السفر بسبب تعنّت الأمن العام اللبناني برئاسة المير فريد شهاب الذي طلب منه، وبعد وساطات عديدة، التبرؤ من الشيوعية علناً في الصحف، والتصريح بأقاويل كاذبة عن أمور كثيرة. لم يستجب له شفيق، وأخذ الوقت حقه حتى تمكن من السفر سنة 1956 إلى الكويت، فوصل إلى دائرة المعارف هناك واستقبله الأستاذ الكويتي حسن الدباغ، الذي أوصله بنفسه إلى مدرسة أبي بكر الصديق، حيث عمل هناك مدرساً. كانت الكويت محطة ثالثة لمدة عامين فقط (1956-1958) قبل أن يعود إلى لبنان مرة أُخرى، غلبت الصحافة فيها التدريس، إذ بقي شفيق أيضاً مراسلاً لمجلة الحوادث اللبنانية، وبدأ باسترجاع ذكريات يافا ومدرسة العامرية، حيث التقى الكثير من المهجرين هناك، أمثال عبد المحسن القطّان، ومعين خورشيد، ونواف أبو كشك، ورشاد صالح، وبهاء أبو لبن، وموسى حمو وغيرهم. 

المحطات الحركية للحوت

بعد أن رجع الحوت إلى لبنان، ترأس بنفسه جريدة الحوادث بسبب سفر سليم اللوزي إلى دمشق، نتيجة التضييق الذي أحاطه به الرئيس اللبناني وقتئذ (1958) كميل شمعون. ذيع صيت المجلة في أوساط الصحافة والثقافة، بعد أن سلكت خطاً تحريرياً سياسياً خالصاً بسبب أولوة شفيق للسياسة عن بقية المجالات. قارب شفيق مشارف الثلاثينيات من العمر، لكنه أدرك أهمية العمل الحركي التنظيمي من أجل تحرير فلسطين وحق عودة أصحاب الأرض من شتاتهم، بفضل تجاربه واختلاطه بجلّ التنوعات والتغيرات التي حدثت في البلاد العربية، وبصورة خاصة القضية الفلسطينية. 

لذلك أسس شفيق الحوت ومعه خالد اليشيرطي، وعبد المحسن أبو ميزر، ونقولا الدر، وسميرة عزام، وسعيد بركة، وراجي صهيون، وغيرهم ما يُعرف بـ "جبهة التحرير الفلسطينية"، وكانت دعوة هذا التنظيم ترتكز على توحيد الصفوف الفلسطينية وضرورة وجود تنظيم يتبنى هذه الوحدة، كسبيل للوصول إلى غاية التحرير. اتخذت جبهة التحرير مجلة الحوادث منبراً لها، والتي ساعدتها في الوصول واستقطاب أعضاء ومتابعين لها من غزة وسورية ومصر والكويت والجزائر ومناطق أُخرى، فضلاً عن تحرير دورية بدأت بالصدور سنة 1963، باسم "طريق العودة". التقى شفيق خلال الستينيات شخصيات فلسطينية معروفة كياسر عرفات وأحمد الشقيري. استمرت جبهة التحرير في عملها للدعوة والتنسيق مع التنظيمات الأُخرى وسط النقاش والخلافات وتطورات الأوضاع في الداخل اللبناني وفي المحيط العربي، وخصوصاً بعد نكسة حزيران/يونيو 1967، التي قلّبت جغرافيا وسياسة المنطقة، ولا سيما فلسطين، ومصر، وسورية، والأردن، إلى أن تمّ حلها في سنة 1969.

خلال تلك الأعوام تأسست منظمة التحرير الفلسطينية (أيار/مايو 1964) التي سيصبح شفيق أحد أبرز مؤسسيها وأعضائها ودبلوماسييها، والذي قال عن مؤسسها ورئيسها الأول أحمد الشقيري: "لولا مساعيه لما تأسست منظمة التحرير الفلسطينية"، وذلك رغم الخلافات التي نشبت بينهما بعد ذلك على طريقة إدارة الشقيري لها. وكانت المنظمة بمثابة نقلة تنظيمية على مستوى الحراك الفلسطيني، لأنها أول كيان رسمي معترَف من العالم كله بأحقيته في تمثيل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج.

شغل شفيق منصب رئيس مكتب المنظمة في بيروت، وعضواً في مجلسها الوطني، وعضواً في لجنتها التنفيذية في الفترة 1966- 1968، ومرة ثانية في الفترة 1991-1993، ليبدأ جولاته في مخيمات الفلسطينيين في لبنان وتعريفهم بالمنظمة الناشئة، وسياحته الدبلوماسية في السودان ومصر وغيرهما من الدول، للمشاورات والنقاشات بشأن عقد مؤتمرات الحل.

جاءت نكسة حزيران/يونيو 1967، لتغيّر ملامح التنظيم السياسية والجغرافية لمنظمة التحرير وللأنظمة العربية، استقال الشقيري من منصبه، فخلفه موقتاً يحيى حمودة، ومن ساعة النكسة إلى بدايات سنة 1969، ذيعَ صيت الفصائل الفلسطينية التي تتبنى الكفاح المسلح ضد الوجود الصهيوني، وبدأت العمليات الفدائية من ناحية الأغوار على الحدود بين الأردن وفلسطين، إلى أن بدأ تغيير هيكلة المجلس الوطني لمنظمة التحرير، إذ صعد شفيق الحوت ليكون من ضمن أعضائه، وتولى ياسر عرفات رئاسة المنظمة في شباط/ فبراير 1969.

استنكر الحوت في سردياته الخلافات التي كانت بين الأشقاء العرب في تلك الفترة، ومدى حرص بعضهم، بل ومحاولتهم التقليل من أحمد الشقيري في أثناء جلسات القمم العربية، وهذا ضمن ما أدى إلى استقالته. بالتدريج، وبعد صعود ياسر عرفات، وتغيير ملامح واستراتيجيات عمل المنظمة، بدأت الفصائل - ولاسيما فتح- بحسب ما وصف الحوت، بالسيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية، على الرغم من أن شفيق الحوت حلّ جبهة التحرير الفلسطينية سنة 1969، والتي أسسها هو ورفاقه، سعياً منه لتجميع جهود التحرير تحت راية المنظمة الرسمية الناشئة.

عن المؤلف: 

أحمد عبد الحليم: كاتب وباحث مصري، مختص بقضايا الاجتماع.