المواطنة الديمقراطية والعرب في إسرائيل
Keywords: 
الفلسطينيون في إسرائيل
المواطنة
الديمقراطية
الحكم الذاتي
Full text: 

  أ

أنْ تكونَ إسرائيل أو لا تكون، ليس هذا السؤال اليوم. لكنَّ السؤال المهم اليوم هو كيف يمكن أو يجب أنْ تكون حتى يكون العربي مواطنًا كاملًا ومتساوي الحقوق فيها. بكلمات أخرى: ما هي التغييرات الواجب إحداثها، أو ما هي الشروط الواجب توفرها، حتى تكون إسرائيل دولة تعامل مواطنيها، جميع مواطنيها القانونيين، بقدرٍ متساوٍ من الاحترام والاهتمام؟ فالعربي في دولة إسرائيل قائم اليوم، قانونيًّا وعمليًّا على السواء، في بقعة معتمة أو نقطة عمياء (blind spot) تتقاطع في وصفها والتعبير عنها مفاهيم المواطنة مع مفاهيم الغربة، يَنْظُرُ إليه أحيانًا فيرى نفسه غريبًا على أرض آبائه وأجداده، وينظر إليه أحيانًا أخرى فيرى نفسه مواطنًا (وإنْ كان من نوعٍ متدنٍّ). والبقعة التي يقوم فيها العربي في إسرائيل تتحدّد بالنظرة مثلما، وقبل أنْ، تتحدّد بالإجراءات والتشريعات والسياسات. فالنظرة، مثل الإجراء أو الممارسة، قد تكون مهينة ومنكرة وقاهرة.

وإنَّه لمن نافل القول إنَّ العربي في إسرائيل عرضة وضحية لتمييز عنصري شامل وعارم، ينساب كالدم الملوَّث في عروق الدولة والمجتمع، تمييز عنصري يتخلل جميع جوانب حياته وجميع دوائر (spheres) توزيع المنافع والأعباء الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. هذا التمييز العنصري الشامل، والذي يمارس صباح مساء على المستويات كافة، الرسمية منها وغير الرسمية، هو النتيجة الضرورية لـ"خطيئة أصلية" (حقيقة كونك عربيًّا) حددت موقعك في الدولة كما حدّدت نظرة الدولة إليك وتعاملها معك. فأنت مميز ضدك لأنَّك عربي، ولأنَّك عربي فأنت موضع شبهة وصاحب "لعنة". هذا التمييز العنصري الذي يُمَارَس بالقوانين و/أو من دونها هو حقيقة وحشية (brute fact) لا مجال لإنكارها أو الاختلاف في صَدَدِهَا. الخلاف، إنْ وجد أو احتدّ، هو في شأن المقدار والتبعات والآليات فقط، في شأن النِّسب والأرقام والدرجات والمراتب، إلخ. أمَّا حقيقة التمييز، العارية أو المعرّاة، فيَعْتَرِف بها القاصي قبل الداني، والجاني قبل الضحية.

وإذا كان التمييز العنصري يمسّ موضوعيًّا جميع مجالات ودوائر توزيع المنافع والأعباء، فإنَّه يمسّ ذاتيًّا جميع مكونات "مملكة الوعي"، أي عالم المشاعر والعواطف والإرادات والأفكار، إلخ، وما يرتبط بها أو ينساب عنها من تصرفات وطرائق عمل وأهداف وخطط حياة. ومسألة المواطنة المتساوية، أو إشكاليتها، تقع في صميم هذه العلاقة الغريبة بين العربي في إسرائيل وبين الدولة التي هو، بمعنى أو بآخر، مواطن فيها.

وقبل الاسترسال في وصف موقف العرب في إسرائيل في الدولة اليهودية، وبتحليل علاقتهم بها، أُود التشديد على أهمية النقاط التمهيدية الثلاث التالية:

١) إنَّ العرب في إسرائيل "أقليَّة قوميَّة" لها امتداد قومي وحضاري خارج دولة إسرائيل وعلى حدودها. ولهذه الحقيقة دلالات وتعقيدات غير خافية على أحد. ومَنْ يتجاهلها يكون مدفون الرأس، كالنعام، في الرمال. وإحدى الدلالات المهمة هي أنَّنا هنا في إطار تحليل ومعاينة علاقة بين جماعتين من الناس داخل الدولة الواحدة، مميزتين على أساس عرقي أولًا، ولغوي وديني ثانيًا. والعلاقة بين جماعتين قوميتين تختلف جذريًّا، من حيث التشخيص والمعالجة، عن العلاقة بين الأفراد داخل كل من الجماعتين أو بينهما. وعلى خلفية الصراع المزمن والمكلف بين الشعبين الفلسطيني واليهودي – الإسرائيلي، وانعكاساته المباشرة على العلاقة بين هاتين الجماعتين داخل الدولة، وفي ضوء هيمنة إحداهما (اليهود) على الأخرى (العرب)، فإنَّ هناك بُعدًا "مانويا" (manichean) في العلاقة بين الجماعتين. وهناك من الطرفين مَنْ يعتقد جازمًا أنَّ مبدأ "التنافي المتبادل" هو محور هذه العلاقة والمحدّد (أو المحرك) الأول لها.(1)   وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ الخطأ والفحش فيه هما من نصيب كل من يظنّ أنَّ العلاقة بين جماعتين قوميتين قابلة للاختزال إلى علاقات بين الأفراد. إنَّ التركيز على الحقوق المدنيَّة، ذات الطابع الفردي، قائم على هذا النوع من "الخطأ المقولي". وفي حالة العرب في إسرائيل، كما في حالة الأقليات القومية الأخرى في العالم، فإنَّ القضية الجماعية هي التي (يجب أنْ) تحتلّ المرتبة الأولى من سلالم الأولويات. وكل من يحاول ردّ القضية الجماعية إلى قضية الاندماج والحقوق المدنية الفردية يهزم الهدف أولًا، ويضلّ عن قصد السبيل ثانيًا.

٢) إنَّ مسألة المواطنة المتساوية قَلَّما تكون واردة أو ملحَّة في ظلِّ نظام حكم استبدادي، سواء من النوع السلطوي (authoritarian) أو من النوع التوتاليتاري (totalitarian) في نظام حكم استبدادي من هذا النوع أو ذاك، تكون الحدود بين المواطن وغير المواطن غير واضحة المعالم، نظرًا إلى التشويه الواضح في معنى المواطنة والاغتصاب الفاضح لمقوِّماتها. وفي نظام الاستبداد يكون المواطن وغير المواطن خاضعين، وإنْ كان ذلك بدرجات متفاوتة، لأوامر ونواهي، لنزعات ونزوات، الحاكم الفرد أو القلَّة الحاكمة. وفي وضع كهذا، تستبدل لغة الولاء والعداء، النعمة والنقمة، لغة المواطنة والحقوق المتساوية. أمَّا الدولة الديمقراطية الحديثة، فقائمة على مبدأ المواطنة الموحَّدة والحقوق المتساوية. وهي لا تقوم على غير ذلك. ولهذا السبب بالتحديد، فإنَّ التمييز ضد الأقلية في الدولة الديمقراطية يظل شوكة في حلق المجتمع والنظام، لأنَّه يعني في المقام الأول حكم محموعة من المواطنين على مجموعة أخرى لا تساويها في درجة المواطنة أو نوعها، أو على مجموعة من غير المواطنين (الغرباء، والأجانب، واللاجئين، إلخ). وحكم المواطنين على غير (أو شبه) المواطنين هو ذلك النوع من الطغيان الذي جرَّبه الجنس البشري على مدى مئات السنين، وربما كان أكثر أنواع الطغيان شيوعًا في التاريخ البشري. وحالة أثينا الديمقراطية في عهد بيركليس خير مثال لذلك.(2)  ولا أبالغ أو أجدّد في شيء حين أقول إنَّ حكم اليهود (المواطنين) على العرب في إسرائيل (شبه المواطنين) لا يتلاءم مع ديمقراطية الدولة، لما ينطوي عليه من طغيان أكثرية قومية على أقلية قومية خاضعة على مضض. والمسألة هنا ليست في جوهرها مسألة أكثرية أو أقلية غير دائمتين تمخَّضت عنهما انتخابات دورية (حرة وسرية وعامة). إنَّ السؤال المثير في هذا السياق هو التالي: ماذا سيكون مصير الديمقراطية الإسرائيلية إذا حدث وأصبح العرب هم الأكثرية القومية بدلًا من اليهود؟ الإجابات عن هذا السؤال الافتراضي قد تكون متباينة، لكنَّها تصبّ في مجرى واحد: إلغاء الديمقراطية، الفصل العنصري، تقسيم البلاد إقليميًّا، أو إجلاء العرب قَسْرًا عن الدولة اليهودية. وفي هذه الحالات كافة، فإنَّ المواطنة المتساوية والموحَّدة بين العرب واليهود داخل الدولة الواحدة هي الضحية الأولى والأكيدة.(3)  

٣) وهناك من يعلل نفسه بالأوهام فيظن أنَّ السلام المنشود والموعود بين إسرائيل ودولة فلسطينية تقوم في جوارها أو ترتبط فدراليًّا أو كونفدراليًّا بالأردن، هو مفتاح السحر الذهبي لتحقيق شروط المواطنة المتساوية بين العرب واليهود داخل دولة إسرائيل. لكنَّ قضية السلام، على أهميتها، منفصلة منطقيًّا عن قضية المساواة والمواطنة المتساوية. إنّي أجد صعوبة فائقة في الربط، المنطقي أو حتى العملي، بين غياب السلام من جهة، وبين إقامة شبكة من المجاري العامة في هذه القرية العربية أو تلك من جهة أخرى. وبصورة عامة، إذا كان غياب السلام يبرّر أو يُعَقْلِن التمييز العنصري بما ينطوي عليه من الانتقاص الواضح في شروط المواطنة المتساوية، ألَا يعني ذلك – فيما يعنيه – أنَّ العرب في إسرائيل ليسوا مواطنين بالمعنى الدقيق للمواطنة، وأنَّهم تبعًا لذلك خاضعون، بشكل أو بآخر، لنظام الاحتلال؟ وهناك من الأدلة ما يوحي بوهن العلاقة بين السلام الموعود والمساواة المفقودة. وهل التمييز الذي تعاني وطأته الأقلية التركية في بلغاريا، أو الأقلية المجرية في رومانيا، أو الأقلية الألبانية في يوغسلافيا، مردّه إلى غياب السلام بين كل من تركيا وبلغاريا، المجر ورومانيا، ألبانيا ويوغسلافيا؟ بحضور السلام أو بغيابه، فالعرب في إسرائيل قائمون في منطقة وسطى ما بين الجنة والنار، ما بين المواطنة المتساوية والاحتلال، أو ما بين المواطنة الديمقراطية ونظام الاستبداد، وهي المنطقة المعتمة نفسها التي أشَرْت إليها سابقًا. إنَّ مَنْ يُحْكِِم الربط بين السلام والمساواة هو كمن يؤجِّل بتّ أمر جلل صار تأجيل بتّه فضيحة. هذا، طبعًا، لا ينفي أنَّ السلام قد يعود على العرب في إسرائيل بقدر أكبر من المساواة، لكنَّه لا ينفي، في المقابل، إمكان أنْ يجرّ (السلام) في خفاياه بعض الكوابيس المرعبة. والأمر مرهون بنوعية السلام وبدوافع صانعيه وبتكاليف صنعه.

  ب

إذا كانت المواطنة الديمقراطية، أو المواطنة في نظام ديمقراطي، تعني أو تتطلب أو تقوم على الحقوق المتساوية، وإذا كان العرب في إسرائيل – عمليًّا وقانونيًّا – غير متساوين في الحقوق مع اليهود فيها، ألا ينتج من ذلك ضرورة أنَّ العرب واليهود في إسرائيل غير متساوين في (مقوّمات) المواطنة الديمقراطية؟ هذا هو السؤال المركزي، وعلى الإجابة عنه يقوم أو لا يقوم أي شيء آخر. فإذا لم يكن العرب متساوين في معنى المواطنة أولًا، فمن الغباء والكلام الشطط أنْ يطمحوا إلى المساواة في مجال توزيع المنافع والأعباء الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فكما أنَّ المواطنة المتساوية هي الشرط الضروري لديمقراطية الدولة أو لنظام الحكم فيها، فإنَّها في الوقت ذاته الشرط المسبق والقاعدة الأساسية للمساواة في بقيَّة دوائر التوزيع. هناك من دون أدنى شك تمييز فاضح في مجالات توزيع الأمن والعدل، الثروة الاقتصادية، الأعمال والمناصب، التعليم والصحة والضمان الاجتماعي، الترفيه وأعمال البر والخير والتقوى، إلخ. وهناك تمييز مقابل في مجال توزيع السلطة السياسية ذاتها. هذا التمييز المتعدد الجوانب والمستويات هو نتيجة طغيان الأغلبية اليهودية التي احتكرت السلطة السياسية، وحددت بقدر ما كرست مفهومين ونوعين من المواطنة في الدولة. بكلمات أخرى: إنَّ عدم اعتبار العرب في إسرائيل أعضاء متساوين في المجتمع هو المقدمة لكل هذه السلسلة الطويلة من الظلم والإجحاف. والعضوية الكاملة في المجتمع هي نفسها المواطنة المتساوية والموحدة، والتي تعني تساوي الحقوق، وإنْ كانت لا تعني تساوي التأثير أو النفوذ.

هناك نوعان متميزان من المواطنة في دولة إسرائيل: المواطنة لليهودي، والمواطنة للعربي (أو غير اليهودي). اليهودي فقط هو المواطن الكامل والمتساوي، هو المواطن بالمعنى الدقيق للمواطنة، وهذا المعنى الدقيق للمواطنة يتعدَّى التعريف القانوني. أمَّا العربي فمواطن بحسب العَرَض (accident) القانوني القابل للتغير والتبديل. وهذان المعنيان للمواطنة مشتقَّان من تعريف دولة إسرائيل بأنَّها دولة يهودية، دولة لليهود فقط. أنظر إلى الحجة التالية، "الحجة من الطبيعة اليهودية لدولة إسرائيل":

١) دولة إسرائيل هي – من حيث التعريف الجوهري – دولة للشعب اليهودي فقط، ودولة للشعب اليهودي أينما وجد. هذا سرّ وجودها.

٢)  الفارق بين اليهودي في إسرائيل واليهودي خارجها فارق عرضي، فارق في الوضعية القانونية فقط. فإذا كان الأول مواطنًا بالفعل (actual citizen)، فإنَّ الثاني مواطن بالقوة (potential citizen).

٣)  يصبح المواطن بالقوة مواطنًا بالفعل بمجرَّد الهجرة إلى دولة إسرائيل وتوقيع بعض الأوراق الرسمية. إنَّ قانون العودة المعبّر عن "حق العودة" يضمن تحقيق ذلك من دون مراحل انتقال أو تطبيع (naturalization).

٤)  وحق العودة هو إمّا حق ديني خلقي مصدره الانتماء إلى الدين اليهودي، وإمَّا حق تاريخي خلقي مصدره الانتماء إلى الشعب اليهودي.

٥) إسرائيل ليست تبعًا لذلك، أو أسوة ببقية دول المعمورة، دولة مواطنيها  القانونيين فقط، وليست دولة جميع مواطنيها القانونيين أيضًا.

٦) العرب في إسرائيل ليسوا مواطنين بالمعنى الدقيق للمواطنة، فالدولة ليست – من حيث التعريف الجوهري – لهم.

٧)  المواطنة للعربي في إسرائيل ليست حقًّا، بالمعنى الدقيق للحق (الحق الديني الخلقي أو التاريخي الخلقي)، مكتسبًا أو موروثًا.

٨)  المواطنة – بحسب العَرَض القانوني – للعربي في إسرائيل دليل على "الكرم" اليهودي الذي عمّ فغمر غير اليهود في هذه الدولة.

٩)  الكرم فضيلة حميدة، لكنَّه ليس واجبًا، ولا ينتج منه أو يقابله حق للمنعم عليه.

١٠)  هناك، إذًا، نوعان متميِّزان من المواطنة في هذه الدولة: واحد لليهودي (مواطنة بالحق القانوني الذي مصدره حق ديني أو حق تاريخي)، والآخر للعربي (مواطنة بالحق القانوني الذي مصدره الكرم أو النعمة).(4) 

يتّضح من مقدمات واستنتاج هذه الحجة أعلاه أنَّ قانون العودة، المعبر عن "حق العودة"، هو الذي يضع الفواصل ويقيم الحواجز بين نوعين من الناس، لأنَّه يشمل اليهود كلهم ويستثني العرب كلهم، بمن فيهم طبعًا أولئك الفلسطينيون الذين أُرغموا على ترك البلد سنة ١٩٤٨ وحرموا ممارسة حق العودة. وقانون العودة هذا هو الصفة الأساسية لهذا "الشيء" الذي هو دولة إسرائيل. وبناء على هذا التحليل، فإنَّ مَنْ يقف ضدَّ الهجرة اليهودية من العرب في إسرائيل يمكن اتهامه مباشرة بالعداء للدولة والطعن في شرعية وجودها، ويجوز بالتالي تهديده بنزع المواطنة أو تعليقها. وهذا بالضبط ما فعله الوزير زفولون هامر، وزير الأديان من حزب المفدال، مؤخَّرًا.(5)   وبناء على هذا التحليل، ثانيًا، يَسْهَل فهم إصرار حزب أغودات يسرائيل على ضرورة قيام ائتلاف حكومي يعتمد على ما يقل عن ٦١ عضو كنيست يهوديًّا نقيًّا. وإذا كان العرب في إسرائيل مواطنين من نوع مختلف ومتدنّ من المواطنة قياسًا باليهود فيها، فما هو بالتحديد موقعهم في الدولة اليهودية، وما هي وضعيتهم القانونية والعملية؟ وبصورة عامة، ما معنى أنْ يكون الفرد مواطنًا في دولة معينة ومميزًا ضده على أساس انتمائه العرقي؟ للأمثلة والتصنيفات التالية فضيلة التوضيح والإيحاء في هذا الصدد:

١)  العربي في إسرائيل ليس فردًا في العائلة (أو عضوًا في المجتمع) لكنَّه ليس خادمًا أو تابعًا.

٢)  العربي في إسرائيل أكثر من رعية أو مقيم، لكنَّه أقل من المواطن المتساوي.

٣)  العربي في إسرائيل أكثر من مجرد محكوم، لكنَّه أقلّ من شريك متكافىء في الحكم (المركزي).

٤) العربي في إسرائيل أكثر من محتل أو مستعمَر، لكنَّه أقل من المستقل والمتحرر.

٥)  العربي في إسرائيل أكثر من لاجىء أو مستأجر، لكنَّه أقل من صاحب البيت.

٦)  العربي في إسرائيل غير منفصل عن حياة الدولة، لكنَّه غير مندمج فيها.

٧)  العربي في إسرائيل ليس عدوًّا لدودًا للدولة، لكنَّه ليس من حماتها.

والعبرة من هذه الأمثلة والتصنيفات يجب أنْ تكون الآن غاية في الوضوح والجلاء: العربي في إسرائيل عائم في منطقة وسطى، في "مطهر دانتي"، أو في بقعة معتمة، ما بين مجال الطرف الأول ومجال الطرف الثاني من هذه الجمل المتشابهة في مدلولاتها. وحين تضغط الدولة عليه بمكبس إجراءاتها وسياساتها المجحفة، يشعر بأنَّه، في نظر الأغلبية الحاكمة، أقرب إلى الخادم والرعية والمحكوم والمحتل واللاجىء والغريب والمفصول عنصريًّا منه إلى عكس ذلك. وتقفز إلى ذهنه وإلى ذاكرته عندها أمور وتجارب كالتالية: الحكم العسكري، أحداث يوم الأرض سنة ١٩٧٦، التشرّد سنة ١٩٤٨، مصادرة الأراضي وهدم البيوت، أنظمة الطوارىء والوحدات الخاصة والمخابرات وسلسلة المذابح، التهديد بنزع المواطنة أو تعليقها والتلويح بإعادة الحكم العسكري، إلخ. وحين تسهو عين الرقيب قليلًا وتفلت قبضة الدولة عن الأعناق يشعر بأنَّه، في نظر الأغلبية الحاكمة، أقرب إلى المواطن المتساوي وإلى الاندماج والشراكة في الحكم منه إلى عكس ذلك. وفي الحالة الأولى يميل إلى ندب حظِّه، بينما ينزع في الحالة الثانية إلى رفع سقف المطاليب.

العربي في إسرائيل شبه مواطن (semi-citizen) إذًا. ولأنَّه كذلك، فإنَّ أبواب الدولة ومؤسساتها نصف مفتوحة في وجهه. أبواب الرزق والعمل والترقية والخدمات والرعاية شبه مفتوحة. وهناك أبواب كثيرة محكمة الإغلاق: الكيبوتسات ليست له، ومدن التطوير ليست له، والجيش ليس له، وإدارات الموانىء والمطارات والقطارات والشركات والمصارف والجامعات والمستشفيات ليست له، وأراضي الدولة ليست له، والوكالة اليهودية ليست له، والجباية اليهودية الموحدة ليست له، والسفارات ليست له، والنشيد الوطني وباقي رموز الدولة ليس له، وهكذا. أمَّا أبواب العمل الشاق والسلطة المحلية فمفتوحة على مصاريعها.

  ج

إنَّ الديمقراطية، كما نعرف جميعًا، هي حكم الشعب. وأفراد الشعب هم المواطنون بصفتهم مساهمين في السلطة السياسية، وهم الرعايا بصفتهم خاضعين لقوانين الدولة وإجراءاتها.(6)   في الدولة الديمقراطية يحكم الشعب نفسه بواسطة ممثليه المنتخبين دوريًا، فهو إذًا الحاكم والمحكوم في الوقت ذاته. أما العرب في إسرائيل فليسوا شركاء في الحكم، كما أشَرْتُ سابقًا. والشعب صاحب السيادة في هذه البقعة من الأرض وعليها ليس "شعب إسرائيل" (إذ لا يوجد شيء كهذا)، وإنَّما الشعب اليهودي فقط. هذا يعني، فيما يعنيه، أنَّ الشعب صاحب السيادة على هذه الأرض وفيها لا يتطابق مع مجموع المواطنين القانونيين، وإنَّما يتكوَّن من مواطنين فعليين من النوع الأول (اليهود في إسرائيل)، ومواطنين بالقوة يعيشون خارج إسرائيل. ولأنَّ الأمر فعلًا كذلك، فإنَّ رأي أو موقف اليهودي الأميركي في مسار الدولة وسياستها أكثر وزنًا وقيمةً من رأي العربي في إسرائيل أو موقفه. وفي المقابل، فإنَّ سادة دولة إسرائيل (الأتقياء منهم وغير الأتقياء) غير مستعدين، ولو مبدئيًّا، للاعتراف بالعرب في إسرائيل أنَّهم "أقلية قومية"؛ لأنَّ مثل هذا الاعتراف، إذا صدر، ينطوي على إقرار ضمني بأنَّ إسرائيل دولة "ثنائية القومية"، بكل ما يعنيه ذلك من حق المشاركة في مسألة السيادة والقرارات السيادية. والعرب في إسرائيل، في نظر الدولة، طوائف، "أقليات دينية وغير دينية" ليس إلَّا. ولا تساعد المشاركة في الانتخابات الديمقراطية (الدورية والسرية والحرة والعامة) كثيرًا في حلّ هذه المعضلة الكأداء. فالعرب في إسرائيل يواجهون أغلبية تحتكر الموارد بقدر ما تحتكر السلطة السياسية، أغلبية دائمة وثابتة تصرّ على استثناء العرب من المشاركة الجدية في إدارة شؤون الحكم والدولة. وكأنَّ إسرائيل قد حكمت على العرب فيها أنْ يظلوا إلى الأبد أقلية غير مؤثرة، وعلى هامش المواقع التي تتَّخذ منها أو من خلالها القرارات المهمة. ما أُودّ التشديد عليه هو التالي: لسنا هنا في إطار المسألة أو المشكلة الكلاسيكية التي شغلت بال المفكرين السياسيين المنحدرين من سلالة ديمقراطية ليبرالية، والتي تُعْنَى بوضع القيود على سلطة الأغلبية بقصد حظر طغيانها، وبتحصين الأفراد والأقلية بشبكة واسعة من الحقوق والحصانات الدستورية.(7)   إنَّنا هنا في إطار لعبة تَحَدَّدَتْ قواعِدُها غير المكتوبة من خلال إصرار أكثرية قومية دائمة على احتكار السلطة السياسية أولًا، ووضع الأقلية القومية في "مكانها الصحيح" ثانيًا. الأغلبية والأقلية الانتخابيتان (الائتلاف والمعارضة) تدخلان ضمن الأكثرية القومية ذاتها. والعرب في إسرائيل خارج كل من الائتلاف والمعارضة. إنَّنا هنا في إطار طغيان أكثرية يهودية تعتبر مجرد التكاثر السكاني للعرب في إسرائيل مشكلة ديموغرافية تهدد أمن الدولة ومستقبلها، ولذلك تشجّع نسل اليهود ماليًّا ومعنويًّا، وتحذِّر من تزايد نسل العرب، أكثرية قومية عنصرية طغت وما زالت تطغى.

قلِّبِ الأمور كيفما شئت، فأنت عائد في نهاية الأمر إلى نقطة الانطلاق والبدء نفسها. فإذا قلت إنَّ الديمقراطية الليبرالية الحديثة قائمة على التعددية (الفردية والجماعية، الفكرية والسياسية)، وعلى التسامح (tolerance) الذي يشرعِنُها ويعيد إنتاجها، وعلى الحياد القيمي بين المصالح والأهداف والعقائد والمواقف المتنافسة والمتصارعة، لانكشفت أمامك حقيقة مفادها أنَّ دولة إسرائيل، فيما يتعلق بتعاملها مع العرب فيها، ليست كل ذلك؛ فهي، وبشكل سافر، منحازة إلى مجموعة من الناس (اليهود) من دون الأخرى (العرب)، وإلى فكرة مسيطرة (الفكرة الصهيونية) من دون الأخرى، وإلى دين (اليهودية) من دون الآخر، وإلى مصالح ومواقف من دون الأخرى، وإلى أهداف ومُثُل علينا من دون الأخرى، وهكذا.  ودولة إسرائيل تبعًا لذلك هي دولة أولئك المواطنين الذين هي، في طبيعتها، منحازة إلى مصالحهم ومواقفهم وأهدافهم وعقائدهم. وهي لا تستطيع، بحسب المعنى نفسه من المواطنة، أنْ تكون أيضًا دولة أولئك المواطنين الذين هي، في طبيعتها، منحازة ضدهم. الدولة، وبكل ما أُوتِيَت من قوة الجهاز والموارد، تدأب على تنفيذ المشروع الصهيوني القائم على تجاهل مصالح العرب وأهدافهم وطموحاتهم وأذواقهم، إنْ لم يكن مباشرة على حسابها أو أنقاضها. وماذا يعني مشروع تهويد الجليل في هذا السياق غير تفضيل نوع من الناس أو المواطنين (اليهود) على نوع آخر (العرب)، والانحياز إلى مصالح النوع الأول وأهدافه؟ وماذا تعني في هذا السياق، ايضًا، مصادرة الأراضي العربية بقصد إنشاء وإغناء المستعمرات والمدن ونقاط المراقبة اليهودية؟ وماذا تعني، ثالثًا، تلك الحملة المنسَّقة والمكلَّفة لاستيعاب القادمين الجدد من يهود الاتحاد السوفياتي في وقت وفي وضع أصبحت فيهما السلطات المحلية العربية عاجزة عن تقديم الخدمات الأساسية للعرب في إسرائيل؟ دولة منحازة هي تلك التي لا تُحَرِّك ساكنًا إذا أضربت السلطات المحلية العربية فيها عن العمل أسابيع كثيرة، بينما تقوم وتقعد إذا تظاهر سكان إحدى مستعمراتها اليهودية مطالبين بزيادة مخصصات البيض أو الدجاج.

والدولة الحديثة، ديمقراطية كانت أو غير ديمقراطية، اشتراكية كانت أو رأسمالية، بعيدة كل البعد عن "دولة الحد الأدنى" (minimal state) التي يتحدث عنها الرأسماليون الليبراليون، تلك الدولة التي يقتصر دورها على توفير الأمن وعلى المراقبة والتنظيم والتحكيم والتصحيح لمسار المعاملات والتبادل الذي يتم عبر السوق وغيرها من دوائر الإنتاج والتوزيع.(8)  الدولة الحديثة هي، وإنْ كان ذلك بدرجات متفاوتة، ذات نزعة واضحة نحو التنسيق الأقصى (maximum coordination)، وإلى أخذ موقع مركزي في توزيع المنافع والأعباء الاقتصادية والاجتماعية؛ هي المموِّل والمشغِّل والموزِّع الرئيسي؛ هي المحكّم وهي الرقيب. ودولة إسرائيل هي دولة حديثة من هذا الطراز، وهي أقرب إلى دولة التنسيق الأقصى منها إلى دولة الحد الأدنى؛ فهي تسيطر على حصة الأسد من قطاعي الخدمات والإنتاج: هي مالكة الأرض والمياه والمعادن والكهرباء والمطارات والموانىء والصناعات الحربية والاتصالات وجزء من وسائل الإعلام والشركات الإنتاجية. وهي المستودع الأكبر للأعمال والمناصب.

وكما أنَّ دولة إسرائيل غير محايدة قيميًّا أو سياسيًّا، كما أشرنا سابقًا، فإنَّها كذلك منحازة وغير منصفة، خلافًا لقريناتها الدول الديمقراطية الأخرى، في ميدان توزيع الخيرات المادية وغير المادية. وهي منحازة إلى مصلحة الأكثرية (اليهود) وضد الأقلية (العرب)، وليس إلى طبقة اجتماعية من دون الأخرى. فأراضي الدولة لخدمة اليهود، وكذا مياهها. والمباني العامة لإسكان اليهود، والمناصب العامة لتشغيلهم، وهكذا. وإذا كانت نسبة العرب تقترب من الـ١٦% من سكان الدولة، فإنَّني أراهن على أنَّ حصتهم من المنافع لا تتعدَّى عُشْر هذا الرقم. والمسألة هي مسألة الميزانيات للسلطات المحلية العربية، بقدر ما هي مسألة الأعمال والمناصب، بقدر ما هي مسألة الضمان الاجتماعي والصحي، بقدر ما هي مسألة البر والتقوى، بقدر ما هي مسألة التعليم والترفيه، بقدر ما هي مسألة السلطة السياسية ذاتها.(9)   إنَّ التركيز على دائرة واحدة من دوائر التوزيع، من دون غيرها، يدلُّ على رؤية ضيقة للأمور تحجب الحجم الحقيقي للتمييز عن الأنظار والأذهان. لماذا يأخذ السؤال عن المخصصات للسلطات المحلية، مثلًا، أولوية على أسئلة من النوع التالي: أين موقع العمال والموظفين العرب من درجات سلالم الأجور في وظائف هذه الدولة ومناصبها؟ كيف تتوزع الأشغال الشاقة؟ كيف يتوزع الترفيه؟ كيف يتوزع الاهتمام والعناية بالأموات والمقابر؟ وكيف تتوزع المياه ومخصصات الإنتاج الزراعي؟ وكيف يتوزع الأمن والعدل؟ وكيف يتوزع الضمان الصحي والاجتماعي؟ وكيف يتوزع الاهتمام بالتقوى في هذه الدولة؟ وكيف تتوزع الجوائز والميداليات والنصب التذكارية؟ الإجابات عن هذه الأسئلة وغيرها كلها موحدة: في مصلحة اليهود وفي غير مصلحة العرب. والدولة، مثل المجتمع، طرف فاعل ومنحاز في كل هذا التوزيع المجحف. هناك، كما يقول آدم سميث، "يد خفية" وراء كل هذا.

د

وإذا قلنا إنَّ الديمقراطية الحقَّة هي، في نهاية المطاف، إجراء لاتِّخاذ القرار (decision – procedure) يتسم بأنَّه حل وسط منصف (fair compromise) بين المطاليب المتنافسة والمتصارعة للوصول إلى السلطة السياسية، وإنَّ وجه الإنصاف يتمثل سلبًا في عدم وجود نزعة عامة أو نمط عام من القرارات المجحفة بحق مجموعة محددة من الناس، وإيجابًا في وجود نزعة عامة أو نمط عام من معاملة الأكثرية للأقلية بقدر متساو من الرعاية والاهتمام، وإذا أخذنا بعين الاعتبار تلك المعاملة المجحفة التي تلقاها الأقلية العربية في دولة إسرائيل، لوصلنا إلى استنتاج أنَّ العرب في إسرائيل قائمون على هامش الديمقراطية الإسرائيلية، وليسوا في أية حال من الأحوال في مركزها.(10)   فهم ليسوا شركاء في السلطة السياسية على الرغم من انطباق مبدأ التصويت العام عليهم، وهم ليسوا في مركز صنع القرارات على الرغم من تأثرهم المباشر بها، وهم ليسوا طرفًا معترفًا به من الأطراف المتنافسة سلميًّا للوصول إلى السلطة السياسية، وإنْ وَقَعَ بعضهم فريسة لأوهام من هذا القبيل أحيانًا. الديمقراطية الإسرائيلية هي، تمامًا كالمواطنة، لليهود في المقام الأول، ولغير اليهود في المقام التالي. بالنسبة إلى العربي في إسرائيل، فإنَّ بريق الديمقراطية يكون لامعًا على مستوى الحكم المحلي، لكنَّه يتدرج في الخبوّ كلما اقتربنا من السلطة السياسية، مرورًا بالمؤسسات والحلقات الوسطية. وعلى وجه العموم، فإنَّ إسرائيل دولة ديمقراطية من وجهة نظر الأغلبية اليهودية، لكنَّها "شبه ديمقراطية" من وجهة نظر الأقلية العربية. وشبه الديمقراطية هو منطقة وسطى ما بين الديمقراطية والاستبداد. فإذا قابلت العربي في إسرائيل بالسود والملونين في جنوب أفريقيا، بانت لك صورة الديمقراطية الإسرائيلية مشرقة. أمَّا إذا قابلت العرب في إسرائيل بالكنديين من أصل فرنسي في كندا، فالصورة تبدو قاتمة جدًّا.

دولة إسرائيل قائمة، إذًا، على الخرق المنظَّم لمبدأين ديمقراطيين أساسيين هما:

١) مبدأ الحريات والحقوق السياسية المتساوية (والذي يحدّد الأرضية المشتركة للمواطنة المتساوية)؛ ٢) مبدأ الفرص المتساوية (والذي على أساسه يتحدّد التوزيع المنصف للخيرات الاقتصادية والاجتماعية).(11)  وإذا كانت حماية الحقوق تمكن الإنسان / المواطن من الوقوف والمشي مرفوع الهامة، والنظر إلى الآخرين وجهًا لوجه، والقدرة على الإحساس بأنَّه بصورة أساسية مساو لهم، فإنَّ الارتباط الوثيق بين الحقوق واحترام المواطن لذاته يصبح غير قابل للخطأ. وفي إنكار هذه الحقوق أو خرقها المنظم طعن في الكرامة الإنسانية وفي احترام الإنسان لذاته. المواطن المتساوي في الحقوق هو الندّ للمواطن الآخر، أما المواطن غير المتساوي فهو كالمتسول الذي أنهكته مذلة السؤال.(12)  إنَّ مواطنًا غير متساو في الحقوق، مواطنًا يُمارَس الإجحاف ضده بالقانون وبغير القانون، لا يستطيع إلَّا أنْ يحلم بالانتقام لكرامته المهدورة. فالمضطهد حسود دائمًا، وعلى نار ينتظر لحظة الثأر.

  هـ

لنترك أحلام الانتقام جانبًا، ولنتساءل عن البدائل المتوفرة لدى الأقلية العربية في إسرائيل لمقاومة الإجحاف الذي كان، ولا يزال، من نصيبها طوال أربعين عامًا ونيف. وللتأملات التالية فيما يتعلق بالبدائل أهمية خاصة في استكناه آفاق المستقبل واستنطاق إمكاناته:

١) المنطق والعقل السليم يمليان أنَّه إذا كان المجتمع منقسمًا بصورة متطرفة أو جذرية بحيث يصبح انطباق مفهوم موحد للمواطنة مستحيلًا، كما هي الحالة في المجتمع الإسرائيلي المنقسم على أساس عرقي ولغوي وديني، عندها يتوجب تقسيم البلاد إقليميًّا.(13)   تقسيم البلاد إقليميًّا هو الاستنتاج العملي من منطق التقسيم المجتمعي إلى حدّه الأقصى. بكلمات أخرى: إنَّ انفصال العرب في إسرائيل إقليميًّا عن جسم الدولة اليهودية وانضمامهم إلى دولة فلسطينية تقوم في جوار إسرائيل بديل له ما يبرره من الأسباب، على الرغم من أنَّ إمكانات تبنيه مطلبًا سياسيًّا تقترب من الصفر في المائة هذه الأيام.

٢) وفي صلب الفكر السياسي الحديث ما يبرر لأقلية قومية مميَّز ضدها على أساس عنصري عدم طاعة تلك القوانين، ومقاومة تلك السياسات والممارسات، المجحفة بحقها. وإذا كان الإجحاف شاملًا ومتطرِّفًا تكون الأقلية المميز ضدها في حِلّ من طاعة الحاكم أو النظام، ويحق لها التمرد أو العصيان. أمَّا إذا كان الوضع قابلًا للإصلاح، فإنَّ المزج بين النضال القانوني وغير القانوني (العصيان المدني) ربما كان طريق الخلاص الوحيد والأكيد.

والغريب في الأمر حقًّا أنَّ الحركات السياسية التي تصدَّرَت قيادة نضال العرب في إسرائيل خلال العقود الثلاثة الماضية، والتي اعتنقت "عقيدة الاندماج" وتأكيد المساواة في الحقوق المدنية (ذات الطابع الفردي)، ركزت على الجزئيات في مطاليبها، وراعت أقصى درجات الحيطة والحذر في انتقاء أنماطها النضالية القانونية. ولأنَّها استثنت أو حذفت أنماطًا نضالية فعالة ومجربة (كالعصيان المدني)، فقد خاب السعي وتَعَثَّر النضال. لكن هناك أكمَّة من نوعٍ آخر وهناك ما وراءها أيضًا. فمَنْ يحاول استنطاق الأمور اليوم يُدْرِكُ جيِّدًا أنَّ مثل هذا السعي كان منذ البداية وراء أمل كاذب. وهل لأقلية قومية، أية أقلية قومية، أمل حقيقي بالاندماج الكامل في مجتمع تصبغه الأغلبية القومية ضرورة بطابعها الخاص والمميز؟ وإذا فشلت القيادة في إعطاء البعد القومي للمشكلة ما يستحقه من العناية والاهتمام والتفكير، فلأنَّها ظنَّت – وكانت آثمة في ظنِّها – أنَّ الأقلية القومية العربية في إسرائيل قابلة ومقبولة للاندماج في المجتمع الإسرائيلي. وبعد عقود من السعي الخائب يخرج البعد القومي فجأة، خروج الجن من الزجاجة، مطالبًا بتسديد فاتورة الحساب المؤجَّل منذ زمن.

٣) وإذا كان الاندماج الكامل في ظل الانقسام المجتمعي بدعة كبرى، وإذا كان تقسيم البلاد إقليميًّا حلمًا إسبانيًّا (كما يقال في العبرية)، فما البديل المعقول والمنصف الذي يمكن أنْ يقبله ويتعايش معه الطرفان المعنيان للمدى البعيد، بوجود السلام بين إسرائيل ودولة فلسطينية تقوم في جوارها، أو بغيابه؟ لا أرى شخصيًّا بديلًا مقنعًا أو منصفًا أكثر من "الحكم الذاتي" للأقلية العربية في إسرائيل. والحكم الذاتي ذو المحتوى والمعنى لا يمكنه أنْ يكون مفرغًا من البعد الإقليمي. وهو، كما أتذهَّنه وأتصوَّره، "وسط ذهبي" بين نزعتين كل منهما غير قابلة للارتواء في شكلها الكلي: النزعة الاندماجية، والنزعة الانفصالية. والحكم الذاتي، كما أتذهنه وأتصوره أيضًا، شبيه بذلك الترتيب المؤسسي، القانوني والإداري، الذي حققه الكنديون والبلجيكيون من أصل فرنسي في كل من كندا وبلجيكا تِبَاعًا. ومن فضائله البارزة أنَّه لا يتعارض بتاتًا مع، ولا ينتقص شيئًا من، شروط المواطنة المتساوية على مستوى الحكم المركزي، ذي الطابع الفدرالي.

أمَّا فكرة الحكم الذاتي المؤسسي الصرف،(14)  والتي بدأت تتسلل إلى أذهان البعض مؤخَّرًا، فتدل – إنْ دلَّت على شيء – على شقاء وعي واضطراب فكر لا يتلاءمان مع جلل القضية التي نحن في صددها.

ولست ممن يتعلَّلون بالأوهام. ويتعلل بالأوهام كل من يعتقد أنَّ الحكم الذاتي الذي أتحدث عنه قابل للتطبيق باتِّباع أنماط النضال السائدة اليوم. إنَّ تحقيقه، إذا كان ممكنًا، يتطلّب أنماطًا نضالية خلاّقة وجديدة، لا تستثني إقحام المجتمع الدولي، ولا تستثني العصيان المدني، ولا تستثني المقاومة النشيطة لتلك الإجراءات والممارسات التي من شأنها سدّ الطريق إليه (وعلى رأسها تلك المحاولات المثابرة لقطع الاتصال الجغرافي بين القرى والمدن العربية في كل من الجليل والمثلث والنقب).(15)  وإذا قيل إنَّ مطلب الحكم الذاتي سابق لأوانه في هذا الظرف، أقول: في المرحلة الحالية، فكرة الحكم الذاتي هي "فكرة موجهة" (regulative idea) ليس إلَّا. لكنْ كونها كذلك لا يقلّل من أهميتها أولًا، ويجب ألَّا يمنع التداول والتفكير المترويين لإنضاجها ثانيًا.

وفي الختام، لا يحتاج المرء إلى رذيلتي التطرف والمزايدة حتى يُدْرِك (بالشعور وبالتفكير) عمق المأساة التي يعيش فصولها المتتالية العرب في إسرائيل منذ أربعة عقود ونيف، مأساة تثبيتهم في بقعة معتمة ما بين المواطنة ونفيها، وعلى الحدّ الفاصل ما بين الديمقراطية ونفيها، وما يتناسل عن هذا التثبيت من إجحاف يتخلَّل جميع دوائر توزيع الأعباء والمنافع الاقتصادية والاجتماعية. وليس متطرفًا أو مزايدًا أيضًا من لا يعتقد بالخلاص الهابط على "طبلية" من السماء. لقد اعتادت حكومات إسرائيل المتعاقبة على تصنيف "مواطنيها" العرب إلى معتدلين وإيجابيين (أي قابلين بالوضع القائم)، ومتطرفين وسلبيين (أي ثائرين عليه)، وإلى أغلبية صامتة. وإذا كنت من دعاة التغيير الجذري للوضع الذي نحن فيه، فليس لكوني متطرِّفًا أو/وسلبيًّا، وإنَّما لكوني متمسِّكًا بقيم إنسانية وخلقية أصيلة، وعلى رأسها العدالة الاجتماعية بشقيها الشكلي والمادي، والحقوق المتساوية، وارتباطهما بكرامة المواطن والإنسان.

*  قُدمت الدراسة في يوم دراسي نظَّمه مركز الجليل للأبحاث الاجتماعية في الناصرة يوم ٢٦ أيار / مايو ١٩٩٠، بالاشتراك مع صندوق المطبوعات حول إسرائيل (لندن).

 

(1)    "المانوية" هي ثنائية الخير والشر في الكون. أمَّا مبدأ "التنافي المتبادل" فيعني في المقام الأول أنَّ أحد الطرفين المتصارعين زائد ويجب أنْ يزول عن المانوية ومبدأ التنافي المتبادل في العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، راجع: فرانز فانون، "معذبو الأرض"، ترجمة سامي الدروبي (بيروت، ١٩٧٢)، الفصل الثاني، ص ٣٦.

(2)  في شأن التمييز بين المواطن وغير المواطن، وفيما يتعلق بالتشويه الذي يُحْدِثُه نظام الاستبداد في معنى المواطنة، وفي صدد حالة الـ Metics في أثينا الديمقراطية القديمة، أنظر:

 Michael Walzer, Spheres of Justice: A Defence of Pluralism and Equality (New York Basic Books, 1983), ch. 2, pp. 31-63.                                                                                   

(3)  إنَّ استعداد حزب العمل للتنازل عن جزء كبير من المناطق المحتَّلة منذ سنة ١٩٦٧ نابع من حرصه المفرط على بقاء إسرائيل دولة ديمقراطية ذات أغلبية يهودية دائمة، ومن نفوره من فكرة الفصل العنصري. أمَّا حركة موليدت فتعالج القضية الديموغرافية بواسطة طرح فكرة "الإجلاء"، الطوعي إسميًّا والقسري عمليًّا. وإذا كان حزبا الليكود والمفدال ينطلقان من المقدّمات نفسها، فإنَّ الاستنتاج العملي مختلف تمامًا: إذا كانت السيادة على "أرض إسرائيل" للشعب اليهودي فقط، فإنَّ أقصى ما يمكن أنْ يكسبه الفلسطينيون في المناطق المحتلَّة منذ سنة ١٩٦٧ هو "الحكم الذاتي" الذي يتمّ بموجبه تعليق حق السيادة أو حق المشاركة في القرارات السيادية (أي، الانتقاص الواضح من شروط المواطنة الكاملة).

(4)    لقد سبق أنْ عرضت هذه الحجة في مقالة صحافية عنوانها "حجة الوزير هامر"، صحيفة "الميدان"، ١٩٩٠/٣/٢٣.

(5)   عن الربط المحكم بين الهجرة وحق العودة ووجود الدولة، راجع تصريحات الوزير زفولون هامر في برنامج "لقاء" في التلفزة الإسرائيلية مساء الخميس ١٩٩٠/٣/٨، وكذلك خطاب يتسحاق شمير أمام اللجنة التنفيذية الصهيونية بتاريخ ١٩٩٠/٦/٢٠، بالإضافة إلى المقابلة الصحافية التي أجرتها معه صحيفة The Jerusalem Post بتاريخ ١٩٩٠/٦/١٥.

(6)  Jean Jacques Rousseau, The Social Contract (London: Everyman’s Library, 1947), book 1, ch. 6.

(7)    يُعتبر جون ستيوارت مِلْ  من أشدّ المدافعين الليبراليين عن حماية الأفراد والأقلية من طغيان الأكثرية في النظام الديمقراطي. أنظر:

John Stuart Mill, On Liberty (London: J.W. Parker and Son, 1859), ch.2.                               

(8)   عن دولة الحدّ الأدنى (minimal state) يدافع كل من:

  1. a) Friedrich August Von Hayek, The Constitution of Liberty (London: Routledge and  Kegan Paul, 1960);                                                                                                                 
  1. b) Robert Nozick, Anarchy, State and Utopia (Oxford: Basil Blackwell, 1974).

(9)  في شأن الدوائر المختلفة التي يتمّ من خلالها توزيع المنافع والأعباء الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي صدد المقاييس التي تحكم التوزيع العادل في كل منها، راجع:

Walzer, Spheres of Justice…, op.cit.                                                                                   

(10)   للمزيد من التفاصيل عن هذا التعريف للديمقراطية والنظام الديمقراطي، راجع:

Peter Singer, Democracy and Disobedience (Oxford: Clarendon Press, 1973), pp. 32, 133-135.

(11)  هذان المبدآن، المرتبان بحسب الأولوية، يحددان في نظر جون رولز عدالة البنية الأساسية (basic structure) للمجتمع الذي بالضرورة يكون ذا نظام ديمقراطي. أنظر في هذا الصدد:

 John Rawls, A Theory of Justice (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1971), p. 60 FF.

والخرق المنظم للمبدأ الأول يبدو، في نظر رولز، العصيان المدني.

(12)  عن أهمية الحقوق وارتباطها بكرامة الإنسان والمواطن، أنظر:

Joel Feinberg, Rights, Justice, and the Bounds of Liberty (Princeton: Princeton University Press, 1980), esp. pp. 141-2, 151, 155.

كما أنَّ الصكوك الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والصادرة عن الجميعية العامة للأمم المتحدة سنة 1966، تفترض هذه العلاقة الوثيقة بين الحقوق وكرامة الإنسان.                                                                              

(13) هذا هو أيضًا الاستنتاج الذي يتوصل إليه وولزر (Walzer) في كتابه سالف الذكر، وخصوصًا ص ٦٢.

(14)   لقد سبق أنْ طُرحت فكرة الحكم الذاتي للعرب في إسرائيل في مقالتين صحافيتين هما:

أ – "نحو تفكير جديد حول مستقبل العرب في إسرائيل"، بقلم عزمي بشارة وسعيد زيداني، "العربي"، ١٩٨٩/١٢/٢٩.

ب – "تأملات ليست سابقة لأوانها"، بقلم سعيد زيداني، "العربي"، ١٩٩٠/١/٢٦.

(15)   في شأن مشروع "تهويد الجليل" وما ينطوي عليه من المحاولات الدؤوبة لقطع الاتصال الجغرافي بين القرى والمدن العربية، راجع:

Ghazi Falah, “Israeli ‘Judaization’ Policy in Galilee and Its Impact on Local Arab Urbanization,” Political Geography Quarterly, Vol. 8, No. 3 (July, 1989), pp. 229-253.

Author biography: 

سعيد زيداني: محاضر في جامعة بير زيت، وعضو إدارة مركز الجليل للأبحاث الاجتماعية (الناصرة).