منذ عقود، تخضع المؤسسة الفلسطينية الرسمية لهيمنة حركة "فتح" بغطاء تعددي وهمي يؤمنه صندوق المال، الأمر الذي يُبقي الهيمنة البيروقراطية، والانسداد السياسي والديمقراطي، اللذين قادا ويقودان إلى أزمة كبيرة من الوزن الثقيل.
لم تبرح المؤسسة الرسمية الفلسطينية مرحلة الحرب الباردة التي سادت فيها الشمولية والمركزية الشديدة، وإنما حافظت عليها وعززتها بالأبوية والبيعة والمكرمة الرئاسية، وبالعلاقات العشائرية، وذلك على الرغم من التحولات الكبيرة التي شهدتها الخرائط السياسية والاجتماعية والتنظيمية. فقد بقي نظام المحاصصة الفصائلي (الكوتا) سائداً، واستمرت الفصائل (التي لم يبقَ منها غير هياكل بيروقراطية من دون أجسام حقيقية) جزءاً من التمثيل والقرار لفائدة هيمنة التنظيم المسيطر على المؤسسة (أي "فتح").
وعلى المنوال ذاته، تم شطب الهامش المستقل الذي كانت الاتحادات الشعبية والمهنية قد انتزعته في مرحلة الصعود، وبالتالي أصبحت بالتمام والكمال في جيب التنظيم المسيطر، وفي حالة انكفاء مزرية.
وامتدت علاقات السيطرة الجديدة إلى تنظيم "فتح" ذاته الذي جرى أول فصول هيكلته في المؤتمر السادس في بيت لحم في سنة 2009، واستُكمل في المؤتمر السابع الذي عُقد في رام الله في سنة 2016، حين تمت غربلة العضوية واستُبعد عدد كبير من الكوادر، وخصوصاً مراكز قوى مؤثرة ومعارضين. وفي المقابل، كُرّست قيادة تضم قادة الأجهزة الأمنية وكوادر موالية، فضلاً عن أقلية تتكون من رموز نضالية ذات صدقية شعبية، وأبرزهم مروان البرغوثي.
مؤتمرا "فتح" الآنفا الذكر، منحا الرئيس محمود عباس صلاحيات مطلقة، علماً بأنه انتُخب بالتزكية وبالإجماع قائداً عاماً لحركة "فتح" في المؤتمر السابع. وكان من تجليات ذلك إعطاؤه صلاحية خفض عضوية المؤتمر السابع من 2500 عضو شاركوا في المؤتمر السادس، إلى 1400 عضو للمؤتمر السابع، بينما تحول خطابه في المؤتمر المشار إليه، إلى برنامج سياسي لحركة "فتح".[1]
من نافل القول أن المؤتمرَين المذكورين أزاحا برنامج "فتح" واعتمدا برنامج السلطة الذي يرتكز على اعتبار عملية "السلام خياراً استراتيجياً"، على الرغم من تقويض دولة الاحتلال لجميع مقومات ذلك "السلام" برعاية الإدارات الأميركية المتعاقبة. وتلك المواءمة السياسية والتنظيمية لم تترك هامشاً مستقلاً لـ "فتح"، وإنما ربطت الحركة بالسلطة المقيدة والمحكومة باتفاق أوسلو وقراءته الميدانية الإسرائيلية، بما يتناقض مع كون "فتح" حركة تحرر وطني قادت الثورة منذ سنة 1968.
تراجع القضية إلى الهامش
تمسكت السلطة الفلسطينية باتفاق أوسلو والعلاقات السياسية والاقتصادية الدولية والإقليمية التي بُنيت عليها، على الرغم من استخدام إسرائيل للاتفاق غطاء لتعميق الاحتلال وتعزيز الاستيطان ونهب الموارد والتهويد المرتبط بأشكال من التطهير العرقي والهيمنة على كل شيء، وصولاً إلى محاولة ترسيم الضم عبر صفقة القرن التي صاغها فريقا ترامب ونتنياهو، بما في ذلك نزع صلاحيات السلطة التي نصّ عليها اتفاق أوسلو. وبررت السلطة ذلك بالحفاظ على "شرعيتها" في إطار النظام الدولي والنظامَين العربي والإقليمي، وعدم ترك فراغ يسمح بتدمير البقية الباقية من الاتفاق، وذلك على الرغم من انهيار الروافع التي اعتمدتها القيادة لتحقيق الحل السياسي المنشود.
فرافعة النظام العربي انهارت بعد انتقال العديد من دوله إلى علاقات التطبيع والتحالف مع دولة الاحتلال، أمّا رافعة النظام الدولي فتتحكم فيها واشنطن المنحازة إلى التصورات الإسرائيلية الاستعمارية، سواء أكانت الإدارة الأميركية ديمقراطية أم جمهورية. وكانت إدارة ترامب الأكثر وضوحاً عبر إعلانها أن الأراضي الفلسطينية هي أراضٍ غير محتلة، وأن الاستيطان عمل مشروع، الأمر الذي يعني الإقرار بالسيادة الإسرائيلية على فلسطين كلها، باستثناء أرخبيلات مقطعة الأوصال. ولم يغيّر وصول بايدن إلى البيت الأبيض جوهر مشروع نتنياهو - ترامب. أمّا الركيزة الثالثة لحل أوسلو الممثلة في معسكر "سلام" إسرائيلي"، أو شركاء إسرائيليين، فانهارت أساساً بعد التحول الجذري لإسرائيل نحو اليمين العنصري القومي الإسرائيلي.
تلك الركائز الثلاث التي بُنيت فوقها الاستراتيجيا الرسمية الفلسطينية لم تكن في واقع الحال ركائز حقيقية للخلاص من الاحتلال، كما أن انهيارها جعل كل حديث عن إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية من خلال التفاوض، حديثاً عديم الجدوى ومضيعة للوقت. ولا يغير من هذه الحقيقة كلام إدارة بايدن عن حل الدولتين والعودة إلى المفاوضات وتنشيط عملية السلام، ما دامت دولة الاحتلال مستمرة في صناعة الوقائع الاستعمارية كالتطهير العرقي والضم والنهب والقمع المنهجي والهيمنة على شعب بصورة دائمة.
ومع أن الانغلاق السياسي وضع القضية الفلسطينية على هامش الاهتمام الدولي والإقليمي والإسرائيلي، إلّا إن القيادة الرسمية الفلسطينية واصلت التمسك باتفاق أوسلو، وكررت مطالبتها باستئناف العملية السياسية عبر مؤتمر دولي تشرف عليه الرباعية الدولية التي تعاني هيمنة أميركية داعمة للرفض الإسرائيلي المطلق لمشاريعها. واستمرت تلك القيادة بالنفخ في قربة مثقوبة طلباً للتفاوض، ووجدت في انضمام فلسطين إلى الاتفاقات والمنظمات مبرراً للاستمرار في الاتجاه نفسه على أمل الحصول على إنجاز، متناسية أن التمرد الإسرائيلي الدائم على القانون الدولي وعلى المؤسسات الحقوقية الدولية كلها، والمدعوم أميركياً ، جعل ويجعل الفشل مصير كل مبادرة. وأكبر دليل على ذلك أن التوصية التي قدمتها المحكمة الدولية بشأن عدم قانونية جدار الفصل العنصري، وتقرير غولدستون الذي اتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب خلال عدوان سنة 2008 على قطاع غزة، وجميع تقارير مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة و"منظمة العفو الدولية" (Amnesty International) و"هيومن رايتس وتش"، ذهبت كلها أدراج الرياح، ولم تغير في الواقع قيد أُنملة.
بُنية عاجزة
يجوز القول إن بُنية أوسلو غير مؤهلة لتجعل القيادة الفلسطينية تنتقل إلى مسار جديد جوهره الاعتماد على الشعب الفلسطيني وحلفائه الحقيقيين عربياً ودولياً، وفي الوقت ذاته لا تسمح لها بالاستمرار في مسارها الفاشل وأن تتمتع بغطاء شعبي في آن واحد، وذلك بعد أن استنفدت جميع الفرص على امتداد الـ 28 عاماً التي مضت. إن منطق الأمور بعد تجربة فاشلة وانسداد سياسي كامل، يقول بضرورة إنتاج خطة فلسطينية أُخرى، خطة "ب"، بمسار آخر وبُنية سياسية وإدارية مغايرة، وركائز فلسطينية جديدة تضم قطاعات عريضة من الشعب الفلسطيني؛ لكن للاسف لم تتوفر الخطة "ب"، بل إن البحث عن مسار بديل غيرُ مُدرَج في أجندة السلطة، وأقصى ما فعلته في مواجهة صفقة القرن هو رفضها ومقاطعتها لإدارة ترامب، ورفض قرار ضم القدس واستصدار بيانات عربية وإسلامية لا تُسمن ولا تغني من جوع، وكان سقف موقفها، التهديد بإلغاء اتفاق أوسلو والتراجع عن الاعتراف بإسرائيل، إذا ما جرى ترسيم ضم الأغوار والمستعمرات، مع أن الضم متحقق على أرض الواقع. واكتفت السلطة بقرار إسرائيل إرجاء ترسيم الضم، لتوقف في المقابل اعتراضها على الدول العربية التي أبرمت اتفاقات تحالف وتطبيع مع إسرائيل، فضلاً عن إعادتها السفراء الذين استدعتهم من تلك الدول.
وفي المقابل، لا توجد خطة بديلة لدى المعارضة الفلسطينية سوى الرفض الكلامي. فمَن يدقق في وثيقة المبادىء السياسية العامة الصادرة عن حركة "حماس" في سنة 2017، سيجد أنها قبلت بإقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس على خطوط الرابع من حزيران / يونيو 1967، متراجعة عن هدف تدمير إسرائيل، ومستبدلة العداء لليهود بالعداء للصهيونية.[2] ومع أن الوثيقة لا تعترف بإسرائيل، إلّا إنها تعترف بحدودها القائمة على أراضي ما قبل 5 حزيران / يونيو 1967. كما أن "حماس" قطعت شوطاً في تفاوضها غير المباشر لإبرام هدنة طويلة الأمد مع دولة الاحتلال في مقابل الإقرار الإسرائيلي بسيطرتها على قطاع غزة في صيغة شبه دولة تملك مطاراً في سيناء تحت سيطرة مصرية، وميناء عائماً قبالة غزة تسيطر عليه إسرائيل، وهو اتفاق في حالة إبرامه سيكون أسوأ من اتفاق أوسلو.
وبشأن المعركة الأخيرة في أيار / مايو، والتي استمرت 11 يوماً، فإن "أمان (شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية) ما زالت تعتقد أن خيار [رئيس "حماس" في غزة يحيى] السنوار الاستراتيجي بالتوصل إلى تهدئة. وتريد الحركة نموذجاً سيادياً ناجحاً في القطاع، كممثل لحركة الإخوان المسلمين في غزة. والشاباك، كالعادة، أكثر تشاؤماً ويحذر من اندلاع مواجهة أُخرى"، وأن المسؤولين في إسرائيل أدركوا أن "السنوار مستعد للمخاطرة بعدة أيام قتالية، بهدف السيطرة على قيادة النضال الفلسطيني في القدس الشرقية والضفة."[3]
وعلى الصعيد التنظيمي، قدمت "حماس" نموذجاً غير ديمقراطي في غزة، لجهة الاستئثار بالقرار، ومنع الحريات العامة والخاصة، بما في ذلك الحقوق النقابية وحقوق النساء، وأنتجت أشكالاً من الفساد، ولم تطالب بالانتخابات العامة إلّا عندما شعرت بأن شعبيتها تسمح لها بالفوز، اعتماداً على فشل السلطة وتراجع شعبيتها، فباتت تطرح نفسها كبديل مستخدمة سلاح المقاومة والعسكرة في تعزيز نفوذها وسيطرتها، من دون أن تطرح استراتيجيا بديلة. ومَن يدقق في برامج وبُنى التنظيمات والمجموعات المستقلة الأساسية التي تقدمت بقوائم وأسست كتلاً انتخابية، لا يجد بديلاً من المسار السياسي المتمثل في أوسلو، وإنما يجد اختلافاً في الأداء وفي الموقف من التنسيق الأمني وفي رفض الاستئثار بالسلطة وبصلاحيات الرئيس الاستثنائية؛ باختصار لا توجد بُنية ديمقراطية نقيضة للبُنية اللاديمقراطية، الأمر الذي يجعل التغيير الديمقراطي والسياسي أقرب إلى الاستبدال ومن دون مضمون.
إن عملية الانتقال من مسار أوسلو إلى مسار التحرر، تصطدم بمصالح نخب سياسية واقتصادية وشرائح مجتمعية تواصل الارتباط بمسار فاشل، أو ببقاء الأوضاع على ما هي عليه من دون حل، متدثرة بغطاء عدم ترسيم الضم النهائي والإبقاء على ورقة توت حفاظاً على ماء الوجه. وفي المقابل، فإن استمرار المرحلة الانتقالية التي يتعمق فيها الاحتلال والاستيطان والأبارتهايد والنهب والخنق، يقود إلى انفجارات شعبية بصيغة هبّات متتالية، وإلى انعزال القيادة عن أكثرية الشعب، وعن قواعد ومناصري التنظيمات بما في ذلك قواعد حركة "فتح"، ويُفقدها شرعيتها التمثيلية. وإذا ما فقدت القيادة شرعيتها الشعبية فإن ذلك سيخلخل شرعيتها الدولية والعربية ويحولها إلى شاهد زور. صحيح أن دولاً عديدة تفتقد الشرعية الشعبية وتستعيض عنها بسيطرة الجيش وأجهزة الأمن وبالقمع، لكن في فلسطين المحتلة فإن هذا الخيار غير ممكن، لأن الشرعية الشعبية مسألة حاسمة، وعندما يتعرض الشعب للإقصاء ولمحاولات فرض علاقات سيطرة استعمارية عنصرية - علاقة أسياد / عبيد، وعندما يتم المسّ بالكرامة الوطنية والإنسانية، وتكون قيادة الشعب عاجزة عن فعل أي شيء أو متعايشة مع الواقع المأسوي، فإنها تفقد شرعيتها.
نماذج التغيير المطلوب
لا يمكن بقاء الأوضاع على ما هي عليه من دون تغيير، والتغيير المنشود ضمن الخصوصية الفلسطينية لا يعني الدفع نحو انهيار المؤسسة الفلسطينية الذي سيأتي بنتائج عكسية لمصلحة الاحتلال، ولا يعني استبدال سلطة غير ديمقراطية بسلطة أُخرى غير ديمقراطية، فليس مطلوباً استبدال سلطة تمارس القمع وتستفرد بالقرار بسلطة تمارس القمع الداخلي باقتدار بغطاء المقاومة، وليس المطلوب تقديم استراتيجيا ممانعة تتعايش مع الاحتلال عملياً وترتبط بأجندات إقليمية خارجية وتشكل الوجه الآخر لاستراتيجيا أوسلو. إن التغيير المنشود يعني استبدال بُنية بيروقراطية متكلسة وعاجزة عن بناء عملية تحرر وغير قادرة على توحيد الشعب، ببُنية تملك ديناميات التطور وتفعيل طاقات المجتمع في سياق عملية التحرر من الاحتلال.
إن التغيير والبناء المطلوب يأتيان من تحت، وعبر معارك ديمقراطية ووطنية تحقق إنجازات يمكن البناء فوقها. فعلى سبيل المثال قدّمت هبّة القدس نموذجاً لانخراط رعيل جديد من شابات وشبان في التصدي لسياسات التطهير العرقي والضم التي مارسها الاحتلال في مدينة القدس؛ فقد قدم هؤلاء خطاباً جديداً لقي آذاناً صاغية داخل فلسطين وخارجها.. خطاباً بديلاً من الخطاب الخشبي، سرعان ما اكتسب صدقية لأنه اقترن بالصدام الشجاع مع المحتلين، وبتخطي حاجز الخوف الجديد الذي أعاد الاحتلال بناءه، وبكسر حاجز العجز الرسمي الفلسطيني، وحاجز عجز المعارضة.
نجحت هبّة القدس التي كان هدفها فرض التراجع الإسرائيلي في باب العمود وفي الشيخ جرّاح والمسجد الأقصى، في استنفار شابات وشبان القدس، ولاحقاً في جذب أترابهم في مناطق 48 والضفة والقطاع، وفي استدعاء الحلفاء الحقيقيين للشعب الفلسطيني في كل مكان، وظهر الشعب موحداً في رفض الاستباحة الإسرائيلية لحقوقه ولكرامته.
لقد نجحت هبّة القدس في ممارسة حق النقض على الغطرسة الإسرائيلية، وتعززت وحدة الشعب بأداء المقاتلين الشجعان في المواجهة العسكرية، الذين اخترقوا حاجز التفوق، ووجهوا ضربة مؤلمة إلى هيبة وعنجهية جنرالات الجيش الذي لا يُقهر. وحدث ذلك على الرغم من الهدف السياسي الفئوي للمعركة، ومن دور العسكرة في قطع الطريق على انتشار الهبّة وتحوّلها إلى انتفاضة منظمة، وعلى عملية تغيير علاقات السيطرة الاستعمارية، وعملية البناء والتغيير الديمقراطي الداخلي، فقد كان المقاتلون الشجعان جزءاً من التمرد الشعبي الفلسطيني على الذل واستباحة الحقوق من طرف المحتلين، وعلى العجز ورفض التغيير عبر الانتخابات من جانب قيادة السلطة والمنظمة.
جاء التغيير من تحت أيضاً عبر مساعي الفلاحين والفلاحات الحثيثة لإنتاج الخضار والفواكه والحبوب والدواجن والأغنام والأجبان والألبان والعسل والصناعات المنزلية وبيعها في أسواق الفلاحين وجمعيات التسويق المحلية في المدن الفلسطينية، وذلك لترويج المنتوجات المحلية بديلاً من المنتوجات والإسرائيلية، ولإعمار الأرض في مواجهة الخطر الاستيطاني الزاحف، وتجسيداً لسياسة تنمية الموارد من داخل المجتمع، بدلاً من سياسة الريع وعلاقات سوق الاقتصاد النيوليبرالي الاستهلاكية المعتَمدة من طرف السلطة بموجب اتفاق باريس الاقتصادي السيىء الذكر. وفي هذا السياق، أطلقت الحراكات الشبابية الفلسطينية في مناطق 48، في مطلع حزيران/يونيو، مبادرة "أسبوع دعم الاقتصاد الوطني"، وفق بيان حركة مقاطعة إسرائيل، "فتلقّفها شعبنا في القدس، واستجاب لها شعبنا في باقي الضفة وغزة، وأيدها شعبنا في الشتات." وأوضح البيان: "يأتي هذا الأسبوع، الذي سيبدأ في 6 / 6 / 2021، استمراراً لنضال شعبنا في كافة أماكن تواجده، ترسيخاً لوحدته الشعبية والنضالية في مواجهة مشروع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وتعزيزاً لروح إضراب الكرامة والوحدة في 18 أيار / مايو السابق." ودعا بيان المقاطعة إلى "دعم الاقتصاد الوطني بأنشطة وحملات متنوعة بهدف دعم المزارعين/ ات والعمال والمنتجين/ ات وصغار التجار الفلسطينيين من جهة، وتعزيز مقاطعة منتجات وشركات العدو حيثما أمكن."[4]
كما يواصل "الائتلاف النسوي للعدالة والمساواة / إرادة" تنظيم تحركات وحملات شعبية تحت شعار "نحن مواطنات" لتكريس المساواة الكاملة والتكافؤ في الحيّز العام. ويستند الحراك النسوي إلى المرجعيات الدولية في كل ما يتعلق بالنساء وحقوقهن، وهو حركة نسوية اجتماعية مستقلة تمثل جميع النساء الفلسطينيات اللواتي يوافقن على برنامج الحراك وتوجهاته ومبادئه، ويسعين بشكل نشط وفاعل من أجل التأثير في اتجاهات الرأي العام والضغط على صنّاع القرار بهدف ضمان تحقيق المشاركة المتساوية. وقد تمكّن الحراك النسوي من انتزاع تغيير في قوانين ظالمة في حقّ النساء، فأصبح الطلاق لا يتم إلّا في المحكمة وبوجود طرفين وتثبيت الحقوق لكليهما، واعتُمد حق الحضانة المشتركة للأبوين، ورُفع سن الزواج إلى 18 عاماً، كما مُنحت المرأة حق إصدار جواز سفر لأبنائها وفتح حسابات لهم في المصارف، وحرية نقلهم من مدرسة إلى أُخرى. وتطالب الحملة الراهنة بإصدار قانون حماية الأسرة من العنف، وبتعديل قانون الأحوال الشخصية وقانون العقوبات المنحازَين إلى الذكور.[5]
الانتخابات تتويج لعملية التغيير
لا يمكن اختزال الانتخابات بالإدلاء بالأصوات في صندوق الانتخابات، وتكريس السلطة أو استبدالها بسلطة أُخرى، بل يجب أن تكون منطلقاً لتغيير ديمقراطي وطني وجوهري. لقد جرى تجاهل إجراء الانتخابات في فلسطين طوال 12 عاماً، وكان التأجيل يتم بالتواطؤ بين السلطة والمعارضة في معظم الوقت، لكن ذلك اصطدم أخيراً بموقف الدول المانحة للسلطة، والتي لم تعد قادرة على تبرير الدعم السياسي والمالي لسلطة غير ديمقراطية اضطرت، غير راغبة، إلى تحديد موعد للانتخابات، لكنها بدأت، في الوقت نفسه، بالبحث عن آلية جديدة للبقاء، بواسطة آلية التفرد بالقرار السياسي والمالي وبجميع النواحي، والتي منحت الرئيس الفلسطيني صلاحيات استثنائية باستخدام المراسيم التي لها قوة القانون، وكان أخطرها السيطرة على السلطة القضائية، إذ أصدر الرئيس محمود عباس 3 مراسيم "لها قوة القانون" تضمنت تشكيل محاكم نظامية جديدة، وإنشاء قضاء إداري مستقل، وتعديل قانون السلطة القضائية رقم "1" لسنة 2002، كما أصدر قراراً بترقية عدد من القضاة، وإحالة 6 آخرين إلى التقاعد المبكر. وبهذا، أصبح القاضي، بموجب تلك المراسيم، موظفاً لدى السلطة التنفيذية بدلاً من أن يكون مستقلاً يأخذ قراراته بالعدل بعيداً عن حسابات الوظيفة ومصدر الرزق والمعيشة.
لقد خوّلت التعديلات الجديدة مجلس القضاء الأعلى "المعيّن" صلاحية تشكيل محكمة الانتخابات، كما أن "وجود سلسلة من العقوبات التي يمكن أن تُفرض على القضاة، بموجب تعديل قانون السلطة القضائية الأخير، سيؤدي إلى زعزعة الثقة بقرارات المحاكم، ويهدد نزاهة العملية الانتخابية برمّتها"،[6] وذلك في حال اللجوء إلى القضاء في قضايا تتعلق بالعملية الانتخابية. وجوبهت هذه المراسيم بمعارضة نقابة المحامين وعدد كبير من القضاة والمنظمات الأهلية، ولم يتم التراجع عنها مع أنها تتناقض مع القانون الأساسي الذي ينصّ صراحة على الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
وعلى الرغم من التحصين القانوني الذي أمّنته المراسيم للسلطة، فإن هذه الأخيرة أصدرت قراراً قبل شهر من موعد إجراء الانتخابات، قضى بتعليقها إلى أجل غير مسمى، والذريعة هي عدم سماح سلطات الاحتلال بإجراء الانتخابات في القدس، الأمر الذي شكل انتكاسة لمحاولات استئناف الحياة الديمقراطية، وهذا من دون أن يأبه أصحاب القرار بموقف الرأي العام المطالب بإجراء الانتخابات، وبرأي معظم الكتل الانتخابية التي دعت إلى خوض الانتخابات في القدس والتصدي للمنع الإسرائيلي باستخدام أساليب مبتكرة، فضلاً عن التصويت المباشر في ضواحي مدينة القدس، والتي رأت أنه في حالة منع سلطات الاحتلال لجميع المحاولات، فإن إسرائيل ستظهر أمام العالم على أنها تقمع الديمقراطية الفلسطينية ولا تريدها أصلاً. لكن السبب الحقيقي وراء تأجيل الانتخابات هو الانقسامات الجديدة في حركة "فتح"، والخشية من فوز حركة "حماس".
وضع تأخير ثم تأجيل الانتخابات، وكذلك البرامج الانتخابية للكتل التي ترشحت لها وتركيبة تلك الكتل، الديمقراطية الفلسطينية على بساط البحث، وبيّنت أنها لا تختلف عن "الديمقراطيات" العربية، وأن النظام السياسي الفلسطيني ليس سوى امتداد للنظام العربي، والمعارضة السياسية الفلسطينية لا تختلف كثيراً عن نظيرتها العربية.
غير أن تلك الانتكاسة يجب ألّا تُحبط العمل على بناء ديمقراطية فلسطينية حقيقية تُعتبر أساسية لدعم الصمود وتعزيز التحرر الوطني والاجتماعي والعدالة والبناء والمساواة وتطور المجتمع وتقرير المصير وتعزيز قدرة الشعب على تطوير طاقاته، فالديمقراطية تمثل رافعة للتغيير الذي نشهد فصوله على الأرض منبثقاً من مبادرات مجتمعية نابعة من الحاجة ومن مصالح الناس الحقيقية.
أمامنا أسئلة وتحديات غير قابلة للتأجيل، وفي طليعة ذلك الخروج من أَسر الصراع على الحكم بين سلطتين غير ديمقراطيتين، بعقلية سيطرة مستدامة على الشعب، والدخول في نظام شراكة على قواعد ديمقراطية راسخة، وليس على توافق غامض وقابل للانفراط، وهو ما يستدعي إعادة النظر في نظام المحاصصة (الكوتا) السائد منذ نصف قرن، والذي يكرس حزباً حاكماً أبوياً وتنظيمات تابعة، ويشكل أهم عائق أمام الإصلاح وإعادة بناء منظمة التحرير والاتحادات الشعبية، واستصدار قانون للأحزاب ومقومات المشاركة في الحياة السياسية والنضال ضد الاحتلال.
إن التحدي الأهم هو كيف سيندمج الإسلام السياسي، أو يشارك، في منظمة التحرير وفي السلطة الوطنية، ويصبح جزءاً من النظام السياسي الديمقراطي، بعيداً عن المسار الذي تسعى "حماس" له بعد حرب الـ 11 يوماً، والمتمثل في استبدال سلطة بسلطة استناداً إلى المزاج الشعبي المؤيد للمقاومة، وبما يتنافى مع أسس الديمقراطية وصوغ برنامج سياسي موحد.
والأسئلة التي ترتفع في هذا السياق، هو: هل سيكون ولاء تنظيمات الإسلام السياسي لفلسطين الشعب والقضية، ونابعاً من المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، أم سيستمر الولاء لمركز الإخوان المسلمين والمراكز الإقليمية وأجنداتها؟ وهل تلتزم تنظيمات الإسلام السياسي بالتعدد السياسي والثقافي والديني فتعتمد الفكر الديني العقلاني غير المتزمت أم لا؟ وهل تؤيد تلك القوى إزالة جميع أشكال التمييز ضد النساء اللاتي يمثلن نصف المجتمع، فتدعم الحريات العامة والخاصة والقوانين الناظمة لها؟ وهل تؤيد إزالة القيود عن العقول في حقل الفنون والتعليم وتفصل التعليم والعلوم عن الأديان؟ هذه الأسئلة تنطبق أيضاً على حركة "فتح" وتنظيمات أُخرى تتشارك مع الإسلام السياسي في المواقف المتعصبة والمحافظة. وبالتالي، فإن المخرج من المأزق القائم يكون بعقد وطني - اجتماعي يكون ناظماً للأدوار والعلاقات والتقييم والنضال المشترك.
المطلوب اليوم قبل غداً، تكريس التحرر الاجتماعي وربطه بالتحرر الوطني، كي يتعزز دور المجتمع والشعب في عملية التحرر والبناء، فالخلاص بحاجة إلى شعب منظم يربط التحرر الوطني بالاجتماعي، وإلى إشراك المواطنين داخل الوطن وخارجه في مسيرة التحرر الوطني، عبر تعليم تحرري، ومنظومة قوانين تكرس حقوقاً متساوية، وإزالة التمييز الممارس ضد النساء، وتطوير الموارد من داخل المجتمع والتجمعات الفلسطينية كبديل من الريع الاقتصادي المنتج للطفيليات وجوقات الولاء والبيعات والمكرمات المهينة لكرامة الناس.
إن الدمج بين التحرر الوطني والتحرر الاجتماعي (التنمية الانسانية)، أساسي لتأسيس ديمقراطية مجتمعية حقيقية، والفصل بينهما يؤدي، في حالة نجاح التحرر الوطني، إلى استبدال شرطي مستعمِر قامع وسالب للحقوق، بشرطي أصلاني قامع وسالب للحقوق. لقد مثلت تجربتا أوسلو وحُكم "حماس" في قطاع غزة نموذجاً لتجاهل التحرر الاجتماعي، ولإقصاء مشاركة القطاعات الأوسع من الشعب في التحرر والبناء.
أخيراً، تحتاج البنية الجديدة الناشئة إلى فكر وثقافة جديدَين، وإلى تعظيم جهود الاعتماد على الذات وعدم الاعتماد على المال السياسي، وإلى التشبيك بين المبادرات على الأرض من أجل تنظيم كفاح شعبي يمضي قدماً في مسار التحرر الوطني والاجتماعي، وفي إحباط عمليات المحو والتطهير العرقي ونهب الموارد والتبعية الاقتصادية والتغلغل الاستيطاني، وفي عزل دولة الاستعمار والأبارتهايد بدعم شعوب وقوى ديمقراطية.
لا بديل من تحديد موعد للانتخابات، ولا بديل من تحديد التغيير الذي نريد.
المصادر:
[1] انظر: "مؤتمر فتح السابع.. التمسك بالسلام خياراً استراتيجياً"، موقع "الجزيرة"، في الرابط الإلكتروني.
[2] انظر: "تفاصيل حول وثيقة حماس الجديدة" "الأيام"، (رام الله)، 2 / 5 / 2017، في الرابط الإلكتروني.
[3] تقدير الموقف هذا نقلته "وكالة القدس للأنباء" عن مقالة لعاموس هرئيل في صحيفة "هآرتس" تحت عنوان: "خلافات بين أجهزة الاستخبارات (الإسرائيلية) حول موقف حماس من التهدئة"، 28 أيار/مايو 2021، في الرابط الإلكتروني.
[4] تم نشر البيان على صفحة "حركة مقاطعة إسرائيل"، في موقع فايسبوك، تحت شعار "اشتري من بلدك، أسبوع الاقتصاد الوطني 6 - 12 /6 /2021"، ويمكن الوصول إليه عبر الرابط الإلكتروني.
[5] انظر نشاطات وحملات "الائتلاف النسوي للعدالة والمساواة/ إرادة"، في موقع فايسبوك، في الرابط الإلكتروني.
[6] عوض الرجوب، " فلسطين.. قوانين تخص القضاء في مهب الاحتجاجات"، وكالة "أنباء الأناضول"، 1 / 3 / 2021، في الرابط الإلكتروني.