"زمن الكورونا من زمان"
التاريخ: 
30/06/2020
المؤلف: 

تحمل كلمة ”Occupation“ في اللغة الإنكليزية أكثر من معنى، إذ يمكن أن تعني الاحتلال المباشر للأرض، أو "الوظيفة التي يشغلها المرء". وقد استخدمت المخرجة شيرين دعيبس هذه المواربة بشكل ذكي في فيلمها الأول ”أمريكا“، عندما سأل موظف الهجرة في المطار وهو يعبىء استمارة دخول الشخصية الأساسية إلى الولايات المتحدة ” Occupation؟“ فردت عليه بالإيجاب، وبدأت بشرح الواقع الصعب في الأراضي المحتلة. طبعاً لم يقل موظف الهجرة شيئاً. طبعاً هذا مثال للمسافة الفكرية ما بين التجربة المقدمة في الأفلام الفلسطينية والجمهور الغربي بشكل أساسي، وهي مسافة يتحمل الفلسطينيون جزءاً منها، لكن الجزء الأكبر يقع علـى كاهل المشاهد الغربي المتجاهل للحقائق والمعبأ أساساً بالعديد من المعتقدات الخطأ. ويمكن القول إن هذه المسافة رُدمت بشكل جزئي بسبب الحجر الصحي الذي فُرض على معظم دول العالم بعد الجائحة، والذي جعل الفيلم الفلسطيني فجأة أقرب بكثير إلى المشاهد، إذ إن التعابير البصرية والأساليب السينمائية المستخدمة في الفيلم الفلسطيني أصبحت فجأة مفهومة ومحسوسة.

 

 

 انعكست هذه الحالة على النجاح الكبير الذي حظيت به منصة الأفلام الفلسطينية التي أطلقتها مؤسسة الفيلم الفلسطيني بالتعاون مع المنتجة والموزعة مي عودة، إذ تجاوز معدل المشاهدة أكثر من عشرة آلاف مشاهدة لكل فيلم من مختلف أنحاء العالم، وقد فاجأ هذا الإقبال الكثيف القائمين على المنصة. لكن عند مشاهدة هذه الأفلام  ووضعها في سياق  الجائحة، نستطيع أن نرى الكم الهائل من المعاني التي أصبحت فجأة قريبة من الجمهور، إن كان بشكل فكري أو بشكل مادي؛ شعور الخوف عند الخروج من المنزل، التلفت، الانتباه لحركة رجال الأمن،  اللقاءات الحميمة عندما تتوفر. هناك كم عالٍ من الاختزال البصري في الصورة السينمائية الفلسطينية والتي تحاول طوال الوقت عرض القضية الفلسطينية، وإن كانت بصورة واعية وغير واعية في آنٍ معاً، تسجل الزمن المحاصر بشكل دائم عند الفلسطينيين، عدم القدرة على الحركة، أو عدم القدرة على التعبير.

 في لقطة سينمائية من أرشيف الأونروا، نشاهد مجموعة من الأشخاص يحملون أمتعتهم ويحاولون عبور جسر خشبي  مدمر فوق  نهر صغير، هذه اللقطة أُخذت بعد حرب ١٩٦٧، وأصبحت ترمز إلى حالة اللجوء الفلسطيني في المخيال الفلسطيني والعالمي. واللافت في الموضوع، أنه عند إعادة اللقطة بشكل متكرر نلاحظ أن الأشخاص يصبحون مع ملامح، فنتساءل عن أسمائهم، ماضيهم، وما حل بهم. لكننا أيضاً نشاهدهم كمجموعة من الممثلين الذين يؤدون دوراً واحداً صغيراً في خلفية مسرحية، يعبرون من يسار المسرح إلى يمينه، يوماً بعد يوم، من دون ملل، ويصبحون في مركز الضوء، بدلاً من الممثلين الرئيسيين، وهذا بالضبط ما تفعله السينما الفلسطينية بصورة عامة، وهذا ما حدث عند وضع الأفلام بشكل متتالي ومنطقي على المنصة في ظل أجواء الإغلاق العام.

 إن عملية مراقبة تطور صناعة السينما الفلسطينية تصبح أعقد، وخصوصاً عند الحاجة إلى المقارنة بين فترات زمنية أطول، من أجل الحصول على رسم بياني يوضح حالة السينما الفلسطينية في زمن ”كورونا“، إذ تنحصر التجربة السينمائية الفلسطينية بالراهن والحالي، من دون أرقام وبيانات توضح مدى نجاح فيلم في مكان ما. لذا تبقى المعلومات شحيحة  لتحديد أثر الجائحات في الأفلام الفلسطينية تاريخياً. وجزء من شح المعلومات يأتي كون الإنتاج الفلسطيني في معظمه يمول بالتعاون بين منتجين وموزعين من أنحاء العالم (غربيين في الغالب)، ولا يوجد إمكان للوصول إلى بيانات التوزيع، والجزء الآخر لأسباب متعلقة بعدم وجود دولة ذات سيادة أو مؤسسة واحدة  مستمرة منذ ذلك الزمن معنية بحفظ متعلقات هذا النشاط ( العثماني- البريطاني- الأردني والمصري - الإسرائيلي).

 لكن يمكن قراءة أثر الجوائح في صناعة السينما الفلسطينية من خلال محتوى الأفلام نفسها، ففي فيلم مشيل خليفة ”عرس الجليل“ الذي تم إنتاجه في سنة ١٩٨٤، يقوم الأب بالذهاب إلى الحاكم العسكري لطلب الإذن لأقامة عرس ابنه في ظل أوضاع منع التجول القائمة منذ سنة ١٩٤٨. أمّا فكرة رائعة إيليا سليمان ”يد إلهية“ فتعتمد على لقاء حبيبين على حاجز إسرائيلي. ومن هذا المنظور نجد أنه ليس بغريب أن يكون أول فيلم طويل لرشيد مشهراوي بعنوان ”منع تجول“ وهو ما يعكس حالة تاريخية مزمنة في التجربة الفلسطينية المعاصرة مرتبطة بالعزل والحجر والغرف المغلقة والجدران، فهذه هي طبيعة الحياة اليومية للفلسطينيين، وبالتالي انعكست هذه الحالة في معظم الأفلام الفلسطينية، إن كان بشكل مباشر وفج كما في أغلب الوثائقيات (وهذا تعميم بالطبع)، أو بشكل حسي وشاعري كما في الأفلام الروائية العديدة لمخرجات ومخرجين فلسطينيين.

 صناعة السينما الفلسطينية ليست منفصلة أبداً عما يجري في بقية العالم على هذا الصعيد، ومنذ فترة ونحن نشهد تحول عادات المشاهدة أكثر وأكثر إلى الواقع الافتراضي، وهي معركة مستمرة ما بين أطراف الصناعة، وخصوصاً ما بين دور السينما التقليدية  في فرنسا على وجه التحديد وسائر أوروبا، ومنصات الأفلام الافتراضية مثل نيتفليكس وأمازون برايم، حيث تم فرض العديد من القواعد والشروط التي تحكم المنتجين والمخرجين الفلسطينيين وتقيد إمكان عرض أفلامهم، وتحصرهم بشروط مجحفة بالتوزيع، لتصبح معظم الأفلام الفلسطينية ”ذات التمويل الأوروبي“ مرتبطة بصراعات الممول، بالإضافة إلى تعقيدات الواقع الفلسطيني تحت اتفاق أوسلو وتفاهمات باريس الاقتصادية التي جعلت حرية التصدير ”بأي شكل” أمراً صعباً وشبه مستحيل وخصوصاً مع المنع المفروض على التجارة الإلكترونية، وهو ما أخر وصول الأفلام الفلسطينية إلى هذه المنصات وغيرها الكثير، وقلل من إمكان التحكم بهذا المحتوى السينمائي وتوجيهه إلى الجمهورين المحلي والعربي.

 وفي ملف لورشة عمل عن التصوير السينمائي كتبها مصور الثورة الفلسطينية هاني جوهرية، نلاحظ التركيز الكبير على التعامل مع الكاميرا في أوضاع صعبة، مثل التصوير من سيارة متحركة، أو التحكم في الضوء من دون جهاز القراءة، أو التصوير في أحوال جوية صعبة. وعند الاطلاع على ملفات ورش أُخرى للتصوير السينمائي في مدراس السينما الغربية ولا سيما للمبتدئين، لا نرى ذكراً لهذه الأوضاع، إذ من المفترض أن تكون كل شروط الإنتاج تحت السيطرة. ويمكن أخذ مثل هذه الورشة فقط في سنوات متقدمة من الدراسة أو بعد خبرة طويلة، وهذا إن دل على شي، فإنه يدل على جاهزية عقلية منتج الصورة الفلسطيني للأخذ بالاعتبار كل الأوضاع، ووضع خطط بديلة دائماً في حال كان الطريق مغلقاً، أو حدث اشتباك مسلح، أو تم اعتقال الشخصية الرئيسية في الفيلم، وهذه تجربة مثيرة للاهتمام ويجب مشاركتها مع زملاء المهنة من أنحاء العالم. وعملت مؤسسة الفيلم الفلسطيني مؤخراً على تنظيم فعاليات رقمية عامة لجناح فلسطين في سوق أفلام مهرجان كان السينمائي ٢٠٢٠، لتسليط الضوء على هذه التجارب من فلسطين والشتات.

عن المؤلف: 

مهند يعقوبي: سينمائي فلسطيني.