Chomsky, Deterring Democracy
Reviewed Book
Full text: 

            تبعث قراءة كتاب نوعام شومسكي الأخير في النفس مشاعر أقرب ما تكون إلى القلق والكآبة. أية صورة تلك التي سيكون العالم عليها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة؟ ينطلق شومسكي من ملاحظة مهمة هي أن هناك عدم تكافؤ صارخاً في النظام العالمي: النظام الاقتصادي تتنافس في زعامته ثلاث كتل رئيسية؛ أمّا النظام العسكري، فالولايات المتحدة الأميركية تكاد تكون هي القوة الوحيدة ذات الإرادة والقدرة على استعمال القوة على الصعيد العالمي. إن القوة العسكرية غير المدعومة بقوة اقتصادية نظيرة تظل وسيلة ذات آفاق محددة لفرض الهيمنة والتفوق. إنها تطلق العنان للمغامرة والسعي للزعامة، استناداً إلى مصدر واحد للقوة، مع ما يحمله ذلك من نتائج كارثية.

إن لرؤى شومسكي ما يبررها، وجاءت نتيجة متابعة طويلة وتحليل دقيق للسياسة الأميركية الخارجية، وبصورة خاصة تجاه "العالم الثالث". إن مواقفه الحازمة من المبادىء الخفية التي حكمت هذه السياسة، وكذا جهده المثابر في كشف الغطاء عن النخبة الإعلامية والأكاديمية الليبرالية في الغرب، لموقفها المهادن والتبريري لنزعات السيطرة والتحيز لأمر معروف. إن شومسكي في كتابه – محل المراجعة – يطرق المسالك ذاتها التي تناولها في أعماله السابقة. لكن ما يميز هذا العمل الأخير هو الجمع على نحو شامل، مكثف وقاطع الحجة والتأثير، لأفكار كان طرحها بمناسبات مختلفة.

              هناك نقطة يثيرها شومسكي باستمرار، تتصل بمسألة استخدام اللغة في غير مدلولاتها الحقيقية في الديمقراطيات الغربية والمجتمعات المتقدمة – بمقاييس العصر – على طريق الكاتب البريطاني جورج أورويل. اني لست على معرفة تامة بنظريات شومسكي في علم اللغات، وهي نظريات تحظى بتقدير رفيع على المستوى العالمي، إلا إن شومسكي بدا في كتابه الأخير نبيّاً أو داعية، يطيح كل مفردات اللغة المعروفة في الاصطلاح السياسي الغربي، والتي يجري قبولها الآن على نحو واسع لا يحتمل النقاش. من ذلك مثلاً استعمال: “preserving order”, “Incouraging democracy”, “Freely elected government” عندما يتعلق الأمر بدول تسرح فيها قطعان السلطة المتخصصة بالقتل والتصفية، كما في إلسلفادور أو غواتيمالا أو إسرائيل. إنها مفردات تمت استعارتها، ولا شك، من مبادىء ويلسون بشأن الحرية، ومن منظوره الخاص بـ"التدخل البريء وغير المدفوع بنزعة أنانية عدا الرغبة في جعل الشعوب تتحسس مزايا السلام والاستقرار، بعد أن أعيتها الثورات المتلاحقة"!

              ثمة حادثة تروى عن وفد سوفياتي زار الولايات المتحدة الأميركية قبل "غلاسنوست". تجوّل الوفد في عرض البلد وطوله، إلا إن أكثر ما شد انتباه أعضائه، عقب مطالعاتهم الصحف ومتابعتهم النشرات الإخبارية على شاشة التلفاز، هو ذلك التطابق في آراء الأميركيين بشأن القضايا الأساسية في "مجتمع حر". تساءل أعضاء الوفد: من أجل تحقيق ذلك في بلدنا كان لا بد من فرض دكتاتورية الحزب، وسجن عدد من الناس، وأحياناً تعذيبهم. كيف أمكنكم تحقيق ما أنتم فيه من دون أي من هذا كله؟

              إن ملاحظة شومسكي الأساسية، في كتابه هذا، تبدو مريرة وصعبة التصديق على الكثيرين. إن السيطرة على عقول الناس في المجتمعات الحرة الأكثر تقدماً في الغرب من قبل الدولة، تتم بفعالية وبآليات أكثر حذقاً وتطوراً من مجتمعات التسلط الواضح والاستبداد الفجّ. إن فبركة الرأي العام والوفاق الشعبي صنعة ناجحة في المجتمعات الغربية، تتولاها أجهزة رفيعة الحرفة في الدوائر الاستخبارية والإعلامية ودوائر العلاقات العامة بما يخدم مصالح أهل الحكم. إن إحدى المسائل المستعصية على الفهم التي أثارت اهتمام مفكري القرن السابع عشر، وبينهم الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم، هي السهولة التي ترضخ الأغلبية فيها لأقلية حاكمة. وفي رأي هيوم، أن القوة هي إلى جانب الحاكم، وهي الوسيلة التي اعتمدها تاريخياً لتشكيل الرأي العام بما يخدم مصلحته، سواء في أنظمة الطغيان العسكري أو في الأنظمة الحرة والشعبية. إن تشخيص هيوم الثاقب جرى إحياؤه – في رأي شومسكي – في المرحلة المعاصرة بحلة جديدة مؤداها أن السيطرة على عقول البشر وأفكارهم هي أكثر أهمية في المجتمعات الشعبية منها في الأنظمة العسكرية، والقائمة على الطغيان. أما المنطق وراء هذا، فهو بسيط: إن دولة الطغيان قادرة على التحكم في أعدائها الداخليين بالقوة، أمّا عندما تفقد الدولة مثل هذا السلاح، فإنه يصبح من اللازم استنباط وسائل أخرى تضمن استبعاد "الجماهير الجاهلة" عن التدخل في القضايا العامة التي هي ليست من شأنها. ومع تقدم الزمن، أضحت هذه هي السمة الأساسية للسياسة المعاصرة، وللحياة الثقافية السائدة في المجتمعات الغربية.

إن تصعيد المواجهة، والسعي نحو الهيمنة، والتدخل على الساحة الدولية، ظلت هي السياسة الثابتة للولايات المتحدة الأميركية. وهي مكرسة لخدمة أصحاب الحظوة من أرباب المصالح الصناعية والتجارية، ممن يحكمون القبضة ويضعون الاستراتيجيات الكونية للسيطرة على العالم. ولا غرابة، إذاً، أن يجري إقرار العديد من مشاريع التدخل في ظل إدارة الرئيس "الليبرالي" جيمي كارتر، أو أن يتربع في البيت الأبيض رئيس رمزي من إنتاج مكاتب العلاقات العامة، وظيفته الابتسام وقراءة the teleprompte بصوت رخيم، مثل رونالد ريغان.

لقد سعت الولايات المتحدة، على الدوام، لتبرير سياساتها تحت عناوين مضللة؛ من ذلك: مواجهة الخطر السوفياتي، والوقوف في وجه التطرف القومي والتعصب الديني في دول العالم الثالث، ومحاربة الإرهاب الدولي والتجارة بالمخدرات، والحفاظ على سلامة الرعايا الأميركان. أمّا الدوافع الحقيقية فهي في سجلات الوثائق السرية التي يقتبس شومسكي منها الكثير. وهو يعرض بشيء من التفصيل الدور الأميركي في أميركا الوسطى، وخصوصاً في نيكاراغوا. غير أنه، مع ذلك، لا يغفل عن ساحات أخرى في جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط، ويفرد فصلاً خاصاً للتدخل الأميركي الأخير في أزمة الخليج والحرب مع العراق.

إن دور العالم الثالث كما حددته استراتيجية الولايات المتحدة الأميركية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (والمرسومة في وثيقة “The Grand Area”) هو خدمة حاجات الدول الصناعية. ويعبّر أحد مصممي هذه الاستراتيجية عن ذلك بالقول: "إن حماية مصادرنا، في أميركا اللاتينية أو أية بقعة أخرى، يجب أن تكون همنا الأساسي. ولمّا كان الخطر يكمن في مواقف السكان المحليين، فإنه لا بد من الاعتماد على حكومات محلية قوية تستند إلى قوة البوليس، والخيارات في النهاية تحددها مصالحنا. إن إقامة أنظمة قوية تظل أفضل من إقامة أنظمة ليبرالية سرعان ما يخترقها الشيوعيون." وللشيوعية، في المصطلح السياسي الأميركي، معنى خاص يشمل كل التشكيلات الشعبية، من سياسية أو نقابية، ذات الأولويات الخطأ. أمّا تلك الأولويات فإن أخطرها على المصالح الأميركية هو ما حددته وثيقة سرية أخرى على النحو التالي: "قيام أنظمة ذات توجه قومي استقلالي، ترضخ للضغوط الشعبية من أجل إجراء تحسين فوري في المستوى المعيشي للسكان، وتسعى لتنويع الاقتصاد."

إن السياسة الأميركية القائمة على التدخل في العالم الثالث، كمصدر للطاقة والمواد الأولية، مرشحة للزيادة في ضوء انتهاء الحرب الباردة واحتمالات تفاقم الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة الأميركية، حيث معدلات النمو الاقتصادي هي الأقل بين الدول الصناعية السبع، وحيث يتوقع أن يزيد حجم الديون الخارجية مع نهاية السنة الحالية على تريليون دولار أميركي.

إن الصورة القاتمة لمستقبل النظام العالمي ذي الرأس الواحد، في التسعينات التي يرصدها شومسكي بتحليل موسوعي دقيق، يصعب ضحدها. إن البيانات والوثائق التي يعتمدها متوفرة لأي باحث مهتم بمعرفة ما وراء الاعتقاد الشعبي الزائف الذي يقدمه المسيطر على إيصال الخبر ومصدر المعلومات. وفي مراجعة لأحد الكتب الصادرة حديثاً، اقتبس الكاتب البريطاني غودفري هودغسون، مؤخراً، ما يلي: "إن هناك أمرين يحتاج الإنسان إليهما كي يكون رئيساً عظيماً للولايات المتحدة: الأول أن عليه أن يشن حرباً، والثاني أن عليه أن يجد حرباً يكون فيها هو المعتدى عليه." ويعلق هودغسون: "مع اجتياز جورج بوش هذا الاختبار يصبح ريساً عظيماً مرتين، يا للهول، أين كنت أنا عندما قامت بنما والعراق بغزو الولايات المتحدة؟".

ثمة نقطة أخرى يثيرها شومسكي في أكثر من موضع في الكتاب، تتعلق بضحايا سياسة التدخل الأميركي من ملايين السكان في دول العالم الثالث الذين يمنحهم السخاء الأميركي الخيار بين الموت جوعاً، أو الموت بقنبلة، أو الموت على يد فرق التصفية للأنظمة الدكتاتورية التي يدعمها. إنه خيار ممنوح في ظل المسدس، لهذا "الصنف الدوني" من البشر الخارجين على القانون، "قانوننا نحن لا قانونهم طبعاً." ويبدو شومسكي هنا خُلُقي النزعة على درجة عالية من الحساسية الإنسانية، أكثر منه محللاً؛ فهو يرفض السكوت عن انعدام العدالة القائم في النظام العالمي، أو الاستسلام لمنطق القوة والنفاق السائد في الدوائر السياسية والثقافية الغربية. إن شومسكي بذلك صوت فريد وسط ركام عال من الهمجية والتضليل.

 

Author biography: 

عباس شبلاق: باحث متخصص بالقضية الفلسطينية, جامعة الدول العربية