خطاب للملك حسين أمام المؤتمر الوطني العام يعلن فيه المشاركة في مؤتمر السلام، عمان، 12/10/1991
Full text: 

[.......]

وهكذا أجد من واجبي أن أتحدث إليكم في ظل هذا الظرف الدقيق الذي نرى فيه أنفسنا عند منعطف حاسم، يتوقف على كيفية اجتيازه كامل وجودنا، واتجاه مسارنا، ومجمل علاقاتنا الإقليمية والدولية.

وهذا المنعطف، هو مؤتمر السلام للشرق الأوسط، وما يمكن أن يتمخض عنه، إذا ما كتب له النجاح، من واقع حياتي جديد يسدل الستار على حقبة التشتت والضياع وتبديد الوقت، ويفضي إلى أفق جديد من الأمل والانفراج والبناء. ذلكم هو معنى السلام العادل الدائم الذي ناضلنا وما فتئنا نناضل من أجل تحقيقه.

ولا أظنني أفاجئكم في الحديث عنه، أو في سعينا الجاد لبلوغه أو في التبشير بمركزيته في حزمة آمالنا، وبأهميته لمواصلة مسيرتنا كدولة وشعب، وبضرورته حتى نعيش حياتنا الطبيعية التي هي حق مشروع لكل إنسان كي يحلم ويعمل ويخطط لنفسه ولأسرته ويرفع من مستوى معيشته، في منأى عن الخوف والقلق والتخبط، مثلما هي حق مشروع لكل شعب كي يبني ويتقدم ويزدهر، في مأمن من التهديد واستنزاف الطاقات والقدرات. إنني واثق بأنني لا أفاجئكم في هذا كله، إذ طالما ناقشنا قضية السلام وتحدثنا عنها وجعلنا منها عنواناً لمستقبل أفضل للأجيال الآتية بعد أن أصبح السلام على ضوء تطورات القضية الفلسطينية وما صاحبها من آلام وتعقيدات وما قدم بسببها هذا الوطن الصامد من تضحيات، هدفاً وطنياً نكافح من أجله ومرتكزاً استراتيجياً سياسياً نعمل على هديه.

وعلى هذا الأساس، قمنا بدور مركزي على الصعيدين العربي والدولي، وعلى مدى نحو ربع قرن كنا من أوائل المبادرين إلى بذل الجهود أو الإسهام فيها من أجل حل القضية الفلسطينية وتأسيس سلام عادل دائم شامل في منطقة الشرق الأوسط.

وعلى هذا الأساس أيضاً، كان تجاوبنا ومنذ عام 1967 مع كل مبادرة سلام، إذا كانت تستند إلى الشرعية الدولية. ومن هنا ترحيبنا بخطاب الرئيس الأميركي بوش أمام الكونغرس في السادس من آذار [مارس] الماضي والذي أعلن فيه عن عزمه على إنهاء النزاع العربي ـ الإسرائيلي وحل القضية الفلسطينية على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338 ومبدأ الأرض مقابل السلام، ونيل الشعب الفلسطيني لحقوقه السياسية المشروعة وضمان الأمن لسائر دول المنطقة.

والحقيقة أنه ما من تصريح أو بيان سياسي أصدرناه، أو شاركنا في وضعه عربياً أو دولياً، وإلا أكدنا فيه على السلام العادل والشامل وعلى ضرورة تنفيذ قراري مجلس الأمن 242 و338 كقاعدة لأي تسوية سلمية عادلة وشاملة للنزاع، بل إننا، وحينما كنا والعالم أجمع منشغلين تماماً في أزمة الخليج، لم نغفل عن قضية السلام، وعبرنا عن ذلك بمطالبتنا الملحة للمجتمع الدولي بالتعامل مع احتلال إسرائيل للأراضي العربية بنفس المقاييس التي تعامل بها مع احتلال العراق لدولة الكويت. ودعونا جميعاً وبحماس شديد إلى الربط بين تسوية النزاعين باعتماد ذات الأسس الممثلة بالشرعية الدولية.

وها قد جاء الوقت نتيجة اعتبارات كثيرة وتحولات عالمية عميقة لنرى فيه محاولة جادة تبذل لتسوية النزاع العربي ـ الإسرائيلي والتوصل إلى السلام المنشود من خلال مؤتمر يعقد لهذه الغاية. فما هو موقفنا؟ وماذا نحن فاعلون؟

قد يقول قائل: لماذا نذهب لمؤتمر السلام والقيادة الإسرائيلية تصرح دون انقطاع بأنها لن تتنازل عن شبر واحد من الأرض المحتلة. والجواب على هذا القول: إن قضيتنا ليست بيننا وبين إسرائيل فقط، بل بين العالم وإسرائيل أيضاً. إنها بين سيادة القانون الدولي توطيداً للسلام العالمي وبين التمرد عليه. فالعالم كله لا يوافق على ما تقوله القيادة الإسرائيلية لأنه مخالف للشرعية الدولية، بل إن نسبة متزايدة من الشعب الإسرائيلي تقترب من الموقف العالمي. وفي الماضي سبق للقيادة الإسرائيلية أن اتبعت مثل هذا النهج فيما يتعلق بمستوطناتها في سيناء، حيث ظلت تقول بأنها لن تزيلها، ولكن الحكومة الإسرائيلية غيرت موقفها نتيجة المفاوضات ونتيجة الضغط الدولي الذي تعرضت له حتى تتوصل إلى سلام مع مصر ونتيجة تمسك مصر بالشرعية الدولية.

وفوق هذا وذاك، لنفترض أن إسرائيل اتخذت موقفاً متشدداً في المفاوضات بقصد تثبيت الأمر الواقع الذي تستفيد منه، فإن ذلك سيكون واضحاً للعالم الذي سيرى في إسرائيل عدواً للسلام والاستقرار في المنطقة على خلاف ما تدعيه لأن قاعدة الحل هي الشرعية الدولية، ومعادلة الأرض مقابل السلام، وهي معادلة واضحة. وفي هذه الحالة ستكون خسارة إسرائيل أكبر من خسارتنا. بل إن خسارتنا من المشاركة في المفاوضات ستكون أقل منها فيما لو لم نشارك فيها. فالسلام العادل متصل بكل جانب من حياتنا لدرجة أن أي مبادرة لتحقيقه تستحق منا كل محاولة جادة. وعليه فإن بذل الجهد والمحاولة عمل وطني، والتهرب منه خذلان للوطن مهما جملت تبريراته.

وقد يقول قائل آخر: ما لنا ولمؤتمر السلام فليس للأردن أرض محتلة سوى رقعة صغيرة؟

والجواب على مثل هذا القول: منذ متى نستطيع أن نفصل المصير الأردني عن واقع القضية الفلسطينية ومصيرها؟ ومنذ متى تدار السياسة دون أي اعتبار للجوار الجغرافي والتشابك الديموغرافي؟ ألم يتشكل تاريخنا السياسي وواقعنا الاجتماعي والاقتصادي بسبب القضية الفلسطينية وتطوراتها؟ ألم يستقبل الأردن ثلاث موجات كبرى من المهاجرين الفلسطينيين حتى الآن؟ ألم ينجم عن ذلك اختلال معادلة الموارد والسكان في الأردن والتي ترتب عليها ما نعاني منه هذه الأيام من مشكلات اقتصادية واجتماعية؟ ومع ذلك، فيكفي الأردنيين فخراً أنه لولا أن قامت على هذه الأرض دولتهم، لما كان هناك ما يبحث الآن. ولولا تضحياتهم ونضالهم عبر رحلة القضية الفلسطينية، لما كانت هناك ضفة غربية نعمل على استعادتها لأهلها على أساس قرارات مجلس الأمن. ولولا وحدة الضفتين التي شملت القدس العربية التي أنقذناها عام 1948 لما كان لنا في عالم السياسة قضية قدس، وبخاصة أن سائر الدول العربية في حينه وقفت إلى جانب دول العالم مع تدويل المدينة المقدسة ما عدا باكستان وبريطانيا التي كانت تربطها بالأردن معاهدة.

كما يكفي الأردنيين، مهاجرين وأنصاراً، فخراً أنهم تحملوا معاً آثار كل نكسة ومأساة أصابت فلسطين وأهلها، الصامدين منهم والمغتربين.

والجواب كذلك: إن المؤتمر مؤتمر سلام. أي أن استرجاع الأرض سيشكل واحدة من نتائجه وليس جميعها. فهنالك الأمن الإقليمي والسلام بين دول المنطقة وحل مشكلات البيئة والمياه والتنمية الاقتصادية وغيرها. وهي من النوع الذي يتطلب تعاوناً واتفاقات جماعية. والأردن الذي يقع في قلب منطقة شرقي المتوسط لا يمكن أن يبقى منعزلاً عن حل هذه المشكلات أو ألا يكون جزءاً من الجهود المبذولة لحلها أو من الترتيبات التي يمكن التوصل إليها لأنها مشكلات تعنيه وتتصل مباشرة بوجوده وبمستقبله، وبدوره الإقليمي. ولا أظن أن أحداً منكم يقبل أن نكون من السذاجة بحيث نختار أن ننزوي فننسى ونذوب، وبخاصة في هذه الحقبة من تاريخ العالم حيث تشتد وتيرة الاعتماد المتبادل بين دوله وشعوبه، إذن فالأمر يعنينا، ويعنينا جداً. يعنينا حاضراً ومستقبلاً لأنه يتصل بوجودنا وبقائنا. وبدونه نتعرض ـ لا قدر الله ـ لمخاطر يعلم الله وحده حجمها ومداها.

أيها الأخوة والأخوات أعضاء المؤتمر الوطني الأردني:

قال الله تعالى في محكم تنزيله: "لإيلاف قريش إيلافهم، رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" صدق الله العظيم.

إن قراءة متمعنة عميقة لهذه السورة الكريمة، تبين لنا كيف أن الخالق المعبود حدد للراعي، أي راع، إذا كان له أن يقوم بمسؤولياته تجاه رعيته، في أي مكان وفي أي لحظة من الزمان، حدد مسؤوليته الأولية بأمرين أساسيين، هما الإطعام من جوع والتأمين من الخوف. وبالتأكيد فإن فهمنا العصري للإطعام من جوع لا يمكن أن يعني فتح التكايا أو توزيع الوجبات على الناس، بل يعني خلق فرص العمل لكل القادرين عليه من خلال استثمار موارد الدولة، وتعليم الناس وتأهيلهم، وتحريك ودفع عجلة الإنتاج في سائر قطاعات الاقتصاد. أما التأمين من الخوف، فيعني أموراً كثيرة، بدءاً من احترام حقوق الإنسان وكرامته وحريته، وانتهاء بتوفير الأمن المادي والاجتماعي للمواطن وحماية أمن واستقرار الدولة. هذه هي المسؤولية الأولية للقيادة. وأقول لكم بكل الصدق والأمانة إنها مسؤولية ما عادت سهلة في ظل الظروف التي نعيش، بل إنها غدت تحدياً كبيراً يدركه كل مسؤول ومطلع على أحوالنا المالية والاقتصادية والاجتماعية. فالأردن شبه محاصر، والأردن محدود الموارد، ونسبة تزايد السكان فيه من أعلى النسب في العالم. وباختصار، في الأردن بطالة، وفي الأردن جوع.

وبالمقابل، في الأردن كرامة وكبرياء، ولدى شعبه فضائل الصبر والعزيمة والوفاء. فإذا كنا سنشارك في مؤتمر السلام فسنفعل ذلك ليس فقط لتحقيق السلام بمعناه المجرد أو بلوغه بأي ثمن، بل سنذهب من منطلق مسؤوليتنا الأولية تجاه توفير الأمن والرخاء لشعبنا ومعنا إصرارنا على تطبيق الشرعية الدولية، وتمسكنا بحقوقنا، ووفاؤنا لقدسنا، والتزامنا بالوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني ومساعدته على إنهاء مأساته واستعادة سيادته على أرضه، وبمساندته لنيل حقوقه الوطنية المشروعة، كي يعيش كسائر الشعوب آمناً في وطنه راغداً في عيشه.

والسلام المتأتي عن المفاوضات هو السلام الأبقى لأنه ثمرة تفاهم متبادل وتوفيق بين مواقف المتنازعين. ولكن دون تضحية بالحقوق أو انحراف عن الشرعية الدولية. والسلام الدائم، لا بد أن يكون متوازناً. فلا يستند إلى ميزان القوة والضعف الماديين، بل إلى أسس الحق والعدل والنفع المشترك للمتعاقدين. وبذلك فقط تنعم به الأجيال الآتية وتحميه. وعليه، فإن مبدأ عدم جواز احتلال أراضي الغير بالحرب الذي ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة لا يمكن التنازل عنه أو إغفاله. فهو جوهر قرار مجلس الأمن 242 الذي ينطبق على القدس العربية كما ينطبق على الضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان السورية. ومعنى هذا القرار هو انسحاب القوات الإسرائيلية بالكامل من الأراضي العربية المحتلة بما فيها القدس العربية تماماً كما فهم منه في اتفاقية السلام المصرية ـ الإسرائيلية عندما انسحبت إسرائيل من شبه جزيرة سيناء التي احتلتها نتيجة لنفس الحرب. كما يعني أن المستوطنات غير شرعية، وأن مواصلة سياسة الاستيطان ما هي إلا محاولة لتفريغ معادلة الأرض مقابل السلام من مضمونها، وبذلك تغدو هذه السياسة معوقاً لعملية السلام لا بد من إزالته.

أيها الأخوة والأخوات،

إننا نقف اليوم وجهاً لوجه أمام تحدي السلام العادل. وهو تحد كبير لأنه يضعنا في مفترق طرق، تتصارع فيه الأوهام مع الحقائق، ويتنازع فيه الخيال مع الواقع، والدعة مع الرغبة في العمل، ونزعة المزايدة والافتراء والاتهام مع روح المسؤولية، وتثبيط العزائم مع شحذ الهمم، والأنانية مع الإيثار، والتمني الخامل مع التفكير الجاد، والاتكاء على القديم المريح مع التوثب لارتياد الأفق الجديد الواعد.

ومع ذلك، وكما يطرد الضوء الظلام، فإنني واثق بأن شعبنا وكل واحد منكم، قادر على هزيمة كل السلبيات وعوامل الوهم والإحباط. وذلك من خلال ما يلي:

  • أولاً: يقظة الحس بالمسؤولية على سائر المستويات. إن حديثي إليكم هذه الساعة تعبير عن هذه المسؤولية تجاه كل واحد منكم وتجاه شعبنا بسائر فئاته وأجياله حيثما كانوا، في المدينة أو القرية أو المخيم.

إنها مسؤوليتي تجاه الوطن ومنعته ووجوده ومستقبله، ومسؤوليتي تجاه توفير الأمن والرخاء لأبنائه. والسلام العادل الشامل هو المفتاح لتبدل أوضاعنا جميعاً نحو الأفضل الذي نرنو إليه.

ولا ريب أن مثل هذا الحس بالمسؤولية متوفر لديكم، حي في نفوسكم، على اختلاف مواقعكم ومنابتكم لأنه متصل بمسؤوليتكم تجاه أنفسكم وأبنائكم وأسركم وتجاه إخوانكم المواطنين، وأهلنا من أبناء فلسطين، مثلما هو متصل بحرصكم على الحفاظ على وطن آمن مزدهر. ولا أخال أن حسّنا بالمسؤولية الوطنية والقومية قد تعرض أبداً بمثل ما يتعرض إليه الآن من اختبار خاصة في دعم الوفد الأردني المفاوض والوقوف خلفه، بكل طاقاتنا وقدراتنا. إنني أعلنها من هذا المكان بأنني شخصياً ومن منطلق مسؤوليتي القيادية تجاهكم جميعاً سأوظف كل ما أوتيت من إمكانات في دعم هذا الوفد في مهمته الوطنية النبيلة. وإنني واثق بأن شعبنا الذي امتحن أكثر من مرة في قدرته على تحمل مسؤوليته الوطنية، والقومية، مثبتاً جدارته ووفاءه، سيجتاز أيضاً هذا الامتحان بدعمه لوفدنا المفاوض وهو موفور الكرامة عالي الجبين.

  • ثانياً: الشجاعة. إن الشجاعة التي يقتضيها السلام لا تقل عن الشجاعة التي تستوجبها الحرب. إنها شجاعة مواجهة الخصم بمواقفه وحججه، وشجاعة مجابهة المتاعب، وشجاعة دفن الأوهام المخدرة، وشجاعة اقتحام الحواجز المعطلة، وشجاعة الحوار الذي يحطم أسوار الخوف والشك، إنها شجاعة مواجهة الواقع. ولا أحسبنَّ شعبنا الأردني الذي ألف المتاعب ووعر المسالك ونشأ على الشجاعة بشقيها البدني والأدبي، والمسلح بالحق والإيمان، إلا الشعب المؤهل الواثق بعد الاتكال على الله في قدرته على التصدي لتحدي السلام وتحقيقه لينعم به سائر أبناء أول المسلمين سيدنا إبراهيم عليه السلام.
  • ثالثاً: حسن الانضباط والتنظيم. إن التحدي الذي نواجه كبير وحاسم ومعقد، وقد يستمر التعامل معه لسنين طويلة، فلا يتوقعن أحد نتائج سريعة وحلاً وشيكاً جاهزاً. فعلمية السلام ستكون مضنية وشاقة، الأمر الذي يفرض علينا تعبئة سائر جهودنا الوطنية وتوفير الأجواء المواتية ورصد قدرات وكفاءات مواطنينا وتعبئتها لنوجهها جميعاً إلى ميدان التعامل مع هذا التحدي الكبير بالشكل الذي يكفل لنا النجاح. ويقتضي حسن التنظيم انتقاء وإعداد فرق العمل التي ستكلف بمهمة إدارة المفاوضات كي تبلغ غايتها المنشودة في التوصل إلى سلام عادل. أما حسن الانضباط فيعني بالإضافة إلى توفير الأجواء المناسبة الانتظام بصفوف متراصة متماسكة ويقظة الجميع ووقوفهم خلف جهد الحكومة ودعمها في المهمة الوطنية الكبيرة التي ستنهض بها.

ولعل من أبرز الواجبات في هذا المجال هو إدارة إعلام واع يتميز بالفكر والعقل والمعرفة، لا إعلام عواطف وإثارة لا يحصد منه سوى الوهم ومواصلة الانحدار، ولا إعلاماً يكرر بالنص الحرفي ما يبثه خصوم السلام من أقوال مدروسة تستهدف ابتداء الاستفزاز والتشكيك والتيئيس من نجاعة الجهود المبذولة لتحقيق السلام، نريد إعلاماً يكون مستهدفاً مصلحة الشعب والدولة، لا إعلام طرب يستهدف كسب عواطف الناس فيخرب بيوتهم.

  • رابعاً: الوطنية. وأعني بها الوطنية الحقة التي تنطلق من وعي على أحوال الدولة، ما لها وما عليها، وليس من أوهام تداعب الخيال أو مجرد تمنيات لا رصيد لها، كما أعني بها: الصدور في التفكير والشعار والقرار، عن حرص على مصلحة الوطن، لا عن سعي لتحقيق مآرب شخصية أو مصالح فئوية. وأعني بها أيضاً النظر في الممكن لتحقيقه لا تفويته. وفوق هذا وذاك، هل يحق لأحد أن يدعي بأنه أكثر عمقاً وأصالة في وطنيته ممن يتعلق بأرضه وترابه كما هو الحال مع أهلنا الفلسطينيين في وطنهم المحتل؟ إن الوطنية الحقة لا تعني الولوغ في إنكارها على الآخرين لأنها ليست حكراً على أحد، كما لا يمكن أن تعني التضليل والتشكيك والنيل الظالم المشبوه من المؤسسات الأمنية التي ينبغي أن تبقى بعيداً عن السياسة والتسييس كي تظل الدرع الواقي للجميع في مواجهة أي خطر يهدد الدولة. والوطنية الحقة لا يمكن أن تستغل الديمقراطية لإشاعة الفوضى والانقسام والضياع. الوطنية الحقة هي التي تنطلق من الحرص على الوطن أرضاً وأهلاً ومؤسسات.
  • خامساً: الوعي والمعرفة باعتبارهما أهم مقومات الانتصار في معركة السلام. ولا أخالنا ونحن الذين عشنا القضية الفلسطينية بتفاصيلها مذ كانت، إلا على درجة كبيرة من الوعي والاطلاع على تطوراتها وتضاعيفها، وتأثرها المباشر وغير المباشر بموازين القوى الدولية والإقليمية، وبتنافس الدول الكبرى وبمجمل الأحداث والتحولات العالمية التي تعايشت معها القضية الفلسطينية حتى يومنا هذا ونحن نستعد لمؤتمر السلام.

ومع ذلك، فمن المفيد استعراض أبرز الحقائق والأحداث والتطورات التي أدت تفاعلاتها وانعكاساتها إلى مفترق الطرق الذي نقف اليوم فيه، وكذلك استعراض عدد من الجوانب الهامة التي سيعقد مؤتمر السلام على أساسها.

بالنسبة للحقائق والأحداث والتطورات:

  • أولاً ـ لا أجد غضاضة في تذكيركم بحقيقة سبق وأن أشرت إليها وهي أن المدقق في الخط البياني للقضية الفلسطينية لا يمكن أن يغفل عن ملاحظة أن هذا الخط في انحدار مستمر. فما من فرصة للسلام أتيحت عبر مسار القضية، إلا كان الممكن تحقيقه منها أقل مما أتاحته الفرصة التي سبقتها، ابتداء من الثلاثينات وحتى يومنا هذا بالرغم من عدالة القضية. وإذا كان لذلك مغزى، فإن معناه أن إحاطتنا كعرب وفلسطينيين بالوضع الدولي والإقليمي عند كل فرصة سلام، كانت أقل مما هو مطلوب لاغتنامها، فلم نتعامل مع الحدث في إطار الممكن والمعقول، الأمر الذي أدى إلى إضاعة الفرصة إثر الأخرى، إلى أن وصل الحال حد مصادرة إسرائيل لما يقارب 65% من أرض الضفة الغربية، وإلى أن أصبح وضع الشعب الفلسطيني كما ينطق به واقع اليوم: تشرداً وضياعاً في الخارج، وآلاماً ومعاناة في الداخل.
  • ثانياً ـ إن القيادة الإسرائيلية الحالية تشعر بأنها المنتفعة الوحيدة من استمرار الأمر الواقع أي من استمرار حالة اللاحرب واللاسلم التي توظفها في تغيير الواقع على الأرض. وهنالك ثلاث حقائق تشجع إسرائيل على التمسك بالأمر الواقع، ونألفها جيداً لأنها موضع قلقنا واهتمامنا السياسي اليومي. وهذه الحقائق هي:
  • استقدام المهاجرين اليهود السوفيات بعشرات الألوف.
  • بناء مستوطنات جديدة.
  • جمع الأموال لاستيعابهم من مصادر خارجية.

وهذه الحقائق كما هو واضح ذات طبيعة دينامية مستمرة وليست من النوع الذي يحدث لمرة واحدة ويتوقف. ولا يوجد سبيل لوقف هذا الشر المتنامي والمفضي إلى ابتلاع الأرض وتشريد الشعب الفلسطيني بإزاحته عن أرضه إلا سلام عادل مستند إلى الشرعية الدولية.

  • ثالثاً ـ انهيار الشيوعية وحلفها وما نجم عن ذلك من تهاو لموازين القوى العالمية أديا إلى انتهاء الحرب الباردة وانتهاء النظام العالمي الذي قام بشكل أساسي على القطبية الثنائية، وتوجه العالم نحو السلام ونزع الأسلحة النووية وتخفيض حجم الجيوش وتقليص أو إزالة بعض أسلحة الدمار الشامل وحل سائر النزاعات الإقليمية والمحافظة على البيئة في العالم.

وبالنسبة لأثر ذلك على منطقة الشرق الأوسط، فقد تحول الاتحاد السوفياتي من منافس للولايات المتحدة إلى شرك لها في عملية السلام المقترحة ضمن رؤية الدولتين المشتركة لنظام عالمي جديد يخلف حقبة الحرب الباردة. كما توقف الاتحاد السوفياتي عن كونه أحد مصادر تهديد المصالح الغربية وبخاصة الأميركية في المنطقة، الأمر الذي نزع عن إسرائيل أبرز مقوماتها كحليف استراتيجي للولايات المتحدة في مجابهة الاتحاد السوفياتي.

  • رابعاً ـ تهاوي النظام العربي واختلال موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط نتيجة أزمة الخليج، وما نجم عن ذلك من تحالفات جديدة وتوجه واضح نحو القطرية، الأمر الذي ترك آثاره المباشرة على التعامل العربي مع القضية الفلسطينية، وعلى النظرة الأمنية لكل قطر عربي.
  • خامساً ـ الأردنيون والفلسطينيون محاصرون وهم المتضررون المباشرون من استمرار الأمر الواقع في النزاع العربي ـ الإسرائيلي.
  • سادساً ـ زيادة الاهتمام الأميركي بمسألة الاستقرار في الشرق الأوسط بعد حرب الخليج، وهو الاستقرار المستند إلى تسوية النزاعات ومعالجة جذورها، وليس الاستقرار المبني على احتواء الأزمات وإدارتها كما كان يجري حتى وقت قريب. إن هذا التطور في مفهوم توطيد الاستقرار نشأ عن عاملين:
  • أولهما: انتهاء حقبة الحرب الباردة ودخول العالم حقبة جديدة تشير كل الدلائل أن التنافس فيها سيكون بالدرجة الأولى اقتصادياً وعلمياً وليس عسكرياً كما كان الحال في الحقبة التي انتهت.
  • وثانيهما: نتائج حرب الخليج وما أكدته من ضرورة توفير الاستقرار ليس في دول النفط فقط بل وفي جوارها أيضاً. وجذور النزاعات في دول الجوار متنوعة، فمنها السياسي ومنها الاقتصادي ومنها العرقي ومنها الطائفي، وفي كل الأحوال يقف النزاع العربي ـ الإسرائيلي والقضية الفلسطينية في مقدمتها.

كل هذه الأحداث والتطورات وما أدت إليه من تفاعلات دولية وإقليمية أدت في النتيجة إلى محصلة هامة هي تجديد العمل والمساعي من أجل إيجاد تسوية سلمية للنزاع العربي ـ الإسرائيلي، فكانت المبادرة الأميركية ـ السوفياتية لعقد مؤتمر سلام للشرق الأوسط. وهكذا يتلاقى العرب مع العالم عند رغبتهم ومصالحهم لحل النزاع العربي ـ الإسرائيلي بالطرق السلمية.

وقبل المضي في الحديث عن هذا التلاقي وعناصره واحتمالاته، دعوني أستعرض معكم بسرعة تطور الموقف العربي إزاء السلام مع إسرائيل على صورة أحداث متوالية بدأت في نوفمبر تشرين الثاني عام 1967 حينما قبلت دولتان عربيتان ممن خاضت الحرب مع إسرائيل قرار مجلس الأمن 242 الذي يدعو إلى السلام وعدم جواز احتلال أراضي الغير بالحرب. والدولتان هما الأردن ومصر. وبعد حرب أكتوبر تشرين الأول 1973 صدر قرار مجلس الأمن 338 الذي نص في أحد بنوده على العمل لتنفيذ قرار 242 وقبلته سوريا لتنضم بذلك إلى الأردن ومصر. وفي عام 1979 عقدت مصر اتفاقية سلام مع إسرائيل. وفي عام 1982 أجمع القادة العرب في قمة فاس ومنهم منظمة التحرير الفلسطينية على القبول بالتسوية السلمية للنزاع العربي ـ الإسرائيلي ولحل القضية الفلسطينية. وفي عام 1988 أعلن المجلس الوطني الفلسطيني التاسع عشر مبادرة فلسطينية للسلام على أساس وجود دولتين على أرض فلسطين واحدة هي إسرائيل والثانية دولة فلسطين. وقبلت المنظمة بقراري مجلس الأمن 242 و338.

وأود التأكيد هنا على مسألة هامة تتعلق بالقرار 242، فقد قامت المشاورات التي سبقت اتخاذه على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام، وشارك الأردن في هذه المشاورات مع الدول الكبرى وبخاصة الولايات المتحدة وفي صياغة القرار على هذا الأساس، وقد أثيرت فيما بعد قضية التداخل في خطوط الهدنة، ومن أبرز مظاهرها تقسيم هذه الخطوط لبعض القرى وحتى لبعض البيوت، وقد قبلنا بمفهوم التعديلات الطفيفة على أسس متبادلة من أجل معالجة عادلة لهذا التداخل.

فالموقف العربي إذن بكل دوله وأطرافه نادى بالسلام وقبل بحل النزاع العربي ـ الإسرائيلي والقضية الفلسطينية بالطرق السلمية، وقد تبلور هذا الموقف بشكل متدرج ابتداء من قبول الأردن ومصر لقرار مجلس الأمن 242 لعام 1967 وانتهاء بمبادرة السلام الفلسطينية عام 1988 والتي حظيت بتأييد عربي وعالمي وتبعها حوار رسمي بين الولايات المتحدة ومنظمة التحرير الفلسطينية في تونس.

وخلال هذه الفترة لم تنقطع مبادرات السلام والمساعي الدولية إليه. وها نحن هذه الأيام نتعامل مع مبادرة سلام أخرى. فما الجديد في الأمر؟ إن الجديد في الأمر قد نشأ عن جملة حقائق أهمها:

  • أولاً: جدّية الإدارة الأميركية الحالية في مساعيها ومواقفها للتوصل إلى سلام. ويشير إلى هذا خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش أمام الكونغرس في 6 مارس آذار الماضي ومقتضيات المصالح الأميركية والدول الصناعية في منطقة الشرق الأوسط، والزيارات السبع التي قام بها حتى الآن وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر لدول المنطقة خلال الأشهر الستة الأخيرة، ومضمون المحادثات التي أجراها مع الفرقاء وكتب التطمينات التي تسلموها منه، وموقف الرئيس الأميركي الأخير من كفالات القروض التي طلبتها إسرائيل من الولايات المتحدة لاستخدامها في استيعاب المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفياتي.
  • وثانياً: تحول الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة من طرفين متناكفين يعمل الواحد منهما على تعطيل مساعي الآخر للسلام، تجسيداً لحالة التنافس التي كانت سائدة بينهما في الإطار العالمي، إلى شريكين متعاونين لإحلال السلام.

لقد أسهمت هاتان الحقيقتان في توفير فرصة التلاقي بين الجانب العربي والجانب الدولي المؤثر لاستئناف مسعى سلام أكثر جدية مما سبقه من محاولات مماثلة.

أما فيما يتعلق بالعناصر التي تكون إطار عملية السلام، فلا شك أنكم على معرفة بها، من خلال متابعتكم عبر وسائل الإعلام المختلفة، لنتائج المباحثات التي أجراها وزير الخارجية الأميركي مع كل طرف من الأطراف في أعقاب كل زيارة قام بها للمنطقة، وكذلك من خلال التصريحات التي أدلى بها كل فريق حول هذا الموضوع.

ومع ذلك، أرى من المفيد أن أعرض عدداً من العناصر الهامة التي تشكل الإطار العام لمؤتمر السلام:

  • أولاً: ستجري مفاوضات السلام في مسارين:

الأول: مسار فلسطيني ـ إسرائيلي.

والثاني: مسار عربي ـ إسرائيلي، وذلك من خلال لجان ثنائية تشكل لهذه الغاية.. إذ سيكون هناك لجنة سورية ـ إسرائيلي، ولجنة لبنانية ـ إسرائيلية، ولجنة أردنية ـ فلسطينية مشتركة ـ إسرائيلية.

وبهذه المناسبة أود أن أعيد تأكيد موقف الأردن من المشاركة الفلسطينية. إن الأردن الذي اتخذ قرار فك الارتباط عام 1988 يفضل أن تتم المشاركة الفلسطينية على أساس لجنة إسرائيلية ـ فلسطينية، أي أن يذهب إلى المؤتمر وفد فلسطيني مستقل. ولكن الأردن لا يمانع في أن يشكل مظلة للوفد الفلسطيني ويذهب إلى المؤتمر في وفد أردني ـ فلسطيني مشترك إذا كان ذلك سيساعد على انعقاد المؤتمر، وإذا وافقت القيادة الفلسطينية على هذا الإجراء.

  • ثانياً: ستبحث قضايا إقليمية ذات اهتمام مشترك لدول المنطقة في لجنة ثالثة موسعة تشارك فيها بالإضافة إلى أطراف المفاوضات الثنائية دول أخرى من المنطقة ومنها دول مجلس التعاون الخليجي. ومن هذه القضايا: حل مشكلات البيئة والمياه وتقليص أسلحة الدمار الشامل وتحقيق التوازن الاقتصادي والاجتماعي بين شعوب المنطقة من خلال برامج تنمية مشتركة شاملة.
  • ثالثاً: سيكون قرارا مجلس الأمن 242 و338 هما الأساس الذي سيعقد عليه المؤتمر والأساس الذي ستجري عليه المفاوضات، وسينعقد المؤتمر برعاية الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وستمثل فيه دول السوق الأوروبية بممثل عن رئاسة السوق، كما ستمثل فيه الأمم المتحدة بمندوب عن الأمين العام وسيقوم الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة باطلاع الأمين العام للأمم المتحدة على سير المفاوضات.
  • رابعاً: ما يتوصل إليه المتفاوضون من اتفاقيات ترد في النهاية إلى الأمم المتحدة.
  • خامساً: يترأس الوفد الأردني ـ الفلسطيني المشترك أردني، غير أن الفريق الأردني في الوفد هو الذي يبحث في البعد الأردني، بينما يقوم الفريق الفلسطيني في الوفد ببحث البعد الفلسطيني وستوفر المحادثات الثنائية لكل من الفريقين الأردني والفلسطيني فرصة طرح كل القضايا المركزية التي تشكل موضع اهتمام كل منهما.
  • سادساً: ستتاح للأردنيين والفلسطينيين، كما لسائر الأطراف، فرصة قيام كل فريق بالإدلاء ببيان واف يتضمن آراءه ومواقفه.
  • سابعاً: لأي طرف في المؤتمر حق إثارة أي موضوع أو مشكلة يرغب في إثارتها، ولا يحق لأي طرف الاعتراض على أي شخص يحضر أو أي شيء يقال. وعليه، فإن أي موقف عربي أو فلسطيني يمكن عرضه بكل القوة والوضوح ودون أي تحفظ.
  • ثامناً: البعد الفلسطيني في المفاوضات هو الوحيد الذي سيبحث في مرحلتين: الأولى مرحلة الاتفاق على عناصر المرحلة الانتقالية. والثانية مرحلة الاتفاق على الحل النهائي. وهناك ترابط بين المرحلتين يتمثل ببدء المفاوضات على المرحلة الثانية في السنة الثالثة من تنفيذ المرحلة الأولى وستشمل مفاوضات الحل النهائي موضوع القدس العربية التي ينطبق عليها قرار مجلس الأمن 242 انطباقه على الضفة الغربية المحتلة.
  • تاسعاً: إن الإطار المرجعي لإجراء مفاوضات المرحلة الأولى لن يؤثر أو يحكم مسبقاً على الطريقة التي ستتبع لحل المشكلات ذات الصلة بالمرحلة اللاحقة، أي مرحلة الحل النهائي، وهذا مبدأ أساسي.
  • عاشراً: قرار 242 كما تفهمه الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والعالم ينطبق على سائر الأراضي العربية التي احتلت في حرب 1967 بما فيها القدس العربية.

وقرار 242 بالنسبة لهذه الجهات يستند إلى معادلة الأرض مقابل السلام وانتهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية. أما وضع القدس النهائي بالنسبة للموقف الأميركي فيتقرر بالمفاوضات على أن تكون القدس غير مقسمة كما كانت قبل حرب 1967.

  • حادي عشر: أكدت الولايات المتحدة للأردن بأنها ستبذل وسعها لإنهاء المفاوضات المتعلقة بالفترة الانتقالية خلال عام واحد. وهذا يعني أنه ليس من المستبعد أن نشهد بعد عام واحد من بداية المفاوضات بداية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي في الوقت الذي يبدأ فيه الأخوة الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة ممارسة مسؤولياتهم في حكم أنفسهم.

هذه هي أبرز ملامح مؤتمر السلام المقترح. وكما يلاحظ فإن فيها مبادئ عامة أساسية مثل التمسك بمعادلة الأرض مقابل السلام وانطباق قرار 242 على سائر الأراضي العربية المحتلة بما فيها القدس، وفيها بعض التفصيلات وبخاصة فيما يتعلق بالمشاركة الفلسطينية.

وكما ذكرت، فقد رحبنا بهذه المبادرة ومنذ إطلاقها لاستنادها إلى الشرعية الدولية. وقد التقيت مع وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر في كل جولة زار فيها الأردن، وقمت بعدة اتصالات مباشرة مع الرئيس بوش نفسه، وعبرت في كل اتصال أجريته مع الرئيس ووزير خارجيته عن موقفنا من عناصر المبادرة وعن تأييدنا للسلام المتحقق عن مفاوضات مقبولة والمستند إلى المبادئ الدولية المتعارف عليها، وكما تعلمون فقد وافقت كل الأطراف العربية المعنية على المشاركة في مؤتمر السلام المقترح بما في ذلك منظمة التحرير الفلسطينية.

ويسرني في هذا المجال أن أعرب عن بالغ ترحيبنا بقرار المجلس الوطني الفلسطيني العشرين، بالنسبة لمؤتمر السلام.

لقد كان بحق قراراً إيجابياً مسؤولاً جسد المستوى الرفيع الذي يتمتع به الأخوة ممثلو الشعب الفلسطيني على صعيد الممارسة الديمقراطية والوعي العميق والوفاء لقضيتهم ولشعبهم الذي أولاهم ثقته، فكانوا محل تقدير المسؤولين في هذا العالم، إذ أكدوا مصداقيتهم بفتحهم الباب أمام الجهود المبذولة للتوصل إلى سلام عادل ولحل قضيتهم بالطرق السلمية.

أيها الأخوة والأخوات،

إننا في مفترق طرق تصنعه معطيات وحقائق وطنية وقومية ودولية، متصلة، كما بينت في كلمتي هذه، بكل أردني هنا وبكل فلسطيني في الوطن المحتل وخارجه، معطيات تؤثر في وجودنا ومستقبلنا كدولة ومجتمع وشعب، وتنعكس على مفردات حياتنا الوطنية والقومية ابتداء من التعامل مع مشكلة الشاب العاطل عن العمل إلى وجودنا الوطني ومن ورائنا أمننا القومي، وتتطلب قراراً تاريخياً بالمشاركة في مؤتمر السلام، الذي من شأنه في حالة نجاحه، أن يمكننا من تحويل هذه المعطيات إلى إيجابيات تنقلنا من حال إلى حال، من حال المزاج المكتئب النابض بحس النكبات، إلى حال المزاج المزدهي بالأمل والانفراج، ومن حال المجابهة وما رافقها لما يزيد عن أربعة عقود من معاناة وقلق وآلام وما طبع حياتنا الفردية والجماعية خلالها من مواقف وعواطف ونمط تفكير، إلى حال السلام وما يعد به من أمن واستقرار وفرص نماء وازدهار على صعيد الفرد والمجتمع سواء بسواء، ومن حالة اللاحرب واللاسلم وما يرافقها من استمرار للأمر الواقع وازدياد في شروره الأكيدة، إلى حالة الاطمئنان وراحة البال التي تزهر فيها مواهب وآمال الشباب، وتتفجر في ظلها طاقات العطاء والإبداع.

وعليه، فنحن في الأردن وعلى خلفية وعينا الكامل للحقائق والموازين الدولية والإقليمية، وعلى ضوء المعاناة الكبيرة للشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة وما يتعرض له من سياسات قمعية وتهديد متصاعد لوجوده على أرضه نتيجة الهجرة والاستيطان، وتأثر الأردن المباشر بكل ما يجري هناك، سنشارك في مؤتمر السلام، حماية لأنفسنا، وإنقاذاً لوطننا وأبنائنا، وتحقيقاً لانخراطنا في حياة طبيعية عادية، ووقفاً لاستنزاف قدراتنا وقوانا، وعوناً للشعب الفلسطيني المناضل، الذي تحمل حتى الآن ما تعجز الكتب عن وصفه والإحاطة به.

باختصار، هذا هو قرارنا الذي نتخذه من أجل سلام عادل يجدد فينا الأمل، ويضع حداً للأمر الواقع الذي إذا استمر، سيواصل قضمنا قطعة قطعة إلى أن يأتي علينا ولات ساعة مندم. ولن نكون بعون الله ممن قال عنهم الشاعر العربي:

ولا يعرفون الشر حتى يصيبهم   ولا يدركون الأمر إلا تدبّرا

فلنصح لأنفسنا، ولنلجم نزعة تدمير الذات في تفكيرنا ووجداننا، ولنتوقف عن الانجراف في المزايدة والأوهام، ولنتق الله في وطننا وأطفالنا، وحاضرنا ومستقبلنا، ولنتحمل المسؤولية ولا نتهرب منها باسم تركها للأجيال القادمة. ولنتذكر أن غالبية الأردنيين والفلسطينيين ليسوا ممن يمتلكون ترف المقامرة على انتظار المجهول.

[.......]

 

المصدر: "الدستور" (عمان)، 13/10/1991.