The New Security Architecture and Sources of Threat to Security and Stability in the Region
Special Feature: 
Keywords: 
العلاقات الدولية
الأمن الإقليمي
الاحتلال العراقي للكويت
أزمة الخليج
Full text: 

تحتل فكرة إقامة بنية أمنية جديدة في المنطقة مكانة بارزة في المداولات الدولية والمحلية الجارية بشأن كيفية معالجة آثار حرب الخليج، بل يمكن القول إن إمكان تطوير مثل هذه البنية هو من أهلم إفرازات الأزمة الراهنة على الصعيد السياسي – الاستراتيجي، نظراً إلى ما قد تنطوي عليه من آثار حيوية في الأوضاع الإقليمية برمتها.

غير أنه لا يزال يلف هذه الفكرة الكثير من الغموض والالتباس، مما يجعل من الصعب تحديد شكل البنية الجديدة المطروحة، أو الأهداف المرجوة منها، أو آلة تنفيذها بدقة. ويستدل من مراجعة النقاش الجاري أن هنالك، في الواقع، أكثر من فكرة واحدة في قيد التبلور، تختلف عناصرها ومكوّناتها مع اختلاف مصدرها ووقف صدورها. وإذا كان بعض هذا الغموض متعمداً أو مدروساً لأسباب سياسية أو تكتية من جهة، فيبدو أنه يعكس من جهة أخرى عدم يقين أصحاب الفكرة أنفسهم حيال مستقبل أزمة الخليج وانعكاساتها الطويلة الأمد.

لكن مهما يكن الأمر، يبدو أن مسألة الترتيبات الأمنية الجديدة في المنطقة أصبحت مدار اهتمام واسع من قِبَل المجموعة الدولية، كما يتبين من سلسلة التصريحات التي أدلى بها المسؤولون الأميركيون والسوفيات والأوروبيون في الفترة الأخيرة، بالإضافة إلى المواقف الصادرة عن بعض الأطراف العربية المشاركة في التحالف المضاد للعراق – بما في ذلك إيران – والتي تشير إلى أن جهوداً مكثفة ستنصب على تطوير البنية الأمنية المطروحة في مرحلة ما بعد وقف القتال.

وتترك هذه المواقف الأولية انطباعاً عاماً بأن أهداف البنية الأمنية المطروحة للمنطقة تتمحور حول أحد أمرين – وأحياناً الاثنين معاً: أولاً، كيفية التعامل مع العراق بالذات في إثر انسحابه من الكويت؛ وثانياً، كيفية "دعم الاستقرار" في المنطقة بصورة عامة في المرحلة المقبلة، ومنع بروز التهديدات الأمنية الجديدة فيها. ويعود بعض التباين أو التخبط في الرؤى المختلفة حيال البنية الأمنية الإقليمية إلى صعوبة الخروج من الآن بصيغة نظرية أو سياسية متماسكة كفيلة إما بالدمج بين هذين الهدفين وإما بالفصل بينهما. ومن الواضح أن بنية أمنية تهدف في الأساس إلى معالجة "مشكلة" العراق، وتقوم على افتراض كون هذا البلد مصدر التهديد الأول أو الاستثنائي للأمن المحلي في المستقبل، ستختلف عن بنية "تدعم الاستقرار" في المنطقة بأسرها عبر فض النزاع العربي – الإسرائيلي مثلاً، وإنْ كان هنالك تقاطع وتفاعل بين المسألتين.

والواقع أنه إذا كان هناك ميل طبيعي نحو التركيز على الجانب العراقي من هذه المعادلة المعقدة في الأوضاع الراهنة، فإن الغرض النهائي لـ أية بنية إقليمية أمنية ناجعة لا بد من أن يكون "دعم الاستقرار" الإقليمي، بحيث يتم استيعاب "الخطر" العراقي المفترض وأي من الأخطار الفعلية أو المرئية الأخرى ضمن إطار من الترتيبات والاتفاقيات التي ترسخ مبدأ الأمن المتبادل والمتكافىء لدول المنطقة كافة. فنزع السلاح عن طرح واحد – أي العراق مثلاً – حتى لو كان قابلاً للتحقيق، سيخل بالضرورة بموازين القوى المحلية، كما أن استثناء قوى رئيسية من البنية الأمنية المفترضة – مثل إيران أو إسرائيل – لن يساهم في دعم الأمن والاستقرار المحليين. وفي الوقت نفسه، فإن مقتضيات الأمن والاستقرار تشتمل على معالجة اهتمامات ومصالح الأطراف الدولية الرئيسية المعنية في المنطقة، وإيجاد سبل التوفيق ما بين هذه الاهتمامات والمصالح من جهة، وبين حساسيات ومتطلبات القوى المحلية نفسها من جهة أخرى.

لكن مثل هذه الاعتبارات العامة ليس كافياً لتحديد مستلزمات البنية الأمنية الإقليمية الجديدة. فالحقيقة أنه قبل البحث في الجانب العملي أو التنفيذي للبنية المنشودة، هناك حاجة مبدئية إلى تحديد مصادر عدم الاستقرار التي قد تهدد المنطقة. وبكلام آخر، فإن تركيبة البنية الجديدةومدى فعّاليتها يتوقفان، بالدرجة الأولى، على كيفية تشخيص الأخطار المنوي تداركها. وإذا كان من المفترض ان تنتهي البنية الجديدة إلى تثبيت مبدأ عدم استخدام القوة كأداة للسياسة من قِبَل الأطراف المعنية كافة، فإن احتمالات النجاح في هذا المضمار ستزداد كلما اتضحت الرؤية بشأن معالجة جملة من التهديدات وبؤر عدم الاستقرار المحتمل، والتي يبدو أهمها على النحول التالي:

  • احتمالات العدوان من قِبَل دولة في المنطقة على دولة أخرى: يشكل الاحتلال العراقي للكويت النموذج "الصافي" لاحتمالات ومخاطر العدوان من قِبَل دولة في المنطقة على دولة أخرى. هكذا، فالهدف المباشر من أية بنية إقليمية جديدة سيكون، على الأرجح، هو ردع العراق عن أية محاولة لتكرار عملية الكويت في المستقبل، وذلك عبر جملة من الإجراءات والاتفاقيات الأمنية والعسكرية المتعددة الأطراف والأغراض، بما في ذلك إمكان الاحتفاظ بوجود عسكري خارجي رئيسي في المنطقة إلى أمد غير مسمى. إلا أن احتمالات العدوان المستقبلي لا تقتصر بالضرورة على الجانب العراقي، وخصوصاً في ضوء نتائج الحرب الأخيرة، بل أن تاريخ المنطقة يدل بوضوح على مصادر عديدة أخرى للعدوان ليست أقلها إسرائيل، التي باتت تملك إمكانات مهمة لمدّ قدراتها الاستراتيجية خارج نطاق ساحات الصراع العربي – الإسرائيلي التقليدية، بما في ذلك إلى منطقة الخليج بالذات. ومن هنا، فالاستقرار  والأمن الخليجيان سيتوقفان على قدرة البنية الأمنية الجديدة على مواجهة احتمالات العدوان من أكثر من اتجاه أو مصدر واحد، وما يثير ذلك من مشكلات وحساسيات سياسية وعملية. والواقع أن أكثر البنة الأمنية الإقليمية أو الدولية قد قامت في الماضي على افتراض "العدو الواحد" الواضح الملامح – كما كان الحال بالنسبة إلى كل الأحلاف المنبثقة من الحرب الباردة، أو التحالفات العربية المضادة لإسرائيل مثلاً. أما من دون العدو الواحد (أو الموحد) فسيكون من الصعب التأكد من تماسك البنية الجديدة المطروحة أو ضمان بقائها.
  • احتمالات التدخل من قبل دولة في الشؤون الداخلية لدولة أخرى: إضافة إلى احتمالات العدوان العسكري "الخارجي"، هنالك احتمال قيام دولة في المنطقة بالتدخل غير المباشر في الشؤون الداخلية لدولة أخرى. وقد يشتمل مثل هذا التدخل على التحريض، أو تنظيم القوى المعارضة، أو مد التيارات الاثنية أو الانفصالية بالدعم المادي والغطاء السياسي، إلخ. وهنالك نماذج حية وكثيرة على مثل هذه التدخلات في العلاقات العربية – العربية المعاصرة، كما أن الحرب العراقية – الإيرانية قد شهدت مواجهة غير مباشر واسعة من هذا النوع بين الطرفين المتنازعين، إلى جانب المجابهة العسكرية المباشرة بينهما. ويشتمل هذا الاحتمال، في شكله الأكثر تطرفاً، على إمكان اللجوء إلى التخريب، أو الاغتيال السياسي، أو حتى حرب العصابات، كوسائل لتقويض الاستقرار الداخلي لدى الخصم أو قلب نظامه. ويستتبع هذا أن بنية إقليمية تركز على الأخطار الخارجية في الأساس، قد لا تكون كافية لمنع إمكان التدخل غير المباشر الهادف إلى "القفز" من فوق طوق التدابير الأمنية – العسكرية الرادعة التقليدية. هكذا، فمن دون وفاق سياسي بين الأطراف المحلية المختلفة لا يكون من السهل رسل الخطوط الواضح التي تفصل ما بين أنماط الرد المشروع على العمل العدواني المباشر من جهة، وبين كيفية الرد على التدخل غير المباشر أو المستتر من جهة أخرى، بل أن احتمالات هذه الأخيرة قد تزداد في غياب الوفاق أو التفاهم السياسي المطلوب.
  • إمكان التهديد والترهيب: حتى في حال الامتناع من القيام بالأعمال العدوانية المباشرة أو غير المباشرة، فهنالك إمكان قيام طرف ما باتباع سياسة تقوم على التهديد أو الترهيب، أو بممارسة الضغوط المعنوية والنفسية ضد الأطراف المحلية الأخرى، بغية تحقيق الأهداف السياسية أو الاقتصادية. ونظراً إلى الاختلال في موازين القوى الخليجية، قد تقوم قوة محلية "كبرى" بمحاولة التأثير في مواقف وسياسات القوى "الأصغر"، أو التلويح بإمكان التصعيد السياسي/ الدبلوماسي/ العسكري ضدها في حال عدم الاستجابة لمطالبها. ويشكل التوتر العراقي نماذج أخرى من هذا النوع. وستضطر أية بنية أمنية جدّية إلى إيجاد سبل التعامل المبكر مع مثل هذا التهديد للاستقرار المحلي، إنْ كان ذلك على صعيد تطوير آلية جديدة لفض النزاعات قبل احتدامها، أو إيجاد الوسائل الملائمة للحد من خطورتها بعد وقوعها (أي النزاعات). وإذا كانت البنية الأمنية الإقليمية المطروحة تفترض بالضرورة الالتجاء إلى الأمن الجماعي في مواجهة الاختلال في موازين القوى المحلية (أي حماية القوى "الصغيرة" عبر ضمها إلى منظمة أمنية متعددة الأطراف)، فإن الرد الجماعي على التهديدات التي تنال طرفاً واحداً فقط قد لا يكون مضموناً أو مصداقياً في الأحوال كافة.
  • إمكان "اندلاق" الحروب الإقليمية في اتجاه الخليج: في غياب تسوية للصراع العربي – الإسرائيلي، وحت لو امتنعت دول الخليج نفسها من المشاركة في حرب إسرائيلية – عربية، يبقى هنالك إمكان اندلاق مثل هذه الحرب في اتجاه الخليج، في حال وقوع أية مواجهة عربية – إسرائيلية مستقبلية مثلاً، أو إذا ما أصبحت أراضي شرق الأردن المتاخمة للأراضي السعودية ساحة مواجهة أساسية بين الجانبين. وهنالك سيناريوهات عديدة أخرى لاحتمالات توسع حرب إسرائيلية – عربية، بما في ذلك إمكان حدوث عمليات تخريب ضد "المصالح الغربية" (أي المنشآت النفطية الخليجية) كرد على التحالف المرئي بين إسرائيل والولايات المتحدة مثلاً، أو إمكان المشاركة الإيرانية في حرب من هذا النوع عبر سوريا أو لبنان. لكن الحرب الإسرائيلية – العربية ليست الحرب الوحيدة التي قد تهدد الاستقرار والأمن في الخليج؛ فهنالك تهديدات ناجمة عن احتمالات التوتر أو حتى القتال بين القوى الإقليمية الواقعة إلى الشرق من منطقة الخليج، بما في ذلك حرب هندية – باكستانية واسعة النطاق تؤثر في منطقة المحيط الهندي برمتها، أو التوترات والقلاقل بين تركيا والعراق، أو التقلبات داخل أفغانستان، إلخ.

ويتضح أن بنية أمنية "إقليمية" تهدف إلى دعم الاستقرار في منطقة جغرافي محددة ومحصورة، لا بد من أن تتأثر بالأوضاع والصراعات الدائرة على أطرافها وفي "الأقاليم المجاورة. وتكمن المعضلة في أن معالجة جميع هذه الصراعات ضمن إطار موحد من الترتيبات الأمنية والسياسية تبقى أمراً صعب المنال. غير أن تجاهل هذه الصراعات في المقابل، قد يتعارض مع هدف دعم الاستقرار المحلي في الأساس. فالقوة التي تُستثنى من نظام أمني معين، قد تعمل على تقويضه باعتباره موجهاً ضدها. أما مدّ مثل هذا النظام بحيث يضم القوى المعنية كافة، فقد يواجه بعقبات سياسية وعسكرية يصعب تجاوزها.

  • مشكلة انتشار أسلحة الدمار الشامل في المنطقة: تعتبر هذه المشكلة من أكثر المشكلات الأمنية حساسية وتعقيداً. فهنالك العديد من القوى الشرق الأوسطية التي تملك أسلحة دمار شامل كيماوية أو بيولوجية، كما أن هنالك أكثر من طرف يعمل على تطوير قدرات عسكرية نووية، وخصوصاً إسرائيل. ويمكن، من ناحية مبدئية، التأثير في بعض هذه البرامج عن طريق تطوير وتوطيد أنظمة حظر التكنولوجيا المتطورة بالتعاون والتنسيق الدوليين. إلا أن مثل هذه الأنظمة لم يثبت فعالية عالية في الماضي، وقد يكون أوانه قد فات في بعض الحالات الرئيسية، كما بالنسبة إلى إسرائيل وباكستان على سبيل المثال. وتشير تجربة نزع السلاح في أوروبا وبين الدولتين العظميين إلى أن محاولة السيطرة على أسلحة الدمار الشامل ووسائل الإيصال الخاصة بها، قلما تحقق نتائج ملموسة إلا في حال توفر المناخ السياسي الملائم والإرادة السياسية الدائبة على تخفيض مستويات الخلاف والنزاع. ومن دون مثل هذا المناخ أو الإرادة المشتركة لن يكون في الإمكان المضي في عملية ناجعة لوقف انتشار أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط، أو التحقق المصداقي من ترسانات الأطراف المحلية المختلفة. أما على صعيد آخر، فهنالك مشكلات شائكة تتعلق بكيفية الربط بين السيطرة على انتشار أسلحة الدمار الشامل في منطقة معينة، وبين السيطرة على انتشارها في مناطق أخرى. وحتى لو افترضنا تسوية عربية – إسرائيلية تشتمل على قيود وإجراءات تَحَقُّق فيما يخص الترسانات الإسرائيلية والعراقية والسورية (والمصرية والليبية إلخ)، فإنه يمكن التساؤل عن موقف إسرائيل مثلاً من "القنبلة الإسلامية" الباكستانية، أو من احتمالات قيام إيران بجهود مكثفة في هذا المضمار. ومن هنا، فالأرجح أن توجه بنية أمنية إقليمية خليجية نحو مسألة التسلح العراقي غير التقليدي، سيثير قضايا التسلح غير التقليدي في العديد من الساحات الإقليمية الأخرى لربما حتى الوصول إلى مسألة العلاقات النووية الإسرائيلية بجنوب أفريقيا، أو الدعم الصيني أو الكوري الشمالي لباكستان. ولن يكون من السهل عزل هذه الساحات بعضها عن بعض، أو إيجاد النظام الأمني الشامل الذي يضمها جميعاً.
  • التهديدات المحتملة لتدفق النفط من المنطقة: يمكن تخيل بعض الحالات التي تقوم فيها قوى محلية بالتهديد باعتراض تدفق النفط من منطقة الخليج أو وقفه. وقد سبق أن أُثيرت هذه المسألة على نطاق واسع خلال الحرب العراقية – الإيرانية، بعد الهجمات المكثفة ضد ناقلات النفط، وفيما يتعلق بإمكان قيام إيران بإغلاق مضيق هرمز بالذات. وقد يأخذ أي تهديد مستقبلي أشكالاً مختلفة، ابتداء بالتصريحات أو التهديدات اللفظية، مروراً بالخطوات الجزئية (مثل إيجاد القواعد أو نشر القوات في المناطق الحساسة بالقرب من الممرات البحرية)، وانتهاء بحصار عسكري مباشر. وإذا ما اعتبرنا أن أحد الأهداف الرئيسية لبنية أمنية خليجية سيكون الحيلولة دون مثل هذه التهديدات، يبقى أن سبل الرد عليها قد لا تكون واضحة تماماً في جميع الأحوال. فمصالح الأطراف الدولية الخارجية قد لا تلتقي بالضرورة وبصورة دائمة مع مصالح واهتمامات القوى الخليجية نفسها، كما أن المخاوف من احتمالات التصعيد قد تشكل كابحاً للتحرك الجماعي للدول والأطراف المنضوية تحت لواء البنية الأمنية الجديدة.
  • مشكلة الوجود العسكري الخارجي في المنطقة: يستدل من بعض التصريحات الأخيرة للمسؤولين الأميركيين أن الولايات المتحدة تنظر إلى إمكان إدامة بعض عناصر قوتها الحالية في منطقة الخليج، حتى بعد انتهاء الأزمة الراهنة. والواقع أن مصداقية أية بنية أمنية جديدة ستتوقف، إلى حد بعيد، على رؤية كل القوى المحلية لمدى الالتزام الدولي – وخصوصاً الأميركي – بدعم الأمن الإقليمي عبر الوجود المباشر في المنطقة، والترتيبات السياسية – العسكرية المنبثقة من ذلك. ويمكن القول إن عنصر الردع قد يتراجع إذا ما بدا هذا الالتزام ضعيفاً أو مشكوكاً في أمره. وفي المقابل، فإن حوافز الدول الخليجية نفسها على الانضمام إلى البنية الجديدة، قد تتآكل في مثل هذا الحال. غير أن الوجود العسكري الخارجي الدائم في المنطقة قد يكون بذاته مصدراً لعدم الاستقرار، نتيجة رفض بعض القوى المحلية المبدئي لمثل هذا الوجود (مثل إيران)، أو بسبب اثر الوجود العسكري الخارجي في الأوضاع الداخلية لعدد من دول المنطقة. وقد تستغل بعض الجهات المعارضة مسألة "الانتشار العسكري الأجنبي" في صراعها ضد الأنظمة القائمة، مما قد يزيد في حدة التوترات المحلية.

وإدراكاً من الدوائر الغربية المسؤولة لحساسية وعواقف الانتشار العسكري الدائم في المنطقة، بما في ذلك احتمال تردد الرأي العام الغربي نفسه أمام الالتزام بمثل هذا الانتشار، فإن هذه الدوائر تشير إلى أن المطلوب في النهاية قد يكون مزيجاً من التسهيلات والتخزين المسبق للمعدات العسكرية، والاتفاقيات المبدئية بشأن التنسيق العملاني في حالات الطوارىء، بالإضافة إلى وجود مباشر "ما وراء الأفق" أي وجود بحري ولربما جوي، بدلاً من الوجود المكثف للقوات البرية على أراضي الدول الخليجية المعنية. ويبقى أن البنية الأمنية المطروحة ستحتاج إلى صيغة دقيقة تهدف إلى التوفيق ما بين متطلبات الردع المصداقي من جهة، وبين ضرورة عدم تحول أي وجود دائم في المنطقة إلى مصدر للقلاقل أو التوترات المحلية من جهة أخرى.

  • العامل الإسلامي والعلاقات الإسلامية – الدولية: تشكل "اليقظة الإسلامية" الجارة في المنطق عنصراً مهماً من العناصر المؤثرة في فرص الاستقرار الإقليمي عقب الحرب الأخيرة. وقد شهدت الحرب تصعيداً في مواقف الحركات الإسلامية المعارضة للتدخل الغربي ضد العراق في بعض الدول العربية، وخصوصاً في الأردن والمغرب العربي وبعض الدول الإسلامية الآسيوية، وهو ما قد يؤدي إلى تفاقم المواجهة الحضارية – السياسية بين هذه الحركات والنظام الإقليمي الناشىء تحت الرعاية الغربية في الأمد القصير على الأقل. غير أنه، في المقابل، لم يفلح العراق في تجنيد العامل الإسلامي بصورة فعّالة للضغط على السياسات أو المصالح الغربية حتى الآن. كما أن وقوف عدد من الدول العربية والإسلامية الرئيسية في الطرف الآخر من النزاع، قد ساهم في الحد من احتمالات تحول الصراع إلى نزاع مفتوح بين الإسلام والغرب. والواقع أنه من اللافت أن مراكز الثقل التقليدية في العالم الإسلامي، أي المملكة العربية السعودية ومصر وإيران، لم تتجاوب مع منطق "الجهاد" العراقي، الأمر الذي ترك النظام العراقي معزولاً على الصعيد الإسلامي على الرغم من مظاهر التعاطف الشعبي مع محتة الشعب العراقي خلال الحرب.

ومن دون التقليل من أهمية الخلفية التاريخية للتوترات الإسلامية – الغربية، أو نفي إمكان احتدام مثل هذه التوترات في المرحلة القريبة المقبلة في حال الانتشار الغربي العسكري الدائم والمكثف في المنطقة، أو استمرار النزاع العربي – الإسرائيلي من دون علاج حازم من قِبَل أركان التحالف الدولي المضاد للعراق، فإن الفورة الإسلامية الجارية قد تنتهي بإيجاد حال من التعايش أو حتى التفاعل الإيجابي مع الغرب في الأمد الأطول (ولربما على غرار ما بدأنا نشهده في حالة إيران)، وخصوصاً إذا ما تبلورت المصالح المشتركة الجديدة بين الجانبين على أرضية من الاحترام والتفاهم المتبادلين. وتعود أهمية الترتيبات الأمنية والسياسية الجديدة المطروحة للمنطقة لتبرز في هذا المجال، إذ إن تجاهلها للحساسيات الإسلامية، أو عدم تعاملها الجدي معها، سيؤدي إلى تقويض الاستقرار الإقليمي، وبأشكال قد تكون خطرة من وجهة نظر الدول الغربية والأنظمة المحلية القائمة على حد سواء.

  • مشكلة التحديث والتغيير في المجتمعات العربية: قد تحمل مسألة التحديث والتغيير في المجتمعات العربية في طياتها مشكلات عديدة تتعلق بفرص الاستقرار في المنطقة. فتطور المجتمعات العربية الاقتصادي والسياسي قد يؤدي إلى خلخلة الأوضاع القائمة، أو إلى التوترات الداخلية الناجمة عن تصادم التيارات الداعية إلى التحديث، و/أو الانفتاح على العالم الخارجي مع التيارات التقليدية والمحافظة، بما في ذلك التيار الإسلامي. ويمكن التساؤل عن تأثييرات الحرب الأخيرة في التركيبة السياسية في العديد من الأقطار العربية، وفي إمكان إحياء النقاش العربي العام بشأن مفهوم الديمقراطية والمشاركة في الحكم وفي عملية صنع القرار السياسي. ومما لا شك فيه أن النزعة العالمية السائدة في اتجاه الديمقراطية مثلاً، ستترك أثرها في المجتمعات العربية، بل أن هذه النزعات كانت قد بدأت تؤثر ولو جزئياً في الأوضاع الداخلية في عدد من الدول العربية، حتى ما قبل حرب الخليج. أمّا على صعيد آخر، فمن آثار الحرب المحتملة – وخصوصاً بعد انكشاف مدى الدمار الذي أُلحق بالأطراف المتنازعة – تعزيز تطلعات شعوب المنطقة نحو الرفاهية والعيش الكريم بعيداً عن أجواء الحرب أو التسلط السياسي. كما أن الحرب تثير مسألة العلاقة بين العالم العربي ككل والمجتمع الدولي الجديد المتجه أكثر فأكثر نحو تبني نموذجاً سياسياً واقتصادياً متجانساً بعد سقوط التجربة الشيوعية. وبصورة عامة، يمكن القول إن التوترات الداخلية في المجتمعات العربية قد تزداد في حال بروز هوة واسعة بين مسار التحديث والتغيير في العالم الخارجي، وبين مسار هذه العملية في المجتمعات العربية نفسها. ومن هنا فإن الاختلالات الداخلية الناجمة عن تفاعل وتفاقم مثل هذه العوامل، قد تؤدي إلى الإخلال بالاستقرار الإقليمي العام. وهذا بدوره قد يشكل تحدياً جديداً للبنية الإقليمية المنشودة، وهو ما يوضح صعوبة تركيز هذه البنية على محاولة استيعاب أو احتواء التهديدات والتحديات ذات الطابع العسكري – الأمني وحدها، من دون معالجة خلفيتها وإفرازاتها الأكثر شمولية.
  • مسألة "توزيع الثروة": لقد أثارت حرب الخليج مجدداً مسألة توزيع الثروة العربية، أو الفوارق بين الدول العربية الغنية والدول الفقيرة. ومن الأرجح أن تشهد الفترة المقبلة جهوداً مكثفة لمعالجة هذه المسألة، وإنْ لم تكن طبعاً جديدة على المنطقة أو مقتصرة عليها. ويبدو أن الدول الغربية معنية، بصورة خاصة، بتطوير آلية جديدة لدعم اقتصادات الدول العربية التي تعاني مشكلات مزمنة ومتراكمة نتيجة الانفجار الديموغرافي والنقص في الموارد الطبيعية، وذلك ضمن تصور شمولي لكيفية دعم الاستقرار المحلي عقب الحرب. غير أنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن تكاليف الحرب الضخمة، إنْ كان من ناحية تكلفة العمليات العسكرية نفسها أو من ناحية الدمار الناجم عن مثل هذه العمليات، ستمتص الكثير من الموارد المالية الاقتصادية في الأمد القريب، ومن تلك الدول العربية الغنية بالذات (أي في الأساس الدول الخليجية). ويمكن التساؤل عن مدى توفر فائض من الأموال العربية "الغنية" لمعالجة المتطلبات المحلية الاقتصادية الأخرى الملحة، مثل التنمية ومشكلة الديون الخارجية، إلخ غير تلك التكاليف المترتبة عن الحرب، من دون تطوير المشاريع الأوسع بالمشاركة مع القوى الدولية الاقتصادية مثل الرئيسية، الولايات المتحدة واليابان والمجموعة الأوروبية. إلا أن المشاركة الدولية – العربية في دعم التنمية العربية ليست بالضرورة مرادفة لمسألة "إعادة توزيع الثروات" في المنطقة، بل ليس من الواضح أن هذا هو المطلوب في الأساس. إذ أن طرح مثل هذا الشعار يتجاوز قضايا التنمية والتطوير الاقتصادي ليثير قضايا سياسية حساسة تتعلق بحق كل دولة في التصرف في مواردها وأموالها بحسب متطلباتها الذاتية ومصالحها وسيادتها على هذه الموارد والأموال. وإذا كان يمكن القول إن دعم الاستقرار الاقتصادي في المنطقة شرط من شروط دعم الاستقرار السياسي فيها، فإن شعار "توزيع الثروات، يشكل عملياً، وفي نظر الدول "الغنية"، تحدياً للنظام العربي القائم ومصدراً بذاته لتهديد أمنها وسيادتها. ومن هنا، فإن مقتضيات الاستقرار المحلي الفعلي قد تستوجب معالجة حكيمة لحاجات الدول العربية الفقيرة، من دون تهديد لمصالح الدول العربية الغنية في المقابل، وذلك عبر تشجيع التدفق التلقائي لسيل الدعم الاقتصادي من أجل إيجاد حالة من التوازن الطبيعي في المنطقة.
  • التذبذبات في أسعار النفط: من مصادر تهديد الاستقرار المحلي المحتملة التذبذبات الحادة في أسعار النفط. فالارتفاع غير المنظور في أسعار النفط قد يسبب القلاقل الاقتصادية داخل الدول المستهلكة، ويدفعها نحو ممارسة الضغوطات أو التهديدات للدول المنتجة وصولاً إلى حد التهديد بالتدخل المباشر لحماية مصالحها الحيوية المرئية. أما الانخفاض الحاد أو المستمر في أسعار النفط فقد يؤدي، بدوره، إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية – الاجتماعية داخل المنطقة العربية (بما في ذلك فرص دعم المشاريع التنموية المحلية)، كما أنه قد ينذر بنشوب النزعات الخطرة بين الأطراف المنتجة نفسها، على غرار الخلاف الكويتي – العراقي الذي أدى في النهاية إلى الحرب الأخيرة. ومن هنا، يمكن القول إن الثبات النسبي في أسعار النفط من شأنه أن يدعم الاستقرار العام في العلاقات ما بين دول المنطة والدول المستهلكة الكبرى، بالإضافة إلى نزع الفتيل عن الصراعات داخل "أوابيك" المقوضة للأمن المحلي. وإذا كان من الصعب دمج مسألة الحد من التذبذبات في أسعار النفط ضمن إطار الترتيبات الأمنية الجديدة المطروحة، فإن تجاهل آثارها السلبية المحتملة قد يضعف هذه الترتيبات ويؤدي إلى اهتزازها. ولعله يجدر التذكير بأن الخلاف العراقي – الكويتي حيال أسعار النفط كان من مسببات الأزمة الأخيرة الرئيسية، وليس من الصعب التكهن بإمكان بروز الخلافات الجديدة بين بعض المنتجين المحليين الساعين وراء أسعار نفط عالية نسبياً لأغراض اقتصادية ملحة (مثل إيران أو لربما العراق، في مرحلة لاحقة بعد إنهاء المقاطعة للصادرات النفطية العراقية)، وبين بعض الدول المنتجة الأخرى الساعية وراء الأسعار المنخفضة نسبياً توافقاً مع مصالحها السياسية أو الاقتصادية المختلفة.
  • الخلافات الحدودية: تشكل الخلافات الحدودية مصدراً آخراً من مصادر التهديد للأمن والاستقرار المحليين. ويعود مثال العراق/ الكويت ليبرز هنا مجدداً، وإنْ كانت هنالك خلافات حدودية قديمة العهد بين العديد من الدول الأخرى في الخليج وفي الشرق الأوسط عامة (بل يمكن القول إن الصراع العربي – الإسرائيلي ذاته قد تحول إلى صراع "حدودي"، إلى حد بعيد، في الأعوام الأخيرة). وفي حين أن أكثر الخلافات الحدودية الرئيسية قد حيدت أو باتت مستترة، وخصوصاً بعد فض النزاع العراقي – الإيراني بشأن شط العرب، فإن احتمالات تفجيرها تبقى واردة إذا لم تحسم بصورة نهائية وبالتراضي بين دول المنطقة نفسها. ومن اللافت أن مجلس التعاون الخليجي قد ساهم مساهمة رئيسية في حل الخلافات الحدودية في شبه الجزيرة العربية ، أو على الأقل في احتوائها، لكن أية ترتيبات أمنية إقليمية أكثر شمولية ستضطر إلى معالجة رزمة من الخلافات الحدودية، في المشرق والمغرب العربيين، بغية تثبيت سيادة الدول القائمة والحيلولة دون تهديدها في المستقبل. وهذا يضيف بنداً حيوياً إلى جدول أعمال الأطراف المحلية والدولية الساعية وراء إنهاء الصراعات في الشرق الأوسط، مهما تكن الآلية المطروحة لتحقيق هذا الغرض.