Musallam, Arab Military Cooperation
Reviewed Book
Full text: 

التعاون العسكري العربي

بقلم طلعت أحمد مسلّم.

بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1990.

 

التعاون العسكري العربي موضوع مصيري مهم لكل إنسان في الأمة العربية، الممتدة من الخليج إلى المحيط، يؤمن بأن الوحدة العربية هي السبيل الحقيقي لتحقيق المصلحة المشتركة للأقطار العربية، بدءاً بالتنمية الاقتصادية المستقلة ووصولاً إلى إمكان الدفاع عن الوطن العربي وأمنه القومي دفاعاً فعالاً في وجه الأخطار والتهديدات الخارجية التي يتعرض لها. وهو موضوع طرحته، أصلاً، على بساط البحث لدى الكتّاب والباحثين العرب، عسكريين ومدنيين، المعنيين بالهموم القومية، مشكلةُ زرع دولة إسرائيل في أرض فلسطين، قلب الإقليم العربي، لتفصل مشرقه عن مغربه وتساهم كأداة رئيسية للإمبريالية العالمية في السيطرة على مقدرات الإقليم العربي ثروة، وموقعاً استراتيجياً، وسوقاً متسعة لسلعه.

ثم توالت على الإقليم العربي التهديدات الأخرى الناشئة عن مخاطر التدخل الأجنبي، وخصوصاً التهديدات التي أبرزتها أحداث السبعينات والثمانينات. ثم تعاقب ظهور دراسات عدة في العقدين المذكورين، وتناول بعضها مفهوم وإشكاليات الأمن القومي العربي بصفة عامة، وركز بعضها الآخر على جانب التعاون العسكري العربي بصفة خاصة. وجاءت هذه الدراسة في أول التسعينات لتشكل أحدث الدراسات العربية المنشورة في شأن التعاون العسكري العربي (389 صفحة)، وقد كتبها اللواء الركن المتقاعد طلعت أحمد مسلم، الذي خاض حرب 1973 كقائد لواء مشاة ميكانيكي على الجبهة المصرية.

يرى الباحث أن التعاون العسكري العربي شرط حتمي لا بديل له عن تعاون عسكري محتمل مع قوى غير عربية، سواء كانت قوى في إطار إسلامي، أو قوى في إطار تعاون ثنائي الأطراف أو متعدد الأطراف مع قوى غير عربية وغير إسلامية. إذ ثبت أنه ليس لدى أية دولة عربية القدرة على أن تواجه بمفردها أياً من التهديدات الخارجية المباشرة. ولذلك، لا بد من أن تسعى كل دولة عربية لاكتساب مزيد من القوة في مواجهة هذه التهديدات، ومن الطبيعي أن تتجه إلى اكتساب هذه القوة من خلال الدول العربية الأخرى التي تتعرض للتهديد نفسه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أو يمكن أن تتعرض له في حال فشل تلك الدولة المهدَّدة في مواجهته.

وحتى لا تكون دراسة التعاون العسكري العربي المنشود محكومة بنظرة مثالية، نظرة تستلهم، لتحقيق الأمن القومي العربي، وضعاً مثالياً غير مرتبط كثيراً بالواقع العملي، كما فعلت أغلبية الدراسات السابقة في شأن هذا الموضوع (على حد رأي الباحث)، مما قد يوحي للقارىء أحياناً بأنه قفزة من الواقع إلى الحلم لا ترتبط كثيراً بخطوات عملية على الطريق من الواقع إلى الهدف، فإن الباحث تناول في هذه الدراسة الموضوع بمحاولة تجمع بين النظرة الشاملة إلى الأمن القومي العربي وبين دروس التجارب الماضية لهذا التعاون، والاستفادة من تجارب التعاون العسكري الأجنبية الأخرى عامة (حلف الناتو وحلف وارسو أساساً)، توصلاً إلى تصور موافق لمستقبل التعاون العسكري العربي في ضوء دراسة إيجابيات التجارب السابقة وسلبياتها، بهدف تحديد خطوات عملية نحو تحقيق الهدف المنشود.

وانطلاقاً من هذه الأسس، بدأ الباحث دراسته ببحث مقولة الأمن القومي العربي، الذي يعتبره الاستراتيجية العليا أو الاستراتيجية القومية المفترضة للأمة العربية، وذلك من خلال تأثير ثلاثة عوامل رئيسية في الأمن القومي العربي هي: الموقع الجغرافي، والقوى البشرية، ومصادر تهديد الأمن القومي وأدواته. وتؤثر هذه العوامل الرئيسية الثلاثة في متطلبات الأمن القومي العربي المفترض، وتفرض – كضرورة موضوعية – التعاون العسكري العربي باعتباره الشرط الحتمي لمواجهة التحديات والتهديدات المحيطة بالوطن العربي مواجهة ناجحة، أو تتوفر لها على الأقل المعطيات اللازمة لإمكان تحقيق مواجهة ناجحة تكفل حماية مصالح وتطلعات الأمة العربية المشروعة. 

تجارب التعاون العسكري العربي في التاريخ الحديث

نظراً إلى السيطرة الاستعمارية البريطانية والفرنسية المباشرة على الإقليم العربي بأكمله منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وعدم حصول الأقطار العربية على استقلالها إلاّ بعد الحرب العالمية الثانية، فإنه لا يمكن الحديث عن أي تعاون عسكري عربي قبل نهاية الحرب المذكورة، ولا سيما أن جامعة الدول العربية لم تؤسَّس إلاّ في أواخرها. وكان صدور قرار تقسيم فلسطين بين العرب واليهود عن الأمم المتحدة سنة 1947 المناسبة الأولى لبدء التعاون العسكري العربي، وظهور أول أشكاله أو تجاربه العملية.

1-  التعاون العسكري العربي سنة 1948: قررت جامعة الدول العربية، في تشرين الأول/أكتوبر 1947، تسليح عرب فلسطين ليواجهوا المنظمات الصهيونية المسلحة. ونتيجة رفض بريطانيا ذلك، قرر مؤتمر رؤساء الحكومات العربية في كانون الأول/ديسمبر من السنة نفسها، تشكيل جيش من المتطوعين العرب عُرف باسم "جيش الإنقاذ" وضم نحو 7 آلاف مقاتل، وزودته الدول العربية بالأسلحة الخفيفة وبعض الأسلحة الثقيلة، ودعمته مالياً. وعهد بقيادة الجيش إلى فوزي القاوقجي. ونتيجة فشل الجيش المذكور في مواجهة التفوق العسكري الصهيوني، قررت الجامعة العربية في نيسان/أبريل 1948 دفع الجيوش النظامية العربية إلى فلسطين فور انتهاء الانتداب البريطاني في أيار/مايو 1948، وعهدت إلى الملك الأردني عبد الله بالقيادة العامة. وفي 15 أيار/مايو، دخلت وحدات من جيوش مصر والأردن والعراق وسوريا ولبنان إلى فلسطين. وقد عدّل الملك عبد الله خطة العمل العسكري، بمشورة من الجنرال غلوب وتنفيذاً لاتفاق الأردن مع بريطانيا، بعدم القتال خارج القسم العربي الذي حدده قرار تقسيم فلسطين؛ فكان أن برزت ثغرات واسعة بين مناطق عمل الجيش السوري والجيش اللبناني، وبين مناطق عمل الجيشين العراقي والأردني. وفي النتيجة، وقعت خلافات بين الجيوش العربية، وانعدمت وحدة القيادة الفعّالة، وفشلت الجيوش في أداء مهمتها. وكانت الإيجابية الوحيدة في تجربة التعاون العسكري العربي الأولى، هي دخول الجيوش العربية فلسطين في موعد واحد.

2-  التعاون العسكري العربي بين سنتي 1948 و1967: نتيجة هزيمة الجيوش العربية في حرب 1948، أدركت القيادات السياسية العربية أهمية التعاون العسكري الفعّال بينها، ووقعت معاً "معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي" في 17 حزيران/يونيو 1950، وهي المعاهدة التي أصبحت نافذة المفعول في آب/أغسطس 1952 وعُرفت باسم "ميثاق الضمان الجماعي". وقد التزمت الدول العربية الموقعة لهذه المعاهدة اعتبار أي اعتداء على أية دولة منها اعتداء عليها جميعاً... إلخ. وأنشأت المعاهدة أجهزة مختصة بالتعاون العسكري، وألّفت مجلساً للدفاع المشترك ضم وزراء الخارجية، بالإضافة إلى لجنة عسكرية دائمة لتوفير الجانب السياسي. لكن المعاهدة لم تتضمن تحديد جهاز يخول سلطة اتخاذ التدابير العسكرية الإيجابية وقت السلم لمواجهة ما قد يطرأ من أخطار، أي أنها لم تحدد قيادة دائمة؛ ولذلك لجأ بعض الدول العربية المهدَّدة بالخطر الإسرائيلي أكثر من غيرها إلى عقد اتفاقات دفاع مشترك عربية ثنائية أو متعددة الأطراف. فعقدت مصر وسوريا اتفاقاً بينهما قضى بإنشاء قيادة مشتركة في تشرين الأول/أكتوبر 1955 لمواجهة تهديدات إسرائيل لكلا الدولتين ومواجهة تهديد تركيا لسوريا. ثم عقدت مصر مع السعودية واليمن اتفاقاً ثلاثياً في الشهر نفسه، ثم وقعت مصر اتفاقاً آخر مع الأردن في آذار/مارس 1956، وأصبح للقيادة المشتركة فروع في كل من القاهرة ودمشق وعمّان وصنعاء، إلا إن الاتفاقات تلك لم تتح لمصر فرصة للعمل الجدي عندما واجهت العدوان الثلاثي في تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر 1956 لأسباب سياسية وعسكرية مختلفة، لا يتسع المجال هنا للخوص في تفاصيلها. وفي الوقت نفسه، لم يوضع "ميثاق الضمان الجماعي" موضع التنفيذ لوجود خلافات سياسية عميقة بين مصر وعدد من الدول العربية، التي كان لا زال لها ارتباطات سياسية مع بريطانيا (مثل العراق وليبيا). وكان من نتائج حرب 1956 أن أصبح واضحاً أن صيغة القيادة المشتركة متعددة الأطراف لا تحقق التعاون العسكري المأمول، وأن الأسلوب الوحيد لتحقيق الأمن القومي هو توحيد القيادة على المستويين السياسي والعسكري. وهكذا، اتجهت الجهود نحو تحقيق الوحدة العربية، وكانت النتيجة قيام الوحدة المصرية – السورية في مطلع سنة 1958، إلا إن الوحدة انتهت بالانفصال في سنة 1961. وفي الوقت ذاته، انسحبت الدول العربية من "ميثاق الضمان الجماعي" تباعاً نتيجة الخلافات السياسية. وكان العمل العسكري العربي المشترك الوحيد الذي تم في هذه الفترة، هو تشكيل قوة عربية مشتركة سنة 1961، بناء على قرار من جامعة الدول العربية، لتحل محل القوات البريطانية المنسحبة من الكويت، ولمواجهة مطالبة حكومة عبد الكريم قاسم بضم الكويت إلى العراق.

وفي نهاية سنة 1963، أعلنت إسرائيل قرب استكمال المرحلة الأولى من مشروع مياهها القومي، وكشفت عن نيتها حجز مياه نهر الأردن من دون أي اعتبار لحقوق الدول العربية في هذه  المياه. فدعا الرئيس عبد الناصر إلى عقد مؤتمر قمة عربي لمواجهة هذا الخطر على الأمن القومي العربي، بعمل مشترك. وعُقد مؤتمر القمة المذكور في القاهرة يوم 13 كانون الثاني/يناير 1964، واتخذ عدة قرارات تضمنت تأليف "الهيئة الفنية لمياه نهر الأردن وروافده" من أجل تنفيذ المشاريع اللازمة لتحويل روافد نهر الأردن الواقعة في لبنان وسوريا، فضلاً عن إقامة سد على النهر في الأردن نفسه، لمنع إسرائيل من تحويل مياهه. وتضمنت القرارات أيضاً تشكيل القيادة الموحدة للجيوش العربية، تعبيراً عن نية العرب في منع إسرائيل من التدخل المسلح لتعطيل المشاريع العربية واستغلال مياه نهر الأردن. وفعلاً، تشكلت القيادة المذكورة بقيادة الفريق علي علي عامر رئيس الأركان المصري والأمين العسكري المساعد لجامعة الدول العربية. وكانت هذه القيادة خاضعة لمجلس الدفاع المشترك الذي يضم أيضاً وزراء الخارجية العرب، ومهمتها تولي قيادة القوات العربية التي توضع في تصرفها، أي أن سلطتها لا تشمل جميع قوات الدول العربية المشاركة في المؤتمر، تاركة مسؤولية الدفاع الشامل عن الدول العربية الخارجة عن العمليات المشتركة المتعلقة بمشاريع تحويل مجرى نهر الأردن للقيادات العسكرية العربية المحلية. وقد نجحت هذه القيادة في وضع مخططات مبكرة للعمليات المشتركة، لكن الجيوش العربية لم تلتزم أوامر القيادة الموحدة وقراراتها، كما رفضت دول عربية (الأردن ولبنان) دخول قوات القيادة الموحدة أراضيها قبل بدء العمليات الحربية، ورفض بعض الدول العربية دفع نصيبه في ميزانية القيادة. ووضعت القيادات العسكرية المحلية العراقيل المختلفة في طريق عمل القيادة الموحدة، وهو ما جعلها تفشل في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية على مشاريع تحويل نهر الأردن وروافده. وتلاشت فرصة عربية حقيقية لتحقيق تعاون عسكري جدي عشية نشوب حرب 1967، في الوقت الذي بدت مؤشرات العدوان الإسرائيلي الجديد على دول المواجهة واضحة منذ بدء إسرائيل تنفيذ مشروعها المائي المذكور. ولذلك عادت مصر، مرة أخرى، إلى عقد اتفاقات مشتركة ثنائية مع سوريا ثم مع العراق والأردن. كما عقدت سوريا والعراق اتفاقاً مشتركاً قبيل نشوب حرب 1967 بوقت قصير جداً. وانفرط عقد مؤتمرات القمة العربية والأجهزة الناشئة عنها اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، في حين أن الإطار الجديد للتعاون العسكري لم تُتَح له الفرصة الزمنية الكافية لتحقيق قدر ملائم من التنسيق الفعّال عند نشوب حرب1967.

3 التعاون العسكري العربي بين سنتي 1967 و1973: في إثر هزيمة 1967 وإعادة بناء جيوش دول المواجهة لاسترداد الأراضي العربية التي احتلت في تلك الحرب، والتي شملت أول مرة منذ سنة 1948 أراضي عربية غير أراضي فلسطين، عملت دول المواجهة بصورة أكثر جدية لإيجاد أطر جديدة فعالة للتعاون العسكري العربي. فشكلت في سنة 1968 قيادة "الجبهة الشرقية" التي ضمت سوريا والأردن والعراق، وعهد بقيادتها إلى ضابط عراقي يعاونه ضباط أركان من سوريا والأردن. وعين فيها أيضاً ضباط أركان مصريون للتنسيق بين الجبهة الشرقية والجبهة الجنوبية المصرية، وذلك لتحقيق هدف تحرير الأرض التي احتُلت سنة 1967. ولم تتمكن هذه القيادة من تأدية مهماتها، ولم تتحقق لها سلطات كافية على القوات المخصصة لها، بل كانت قيادات الدولة المشتركة فيها تصدر توجيهات تتعارض مع توجيهاتها، وهو ما أدى إلى حلها سنة 1970.

ونتيجة مؤتمر قمة طرابلس، شُكلت في نهاية حزيران/يونيو 1970 "القيادة المشتركة للجبهات العربية"، التي ضمت مصر وسوريا والعراق والأردن والسودان. وقسمت الجبهات إلى جبهة جنوبية في مصر، وجبهة شرقية في الأردن، وجبهة شمالية في سوريا. وما لبثت القيادة أن انفرط عقدها بسبب اندلاع القتال بين المقاومة الفلسطينية والأردن، ونشوب خلافات سياسية نتيجة ذلك بين الأردن وكل من سوريا والعراق ومصر. وبعد ذلك، عملت كل من مصر وسوريا على دعم اتفاق الدفاع المشترك بينهما، وعقدتا اتفاقاً عسكرياً في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 1970 بغرض توحيد الجهود العسكرية للدولتين تحت قيادة واحدة. وقد أُسندت تلك القيادة إلى وزير الحربية المصري، على أن يتولى قيادة القوات السورية عن طريق وزارة الدفاع السورية، وأن تشكَّل مجموعة عمليات تقوم بالتخطيط للعمليات والتنسيق وإعداد القرارات التي يصدرها القائد العام.

وعقب اتفاق كل من مصر وسوريا وليبيا، سنة 1971، على إنشاء "اتحاد الجمهوريات العربية"، تم تشكيل القيادة العامة للقوات المسلحة الاتحادية في شهر حزيران/يونيو 1972 لتتولى مهمات الدفاع عن دول الاتحاد على المستوى الاستراتيجي من ناحية العمليات والتدريب وتنسيق الصناعات الحربية، مع بقاء كل قيادة قوات مسلحة قطرية مسؤولة عن تنظيم وإدارة العمليات والتدريب على المستويين العملاني (التعبوي) والتكتي على جبهتها.

وفي اجتماع لمجلس الدفاع المشترك، شُكلت الجبهات الشمالية والشرقية والغربية تحت قيادة القائد العام للقوات المسلحة المصرية، تعاونه مجموعة عمليات من الدول المشتركة. وقد مُنح كامل الصلاحيات فيما يتعلق بالقوات الموجودة في مسرح العمليات للجبهات الثلاث. وقرر مجلس الدفاع المشترك أيضاً وضع قيادة القوات الجوية لكل من الجبهتين الشمالية والشرقية بإمرة قائد القوات الجوية السورية، على أن يتولى قائد القوات الجوية المصرية قيادة القوات الجوية للجبهات الثلاثة. كما حددت حجوم القوات التي ستكون جاهزة للعمليات في أماكن تمركزها في دولها في نهاية آذار/مارس 1973، لتكون مستعدة للتحرك إلى المواقع التي يحددها القائد العام. واشتملت هذه القوات على وحدات وتشكيلات برية وجوية من العراق والسعودية والكويت وليبيا والجزائر والمغرب والسودان، على أن تكون كاملة التجهيز والتسليح والتدريب، وتتحمل الدول صاحبة الدعم نفقاتها كلها.

وقامت هيئة عمليات القوات المسلحة الاتحادية بدراسة الموقف العسكري على الجبهتين المصرية والسورية، ووضعت أسلوب السيطرة الاتحادية على الجبهات العربية. وعقدت اجتماعات مشتركة بين القيادة الاتحادية وقيادات الجيشين المصري والسوري. وعند تكاثر الدراسات واقتراب موعد تنفيذ الهجوم على الجبهتين المصرية والسورية شكل الفريق أول أحمد اسماعيل علي، القائد العام المصري وقائد القيادة الاتحادية، مجلساً عسكرياً أعلى مصرياً – سورياً للإعداد للحرب، ولم تشترك ليبيا في المجلس لعدم موافقة الرئيس معمر القذافي على الطريقة التي  سيدار الهجوم بها. وهكذا تم التخطيط النهائي لحرب تشرين الأول/أكتوبر بين مصر وسوريا فحسب، ولم تُخطَر به بقية دول القيادة الاتحادية التي فوجئت بنشوب الحرب في 6 تشرين الأول/أكتوبر 1973. لكن القائد العام حذر الأردن فقط من إمكان نشوب الحرب، وجرى تنسيق وسيلة الاتصال بين الأردن والقيادة الاتحادية. ولذلك اقتصر دور دول القيادة الاتحادية بعد نشوب الحرب على تقديم الدعم العسكري لكلا الجبهتين، على عجل، ومن دون تنسيق مسبق. وتدفقت قوات أكبر عدداً مما كان مقرراً في السابق بسبب الحماسة التي أجّجتها الحرب لدى الرأي العام العربي. لكن ظهرت مشكلات ضعف التنسيق العملاني والتكتي واللوجستي نتيجة السرية والمفاجأة وعدم الاتفاق والتدريب المشترك المسبق. ونظراً إلى عدم وجود قيادة سياسية موحدة لإدارة الصراع، ظهر اختلال في أهداف كل من مصر وسوريا، كما ظهر اختلاف بين أهدافهما وأهداف الدول العربية الداعمة (مثل العراق وليبيا)، الأمر الذي أظهر الضعف في الإدارة السياسية العربية للحرب. وفضلاً عن ذلك، فإن عدم توفر قيادة قومية سياسية وقيادة عسكرية موحدة، أو مشتركة لإدارة القتال، أدى إلى فقدان التعاون بين الجبهتين المصرية والسورية بعد الساعات الأولى من بدء الحرب. كما أن القوات المصرية لم تستغل فرصة توجيه إسرائيل الجزء الأكبر من مجهودها الجوي ضد الجبهة السورية لتسدد هي ضربات قوية إلى الطيران الإسرائيلي أو إلى القوات البرية الإسرائيلية في سيناء، أو حتى إلى البحرية الإسرائيلية. كما أن القائد العام لم يشن الهجوم المصري في التوقيت الملائم (يقصد الباحث الهجوم الذي شن في 14 تشرين الأول/أكتوبر  1973) لسحب الاحتياطات الإسرائيلية من أمام سوريا قبل أن يضطر الجيش السوري إلى الانسحاب من هضبة الجولان. ويستطرد الباحث قائلاً: "إلا إن أغرب ما في ذلك أن يدفع قائد القوات المسلحة المصرية... القوات المدرعة المصرية بعد فوات الفرصة للتعاون مع القوات السورية وانسحابها من الجولان، وبعد إعادة تجميع القوات الإسرائيلية لمواجهة أي تقدم مصري."! ثم يقول: "وأخيراً فإن غياب القيادة القومية السياسية عند قبول قرار وقف إطلاق النار أدى إلى اتخاذ دول المواجهة القرار دون الرجوع إلى الدول التي عاونتها، وبالتالي سحب بعض قوات الدعم هذه، الأمر الذي كان يعرض الموقف العسكري للانهيار في بعض الجبهات"!

وأشار الباحث، في مجال حديثه عن سلبيات التعاون العسكري العربي في أثناء حرب 1973، إلى التناقض في الأهداف الاستراتيجية العسكرية بين القيادتين المصرية والسورية بعد نشوب الحرب وتحقق الأهداف المحددة للمرحلة الأولى من العمليات. فقد لفت العماد مصطفى طلاس، وزير الدفاع السوري، في مقال له في 5 تشرين الأول/أكتوبر 1975 إلى أنه سبق أن اتفق على أن يقوم الجيش المصري، بعد اجتيازه القناة واقتحام خط بار – ليف، بزج فرقة مدرعة من أجل تطوير الهجوم شرقاً لاحتلال ممرات سيناء وإجبار الجيش الإسرائيلي على إعادة توزيع قواته بهدف تخفيف الضغط على الجبهة السورية. لكن الجيش المصري اكتفى بصد الهجمات التكتية المضادة الإسرائيلية "مستنداً إلى القناة تنفيذاً لأوامر قيادته السياسية الأمر الذي جعل القيادة الإسرائيلية تكشف نوايا القيادة المصرية وتنقل احتياطاتها إلى الجبهة الشمالية. واستمرت القيادة المصرية على هذا الحال أسبوعاً كاملاً حتى 14/10/1973 دون أن تفكر بزج أنساقها الثانية ومتابعة الهجوم رغم إلحاحنا المتواصل للتقيد بتنفيذ الخطة"! ويشير الباحث، بعد ذلك، إلى ما أورده اللواء حسن البدري وآخرون في كتاب "حرب رمضان" الصادر سنة 1975، من أن مهمة القيادة المصرية كانت التخطيط لعملية مشتركة بالتعاون مع القوات السورية، تقوم فيها "مصر بالاقتحام المدبر لقناة السويس وتدمير خط بار – ليف والاستيلاء على رؤوس كباري [رؤوس جسور] بعمق 10 – 15 كلم على الضفة الشرقية للقناة وتكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة وصد وتدمير هجمات وضربات العدو المضادة والاستعداد لتنفيذ أي مهام قتالية أخرى تكلف بها فيما بعد." ويحسم الباحث نقطة الخلاف الرئيسية هذه، والتي أثارت وتثير جدلاً طويلاً حتى الآن، بقوله: "وحتى الآن فإنه يظهر خلاف واضح بين تصريحات المسؤول السوري والوثائق المصرية، الأمر الذي يحتمل الخطأ في أي منهما. إلا إن الرئيس المصري السابق أنور السادات صرح عام 1976 أن 'الهدف الذي أعطيته للقائد العام هو أن يطرد الإسرائيليين خلف المضائق'. وهذا يعني أن هدف القوات المسلحة المصرية في حرب رمضان (تشرين الأول/أكتوبر) عام 1973 كان يشتمل على الاستيلاء على المضايق، ولكن القيادة المصرية التي كانت تتولى في الوقت نفسه مسؤولية القيادة العامة للقوات المسلحة العربية، والقيادة العامة للقوات المسلحة الاتحادية، قد شغلت بمسؤوليتها عن إدارة الصراع المسلح على الجبهة المصرية عن مسؤوليتها في تحقيق الخطة والهدف القومي المشترك."! وهكذا حمّل الباحث الفريق أول أحمد اسماعيل مسؤولية عدم متابعة التقدم وفقاً للخطة الأصلية المتفق عليها نحو الممرات نظراً إلى كثرة المسؤوليات الملقاة على عاتقه، والتي يعترف هو نفسه بأنها انحصرت بعد نشوب القتال في قيادة القوات المصرية فقط! مخالفاً بذلك ما أورده اللواء حسن البدري في كتابه، الذي اعتبره الباحث بمثابة وثائق مصرية، استناداً إلى دفاع السادات عن نفسه بقوله إنه أعطى الأوامر بطرد الإسرائيليين إلى ما وراء المضائق ضمن خطاب يعد من التصريحات النادرة له فيما يتعلق بموضوع الخلاف المذكور. وفي الوقت نفسه، لم يشر الباحث إلى ما أورده الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس الأركان المصري قبل حرب 1973 وفي أثنائها، في هذا الخصوص، إذ قال إنه تم وضع خطتين: إحداهما تستهدف اقتحام القناة وخط بار – ليف ثم الاستيلاء على المضائق، وقد سميت "العملية 41"؛ والأخرى تقتصر على اقتحام القناة وخط بار - ليف واتخاذ مواقع دفاعية بعمق يتراوح بين 10 كلم و 12 كلم شرقي القناة إلى حين تجهيز القوات وتدريبها للمرحلة التالية من تحرير الأرض، وقد سُميت هذه الخطة "المآذن العالية" ثم غير اسمها إلى "الخطة بدر"، وأن الخطة الأولى لم يكن مزمعاً تنفيذها لكن كانت تعرض على السوفيات للحصول على الأسلحة اللازمة لتنفيذها، وأن الفريق أحمد اسماعيل طلب من الشاذلي إعداد خطة تدمج الخطتين السابقتين معاً في خطة واحدة، وأُطلق على هذه الخطة اسم "غرانيت 2"، لعرضها على الجانب السوري لأن السوريين "إذا علموا بأن خطتنا هي احتلال 10 – 15 كلم شرق القناة فإنهم لن يوافقوا على دخول الحرب معنا." وبطبيعة الحال، لم يكن من الممكن وضع هذا التخطيط وتنفيذه من دون علم الرئيس السادات، أي القيادة السياسية المصرية، فلماذا، إذاً، تحميل القيادة العسكرية العليا وحدها مسؤولية عدم تنفيذ الخطة "الوهمية" المتعلقة باحتلال الممرات؟! ألا يتعارض هذا مع القول إن سبب عدم اكتمال التعاون العسكري العربي راجع إلى عدم وجود قيادة  سياسية موحدة للحرب؟ كذلك، ألا يتعرض هذا مع مقوله كلاوزفيتز المعروفة: "الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى"، التي كررها الباحث في عديد من المواضع في كتابه؟!

لقد اضطررنا إلى الخوض بشيء من التفصيل في هذه المسألة الاستراتيجية المهمة التي تضمنتها حرب 1973، نظراً إلى النتائج الاستراتيجية والسياسية البالغة الأهمية التي ترتبت عليها في مسار الحرب ومسار السياسة التي تلتها. ولأن التعاون في حرب 1973 كان قمة التجارب التاريخية في مجال التعاون العسكري العربي، والبحث في إيجابياته وسلبياته مسألة جوهرية في دراسة هذا الموضوع، فإنه كان ينبغي للباحث أن يتعرض لها بموضوعية أكبر وتفصيل أكثر، وخصوصاً أن الباحث شارك فيها عملياً كقائد تشكيل قتالي ميداني. 

إشكاليات التعاون العسكري العربي

أظهرت الخبرات التاريخية الحديثة للتعاون العسكري العربي عدداً من الإشكاليات، وقد تُظهر خبرات المستقبل إشكاليات أخرى. وانطلاقاً من محاولة تذليل الصعوبات وإيجاد حلول لها وصولاً إلى تعاون أوثق بين الجيوش العربية، وتوحيد جهودها تلبية لمتطلبات الأمن القومي، فقد عرض الباحث لهذه الإشكاليات لا لمجرد البحث عنها واكتشافها أو للوصول إلى حالة يأس من تحقيق التعاون المنشود، وإنما سعياً وراء تلمس سبل تحقيقه في ضوء الخبرات العملية الماضية وإمكانات الواقع المعاش. ويمكن أن نوجز الإشكاليات المذكورة في النقاط التالية:

1-  تعدد الوحدات السياسية: إن الاستراتيجية العسكرية، باعتبارها تابعة للسياسة، لا بد من أن تبدأ من الهدف السياسي العسكري، وهي أمور لا بد من أن تحددها القيادة السياسية. ولمّا كانت الجامعة العربية تضم 7 أعضاء سنة 1950، و 8 أعضاء سنة 1956، و14 عضواً سنة 1967، و19 عضواً سنة 1973، وباتت حالياً تضم 22 عضواً منذ سنة 1977، ولمّا كان اتخاذ قرار يختص بالشؤون العسكرية يحتاج إلى اتفاق بالإجماع أو إلى الأكثرية، وحينذاك يكون القرار ملزماً لمن قِبله فقط، فإن من الصعب التوصل إلى قرار سياسي عسكري عربي، وهو يحتاج في أفضل الأحوال إلى زمن طويل نسبياً للتوصل إليه.

2- اختلاف التصور الاستراتيجي: تختلف الدول العربية بعضها عن بعض في تصورها الاستراتيجي، على الرغم من اتفاقها النظري على ضرورة الموقف العربي الموحد. ويبدأ الاختلاف من حيث تصوُّر طبيعة التهديدات للأمن القومي العربي؛ إذ رأى البعض أن الشيوعية الدولية هي التهديد الرئيسي، ورأت الأغلبية أن التهديد الرئيسي هو إسرائيل، والبعض الآخر وضع الاثنين على قدم المساواة... إلخ. وانعكس ذلك على القرار السياسي اللازم لبدء التعاون العسكري.

3- اختلاف القيم السياسية والاجتماعية: نظراً إلى اختلاف التطور التاريخي للبلاد العربية، فقد اختلفت فيها طبيعة النظم الاجتماعية والسياسية؛ فمنها من تبنى مبادىء الاشتراكية بدرجات مختلفة المدى، الأمر الذي زاد في صعوبات تبني قرار سياسي – استراتيجي وأخذه بجدية متوازية في التنفيذ، هذا إذا نُفذ أصلاً.

4- عدم تقنين سلطات الأجهزة القومية: تبين الخبرات العملية، ومنها خبرة حرب 1973، إن صدور القرار السياسي على المستوى القومي لم يكن دائماً يعني توحيد الجهود العسكرية العربية في التطبيق، نتيجة تعارض سلطات الأجهزة القومية ومسؤولياتها مع سلطات الأجهزة القطرية داخل الدول، وميل معظم القادة العسكريين العرب – الذين توكل إليهم مهمات قيادية قومية – إلى إعطاء أولية لمهمات قيادته القطرية، والدفاع عن سلطته داخل دولته، والعمل على تأكيدها. ويرى الباحث أن حل هذه الإشكالية هو تقنين سلطات القيادة العسكرية القومية على القيادات القطرية التي توضع بإمرتها، وذلك بالنص على مثل هذه الحالات في دساتير الدول العربية، وإصدار القوانين التي تجرم مخالفة هذه النصوص. وفي الواقع، أن هذه المشكلة في جوهرها مشكلة سياسية لا مشكلة قانونية، ومن الممكن أن يكون هناك نصوص دستورية وقانونية تقضي بتقنين السلطات القومية المذكورة ثم لا تنفذ عملاً لانعدام سلطة التنفيذ في حال اختلاف القيادات السياسية في تصوراتها الاستراتيجية أو قيمها السياسية... إلخ، في ظل انعدام الدولة القومية الموحدة فعلياً والتي تمتلك سلطة حقيقية في التشريع وتطبيقه.

5- تعدد التهديدات: كان الصراع مع إسرائيل في قلب الوطن العربي يشكل، حتى نهاية السبعينات، التهديد الرئيسي للأمن القومي. لكن منذ بداية الثمانينات، بدأت الصراعات الإقليمية على أطراف الإقليم العربي تتزايد مع بداية الحرب العراقية – الإيرانية، فانخفضت  بالتالي مرتبة الصراع مع إسرائيل لدى دول الأطراف إلى مرتبة ثانية. ثم طُرحت على التعاون العسكري العربي على المستوى القومي المفترض مشكلة تحديد أولويات توجيه الجهد الرئيس ونقله من اتجاه استراتيجي إلى آخر، بحيث يركز الهجوم في اتجاه ويجري الدفاع في اتجاه آخر، الأمر الذي يتطلب إيجاد شبكة مواصلات داخلية في الإقليم العربي قادرة على تلبية هذه التحركات الاستراتيجية.

6- اختلاف السياسة والتنظيم العسكريين: تختلف عناصر السياسة العسكرية لدى العديد من الدول العربية، بعضها عن بعض، لجهة أساليب التجنيد (هناك دول تتبع التجنيد الإجباري، وهناك دول تتبع التجنيد على أساس التطوع)، والتعبئة العامة، ومصادر التسليح، وأساليب القتال، وأساليب التدريب والتأمين الإداري والفني، وأساليب القتال، وأساليب إعداد الدولة ومسارح العمليات للحرب. وهذا، فضلاً عن اختلاف أساليب تنظيم التشكيلات والوحدات العسكرية من حيث الحجم والتقسيم الداخلي والتسليح، الأمر الذي يحدث مشكلة تفاوت قدراتها القتالية، على الرغم من تشابه مسمياتها (فرق، ألوية، أفواج، كتائب، أسراب... إلخ). ويضاف إلى ذلك، الاختلاف في المصطلحات العسكرية، وهو اختلاف نابع من اختلاف مصادر العلم العسكري لدى الجيوش العربية، الأمر الذي يؤثر في اختلافها في نظريات فن الحرب (استراتيجية، عمليات تكتيك)، وفي العلوم العسكرية الفنية المؤثرة في نواحي التأمين الإداري والفني (أي الصيانة والتجهيز الهندسي... إلخ). وهذه المشكلات كلها تعرقل التعاون العسكري العربي الفعّال، ولا سيما عند عدم توفر الوقت اللازم لحل هذه الإشكاليات حلاً معقولاً قبيل نشوب القتال، كما حدث خلال حرب 1973 بالنسبة إلى قوات الدعم العربية التي توجهت إلى مسارح العمليات على عجل.

7- غياب أساليب التعاون ونظمه: كشفت التجارب العملية عن غياب الأساليب والنظم الراسخة، لا المستحدثة على عجل فور بدء القتال، لشبكات الاتصال اللاسلكي والراداري، ونظم التمييز بين القوات والطائرات الصديقة والقوات والطائرات المعادية بالنسبة إلى الدفاع الجوي، ونظم التعارف بين القوات الجوية العربية. وهو ما يطرح ضرورة بناء مؤسسات التعاون مسبقاً وترسيخها قبل بدء الصراع المسلح بفترة كافية، ولا سيما "أن الحرب الحديثة تتميز بأهمية المرحلة الافتتاحية للحرب نظراً إلى التطور الشديد في مرامي الأسلحة، ودرجة دقتها، الأمر الذي قد لا يترك الكثير مما يمكن عمله لما بعد ذلك."

ويتخذ الباحث من هذه الإشكاليات مدخلاً إلى إيجاد المكونات الفعّالة للتعاون العسكري العربي المفترض في الأوضاع الحالية، فيؤكد أهمية المدخل السياسي لمثل هذا التعاون. ولذلك، فإن الأوضاع العربية الحالية لا تسمح بالقفز مباشرة إلى التعاون العسكري المأمول، بحكم الاختلافات السياسية العربية القائمة. والأمر يتطلب حداً أدنى من الاتفاق السياسي العسكري، على الأقل، على مسائل أساسية تتعلق بالحفاظ على الإنسان والهوية العربية ومصادر التهديد المحتلمة والقائمة. كما يتطلب حداً أقصى للاختلاف لا يسمح للتناقض بين الأطراف العربية بأن يبلغ حد الصراع المسلح خارج حدود الدفاع الشرعي عن النفس. وهذا طريق واقعي نحو إيجاد حلول متدرجة لإشكاليات التعاون العسكري العربي. ولهذا، فإن الباحث يتخذ من الجامعة العربية ومؤسساتها السياسية والعسكرية والاقتصادية القائمة نقطة انطلاق تنظيمية عملية لمستقبل التعاون العسكري المنشود، ويدعو إلى دراسة جميع الوثائق المتوفرة لديها والمتعلقة بمختلف اتفاقات الدفاع المشترك، والقيادات الموحدة والمشتركة، والدراسات العديدة التي أنجزت في شأن هذه المسائل على مر الأعوام (وبخاصة فترة القيادة الموحدة 1964 – 1967)، لوضع أسس عملية من الناحيتين السياسية والعسكرية، فضلاً عن قضايا الدعم المالي اللازم للتعاون، تبدأ في اتجاه التنسيق وتتطور بالتدريج نحو قيادة متحالفة، ثم قيادة مشتركة، وصولاً إلى القيادة الموحدة. أي أن تبدأ السياسة الواقعية المذكورة بتوثيق الروابط العسكرية بين الدول العربية أفقياً، في ظل المعطيات المتوفرة عملياً، لتنتهي إلى توثيق الروابط العسكرية بينها رأسياً؛ وهي روابط تعني توحيد نظم التجنيد والتنظيم والتسليح والتدريب، وبناء عقيدة عسكرية مشتركة، وتبادل المعلومات عن مصادر التهديد العسكري المختلفة، ووضع أسس موحدة للعمل العسكري العربي، ودراسة مختلف مسارح العمليات العربية، وإقامة صناعة عربية مشتركة. وهذه الخطوات كلها، بل بعضها فقط – بحسب رأي الباحث – يضع أسساً متينة لتعاون عسكري فعّال عند اتخاذ القرار السياسي بشأنه، كما أنه قد يتطور إلى إقامة نظام عسكري عربي جديد. وركز الباحث، في هذا الصدد، على أهمية وضع دراسات تتعلق بالسياسة العسكرية، أي العقيدة العسكرية العربية، التي يمكن أن تشارك فيها مراكز الدراسات الاستراتيجية العربية المختلفة، والتي يمكن أن تستقطب الباحثين المدنيين والعسكريين المتقاعدين، والباحثين المهتمين بقضايا الأمن القومي من خارج قطاعات الدبلوماسيين العسكريين، وعقد ندوات ومؤتمرات علمية في هذا الخصوص.

ويعرض الباحث في نهاية بحثه، تحت عنوان "مستقبل التعاون العسكري العربي"، جميع التصورات المفصلة المتعلقة بالتعاون العسكري العربي المفترض، في ضوء دراسة الإشكاليات السابقة، واعتبار الجامعة العربية الجهاز السياسي الذي يضم القوى العربية كلها، أي باعتبارها القيادة السياسية للأمة العربية على حد قوله. فيتعرض للأشكال المفترضة للقيادة السياسية العربية وأساليب عملها، وكذلك لمجلس الدفاع المشترك، والقيادة العامة للقوات المسلحة العربية، ومسارح العمليات والقوة المركزية الاستراتيجية العربية، وقوات الدفاع الجوي والاستراتيجي العربية، وقيادات القوات المسلحة للبلاد العربية، والتخطيط الاستراتيجي العربي، وأساليب إدارة الصراع المسلح. فضلاً عن عرضه المفصل مسبقاً لمشكلات بناء صناعة عسكرية عربية مشتركة. وكلها قضايا تحتاج إلى بحث ونقاش مطولين لا يتسع المجال لهما في عرضنا لهذا الكتاب، الذي يشكل إضافة مهمة إلى أبحاث التعاون العسكري العربي، ولا سيما من حيث المنهج وحداثة أسلوب البحث، ومن حيث استناده إلى الكثير من وثائق التعاون العسكري العربي، وإنْ كان ينقصه شيء من تفاصيل خبرات التعاون التاريخية الحديثة، وخصوصاً في الحروب العربية -  الإسرائيلية، علماً بأننا كنا نتوقع أن يلقي الباحث أضواء أقوى عليها بفضل خبرته العملية الشخصية المتراكمة من الحروب العربية – الإسرائيلية التي شارك فيها.

Author biography: 

محمود عزمي: رئيس تحرير مجلة "الفكر الاستراتيجي العربي".