ميزة هنري لورنس أنه كتب ونشر أول تركيب زمني للتاريخ الدولي لدول الشرق العربي في النصف الأخير من القرن العشرين.
تنتظم هذه الدراسة في ثمانية فصول كثيفة تعطي نظرة عامة. وهذه الأجزاء المختلفة غير مقطعة، إذ تتداخل زمنياً (الفصول 3 و4 و6 و7) من دون أن تؤدي بالقارىء إلى الارتباك؛ فالصفحات الخمسون الأولى، المخصصة للقرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، مبررة كل التبرير لفهم الموضوع الذي ينطلق من نهاية الحرب العالمية الثانية. كما أن العودة إلى الوراء لإلقاء نظرة على السياسة الفلسطينية فوراً، قبل الخوض في نشأة منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964، كانت ضرورية. وإذا كان التصميم العام للكتاب لا يتطابق مع ترتيب تصنيفي للحقب، إلا إن في إمكان القارىء أن يستخلص تطورين كبيرين على الأقل: "زمن الثورات" (الموضوع الرئيسي للفصل الثالث)؛ وحقبة "الحفاظ على الدول العربية وتمتينها" (الفصلان 4 و5 وما يليهما).
المفيد في كتاب هنري لورنس أنه يدمج الصراع العربي – الإسرائيلي ونتائجه في استراتيجية كل من الفرقاء المحليين.
تعتمد دينامية الكتاب على استعمال المؤلف لانبعاث الفكرة الوحدوية العربية في القرن العشرين، إذ يوفَّق في التذكير بالسوابق التاريخية (العروبة التقليدية، والعروبة الإسلامية، والعروبة التاريخية)؛ فالوحدة العربية، وهي مطلب جميع التيارات الوطنية والإسلامية، تشكل الموضوع الذي يتردد دائماً في الخطب السياسية في الشرق الأدنى. وقد استخدمت الحكومات كلها، أكانت جمهورية أم ملكية، هذا المثال للمحافظة على الدول الإقليمية التي تحكمها. فالمشاريع (ونذكر على سبيل المثال طموحات الملك عبد الله)، والقوانين، ومؤتمرات القمة، والوحدة الاندماجية بين الدول (وحدة مصر وسوريا خلال 1958 – 1961 التي شكلت الجمهورية العربية المتحدة)، ما هي إلا ترجمة لإرادة الوحدة العامة إلى الواقع.
يقوم هنري لورنس بمجابهة المثال الوحدوي بالقضية الفلسطينية فيشرح، طوال 400 صفحة، كل كانت القضية محرك الوحدة العربية وعامل تفرقه في آن واحد.
لقد اعتبر الأعضاء المؤسسون لجامعة الدول العربية، حين إنشائها في آذار/مارس 1945، غياب التسوية بين اليهود والعرب في فلسطين واحداً من هدفين ذوي أولوية. وقد تبنّت الدول العربية طوال عشرين عاماً، متحملة بذلك مسؤوليات إضافية، قضية فلسطين في غياب منظمة فلسطينية أو دولة فلسطينية. لكن، في أوائل الستينات، كان إثبات هوية فلسطينية متباينة عن القومية العربية من بعض ما أدى إلى المواجهة سنة 1967. إذ كانت الوحدة العربية تبدو مهمشة أكثر من أي وقت مضى عشية حرب حزيران/يونيو. يقول هنري لورنس: "في حزيران/يونيو 1967، نعبر من إسرائيل والرفض العربي إلى فلسطين والرفض الإسرائيلي." ومنذ ذلك التاريخ بدأت العروبة، التي شكلت الأساس الأيديولوجي لعدد من الأنظمة العربية، تفقد وهجها من دون أن تختفي كلياً، وذلك في مصلحة التيارات الإسلامية (راجع الفصل السابع: "العروبة في أزمة"). وما إنشاء قوات الردع العربية سنة 1976 لحل المشكلة اللبنانية، ومشروع ميثاق صدام حسين العربي سنة 1980، إلا هبّتان لا طائل فيهما. ويأتي إنشاء مجلس التعاون الخليجي سنة 1981 ليؤكد تقديم الهمّ الاقتصادي على ما عداه.
وخطّ هنري لورنس لنفسه، ثانياً، محور تفكير أساسياً فيما يخص علاقة الدول العربية بالحداثة؛ فهذه الدول المكوّنة منذ زمن ليس ببعيد، عقب انهيار السلطنة العثمانية التي كانت تقدم لها هيكلية وحدة غريبة، لم تتمكن من الاستمرار إلا من خلال استراتيجية التوتر النابع من الصراع العربي – الإسرائيلي. وهنا يؤكد المؤلف أن الممثلين الإقليميين أصبحوا دولاً قوية ذوات أنظمة ديكتاتورية تحت وطأة هذا الصراع؛ إذ إن استحالة توقيع السلام مع إسرائيل، سنتي 1949 و1950، دفعت هذه الدول إلى مضاعفة قوة جهازها العسكري عشرين أو خمسين مرة خلال الأعوام الأربعين الأخيرة. وما يطرحه لورنس دلالة على أن الصراع مع إسرائيل كان في أُس خيار الدول العربية لتنمية قواها العسكرية على حساب قواها الاقتصادية. والاستثناء اللبناني الوحيد يؤكد هذا الرأي بكونه مثالاً مضاداً فاضحاً.
إن الفصل المخصص للصراع العربي – الإسرائيلي سنة 1948 (الفصل الثاني) يذكّر القارىء غير المطلع أو يعْلمه بوجود حرب فلسطينية أولى كانت قد سبقت الحرب التي بدأت في 15 أيار/مايو 1948، ويظهر اتفاقات الهدنة لسنة 1949 ومحاولات مؤتمر لوزان المنسي.
وفي الفصل الثالث يظهر لورنس أنه ليس فقط اختصاصياً بالحملة على مصر والقرن التاسع عشر المصري؛ فقضية قناة السويس تبقى إحدى النقاط المميزة في الكتاب. أما الفصل السابع، "العروبة في أزمة"، فيخرج قليلاً عن سرد الوقائع ليحلل التيارات الإسلامية في السبعينات (ما عدا الوهابية) بوصفها "شكلاً جديداً لأفكار العالم الثالث."
إن المؤلف، باختياره الحقبة المدروسة وتطبيقه المنهجية المستخدمة، قد جعل كتابه هذا كتاب تاريخ ومسرداً زمنياً منطقياً في آن واحد؛ إذ إن في الكتاب مادة دسمة للتأمل، سواء بالنسبة إلى الاختصاصيين أو بالنسبة إلى الطلاب أو القراء العطشين إلى المعرفة. فهو يأتي بتركيب نادر وثمين بين الكتب المنشورة باللغة الفرنسية. ومنهجية المؤلف تعتمد على وثائق ضمّن النص أجزاء كبيرة منها. أما من الناحية الشكلية، فما يؤسف له عدم التمييز في الطباعة بين نص الكاتب ونص الوثائق، وغياب لائحة بالوثائق كان من شأن توفرها أن يمكّن من إيجاد الوثائق بسهولة أكبر، وخصوصاً أنها عديدة ومتنوعة: قرارات مجلس الأمن؛ مراسلات؛ خطب؛ مواثيق؛ خرائط؛ اتفاقات؛ مؤتمرات؛ رسائل. ونرى أن الكتاب يحتاح إلى بعض الحواشي التفسيرية إلى جانب التوضيحات المتعلقة بتعابير الشرق الأوسط، والشرق الأدنى، والعروبة. ويمكننا أن نقترح للطبعات المقبلة إضافة فهارس خاصة بالموضوعات والمواقع الجغرافية (خصوصاً عندما يكتشف القارىء أهمية مضائق تيران ومياه نهر الأردن في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي)، مع اعترافنا بأن فهرس الأعلام ومجموعة الخرائط تكملة ممتازة للتوثيق. أما فهرس المراجع، المستند إلى مؤلفات فرنسية وأميركية وبريطانية، فيبدو مقتضباً بالنسبة إلى الحقبة المدروسة، وهو في الحقيقة أقرب إلى أن يكون نقدياً من أن يكون شاملاً، لكنه يجنب القارىء بعض الشطط.
غير أن لورنيس يذهب إلى أبعد من اللوحة الشاملة للوقائع، فيطرح مشكلة التنافس الدولي في الشرق العربي. وقد نلومه على نقص في تكوين المفهوم، لكن هذا لم يكن هدف المؤرخ. فمن خلال التاريخ السياسي لمصر والسعودية وغيرهما من البلاد، يصف المؤلف "القوى العميقة" التي تحرك العلاقات الدولية؛ إذ إن ما يحدد وجهة هذه العلاقات هو التطورات الديموغرافية والاقتصادية، ناهيك بالعلاقات بين السياستين الداخلية والخارجية. فالضعف الديموغرافي في السعودية دفع هذا البلد إلى تنمية تسلحه، في حين أن النمو الديموغرافي الصاعق في مصر لم يؤد بها إلى العكس. أما في لبنان، فاقتسام السلطة يستند إلى توزيع طائفي يمكن للنمو الديموغرافي أن يقلبه. والمؤلف يأخذ بعين الاعتبار ظاهرات الهجرة، وهو يغفل تماماً التاريخ الاقتصادي من دون إخفاء موضوع النفط، فيتبسط في تنظيم سوق النفط في فترة ما بين الحربين، ويحلل "الذهب الأسود" كسلاح في الصراع العربي – الإسرائيلي. وقد طرحت هذه المسألة في مؤتمر قمة الخرطوم في آب/أغسطس 1967، وكان الرد رفض هذا الطرح من قبل الدول المنتجة للنفط كي تتمكن من تنمية اقتصادها، لكنها أيدت خلال حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 استعمال النفط سلاحاً. وقد أُعيد طرح هذه المسألة على الأنظمة الملكية في الخليج خلال الحرب الإيرانية – العراقية (الفصل الثامن). ولقد كان مستحباً لو قام المؤلف بتحليل السياسات المالية في الدولة العربية تحليلاً مقارناً ومنهجياً. أما العلاقة بين السياستين الداخلية والخارجية، فهي نقطة تتردد في الفصول كلها تقريباً: شواغل الرئيس الأميركي ترومان، واشتراكية عبد الناصر العربية، وتأثير الحزب الشيوعي في مصر، أمور لم تكن من دون تأثير في العلاقات السوفياتية – المصرية. وإن صعوبة الإمساك بتعقيد "الرأي العام العربي" من جهة، والهوة بين المحكومين والحاكمين من جهة أخرى، لا يسهلان دراسة السياسات الداخلية وتأثيراتها على الصعيد الخارجي وبالعكس. والدليل الأكبر في هذا المضمار هو مثال السادات.
إن خصوصية الصراع العربي – الإسرائيلي تكمن في خطر تدويله.
وقد حلّت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بالتدريج مكان الدول الأوروبية القديمة المنتدبة. إذ إنهما يتجاذبان، بالتناوب، الدول العربية التي تتمسك في الوقت ذاته بورقة عدم الانحياز. فالأزمات والحروب المختلفة تظهر تفاعلاً مستمراً بين الدول العربية والقوى العظمى الخارجية. وبصورة عامة، فإن حل الأزمات يمر باللجوء إلى التدويل. وقد أدى تعارض الجبارين إلى مجابهة مباشرة بينهما سنة 1973. وكانت الصورة التقليدية لتعارض الجبارين تتكرر على الصعيد الإقليمي بين الدول العربية. والمثال التام لهذا الوضع هو المواجهة بين عبد الناصر وفيصل في الستينات، إذ شكلت حرب اليمن قمة المواجهة بين الزعيمين، وجمدت متابعة الصراع العربي – الإسرائيلي، وعرضت جهود التصنيع المصرية للخطر. وهنا أيضاً يبرز بوضوح مأزق الدول العربية: كيف توفِّق بين حل للصراع العربي – الإسرائيلي وبين تنمية طاقاتها الاقتصادية.
وبكل تأكيد، لا يطرح هنري لورنس تفسيراً وحيداً لـِ"اللعبة الكبرى" بين القوى الإقليمية والخارجية. فالاستعانة بهذه العبارة التي استُعيرت من كيبلينغ تعطي، في نظر المؤلف، صورة للآلية التي تحرك تاريخ هذه المنطقة. وهكذا يتحقق التدويل عند كل مواجهة عسكرية. لكن تبقى نقطة ضعف هذه الدراسة المخصصة للشرق العربي: فهي لا تشمل السياسة العربية لكل من تركيا وإيران.
أخيراً، فإن كتاب هنري لورنس يشكل دليلاً ممتازاً للقارىء الذي يريد أن يطّلع على الصراع العربي – الإسرائيلي، أو يريد أن يفهم حرب لبنان، أو أن تكون له نظرة شاملة تجاه تدخل الدول الكبرى في الشرق الأدنى، أو أن يتفحص مختلف المشاريع (مشاريع جونستون وروجرز وريغان وفهد، إلخ). أما بالنسبة إلى الخبراء، فهذا الكتاب يُعدّ ذا أهمية تاريخية.
ماريان دوران – لاكاز
(نقلاً عن: REP, No. 39)