بينما تظل قضيتا اقتلاع سكان حي الجراح وبلدة سلوان من منازلهم والتعديات المتكررة التي يقوم بها المستوطنون على المسجد الأقصى في القدس الشرقية قضيتين ملتهبتين، جاء التقرير السنوي الذي قدمه المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مايكل لينك، إلى مجلس حقوق الإنسان يوم 9 تموز/يوليو الجاري ليعيد تذكير المجتمع الدولي بأن الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة هو جريمة حرب وفقاً لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لسنة 1998، وأن وجود المستوطنين الإسرائيليين في هذه الأراضي ينتهك المبادئ الأساسية للقانون الإنساني الدولي، مؤكداً أن احتلال إسرائيل غير الشرعي للأراضي الفلسطينية وازدراءها القانون الدولي لا يمكن أن يتواصلا من دون عواقب.
تقرير مايكل لينك دليل جديد على جريمة الاستيطان
أعرب مايكل لينك في تقريره عن أسفه لأن إسرائيل، "القوة القائمة بالاحتلال"، لم تمنحه مطلقاً إمكانية زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة على مدى السنوات الخمس الماضية، معتبراً أن رفض حكومة إسرائيل التعاون مع التفويض الممنوح له "ليس في مصلحة أحد، وبالتأكيد ليس في مصلحة القضية النبيلة لحقوق الإنسان".
وبعد أن توقف عند ما حدث مؤخراً في فلسطين، وخصوصاً سعي منظمات المستوطنين الإسرائيليين في القدس الشرقية إلى طرد العائلات الفلسطينية من منازلها، لا سيما في سلوان والشيخ جراح، وما وقع من أحداث دموية في قطاع غزة أسفرت عن قتل أكثر من 250 فلسطينياً، من بينهم 66 طفلاً و40 امرأة، فضلاً عن عشرة مواطنين إسرائيليين، قدّر أن المجتمع الدولي "لا يمكنه الاستمرار في التغاضي عن الكارثة الإنسانية التي تتكشف في غزة، التي تعاني من حصار كامل منذ 14 عاماً".
وفي هذا السياق، دعا المقرر الخاص المجتمع الدولي إلى تقديم الدعم الكامل لعمل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، ووضع مجموعة شاملة من تدابير المساءلة لتطبيقها على إسرائيل إذا استمرت هذه الدولة في تحدي القانون الدولي، بما في ذلك مراجعة الاتفاقيات التجارية والثقافية والاستثمارية معها وإنهاء مبيعات الأسلحة إليها. كما دعا المجتمع الدولي إلى مساءلة القادة السياسيين والعسكريين والإداريين الإسرائيليين، المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي في الأرض الفلسطينية المحتلة، عن أفعالهم.
وقد شارك عدد كبير من الوفود الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان في مناقشة تقرير المقرر الخاص، وأعربوا بصورة خاصة عن أسفهم لأنه على الرغم من الاحتجاج الدولي على التهديد بطرد العائلات الفلسطينية من منازلها في حي الشيخ جراح وسلوان في القدس الشرقية المحتلة، فإن حملة التهجير الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية مستمرة، معتبرين "أن كل الممارسات التي تستهدف الوجود الفلسطيني تتعارض مع متطلبات القانون الدولي وتقوّض أي إمكانية لتحقيق حل الدولتين وإحلال السلام الدائم المنشود في المنطقة". ودعا المتحدثون إلى العمل سريعاً على "إطلاق عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية بدعم من وسطاء دوليين، وخصوصاً من اللجنة الرباعية للشرق الأوسط "[1].
نظام روما الأساسي يصنّف المستوطنات الإسرائيلية ضمن جرائم الحرب
في مقال نشراه في العدد 16 من "مجلة حقوق الإنسان" سنة 2019، تساءل الباحثان جيسلين بواسونير وإريك ديفيد: هل تشكل سياسة الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية جريمة حرب؟ وذلك قبل أن يؤكدا أن نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يصنّف، في المادة 8 من مواده، ضمن جرائم الحرب "قيام دولة الاحتلال على نحو مباشر أو غير مباشر بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها، أو إبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها". وبحسبهما، فإن القاعدة التي تحظر أي شكل من أشكال النقل، المباشر أو غير المباشر، من قبل سلطة الاحتلال، لجزء من سكانها المدنيين، إلى الأراضي التي تحتلها، باتت راسخة في القانون الدولي. فالفقرة 6 من اتفاقية جنيف الرابعة المؤرخة في 12 أغسطس/آب 1949 تنص على أنه "لا يجوز لسلطة الاحتلال إبعاد أو نقل جزء من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها". كما أن القانون الدولي الإنساني ينص على أنه "لا يجوز للدول ترحيل أو نقل جزء من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها".
ورداً على تذرع إسرائيل "بأن القانون الدولي الإنساني يحظر النقل القسري للسكان إلى الأراضي المحتلة فقط وليس النقل الطوعي"، يشير الباحثان إلى أنه يعيش الآن أكثر من 10٪ من مجموع السكان الإسرائيليين في مستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويتزايد عددهم بنسبة 4-6٪ كل عام، وتستغل الحكومة الإسرائيلية ما يسمى بالزيادة "الطبيعية" في حجم المستوطنات كي تعمل على توسيعها من خلال مصادرة المزيد من الأراضي الخاصة التي تعود للفلسطينيين أو الأراضي الواقعة ضمن المجال العام الفلسطيني. ويضيف الباحثان أن نمو المستوطنين في الضفة الغربية مرتبط أيضاً بالترحيل المنتظم والمستمر للمواطنين الإسرائيليين، الذين يأتون للاستقرار في الضفة الغربية، إما لأسباب أيديولوجية أو دينية، أو لأسباب اقتصادية، ويتوقفان، في هذا الصدد، عند العديد من التقارير الدولية التي تسلط الضوء على الموارد السياسية والمالية الكبيرة التي توظفها إسرائيل بغية ضمان التوسع الدائم للاستيطان. فحكومة إسرائيل تقدم خدمات وحوافز للمستوطنين في مجالات البناء والإسكان والتعليم والصناعة والزراعة والسياحة، بالإضافة إلى طرق الاستخدام الحصري والوصول المميز إلى إسرائيل. وتشارك بعض الهيئات الإسرائيلية العامة أو شبه العامة، مثل المنظمة الصهيونية العالمية، والوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي، في تمويل عمليات الاستتيطان وتنفيذها في بعض الأحيان.فوفقاً لتلك التقارير، بمجرد بناء المساكن، ينجذب المستوطنون إلى حياة أرخص من تلك السائدة في الأراضي الإسرائيلية. إذ تعتبر وزارة البناء والإسكان، التي تخصص 30٪ من ميزانيتها لتمويل الاستيطان، غالبية المستوطنات الإسرائيلية "مناطق أولوية قومية"، وهي صفة مخصصة عادةً للمناطق الاقتصادية الضعيفة، ويسمح هذا التصنيف لسكانها بالاستفادة بشكل خاص من انخفاض سعر شراء العقارات أو معدلات الاقتراض التفضيلية أو حتى معدلات الضرائب المخفضة، كما تقدم الحكومة حوافز ضريبية مختلفة للشركات التي تستقر في المستوطنات. وتنفق الحكومة الإسرائيلية سنويًا حوالي 10000 شيكل (ما يقرب من 2000 يورو) على المستوطن أكثر مما تنفقه على مواطن إسرائيلي يعيش داخل حدود إسرائيل[2].
منظمة بتسليم: الحوافز المقدمة للمستوطنين
في 30 آذار/مارس 2021، نشرت شبكة المنظات الفرنسية غير الحكومية من أجل فلسطين تقريراً لمنظمة بتسيلم الإسرائيلية غير الحكومية ورد فيه أن ما يقدر بنحو 662.000 مستوطن إسرائيلي يعيشون في الضفة الغربية المحتلة في أواخر سنة 2020، بما في ذلك ما يقرب من 220.000 في القدس الشرقية، وأن معدل نمو المستوطنين زاد بنسبة 42٪ منذ سنة 2010 وتضاعف أكثر من أربعة أضعاف منذ سنة 2000. وتضيف أن المستوطنين الذين يطلق عليهم اسم "المستوطنين الاقتصاديين"، الذين تجذبهم التكلفة المنخفضة للعقارات في المستوطنات ومساعدات الدولة للاستيطان، يمثلون 80٪ من المستوطنين. وتساهم المستوطنات بنسبة 4٪ من الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل. وتقدر قيمة الإنتاج الزراعي من مستوطنات وادي الأردن وحدها بحوالي 500 مليون شيكل (100 مليون يورو) سنوياً، ويتم تصدير أكثر من 80٪ من التمور من هذه المستوطنات.
ويتابع التقرير نفسه أنه في الربع الأول من سنة 2019، أنفقت الحكومة الإسرائيلية 111.5 مليون يورو على المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، وهو رقم قياسي في 10 سنوات. وفي أواخر سنة 2020، أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن تخصيص موازنة جديدة بقيمة 20 مليون شيكل (5.12 مليون يورو) لتوسيع المستوطنات الواقعة في الضفة الغربية في المنطقة (ج). وتقدم الحكومة الإسرائيلية مزايا عدة للمستوطنين مثل تخفيض ضريبي بنسبة 7٪ ، وتكاليف مواصلات بنسبة 75٪، ومدرسة مجانية، ومنح على القروض (تصل أحيانًا إلى 95٪ من السعر) وما إلى ذلك.
وتشير التقديرات إلى أن المستوطنات تكلف الدولة الإسرائيلية 2.5 مليار شيكل كل عام[3].
محكمة الجنايات الدولية والتحقيق في جريمة الاستيطان
في مقال الباحثين جيسلين بواسونير وإريك ديفيد المذكور أعلاه، أشير إلى أن دولة فلسطين رفعت في 1 كانون الثاني/يناير 2015 إعلاناً تقر فيه باختصاص المحكمة الجنائية الدولية للبحث في الجرائم التي يزعم ارتكابها "في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية"، ثم أودعت في اليوم التالي صك انضمامها إلى نظام روما الأساسي لدى الأمين العام للأمم المتحدة. وبمجرد انضمام فلسطين إلى النظام الأساسي، قرر المدعي العام للمحكمة في 16 من الشهر نفسه إجراء دراسة أولية للوضع في فلسطين، وذلك بغية التحقق مما إذا كان هناك أساس معقول لفتح تحقيق في الجرائم التي حددتها فلسطين، وما إذا كانت تقع ضمن اختصاص المحكمة.
وفي 22 أيار/مايو 2018، أحالت دولة فلسطين الوضع في فلسطين مرة أخرى إلى المحكمة الجنائية الدولية، وطلبت على وجه التحديد من المدعي العام للمحكمة "التحقيق وفقًا للاختصاص الزمني للمحكمة في الجرائم الماضية والحالية والمستقبلية التي تقع ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، والمرتكبة في جميع أنحاء أراضي دولة فلسطين"، وذلك بالنظر إلى تسارع هذه الجرائم وتأثيرها الذي لا رجوع فيه على حياة الفلسطينيين. ومن بين جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية التي أحيلت، جريمة "النقل، المباشر أو غير المباشر، من قبل قوة محتلة لجزء من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها".
ومن المعروف أن قضاة محكمة الجنايات الدولية أصدروا، في 5 شباط/ فبراير 2021، قراراً يقضي بأن المحكمة ومقرها لاهاي لها ولاية قضائية في الأراضي الفلسطينية، مما يفتح المجال أمام تحقيق محتمل في هذه الجرائم، وذلك رغم اعتراض إسرائيل. وكانت المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا قد رأت، في كانون الأول/ديسمبر 2019، أن هناك "أساساً معقولاً للاعتقاد بأن جرائم حرب ارتكبت أو ترتكب في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وقطاع غزة"[4]. وعليه، بات في وسع هذه المحكمة التحقيق في جريمة الاستيطان واعتبارها جريمة حرب وفقاً لنظام روما الأساسي.
[1] https://www.ungeneva.org/fr/news-media/meeting-summary/2021/07/les-colonies-israeliennes-constituent-un-crime-de-guerre-selon
[2] https://journals.openedition.org/revdh/7353
[3] https://plateforme -palestine.org/Colonies-les-chiffres-cles-2020
[4] https://www.dw.com/ar/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D8%A7%D8%A6%D9%8A