التعذيب في أقبية التحقيق الإسرائيلية.. الصمود هو الحكاية
التاريخ: 
29/01/2020
المؤلف: 

بعد أيام على نقل الأسير الفلسطيني سامر العربيد من التحقيق إلى مستشفى هداسا الإسرائيلي بحالة حرجة جراء التعذيب الشديد الذي تعرض له، أواخر أيلول/سبتمبر 2019، اعتقل جيش الاحتلال جميل درعاوي من منزله في قرية الشواورة جنوب بيت لحم، وكان بانتظاره أربعون يوماً من التعذيب " الاستثنائي" في مركز تحقيق المسكوبية.

تقول زوجته روان درعاوي إنه خضع لتحقيق شرس ليلاً ونهاراً، وبعدما سمح لها بمشاهدته خلال المحاكمة، قالت إنهم "حوّلوه من شاب خرج من بيته سالماً إلى إنسان يعاني من إصابات وتشوهات وأوجاع في كل أنحاء جسده".

وتضيف روان أن زوجها جميل أصيب بكسر وانزياح في الفك بسبب الضرب العنيف الذي تعرض له على وجهه ورأسه، وتضررت إحدى عينيه، كما شاهدت علامات تعذيب على رقبته، وآثار حروق سجائر على يديه. وقد أخبرها أيضاً بوجود كسر في صدره، بالإضافة إلى إصابات في ظهره. وقالت إنه كان يقف منحنياً ومستنداً إلى جدار المحكمة لشدة تعذيبه.

يعمل جميل درعاوي (40 عاماً) في هيئة التوجيه السياسي بمدينة بيت لحم، وهو أب لثلاثة أطفال، وقد قضى 14 عاماً سابقة في سجون الاحتلال وأفرج عنه في سنة 2015. وكان واحداً من نحو خمسين أسيراً فلسطينياً، أقرَ الاحتلال الإسرائيلي بالتحقيق معهم في أعقاب عملية "عين بوبين" غرب رام الله، التي أدت إلى مقتل مستوطنة إسرائيلية وإصابة اثنين من عائلتها في تفجير عبوة ناسفة عن بعد بتاريخ 23 آب/أغسطس الماضي.

مع قصة درعاوي، نشرت عائلة الأسير وليد حناتشة (51 عاماً) من رام الله، صوراً وثّقها طبيب مركز تحقيق المسكوبية، وتظهر آثار التعذيب العنيف على كافة أنحاء جسده. وقالت زوجته بيان حناتشة إنه تعرض للخنق والشبح وللضرب الشديد، وأصيب بالشلل وفقد القدرة على الحركة وكان يُنقل بكرسي متحرك فقط، وقد عذّب في جولات تحقيق متقطعة استمرت نحو خمسين يوماً.

في حالة الأسير قسّام البرغوثي، قالت المصادر الحقوقية إنه تعرض لتحقيق عنيف فور اعتقاله من منزله بقرية كوبر نهاية آب/أغسطس، رغم إصابته جراء مهاجمته بالكلاب البوليسية. وأخبر قاضي محكمة عوفر إنه كان ينزف طيلة فترة التحقيق بسبب تعمد المحققين ضربه على أصابعه. كما جرى نقله إلى سجن سري لثلاثة أيام والتحقيق معه من عناصر مقنعة.

شهداء تحت تعذيب مشرّع

تُسجل التقارير الحقوقية الفلسطينية استشهاد 222 أسيراً في السجون الإسرائيلية منذ احتلال سنة 1967، بينهم 73 قضوا نحبهم بسبب التعذيب، وآخرهم نصار طقاطقة من بيت لحم سنة 2019، وسبقه الأسير المقدسي عزيز عويسات في سجن بئر السبع، وعرفات جردات في أقبية تحقيق الجلمة. كما توفيت أعداد غير موثقة من المعتقلين بعد الإفراج عنهم، نتيجة إعاقات أو أمراض تسبب بها تعذيبهم وسوء معاملتهم في السجون الإسرائيلية.

وفي سياق محاولة إخفاء عمليات التعذيب، صادق الكنيست الإسرائيلي، في حزيران/يونيو 2015، على تمديد بند لقانون مؤقت يعفي جهازي المخابرات والشرطة الإسرائيليين من توثيق التحقيقات بالصوت والصورة لمدة خمس سنوات إضافية.

وجاءت جرائم التعذيب السابقة واللاحقة على الرغم من توقيع إسرائيل على اتفاقية مناهضة التعذيب سنة 1991، ومن قرار المحكمة الإسرائيلية العليا سنة 1999 بالحدّ من التعذيب، الذي ظهر كمانع لاستخدام أساليب التعذيب الجسدي الوحشية. غير أن قضاة المحكمة تركوا القرار مع فجوات قانونية أباحت للمحققين الإسرائيليين استخدام التعذيب على النطاق الذي يريدونه وبحجة " الضرورة الأمنية"، وهو ما حدث خلال شهور آب/أغسطس وأيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر 2019.

يقول نادي الأسير الفلسطيني إن 95% من المعتقلين الفلسطينيين يتعرضون للتعذيب وسوء المعاملة عند وبعد اعتقالهم. وكانت مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان قد وثّقت، حتى منتصف شهر كانون الثاني/يناير الجاري، شهادات حول ممارسة المحققين الإسرائيليين التعذيب العنيف، بشقيه الجسدي والنفسي، تحت ما يعرف "بالتحقيق العسكري" بحق عشرات المعتقلين دون توافر أي شكل من أشكال الحماية منذ نهاية شهر آب/أغسطس 2019.

ويعرف "التحقيق العسكري" كأسوأ أشكال التحقيق التي يلجأ إليها الاحتلال، بذريعة الحاجة لانتزاع معلومات عن عمليات متوقع حدوثها ويستخدم فيها تعذيب استثنائي بقرار قضائي. ومن بين الذين كشف عن تعذيبهم الأسيرة ميس أبو غوش "21 عاماً" التي تعرضت لـ "شبح الموزة" ( أي إجبار جسد الأسير على التقوّس العكسي إلى الخلف على شكل نصف دائرة وهو مقيد اليدين والقدمين)، بالإضافة إلى حملة ضغوط وتهديدات نفسية.

وبحسب المسؤولة في وحدة المناصرة بمؤسسة الضمير لانا رمضان، فإن عشرات الأسرى تعرضوا في الشهور الأربعة الأخيرة لتحقيق قاسٍ وسوء معاملة، بعضه على خلفية عملية "عين بوبين"، ولكن آخرين على تُهم مختلفة من بينها أنشطة طلابية. وقدّرت أن 20 أسيراً منهم على الأقل تعرضوا "للتحقيق العسكري".

وبحسب رمضان، فإن أصعب هذه الحالات مر بها الأسير سامر العربيد الذي اعتبر تعذيبه "محاولة اغتيال" فعلية وأدى إلى إصابته بفشل كلوي دائم وكسور متعددة في أضلاع الصدر.

استخدمت سلطات الاحتلال الشبح بأشكال مختلفة منها "الموزة" مع غالبية المعتقلين في هذه الحملة، مع تقييد اليدين إلى الخلف مربوطة بكتل حديدية ثقيلة أسفل الظهر، مما يسمح للمحققين بالجلوس على صدور الأسرى وتعريضهم للضرب والخنق أحياناً، كما حدث مع وليد حناتشة. وكذلك نتف شعر الرأس واللحية والتسبب بتقرحات، إلى جانب الضرب العنيف على الوجه والرأس والصدر والأفخاذ والأيدي والأقدام. وتعرض معظم المعتقلين لحالات إغماء، واستمر تعذيبهم في جلسات تحقيق استغرقت أحياناً ما بين 30 إلى 60 ساعة متواصلة مع حرمان تام من النوم.

بتاريخ 10/9/2019، استصدر جهازا المخابرات الإسرائيلي "الشاباك" والشرطة أمراً، يقضي بمنع النشر في حالات المعتقلين القابعين في مركز تحقيق المسكوبية، وتم تجديده مرات عدة حتى تجاوزت فترة الثلاثة أشهر. وقالت مؤسسة الضمير إن منع النشر جاء للتغطية على جرائم التعذيب التي ارتكبت بحق المعتقلين.

وبحسب الشهادات الموثقة التي جمعتها المؤسسة، تعرض بعض المعتقلين للتحرش الجنسي، بالإضافة إلى التعذيب النفسي الشديد بما فيه استخدام أهل المعتقل أو معتقلين آخرين للضغط، إلى جانب تهديدات بالإيذاء والاغتصاب وإلغاء الإقامة لأهل القدس.

وأدى التعذيب الشديد إلى إصابات خطيرة كالكسور في العظام وفقدان للوعي والقيء والنزيف من أجزاء مختلفة من الجسم، مثل الأنف والفم واليدين والساقين والأعضاء التناسلية. وخلال التحقيق عانى المعتقلون من التقييم الخاطئ الذي أجراه الأطباء الذين ذكروا في جميع الحالات تقريباً أن المعتقلين مؤهلون جسدياً لاستكمال التحقيق، متجاهلين الأدلة الواضحة على التعذيب.

في تعليقه على عمليات التعذيب، التي تواردت شهادات أولية حولها، قال مسؤول مؤسسة الحق شعوان جبارين إن هذه الروايات تُذكر بأنماط التعذيب الإسرائيلية في السبعينيات والثمانينات، والتي أفضت إلى قتل العديد من الأسرى تحت التعذيب.

من زمن محمد الخواجا

وبينما كان يطالع صور آثار التعذيب على جسد وليد حناتشة، تذكر الأسير السابق عمر البرغوثي "أبو عاصف" مرحلة كاملة من التعذيب في السجون الإسرائيلية منذ نهاية السبعينيات وحتى أواسط التسعينيات، قبل أن تنتقل تجربته إلى أبنائه حديثاً.

اعتقل عمر البرغوثي في نيسان/أبريل سنة 1978 مع شقيقه نائل (ما زال معتقلاً منذ 40 عاماً) وابن عمهما فخري، وكانوا قد احتجزوا في الزنازين ذاتها التي قُتل فيها الأسير محمد يوسف الخواجا تحت التعذيب بعد رفضه الاعتراف في سجن رام الله (21/6/1976). كان البرغوثي في عمر الثالثة والعشرين، واعتقل مع نحو ثلاثين شاباً جميعهم تعرضوا للتعذيب الشديد. واستمر التحقيق المترافق مع التعذيب أكثر من ثمانين يوماً. قال "أبو عاصف" تعرضنا للضرب بالعصي على كافة أنحاء الجسد، والضغط والضرب على المناطق الحساسة حتى فقدان الوعي، كما قلع المحققون شعره من رأسه، وتعمّدوا البصق في فمه، وجلدوا قدميه حتى فقد القدرة على الوقوف أو المشي.

وترافق اعتقاله وشقيقه مع اعتقال والدهم صالح البرغوثي وكان في الستينيات من عمره، وأخضع للتعذيب أمامهم للضغط عليهم لمدة شهر، وكان يُحمل على بطانية بعد انهيار جسده وقد فقد معظم بصره حينها.

وتعرض بعض المعتقلين في تلك المرحلة للصعق بالكهرباء وخلع الأظافر، إلى جانب الشبح معلقاً في سقف غرفة التحقيق لساعات. وقال: "كانت أمنيتي وقتها الاصطدام بجدار يسند جسدي". وفي شتاء 1991، عُلق البرغوثي في ساحة سجن رام الله لأربع ساعات عارياً في ليلة ثلجية قاسية.

يقول البرغوثي إن ذروة التعذيب كانت تحصل عندما كانت اعترافات الأسرى قليلة جداً، ولذا يعتقد أن صمود المعتقلين في الشهور الأخيرة هو القصة التي عرضتهم للتعذيب الشديد. وقال إن انتزاع المعتقل من أهله، وإلقاءه في العزل وحرمانه من النوم إلى حد الهلوسة، وتجويعه ومنع علاجه هو أيضاً تعذيب لا يقل عن الشبح والضرب.

كان عمر البرغوثي يمضي فترة اعتقاله لاحقاً على وقع حكاية "إبراهيم الراعي" وشعار "الاعتراف خيانة" الذي تخلّد في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية بعدما قُتل إبراهيم في نيسان/أبريل 1988، إثر جولات تعذيب طويلة دون أن يدلي بأي اعتراف.

ورغم قيام سلطات الاحتلال بسن العديد من القوانين والقرارات القضائية للتساوق مع "الاتفاقيات الدولية" التي تمنع التعذيب، فإن جولات التعذيب التي لجأت إليها في الشهور الأخيرة بررتها بتوجيه تهمة تنفيذ عملية "عين بوبين"، إلى خلية منظمة تابعة لفصيل فلسطيني هو الجبهة الشعبية، التي تلقت ضربات إسرائيلية قاسية منذ اعتقال قيادتها من سجن أريحا سنة 2006. والواقع، أن عملية "عين بوبين" تُعد العملية المنظمة الأولى منذ عملية "إيتمار" التي نفذها عدد من نشطاء حركة حماس في نابلس، رداً على إحراق المستوطنين عائلة دوابشة سنة 2015، وكان الأسير الشهيد بسام السايح أحد أعضائها.

وهنا يحاول مسؤول ملف الأسرى في الجبهة الشعبية المبعد إلى غزة علام كعبي، الذي أمضى 15 عاماً في سجون الاحتلال وحكم بالسجن تسعة مؤبدات قبل أن يفرج عنه في صفقة "وفاء الأحرار" سنة 2011، تفسير العنف الشديد الذي لجأت إليه سلطات الاحتلال في تعذيب المعتقلين مؤخراً. فهو يرى أن هذا العنف ارتبط أولاً بحالة صمود عالية من المعتقلين، وبعدم الاعتراف بما يوجه إليهم من تهم، وبتصديهم لمحاولات إجبارهم على تقديم معلومات قد تدينهم أو تدين رفاقهم، وهو ما وضع جهاز المخابرات في اختبار لمدى قدرته على انتزاع معلومات منهم وكسر إرادتهم، مشيراً إلى أن من خضع للتحقيق العسكري كانوا من الأسرى السابقين، كالعربيد وحناتشة والدرعاوي وقسام البرغوثي، الذين لديهم وعي بأساليب التحقيق الإسرائيلي، والذين أحيوا، بصمودهم، قيمة نضالية مهمة هي مبدأ "الاعتراف خيانة".

ويبدو أن سلطات الاحتلال، بلجوئها إلى العنف الشديد خلال عمليات التعذيب، أرادت توجيه رسالة بأنها عازمة على "تصفية" نشاط  جميع المقاومين للاحتلال من وطنيين وإسلاميين في الضفة الغربية، وخصوصاً نشاط الجبهة الشعبية، وهذا ما فُهم ضمناً من اعتقال قيادات سياسية في الجبهة، كالنائب خالدة جرار وغيرها.