التطبيع العلمي والثقافي ومقاومته في الأردن والوطن العربي
التاريخ: 
24/10/2016
المؤلف: 

يراهن المشروع الصهيوني من أجل استمراريته على صناعة وتعزيز شعور الانتماء لـ"دولة إسرائيل" لدى الشباب الإسرائيلي، كما يراهن على الإضعاف الممنهج لرابط الانتماء لدى الجيل الجديد من الشباب العربي عامة والفلسطيني خاصة، وذلك من خلال وسائل تطبيعية تدفع الشباب العربي إلى الاعتراف ضمناً بوجود "دولة إسرائيلية". ولعل أخطر هذه الوسائل هي تلك التي تأخذ شكلاً علمياً أو ثقافياً بعيداً عن الشكل السياسي المباشر، الأمر الذي يوفر لها مدخلاً للتأثير على بعض الشباب العربي.

 

لقد نشأت المنظومة العلمية والتكنولوجية الإسرائيلية من أجل خدمة الدور الاستعماري للكيان الإسرائيلي في المقام الأول، ومن أجل تلميع صورته من خلال إنجازاته العلمية، بحيث أصبحت هذه المنظومة العلمية والتكنولوجية منظومة استعمارية أُخرى يجب مقاطعتها. واستغلت إسرائيل الغطاء العلمي/الأكاديمي لأجندات تطبيعية وصولاً إلى اتفاقية أوسلو التي بدأت المفاوضات بشأنها سراً في مركز الأبحاث العلمي النرويجي "فافو" بين أكاديميين إسرائيليين ومفاوضين فلسطينيين.[1]

واليوم، يستمر هذا النوع من التطبيع في بعض الدول العربية من خلال برامج ومبادرات ومعاهد علمية، مثل مركز البحوث العلمية (SESAME) في الأردن الذي أُقيم بدعم من الأمم المتحدة وبمشاركة عدد من الدول العربية والإسلامية، من بينها باكستان وإيران، بالإضافة إلى إسرائيل التي شغل ممثلها أليعزر رابينوفيتش، أستاذ الفيزياء في الجامعة العبرية، منصب نائب رئيس المركز في الفترة ما بين أيار/مايو 2014 وأيار/مايو 2016،[2]  ومثل معهد وادي عربة في إسرائيل، الذي يهتم بالجانب البيئي ويضم طلاباً من فلسطين والأردن وإسرائيل، ويدّعي أن مهمته هي تدريب مختصين في البيئة لمساعدة الشرق الأوسط في حل مشاكلها البيئية بعيداً عن الصراعات السياسية، لكنه لا يخفي أيضاً أجنداته التطبيعية من خلال "مبادرة التوعية البيئية للسلام" (المدعومة من USAID)، التي تستهدف طلبة المدارس الإسرائيلية والفلسطينية بهدف إنشاء علاقات صداقة بينهم، كما يقول أحد القائمين على المبادرة.[3]

وتحاول بعض البرامج العلمية التطبيعية جذب الشباب المتميز من طلبة المدارس الفلسطينيين إلى العمل والانخراط مع طلبة إسرائيليين، مثل برنامج المنظمة غير الحكومية MEET الذي ينظمه 'معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا' الأميركي (MIT) في الجامعة العبرية بمدينة القدس وفي الناصرة، حيث يقوم البرنامج بإعطاء منح وتنظيم برامج صيفية لمدة ثلاث سنوات للطلبة الفلسطينيين والإسرائيليين بهدف "تهيئة قادة المستقبل – من فلسطينيين وإسرائيليين – وقد عملوا جنباً إلى جنب، من أجل إحداث تغيير إيجابي في مستقبل الشرق الأوسط".[4] ويستكمل البرنامج عمله فيما بعد من خلال برنامج الخريجين[5] (alumni program) الذي يعمل على إنشاء شبكة تعارفية، ويقوم بربط المشاركين في برامج مستقبلية.

أمّا عن الإنجازات العلمية والريادية (startups) التي تحققها الشركات الإسرائيلية والتي كثيراً ما تُستغل لتلميع صورة إسرائيل[6]  وإضعاف حملات المقاطعة التي تستهدفها، فإن معظمها (إن لم تكن كلها) مخرجات المنظومة العسكرية الاستعمارية في إسرائيل التي تنفق عليها الحكومة الكثير، مدعومة بالمنح الأميركية وبالعلاقات المتجذرة مع كبرى جامعات البحث العلمي في الولايات المتحدة الأميركية. ومن هذه الشركات شركة (viber) و(wix) و(waze) و(CyActive) و(Checkpoint) وغيرها المئات التي انبثقت من البرامج التدريبية للوحدة 8200 في الجيش الإسرائيلي. ويكمن سبب نجاح هذه الوحدة المعلوماتية في انتقاء الطلبة المتفوقين في المدارس الإسرائيلية ومن ثم إدراجهم في برامج تدريبية مكثفة، ومن ثم دعمهم للوصول إلى الأسواق والمراكز البحثية من خلال شبكة كبيرة من العلاقات.[7]

وإذ يتحقق هذا كله في ظل سبات الحكومات العربية وغياب سياسات ممنهجة لديها للاهتمام بالنخب من الطلبة، يتوجب على الشاب العربي، الذي قد يُعجب بالإنجازات العلمية والتكنولوجية الإسرائيلية (ولا يرى هدفاً من مقاطعتها) أن يعي تماماً أنها تتغذى من منظومة استعمارية قائمة على الاحتلال وعلى سرقة ثروات بلاده، وهي تعيق النمو العلمي والتكنولوجي للبلاد العربية. بالإضافة إلى أنها تُستغل لمواجهة حملات المقاطعة عن طريق إقناع العالم بأن الشباب العربي أنفسهم باتوا عاجزين عن الاستغناء عن هذه الإنجازات، رغم وجود بدائل لها.

المقاطعة الثقافية والبروباغندا الإسرائيلية

إن أحد أهم مداخل التطبيع الأُخرى هو التطبيع الثقافي، الذي يشمل الاعتراف العربي بالهوية الإسرائيلية من خلال الفن والمبادرات الثقافية والرياضية، أو من خلال التأثر بالبروباغندا الإسرائيلية التي تشيد بليبرالية إسرائيل وديمقراطيتها.

من ضمن هذه المبادرات التي يشارك فيها طلبة أردنيون مبادرة "بذور السلام" (Seeds of Peace) التي تهدف "إلى جمع الأجيال الجديدة في مجتمعات منقسمة بسبب النزاعات".[8]  وهذه المبادرة تصب في خدمة المشروع التطبيعي، إذ إنها تفترض مسبقاً أن المحتل ومن احتُلت أرضه طرفان متساويان في "النزاع". وأن كلاهما له وجهة نظر تحتمل الصواب والخطأ، ولذلك فإن السلام يتحقق عندما يستمع كل طرف للآخر. وهو منطق يؤدي إلى تمييع جذور القضية، ولا يفيد سوى الطرف القوي الذي يسعى إلى إقناع الطرف الآخر بتقبل الوضع الراهن.

وتتخذ طرق التطبيع الثقافي الأُخرى طابعاً رياضياً، إذ يشارك أحياناً لاعبون عرب في مخيمات تدريبية أو في بطولات دولية تضم فرقاً إسرائيلية، ويضطر اللاعب العربي في هذه الحالة إلى أن يعترف ضمنياً بهوية اللاعب الإسرائيلي. وأحد الأمثلة على هذه المبادرات مشاركة قلة من لاعبي الأردن الشباب في رياضة كرة السلة في مخيمات رياضية أُقيمت في أم الرشراش المحتلة (تل أبيب).[9]  ورغم أن عدداً من هؤلاء المشاركين قد تحجج بأن هذه هي الطريقة الوحيدة لزيارة فلسطين، فإنهم تجاهلوا حقيقة أن زيارتهم تُشرعن الاحتلال وتعزز دعايته وسط الرأي العام العالمي، بحيث تظهر أن الشباب العربي قد بدأ يتقبل التعامل مع الشباب الإسرائيلي، وهو في جوهر مفهوم التطبيع.

ومن العوامل الأُخرى التي تؤثر على وعي الشباب نشر الخطاب الإستشراقي العنصري في الإعلام وفي كثير من الأفلام والمسلسلات ووسائل التواصل الاجتماعي التي باتت جزءاً مؤثراً في حياة الشباب. فهذا الخطاب الموجّه ضد العرب يعزز البروباغندا الصهيونية التي تحاول دائماً إدراج أي نوع من أنواع المقاومة الفلسطينية (السلمية والمسلحة) في خانة التطرف الديني الإسلامي وخلط الأوراق لتظهره على أنه إرهاب متطرف ضد "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" – إسرائيل – التي تشع تقدماً وتسامحاً وليبرالية! ولأن الكثيرين من أفراد جيلنا الجديد الذي غُيب عن تاريخ القضية الفلسطينية قد تفتح وعيهم السياسي في منتصف العقد المنصرم على فشل "الربيع العربي" وبشاعة ممارسات الجماعات المتطرفة، فإن القضية الفلسطينية والإرهاب الصهيوني (المتجذر منذ 70 عاماً) أصبحا مسألة ثانوية ومهمشة في وجدانهم. وهذا تماماً ما يراهن عليه المشروع الصهيوني.

"الأردن تقاطع" سلاح ضد حملات التطبيع في الأردن

احتوت معاهدة وادي عربة (معاهدة "السلام" الأردنية/الإسرائيلية) التي وُقعت في عام 1994 على المادة 10 التي نصت على ضرورة إقامة تبادل ثقافي وعلمي بين الأردن وإسرائيل. أمّا المادة 11 التي تضمنتها، فقد نصت على "الامتناع عن القيام ببث الدعايات المعادية، القائمة على التعصب والتمييز" و"أن يمتنع [الطرفان] عن مثل هذه الإشارات أو التعبيرات في كافة المطبوعات الحكومية".[10] 

ولا ريب أن بروز مبادرات تطبيعية في الأردن، بما في ذلك تعديل المناهج المدرسية، هو أحد نتائج الالتزام بهذه البنود، وثمرة ضغوطات خارجية كما يُرجح آخرون.[11]  وبغية التصدي للممارسات التطبيعية وللمشروع الصهيوني، من خلال سلاح المقاطعة والتوعية المجتمعية، نشأت في الأردن حركة "الأردن تقاطع" (Jordan BDS) في عام 2014، إبان العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة.[12]  وتعبّر "الأردن تقاطع" عن حراك شعبي لا ينتمي لأي حزب أو فصيل، وهو امتداد لحركة المقاطعة العالمية (BDS)،[13]  التي نشأت تلبيةً لنداء المجتمع المدني الفلسطيني. وتمتاز حركة المقاطعة الأردنية هذه بأنها تضم جميع أطياف واتجاهات المجتمع الأردني الذي ابنثقت منه، وتدعو إلى مقاطعة الاحتلال والمؤسسات المساندة له في جميع أشكالها الاقتصادية والأكاديمية والثقافية والرياضية.

وفي مسعى للتصدي للتطبيع العلمي ولنشر الوعي بين طلبة المدارس، أُطلقت حركة "الأردن تقاطع" حملة توعية تسعى إلى تعريف الطلبة في الصفوف الإعدادية والثانوية بالقضية الفلسطينية بشكل مختصر ومن ثم تعريفهم بثقافة المقاطعة كنوع من أنواع المقاومة التي يستطيعون من خلالها هم أيضاً المساهمة في مقاومة التطبيع والمشروع الصهيوني. وقد تم ذلك من خلال زيارة مجموعة من المدارس الخاصة وإعطاء محاضرات تفاعلية للطلبة، وإحياء ارتباطهم بالقضية الفلسطينية.[14]  وكان من المهم أن تنطوي المحاضرات على رسائل واضحة ومحددة. وأن تربط الطلبة بشكل مباشر بالقضية من خلال إظهار المعاناة الشديدة التي يعانيها الطلبة الفلسطينيون يومياً على يد الاحتلال الصهيوني أثناء ذهابهم إلى المدرسة واثناء اعتقالهم العشوائي. كما كان من المهم إظهار إصرار الطلبة الفلسطينيين على التعلم بصفته أسلوباً من أساليب مقاومة الاحتلال، وتوعية الطلبة بمخاطر الاحتلال الصهيوني ليس على فلسطين فحسب، بل على الأردن أيضاً، الذي تتم سرقة موارده المائية[15]  واحتجاز أسراه والتطاول على المقدسات الدينية الفلسطينية التي ما زالت تحت الإدارة الأردنية، وكل ذلك في انتهاك سافر لاتفاقية وادي عربة.

ولعل أهم التحديات التي واجهت هذه المبادرة تمثلت في إقناع المدارس باحتضان هذا النشاط في بلد وقّعت حكومته معاهدة سلام وتطبيع مع الكيان الصهيوني، ويوجد فيه هامش ضيق للعمل السياسي. وبهدف تعميق دور الطالب ووعيه، أُطلقت مبادرة نوعية أُخرى تمثلت بإنشاء مخيم صيفي لعدة أيام لطلبة المدارس (الخاصة، والحكومية ومدارس الأونروا) يتعلم فيه الطلبة مهارات قيادية، كما تُنظم فيه ورشات عمل تفاعلية تناقش مفهوم المقاطعة ووسائل التضامن العالمية مع النضال الفلسطيني، وتعرّف الطالب بدوره كناشط طلابي في الدفاع عن قضاياه، وتعريفها للمجتمع المحيط به. وقد لاقت هذه المبادرة نجاحاً كبيراً وساهمت في إحياء الانتماء الوطني لدى هؤلاء الطلبة.

وبغية نشر الوعي بضرورة مواجهة التطبيع الثقافي عموماً والتطبيع الرياضي بوجه خاص، نظمت حركة "الأردن تقاطع" مباراة كرة السلة في يوم الأرض، دعت إليها اللاعبين الأردنيين من الشباب كي يعربوا بوضوح عن رفضهم التطبيع الرياضي. وقد جاءت هذه المبادرة رداً على مخيم كرة السلة التطبيعي الذي نُظم في أم الرشراش. وقد أبدى هؤلاء الرياضيون موقفاً واضحاً ومشرفاً رافضاً للتطبيع بجميع أشكاله.[16]

إن الاهتمام بمواجهة مبادرات التطبيع العلمية والثقافية التي تستهدف الشباب العربي هو أمر مهم جداً. فإسرائيل تسعى اليوم إلى ضمان اعتراف الشباب العربي بها وبهويتها السياسية تحت غطاء علمي أو إنساني يشرعن وجودها. ويظل لحملات المقاطعة – BDS -، التي تمتاز بقوة خطابها الحقوقي الذي يستند إلى المواثيق والقوانين الدولية، دور رائد في توعية الناس حتى في الدول العربية التي وَقعت حكوماتها اتفاقيات "سلام" مع الكيان الإسرائيلي.

 

[1]   http://en.wikipedia.org/wiki/Oslo_l_Accord

[2]   http://wwwsesame.org.jo/sesame/about-us/what-is-sesame.html

      http://7iber.com/politics-economics/academic-boycotting-of-israel

[3]   http://arava.org/alumni/yeepi

[4]   http://meet.mit.edu/about-us/vision-mission

[5]   http://meet.mit.edu/about-us/programs/#programs

[6]   http://electronicintifada.net/blogs/asa-winstanley/israel-tetch-site-paying-interns-covertly-plant-stories-social-media      

[7]   http://www.forbes.com/sites/richardbehar/2016/05/11/inside-israels-secret-startup-machine/#201d77d7157d 

    https://en.wikipedia.org/wiki/Check_Point

[8]   http://www.seedsofpeace.org/about

    http://7iber.com/politics-economics/academic-relations-with-israel/#.V_KhUfl97X4

[9]   http://www.youtube.com/watch?v=OyuajLZhRlg

[10]   http://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/048E5463-BFB2-457D-BD4F-964080E5E787

[11]   http://bit.ly/2dnUmVn

[12]   http://jordanbds.net

[13]   http://bdsmovement.net

[14]   http://jordanbds.net/?p=1332

[15]   http://bit.ly/2cVvg0F

[16]   http://bit.ly/2cK972p 

عن المؤلف: 

خالد العمري: ناشط في حركة "الأردن تقاطع".