كلمة وزير الخارجية السوفياتي بوريس بانكين، مدريد، 1/11/1991
Full text: 

(...) اسمحوا لي أن أطرح أمامكم بإيجاز رؤيتنا لعناصر محورية لعملية السلام على أساس ما طرحه الرئيس غورباتشوف.

أولاً: ينبغي أن تتمخض المفاوضات عن حل وسط تاريخي بين العرب وإسرائيل ليترك وراءه ما يفصل الآن بين الأطراف المتنازعين من الخلافات النفسية والإقليمية والقومية. وينبغي أن يضمن لكل الدول والشعوب في الشرق الأوسط الحق في السلام والوفاق وإمكان البقاء ضمن الحدود المعترف بها دولياً والآمنة للجميع، ولا يجوز استثناء أحد، لا الفلسطينيين ولا إسرائيل. إن معادلة حل وسط تاريخي بين العرب وإسرائيل تتضمن الفكرة الأساسية والهدف الرئيسي للتسوية، ومن شأن تحقيقها أن يصبح مع ما نسترشد به في مسيرتنا وفي الوقت نفسه محوراً للاتفاقات المقبلة حول إقامة السلام الوطيد والشامل والعادل.

إن هدفاً كهذا لا يمكن تحقيقه إلا على أساس الاتفاقات المقبولة لدى الجميع في شأن مسألة الأراضي في هذا النزاع وفي شأن جوهر النزاع ألا وهو المشكلة الفلسطينية. وقد يكون هناك رأيان في هذا الموضوع. إن قرار مجلس الأمن 242 الذي وضع أساساً لمؤتمرنا يتضمن مبدأ مبادلة الأرض بالسلام، وينطبق هذا المبدأ على كل الجبهات بما فيها الضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة ومرتفعات الجولان. إن إعادة هذه الأراضي إلى مالكيها الشرعيين ستمكن من تحويل الحدود بين الدول إلى جسور للتمازج والتعايش وإزالة العقبة الرئيسية أمام إنهاء حال الحرب وإقامة السلام.

ثانياً: ينبغي في إطار عملية التسوية أن يوضع حد للمأساة المعمرة التي امتدت عقوداً وهي مأساة أربعة ملايين من الفلسطينيين. إن المشكلة الفلسطينية هي مصدر أول ورئيسي للهزات التي فجرت الوضع في المنطقة أكثر من مرة وجعلت العالم كله يهتز. وواضح أن المشكلة الفلسطينية إنما ترسبت فوقها المسائل المعقدة الكثيرة التي لا يمكن أن تزاح كلها دفعة واحدة، وقد دلت خطابات المشاركين في المؤتمر على أن حلها يمر بالمراحل الانتقالية قبل أن يصل الأمر إلى التسوية النهائية. إلا إن مما لا شك فيه أن الفلسطينيين لهم الحق في أن يقرروا مصيرهم وهو الحق الذي نص عليه ميثاق الأمم المتحدة بمثابة الحق الطبيعي لأي شعب من الشعوب. ويتلخص الأمر في أن يجري الطرفان بما يستوجب الأمر من المسؤولية وحسن النية مفاوضات في شأن طريقة تحقيق هذا الحق، وذلك بمراعاة الواقع الملموس في الضفة الغربية وقطاع غزة. وعندي إن صيغة المفاوضات التي يقترحها الراعيان للمؤتمر تفتح الطريق أمام حلول واقعية لهذه المشكلة بمراعاة المصالح لكل من الفلسطينيين وإسرائيل.

ثالثاً: ينبغي إيجاد الحل المناسب والمقبول لدى الجميع لمسألة القدس. إن موضوع هذه المدينة يرتبط به كل المشاكل المطروحة وأظن أن البحث عن قاسم مشترك لمواقف الأطراف من هذه المسألة يتطلب وقتاً طويلاً وعملاً دؤوباً وتحلياً بالصبر والأناة والتجاوب في هذا الوضع البالغ الحساسية. إن أنظار كل مؤمن، مسلماً كان أم مسيحياً، مشدودة إلى المساجد والمعابد والكنائس المقدسة، ولا بد من أن يولوا كل المشاعر اهتمامهم.

رابعاً: ينبغي ضمان تنفيذ القرار 425 لمجلس الأمن في شأن لبنان.

خامساً: مع ما باشرناه من تحرك نحو السلام والاستقرار في الشرق الأوسط لا يجوز أن نترك جانباً مسألة إقامة التعاون الشامل في المنطقة، فلا يمكن ضمان الأمن الحقيقي للجميع ولأي واحد إلا بواسطة علاقة من الثقة والتفاهم المستمد قوته من الأواصر الوثيقة والتطور المشترك. وقد اتفق على أن يبدأ بناء الوفاق الشرق الأوسطي في الوقت الذي هبط مستوى الثقة المتبادلة في المنطقة إلى ما تحت الصفر، وكم هي صعبة وواسعة النطاق والمضمون تلك المشاكل التي يتوجب حلها من أجل بدء المسيرة في الطريق نحو السلام الوطيد العادل. وأقصد قبل كل شيء سباق التسلح بلا قيد أو حد، إذ تمثل منطقة الشرق الأوسط مثالاً حياً يدل على أن التراكم بلا حدود لترسانة الأسلحة الفتاكة لا يستنفد الموارد المادية للدول فحسب بل يعزز التفكير العسكري الثأري الخطير، مما يحول المنطقة إلى حقل للألغام. ولا شك في أن أحداثاً معروفة كانت مثالاً سوياً لظاهرة التسلح المفرط في أبعاد أخرى. هناك مشاكل أخرى من القضايا الإقليمية العامة في الشرق الأوسط ولا يمكن حلها إلا من خلال جهود مشتركة. فمثلاً إن شعوب منطقة الشرق الأوسط تعرف أكثر من غيرها أهمية الماء وقيمته للإنسان، ولا يستطيع بلد واحد فقط أياً كان أن يحتفظ بموارد مائية على أساس جهوده المنفردة. ولا يجوز أن نهمل مشكلة الإرهاب التي تقلق كل عائلة عربية وإسرائيلية وممارسات غير إنسانية لاختطاف الرهائن والتي لا تزال تشكل قنبلة تهدد عملية التسوية في الشرق الأوسط. إن خطر تقويض البيئة الطبيعية المحيطة وتدهورها لا يعرف الحدود الرسمية بين الدول، فلنذكر أنه في أثناء أزمة الخليج خرج خطر الكارثة الأيكولوجية من إطار المنطقة التي اندلع فيها النزاع، ويصعب تصور مستقبل الشرق الأوسط من دون إقامة تعاون اقتصادي متكافئ متبادل المنافع، وإذا بقيت المنطقة مشطورة بعدم الثقة والمنازعات والمواجهات بينها لن تستطيع اللحاق بالسياق العام لتطور العالم المعاصر والذي تتعزز فيه المكاشفة والتعاون الواسع. أليس هذا من العوامل التي من شأنها أن تحفز دول المنطقة على توحيد جهودها؟ إنها مشاكل ينبغي أن تعالج إلى طاولة المفاوضات إذا أردنا أن يستبدل بالحقد وعدم الثقة حل وسطي تاريخي بين العرب وإسرائيل.

أيها السيدات والسادة، إن هذا المؤتمر على وشك أن ينتهي ومواقف الدول طرحت وحددت، وأمامنا الآن مرحلة التفاوض وصوغ الاتفاقات الثنائية والمتعددة الطرف التي من شأنها أن تضمن تحقيق تسوية شاملة وفقاً للقرارين 242 و338 لمجلس الأمن. فلنكن واقعيين لأن هذه الاجتماعات ليست سوى فرصة للخروج نحو التسوية، وعلينا أن نتعامل معها بالحذر لئلا نتعثر ونخفق. وإنني أحض ممثلي الأطراف كافة على إبداء أقصى حد من التجاوب البناء إلى طاولة المفاوضات وكذلك الاستعداد لمراعاة المصالح فيما بينهم، إنه أضمن طريقة مجردة نحو الحلول المقبولة للجميع.

لهذا السبب من المهم أن ينتقل المشاركون مباشرة بعد الاجتماعات العامة إلى مناقشة المسائل الملموسة في إطار لجان العمل الثنائي. إننا على اقتناع بأن الأمر يستوجب أن يتم ذلك هنا في مدريد حفاظاً على ما قد أنجز من المقدمات. إن تعدد الجوانب لعملية سلمية في الشرق الأوسط وشموليتها يستوجبان بإلحاح الانتقال السريع إلى مناقشة المسائل المتعلقة بتنظيم المفاوضات المتعددة الطرف.

أما بالنسبة إلى طابع الاتفاقات المقبلة، فينبغي أن يحدده الأطراف المعنيون وهو يلقي مسؤولية كبيرة على عاتق الجميع. إن المفاوضات تحتاج إلى لفتات تدل على حسن النيات ولا شك في أن من بين هذه اللفتات المقنعة جداً لنكون مستعدين لحوار جاد أن يوقف بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة. أعتقد أنه في هذا المجال سيجد العرب اقتراحات مناسبة في مقابل ذلك. وأود أن أؤكد أن الاتحاد السوفياتي بصفته أحد الرئيسين يحرص على المساهمة مساهمة فعالة في تنقية أجواء المؤتمر من أجل التوصل إلى اتفاق. إني متأكد من أن علاقة الثقة والصدقية المتبادلة التي أقيمت مع شريكنا الرئيسي الآخر للمؤتمر الولايات المتحدة من شأنها أن تساعد على ذلك. ولو سارت الأمور على هذا النحو، في إمكاننا القول إن أيام مدريد الثلاثة ستدخل في تاريخ الشرق الأوسط بمثابة نقطة انطلاق للمرحلة الجديدة ومرحلة السلام الدائم والوطيد. وعندنا أن الحال الجديدة للأوضاع في المنطقة ستوفر لشعوب الشرق الأوسط ضمانات للمستقبل الذي يليق بها ويستحق أمجاد ماضيها العظيم.

إن المنطقة التي أهدت إلى العالم أبجديته الأولى وثلاثة أديان عالمية ومنجزات في علم الرياضيات والفلك والطب وإبداعات الفن والثقافة والإعمار والأدب الرفيع هي المنطقة التي كانت منذ زمن بعيد منطقة طرق تجارية وينبغي أن تتحول من ساحة للعداء والتضارب والإرهاب إلى ساحة للتعامل الدولي المثمر والتعاون والسلام (...).

 

المصدر: "النهار" (بيروت)، 2/11/1991. وقد ذكرت الصحيفة أنها أخذت مقتطفات من الكلمة.