كلمة ممثل المجموعة الأوروبية وزير الخارجية الهولندي هانس فان دن بروك، مدريد، 30/10/1991
Full text: 

[....] يشرفني، في الواقع، أن أتحدث نيابة عن المجموعة الأوروبية وأعضائها الاثني عشر [....] إنها أول مرة نشهد فيها مختلف الأطراف المعنية بالنزاع العربي ـ الإسرائيلي والقضية الفلسطينية تجلس في مؤتمر مؤكدة التزامها التوصل إلى تسوية عادلة وشاملة ودائمة.

منذ عام تقريباً [....] كان معظمنا، ولا شك، يعتقد أن عَقْد مثل هذا المؤتمر مستحيل. لكن هذه أزمنة حبلى بالتحديات والوعود. إن الأطراف المعنية، بالتزامها غير المسبق تجاه السلام، قد وصلت إلى هذا الموعد مع التاريخ. فلنأمل، إذاً، بأن يشكل هذا اليوم على وجه التأكيد منعطفاً في تاريخ الشرق الأوسط.

وليس هذا الوقت وقت تقليب صفحات الماضي، فلنضعها وراء ظهورنا إذ إن الماضي كان دوماً ملآناً بالصراع والشكوك والتطلعات المحبطة. إننا نعرف أن من السهل علينا أن نكيل التهم من خزان المرارة التي خلفها الصراع. لكن دعونا ننفذ إلى قلب الأمور فنركز على الدرس الأكثر أهمية الذي لقّنه الماضي لنا. إن فرصة السلام هذه أثمن من أن تضيع، فربما لن تسنح مرة أخرى في حياتنا. يجب عدم الالتفات إلى الوراء [....] نحن اليوم نسير على طريق نحو شرق أوسط يختلف عن ذلك الشرق الذي عرفناه. إن إعادة الشرعية في الخليج شجعتنا جميعاً على البحث، في كل مكان، عن السلام القائم على حكم القانون. وما زال الطريق طويلاً، لكن هدف السلام لم يعد مجرد سراب يُرى بين الأرض والسماء؛ فلقد أصبح واقعاً حياً، وفي متناولنا.

إن الدول الإثنتي عشرة تحيّي حكمة وشجاعة الأطراف المعنية مباشرة: إسرائيل، وسوريا، والأردن، ولبنان، والفلسطينيين. فكل من هذه الأطراف قد تخطى الصعوبات من أجل الوصول إلى هنا، كما تغلب على ردات فعل مترسبة، وأزاح عن نفسه الشكوك.

إنه لمن دواعي الإكبار لهم جميعاً أن كل هذا تم تجاوزه من أجل تحقيق الهدف المشترك الأكبر. وفي رأينا إنه لأمر جوهري تماماً أن نحافظ على الالتزام الذي ظهر اليوم، وأن نبني الثقة من خلاله في الأيام والأشهر المقبلة.

إن الأعضاء الإثني عشر يرحبون بمشاركة مصر، ويعلقون على هذه المشاركة أهمية خاصة.

إن معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر كانت خطوة أولى مهمة، ودلت على أن الالتزام والإقدام من جانب الطرفين يمكن أن يحققا نتائج ملموسة. وهاتان الصفتان متجسدتان أمامنا اليوم، فلنبنِ على أساسهما.

كما نحيي مندوبي الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، ومندوبي الدول الأعضاء في الاتحاد المغاربي العربي، الذين يشاركون هنا بصفة مراقبين. ومن دعمهم للتسوية السلمية ودورهم البنّاء في توفير إطار إقليمي أوسع للسلام ـ وفي هذا المجال ترغب المجموعة في أن تتعاون معهم بصورة وثيقة ـ سنستلهم مزيداً من القوة لدفع العملية قدماً إلى الأمام.

إن وجود ممثل عن الأمين العام للأمم المتحدة يشكل تأكيداً على أن ما يوحدنا هنا اليوم هو المبادىء والضمانات التي يكرسها ميثاق الأمم المتحدة في عالم متغير كهذا. إن هذه المبادىء الأساسية هي الأساس الذي يقوم هذا النظام العالمي السلمي عليه. ونحن نؤمن إيماناً راسخاً بأن على الأمم المتحدة أن تؤدي دوراً مهماً في عملية السلام المقبلة.

أخيراً، فإننا نحيي الإدارة الأميركية التي ـ بمشاركة الاتحاد السوفياتي ـ  بذلت هذه الجهود التي جمعت شملنا؛ وهي جهود نجحت فعلاً نتيجة هذا التعاون البنّاء الجديد بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، تعزيزاً للسلام في مختلف أنحاء العالم. ومنذ البداية، أعطت الدول الإثنتا عشرة تأييدها الكامل لمبادرة السلام. إن ثبات وزير الخارجية السيد بيكر، وطاقته التي لا تعرف الكلل، ومهارته الفائقة، قد طبعت الإدارة الأميركية في سعيها لهذا الهدف؛ فهذا إنجاز رائع يستحق أن يتوَّج بالنجاح. إن هذه الحكمة والشجاعة والمثابرة والمرونة هي التي جمعتنا كلنا اليوم، وهي التي يجب أن نحافظ عليها خلال هذه المفاوضات. قد يكون هناك بعض الصعوبة بالنسبة إلى هذه العملية، ولذلك فإننا نحتاج إلى تحرك مبكر لبناء الثقة، وتدابير أخرى من أجل تعزيز الثقة؛ إن هذا لأمر حيوي.

إن الدول الأعضاء في المجموعة الأوروبية، الممثلة هنا برئاستها، تشارك في عملية السلام من خلال هذه الروح، وتساهم مساهمة وثيقة إلى جانب الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. ونحن نشاطر اهتمامهما القوي بإنجاح هذه المفاوضات، وفي إمكانهما الاعتماد على مشاركتنا البناءة في مختلف مراحل عملية المفاوضات.

إن الدول الإثنتي عشرة تعتبر، وبأهمية بالغة، أن هذه الأطراف قد التزمت نهج هذا المؤتمر والمفاوضات المباشرة على أساس القرارين رقم 242 ورقم 338، في مسار مزدوج بين الإسرائيليين والفلسطينيين من جهة، وبين إسرائيل وجيرانها العرب من جهة أخرى.

إن المفاوضات السياسية يجب أن تُعزَّز بمفاوضات متعددة الجوانب في شأن التعاون الإقليمي في مجالات الاهتمام المشترك. نحن، وبالتالي، نتطلع إلى العمل بصورة وثيقة مع الأطراف كافة، ضماناً للتقدم على هذه الأسس، ونظراً إلى القرب الجغرافي والتراث التاريخي المشترك، والعلاقات الكثيفة على شتى الصُّعُد، سواء أكانت سياسية أم ثقافية أم اقتصادية أم إنسانية، مع شعوب منطقة الشرق الأوسط. فالمجموعة الأوروبية والدول الأعضاء فيها مهتمة اهتماماً قوياً، وعن كثب، بمستقبل هذه المنطقة التي تتقاسم معها كثيراً من المصالح. ونحن مصممون على المشاركة في عملية بناء السلام.

إن المبادىء التوجيهية للدول الإثنتي عشرة، طوال عملية المفاوضات، هي نفسها التي أيدت حكمة موقفنا، ولن تتغير. وهذه المبادىء هي: قرارا مجلس الأمن رقم 242 ورقم 338؛ مبدأ الأرض في مقابل السلام؛ حق دول المنطقة كافة، بما في ذلك إسرائيل، في العيش ضمن حدود آمنة ومعترف بها؛ ممارسة الشعب الفلسطيني لحق تقرير المصير. إن مواقفنا من القضايا الخاصة في الأراضي المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية، مواقف معروفة أيضاً.

في رأينا، لا بد من أن تشمل التسوية الشاملة هذه المبادىء، لكننا لا نستطيع أن نملي كيفية تقرير تطبيقها عملياً. وما هو جوهري الآن، في بداية هذا المؤتمر، هو فتح الطريق للتحرك على أسس جوهرية. وهذا، في رأينا، هو السبب في أن اعتماد إجراءات بناء الثقة أمر حيوي؛ إذ إن الثقة ستساهم مساهمة أساسية في إيجاد مناخ الاستقرار الذي يحتاج تقدم المفاوضات إليه. وفي رأينا أن وقف أنشطة الاستيطان الإسرائيلية في الأراضي المحتلة هو فعلاً مساهمة جوهرية، وكذلك إلغاء المقاطعة الاقتصادية العربية لإسرائيل.

وبالنسبة إلى الوضع القائم في الأراضي المحتلة، فمن المهم أن يتحلى الطرفان الآن بضبط النفس، وأن تمتثل إسرائيل لأحكام اتفاقية جنيف الرابعة. ونحن نتطلع إلى تحسن ملموس في الوضع السائد في الأراضي المحتلة، وذلك حتى قبل تنفيذ الترتيبات الموقتة أو غيرها من الترتيبات.

إن الإسراع إلى التحرك على المسار المتوازي للمفاوضات، فيما بين إسرائيل وجيرانها العرب، أمر لا غنى عنه. ويشكل التقدم نحو سلام دائم بين إسرائيل والأردن وسوريا حجر زاوية لنجاح عملية السلام الشاملة. والكثير مرهون بالإنشاء المبكر لقاعدة الثقة المتبادلة. ولا يسعنا إلا أن نشدد على أنه لا بد من أن تتفاوض الأطراف المعنية، وأن تتفاوض فعلاً، في شأن تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242 بحسن نية. ولا بد من أن يساهم التقدم في إعادة استقرار لبنان وسيادته، وفي تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 425. وإذ نتقدم إلى الأمام من خلال مسار مزدوج، فإن التقدم يحتاج إلى دعم من التعاون الإقليمي الذي سيؤتى الثمار العملية والملموسة للسلام. ومن البديهي أن التعاون الإقليمي لا يمكن أن يسير أسرع من التحرك نحو التسوية السياسية، إلا إن القضيتين السياسية والإقليمية يجب أن تتزامنا، وأن تعزز كل منهما الأخرى. إن المجموعة الأوروبية والدول الأعضاء فيها، نظراً إلى الروابط الوثيقة التي تربطها بالأطراف المعنية كافة، تتعهد بتقديم مساهمات عملية ونشيطة لإحراز تقدم في هذا المجال المهم للتعاون الإقليمي.

إن مجموعات العمل المتعددة الأطراف، التي ستشكَّل لهذا الغرض، يجب أن تبدأ عملها في أقرب وقت ممكن. وهناك حاجة، بالتالي، إلى نهج جسور وخلاّق. وسنقدم أفكارنا الخاصة بنا، وسنشارككم خبراتنا في هذا الصدد، وذلك لمصلحة كل الشعوب في الشرق الأوسط.

إن إنشاء شبكة من المصالح الاقتصادية المتبادلة فيما بين الأطراف، وتوثيق التعاون مع المجموعة الأوروبية وسائر العالم، سيساعدان في انحسار خطر النزاع. وكل ذلك يتطلب مشاركة أوسع، وهذا هو السبب في أن المجموعة الأوروبية ستعمل على إشراك دول الإفتا، واليابان، وطبعاً دول مجلس التعاون الخليجي، وغيرها، في إطار التعاون الاقتصادي الأوثق.

وعلاوة على ذلك، فإننا نتطلع إلى اقتراحات الأطراف ذاتها. ونحن نعرف أن الأفكار موجودة، وسنتصل قريباً بالأطراف لمناقشتها. غير أن التعاون الإقليمي لا بد من أن يكون أعمق وأوسع؛ فعناصر العملية التي بدأ بها مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي يمكن أن تشكل نموذجاً، إذ إنها تظهر أن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.

ففي أثناء أعوام الحرب الباردة، تمّ الاتفاق في هلسنكي على المبادىء التي تحسّن العلاقات بين الدول وبين المواطنين. وقد تحولت هذه المبادىء والالتزامات، التي تم التعهد بها لتنفيذها، بالتدريج إلى معايير للسلوك بالنسبة إلى الحكومات، ومصدر إلهام بالنسبة إلى المحكومين. وهي اليوم مقبولة عالمياً كإطار تمارس داخله الدول المشاركة شؤونها الداخلية والدولية. كما أن مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي وافق على مجموعة من التدابير الأمنية وبناء الأمن والثقة التي تحولت، مع مرور الزمن، إلى شبكة من ترتيبات الرقابة على التسلح؛ وقد أثبتت جدواها في أوروبا، وهذا ما ينقص الشرق الأوسط وهو في أمس الحاجة إليه.

طبعاً إن أوروبا ليست الشرق الأوسط. غير أننا نعتقد أنه يمكن الاستفادة من بعض الدروس والتجارب من مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي. إن الطريق طويل وصعب، لكن نأمل بأن نجد أنفسنا، في النهاية، أمام خريطة للشرق الأوسط مختلفة وجديدة.

ومن أبرز معالم هذه الخريطة، دول تعيش في سلام بعضها مع بعض، وتلبي حاجات الأمن الشرعي للجميع، حيث الشعوب تشارك في صنع مستقبلها، وحيث هناك إيماء بحياة جديدة للمنطقة ككل، وخصوصاً للفلسطينيين الذين كانوا الضحية الرئيسية للنزاع العربي ـ الإسرائيلي.

[.......]

 

المصدر: من وثائق المؤتمر.