National Independence in the Arab World: The Case of the Palestinians
Keywords: 
منظمة التحرير الفلسطينية
تقرير المصير
الاستقلال
الوجود الفلسطيني في لبنان
النزاع العربي - الإسرائيلي
Full text: 

I  تحرك الشعب العربي نحو الاستقلال وتقرير المصير على امتداد عقود عدة عقب انهيار الإمبراطورية العثمانية وأفول نجم العصر الاستعماري. وقد مهَّد ذلك السبيل لظهور دول عربية مستقلة، بعد أن أفلحت مختلف الحركات الوطنية والاستقلالية في مصر والعراق وسوريا وغيرها من الدول العربية الحالية في تحقيق تقرير المصير الوطني لشعوبها.(1) لكن الاستقلال ظلَّ عزيز المنال بالنسبة إلى الفلسطينيين. فمع إنشاء إسرائيل سنة 1948، طُردوا من الأرض التي شكلتهم أمةً وحُرموا فرصة إقامة دولة لهم على تلك الأرض.

يمكن النظر إلى تاريخ الفلسطينيين منذ سنة 1948 باعتباره محاولتهم المستمرة لإعادة تكوين وجودهم الوطني. وقد كان إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964 وتشكيل "فتح" في أوائل الستينات مؤذناً بأول مسعى سياسي فلسطيني منظم لتحويل خسارة الفلسطينيين إلى حركة تحرر وطني قابلة للحياة. وعلى مدى 26 عاماً (1965 – 1991) دفع الفلسطينيون ثمناً باهظاً لاستمرار حركتهم وبقائها؛ ولقي كثيرون من القادة والمقاتلين وغير المقاتلين حتفهم من أجل ذلك. وقد انجرَّ الفلسطينيون إلى صراعات متعددة لم تواجهها أية حركة تحرر وطني أُخرى، مثلما يتبيَّن من نضالهم ضد إسرائيل، وصدامهم مع الحكومة الأردنية في فترة 1970/1971، والمعار0ك الكثيرة التي خاضوها في لبنان منذ سنة 1975، والأزمة التي خلّفها الاحتلال العراقي للكويت في فترة 1990/1991. وشُفعت المكاسب السياسية، في هذه الصدامات كلها تقريباً، بخسائر سياسية بحيث لم تأت النتائج على قدر التضحيات المبذولة لبلوغها.

لقد ظلت الحركة الوطنية الفلسطينية، لجملة من الأسباب لا حصر لها، غير قادرة على الاقتداء بنموذج سابقاتها من الحركات الاستقلالية العربية. وبقيت في جوهرها مثل حركة التحرر الفلسطيني قبل سنة 1948، حركة وطنية واقعة تحت الحصار. وقد بُذلت محاولات جريئة عدة، ومثلها محاولات أُخرى مغلوط في كحسبانها، لفك الحصار؛ وهكذا طبع القسم الأكبر من تاريخ هذه الحركة منذ سنة 1965 بهذه المحاولات المستمرة.

تحاول هذه الدراسة أن تبين كيف عُوِّق التحرك في اتجاه تقرير المصير الوطني الفلسطيني وإنشاء الدولة. ومن أجل استكناه طبيعة العقبات التي منعت الفلسطينيين من التوصل إلى إقامة دولتهم تُدرس وتحلَّل الفوارق بين النموذج المعتاد لحركات التحرر الوطني العربي وبين الحركة الوطنية الفلسطينية، مع الالتفات بصورة خاصة إلى كل من الطبيعة الفريدة للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، والشتات الفلسطيني، ووهن القاعدة الاجتماعية ـ الاقتصادية لحركة التحرر الفلسطيني، والانتفاضة. وسيجري أيضاً درس وتحليل آثار أزمة الخليج في الحركة الوطنية الفلسطينية.

II    إن في أساس الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي تنازعاً بين جماعتين تدَّعيان حقوقاً في قطعة أرض واحدة. وطبيعة هاتين الدعوتين المتناقضتين هي العقبة الكبرى التي تواجه الحركة الوطنية الفلسطينية، وهي أهم أسباب اختلاف سبيل هذه الحركة عن سواها من الحركات الاستقلالية العربية. فمنذ البداية لم تزل الصهيونية والحركة الوطنية الفلسطينية متضادتين تضاداً لا يقبل التسوية والتوفيق. الصهيونية ازدهرت في فلسطين بفضل موجة من الهجرة اليهودية التي استجرَّتها حوادث أوروبا إلى حد بعيد. وقد برز، على مدى عقود عدة، مجتمع يهودي قومي النزعة في فلسطين.(2) وبحلول سنة 1948، ونتيجة معاملة اليهود في أوروبا في إبان الحرب العالمية الثانية وما بذلته الحركة الصهيونية من جهود، بات الوضع - على الصعيدين المحلي والإقليمي - ملائماً لإنشاء دولة إسرائيل، وأفضى إلى خلق مشكلة اللاجئين الفلسطينيين الأولى.(3) وبعد سنة 1948 شرعت إسرائيل في سياسات تهدف إلى جعل المزيـد من الأراضي تحت سيطرتها، وتسهيل اجتماع شمل اليهود المقيمين في الشتات.(4) وقد كان ذلك إيذاناً ببدء عملية من شأنها تهجير المزيد من اللاجئين الفلسطينيين، وهو تهجير عنيف لم يعرفه أي مجتمع من المجتمعات العربية الأُخرى.(5)   ولما رأى الفلسطينيون عجزهم عن عكس مسار أعمال إسرائيل، تشبثوا بحلم العودة إلى أرضهم وتحريرها بالقوة. وتشكل رغبتهم هذه عائقاً رئيسياً آخر - وهو أن الصراع بينهم وبين إسرائيل يفترض حلاً يشتمل على انتصار أحد الطرفين على الآخر انتصاراً مطلقاً. وقد تحولت الطبيعة المطلقة للصراع (zero-sum) إلى عامل سلبي ساهم في إعاقة نمو الحركة الوطنية الفلسطينية.

ظهرت أوائل صور تنظيم الحركة الوطنية الفلسطينية، رداً على أحداث سنة 1948، في أواسط الستينات. وقد نسبت "فتح"، تحديداً، عجز الدول العربية عن تحرير الوطن الفلسطيني إلى الخلافات العربية وإلى الامتناع من استعمال الموارد المتاحة. ونظراً إلى انعدام أية سياسة عربية موحدة لتحرير فلسطين، حاولت "فتح" تحقيق واحد من سيناريوهين مبسَّطين ممكنين.

كان الأول منهما يتوقع أن يؤدي نشاط حرب العصابات المستمر ضد إسرائيل وعبر الحدود العربية إلى حمل إسرائيل على الرد الذي من شأنه أن يحرج الدول العربية ويكرهها على التدخل العسكري. وقد نُفِّذَ هذا السيناريو، جزئياً سنة 1967، لكنه أفضى إلى هزيمة الجيوش العربية هزيمة تامة، وإلى فقدان ما كان قد تبقى من فلسطين ـ أي الضفة الغربية وقطاع غزة.

وكان سيناريو "فتح" الثاني في جوهره خطة بديلة مبنية على احتمال إخفاق السيناريو الأول. فقد ذهبت المنظمة إلى أن انعدام الرد العربية الرسمي على الهجوم الإسرائيلي المضاد سيقود إلى تعبئة متزايدة للجماهير الفلسطينية والعربية التي ستقوم عندئذ بانتزاع المبادرة السياسية والعسكرية من أيدي الحكومات العربية. وقد سميت هذه النظرة إلى الأمور بالتفجير المتسلسل.(6) وقد حاولت الحركة الفلسطينية، خلافاً لحركات التحرر العربية الأخرى، حث القوى المدنية والرسمية والعسكرية الخارجية على الانخراط النشيط في دعم سعيها لتحقيق الاستقلال وتقرير المصير.

في الفترة الأولى من صحوة ما بعد سنة 1948، ركّز الفلسطينيون على الحقوق التي ضاعت في حرب 1948.(7) لذلك، كانت قاعدة الحركة الوطنية الفلسطينية ورؤيتها وتوقعاتها وسياساتها تختلف اختلافاً بيِّناً، منذ بداية فترة ما بعد 1948 حتى نهايتها سنة 1967، عن حركات التحرر العربية الأخرى ورؤيتها وتوقعاتها؛ فهي لم تكن تصارع قوة استعمارية تقليدية، كفرنسا أو بريطانيا، لا مطالب تاريخية لها في الأرض وتستطيع تالياً سحب إدارتها وقواتها إلى وطنها الأصلي. وفي النموذج المعتاد لحركات التحرر العربية، لم يكن النضال من أجل الاستقلال - في جوهره - لعبة تفترض إبادة أحد الطرفين،(8) بل كان الصراع يفضي عادة إلى تسوية واضحة طويلة الأجل تقضي بانسحاب القوة المستعمرة. وفي حين أن العرب الآخرين كانوا يستفيدون من تسويات كهذه لإنجاز استقلالهم، كان تضارب المصالح بين الفلسطينيين والإسرائيليين يخلق في حد ذاته وضعاً يواجه الفلسطينيون فيه صعوبة الاضطرار إلى تحديد فكرة الوطن على نحو مختلف. ذلك بأنهم كانوا أسرى صراع يستلزم إلغاء أحد النقيضين للآخر؛ صراع ينطوي على فكرة حق العودة - وهي فكرة تتعارض مع التصور الصهيوني لدولة يهودية قائمة على حق في العودة يؤدي إلى نفي الفلسطينيين وتهجيرهم.

إن السياسات الفريدة التي مارسها شعب آخر بحق الفلسطينيين في أرضهم عرضتهم لعوامل الضعف وجعلتهم غير واثقين بما سيسفر نضالهم عنه. فبينما كانت الحركات الاستقلالية العربية الأخرى أكثر تيقناً من نتيجة نضالاتها (مع استثناء ممكن للجزائر)، حُرم الفلسطينيون ترف هذه الثقة. ونظراً إلى ما يظهر من تضارب هذه المطالب والسياسات الإسرائيلية تضارباً لا علاج له، فقد شعر الفلسطينيون خلال المراحل الأولى من حركتهم الوطنية عقب سنة 1948بالقلق فيما يتعلق بمطالبهم وفيما يتعلق بتحقيق أهدافهم في ظل الأوضاع القائمة. فمن ذلك أن إصرار "فتح"، قبل سنة 1967، على أن الشعار القائل الوحدة تقود إلى فلسطين" قد يفضي إلى فقدان نهائي للحقوق الفلسطينية، إنما يعرب عن القلق الذي كان يساور الوطنيين الفلسطينيين يومها. فالواقع أن رفض "فتح" للتفكير الوطني التقليدي في مسألة فلسطين، أي ذاك الذي يولي الأولوية لتحقيق الوحدة العربية ويعدُّها شرطاً لا بد منه لاستعادة الحقوق الفلسطينية، إنما هو دليل على الإحساس بإلحاح المهمة الذي كان يحرك أولئك النشطاء الشباب.(9) وخلافاً لحركات التحرر العربية الأخرى، فقد نما هذا الشعور بالإلحاح من خشية الوطنيين الفلسطينيين أن يضطروا إلى الانتظار عقوداً كثيرة قبل أن تتمكن الأمة العربية الموحدة من دعم القضية الفلسطينية دعماً نشيطاً وفعالاً. وكان الوطنيون الفلسطينيون يخشون أن تقود الخلافات العربية والتراخي الناشىء عنها إلى إسباغ الشرعية على الدولة الإسرائيلية. فقد أكدت "فتح" أنه إذا لم ينتقل الفلسطينيون إلى الفعل سريعاً فإن الزمن سيساعد الصهيونية في خلق مجتمع قومي من خلال جمع شمل أعداد كبيرة من المهاجرين اليهود.(10) وفي حال حدوث ذلك، تصبح عودة اللاجئين إلى ديارهم أقل احتمالاً من ذي قبل. وهذا ما أثر في الفكر الذي أدى إلى انطلاق "الكفاح المسلح" في كانون الثاني/يناير 1965.

وفي حين أن حركات التحرر العربية كانت تتقدم في اتجاه أهدافها في خط مستقيم تقريباً، كان الفلسطينيون عاجزين عن تحديد أهدافهم بوضوح. فقد عرقلت الظروف الموضوعية التفكير الفلسطيني في القدرة على بلوغ "تحرير فلسطين تحريراً كاملاً." ذلك بأن أحداث سنة 1967 - احتلال باقي الوطن الفلسطيني (الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة) - عزَّزت كون الصراع يقوم على إلغاء أحد الطرفين للآخر، كما زادت في تشوش الآراء الفلسطينية بشأن الأهداف الوطنية.

وقد أدى الكثير من الخسائر والنكسات الأخرى، ولا سيما في الأردن بعد صدامات سنة 1970، إلى المزيد من الارتباك في تفكير الفلسطينيين، وإلى المزيد من إعادة النظر في الاستراتيجيات والأهداف: فهل ينبغي التركيز على الحقوق التي ضاعت سنة 1948، أم على تلك التي ضاعت سنة 1967؟ كيف يجب التعامل مع وجود 3 ملايين يهودي في إسرائيل؟ أمام الخسائر المتوالية وإنشاء المستوطنات  الإسرائيلية ومصادرة الأراضي الفلسطينية في الأراضي المحتلة، كان على منظمة التحرير الفلسطينية أن تكيِّف أهدافاً كانت تبدو واقعية وقابلة للتحقيق منذ مدة لا تزيد على خمسة أعوام. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية، التي تسودها "فتح"، قد أصبحت في فترة 1968/1969 منظمة شاملة تضم حركات التحرير الفلسطينية، وباتت فكرة دولة ديمقراطية يتعايش اليهود والمسيحيون والمسلمون فيها مقبولة.(11) إلا إن الهدف لم يكن واقعياً لأنه كان يفترض إدخال تغييرات جذرية في تركيب إسرائيل السكاني، وفي حياتها السياسية.

كان على منظمة التحرير الفلسطينية أن تقبل الانصراف عن هدف التحرير الكامل للتراب الفلسطيني (وهذا ما يقابله في النموذج المعتاد تحرير كل الأراضي التي تحتلها القوة المستعمِرة). وبعد نقاش عسير في فترة 1973/1974، وافق الفلسطينيون على إقامة سلطة وطنية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وبهذا العمل، كانت الحركة الوطنية الفلسطينية تتحول فعلياً، وإنْ ببطء وعناء، إلى حركة تطالب بتقرير المصير وإنشاء دولة ضمن الأراضي التي احتلتها إسرائيل سنة 1967.(12) إلا إن هذا الانتقال لم من المثالية إلى الواقعية قد قاومته داخل أجهزة منظمة التحرير الفلسطينية منظمات صغرى، كما قاومته تيارات كبرى داخل توجه "فتح" العام، بحيث باتت كل مبادرة سياسية جديدة بطيئة وعسيرة ومتأخرة. ومع ذلك، فإن هذا الانتقال لم يغير طبيعة الصراع بما هو صراع على الأرض؛ فقد ظل الفلسطينيون متنازعين بين التركيز على الحقوق التي انتزعتها إسرائيل منهم سنة 1948 وبين حقهم في تقرير المصير داخل الأراضي التي احتلتها سنة 1967. ولم يقدم ائتلاف حزب العمل [الإسرائيلي]، الذي ظل يسيطر على سياسات إسرائيل حتى سنة 1977، شيئاً غير تقاسم الضفة الغربية مع الأردن بحسب مشروع آلون. أما قيادة الليكود فقد ادّعت أن أرَ فلسطين كلها ملك مشروع للشعب اليهودي ولم تُولَ مطامح الفلسطينيين في الحالين أدنى اعتبار.(13)

III  نتيجة حرب 1948 وما تلاها من حؤول إسرائيل دون عودة الفلسطينيين الذين أُخرجوا من ديارهم، راحت الجوالي الفلسطينية تنمو في الأردن، والكويت، ولبنان، وسوريا، وفي غيرها من أقطار العالم. وقد كان تفرق شمل الفلسطينيين في حد ذاته عائقاً يعترض الحركة الوطنية الفلسطينية. كما أن حرب سنة 1967 أضافت 300,000 لاجىء فلسطيني جديد.(14) وكان نشوء مجتمعات الشتات الفلسطيني سمة أخرى تميز الحركة الوطنية الفلسطينية من سواها من حركات الاستقلال في العالم العربي. وقد أدت نتائجها إلى اختلافات أخرى عن النموذج المعتاد. إذ عرف الفلسطينيون المشتتون طيفاً واسعاً من الأوضاع الاجتماعية - الاقتصادية والسياسية، فضلا عن جملة من الأنظمة القانونية المختلفة باختلاف الدول التي كانت تحكم أوضاعهم: فقد ضم الأردن الضفة الغربية سنة 1949، ومنح سكانها الجنسية الأردنية، ثم خسر تلك الأراضي في سنة 1967. أما مصر، فقد أبقت قطاع غزة كياناً فلسطينياً منفصلاً إلى أن احتلته إسرائيل سنة 1967. وبينما كانت الجالية الفلسطينية في لبنان تعاني الشدة، كان الفلسطينيون في الخليج  يتمتعون بالرخاء والبحبوحة.(15)    

كانت حركات التحرر العربية، على اختلافها، تعتبر قدرتها على تعبئة قواعدها الجماهيرية ومواجهة مطالبها ضمن إطار جغرافي محدد أمراً مفروغاً منه. أما الوطنيون الفلسطينيون، فقد كان عليهم أن يضعوا سياسة للتعامل مع جوالي الشتات المبعثرة في عدد كبير من الدول. وكان عليهم أن يعالجوا قضايا ومسائل تعني الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، ولبنان، ودول الخليج ومنها الكويت - حيث كان هناك، حتى آب/أغسطس 1990، إحدى أغنى الجوالي الفلسطينية - التي أشرفت منظمة التحرير فيها على تعليم الفلسطينيين (بالتعاون مع الحكومة الكويتية) من سنة 1967 إلى سنة 1976، وتمتعت بصلاحيات لم تمنح لأية جالية غير كويتية.(16) وفي لبنان فتحت منظمة التحرير عدداً من المستشفيات والمدارس ودور الأيتام. أما في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعلى الرغم من بُعد المسافة بين قيادة الخارج وقيادة الداخل، ومن سوء الإدارة في التوزيع، فقد أنشأت المنظمة صناديق ووكالات للتعليم العالي، وتم بناء المؤسسات ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وقد استحدثت المنظمة عدة مؤسسات، وإنْ محدودة القدرة، لمعالجة مسائل الشتات الملحة.(17)  

وقد كان على المنظمة أيضاً أن تعالج مسألة تمثيل الفلسطينيين. ففي حين أنها كانت تحظى بتأييد فلسطينيي الأراضي المحتلة (الذين وجدوا فيها حامياً سياسياً من المحاولات الإسرائيلية لطمس الحقوق الفلسطينية)، أضحى الوضع في الأردن مختلفاً بعد صدامات فترة 1970/1971؛ فالصاع بشأن من هو فلسطيني ومن هو أردني وتَّر العلاقات كثيراً بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية: هل يجب أن يعدَّ الأشخاص المتحدرون من أصل فلسطيني والحاملون جوازاً أردنياً والمقيمون في الأردن (وهم أكثر من 60% من سكان الأردن) فلسطينيين وأن يتمثلوا، لذلك، في منظمة التحرير الفلسطينية؟ لقد كان هؤلاء الأشخاص أردنيين في نظر الأردن، أما المنظمة فقد اعتبرتهم في جملة من تمثِّله. ثم إن المنظمة عادت فقلَّلت، في علاقاتها المباشرة بالأردن، من شأن هذه المسألة، توصلاً إلى تمثيل الفلسطينيين المقيمين في الأراضي المحتلة وأولئك المقيمين خارج الأردن. وهذه أيضاً مسألة قلَّما واجهتها حركات التحرر العربية الأخرى.

إن تشتت الفلسطينيين كان يعني أيضاً تشتت قيادتهم. وقد أثر ذلك طبعاً في قدرة القيادة على التواصل مع المجتمع الفلسطيني؛ فمن ذلك أن أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني وغيرهم من أعضاء المؤسسات الفلسطينية الأخرى يقيمون في دول عدة. ثم إن القيادة باتت أبعد مسافة بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982 وانتقال مقرها إلى تونس. ولذلك، فقد ضعفت قدرتها على معالجة الكثير من مشكلات جوالي الشتات الفلسطيني، كما أنها باتت تعاني سيطرة عدد متزايد من البيروقراطيين غير الكفاة. وهكذا غدت الحاجة إلى التفاعل والنقاش بين أعضاء قيادة حركة التحرر الفلسطيني المبعثرين عبئاً يستلزم جهوداً فائقة.(18)  

وعلاوة على ذلك، فإن تعدد الدول التي تؤثر في الشتات الفلسطيني أصبح عنصراً مكبلاً للحركة الوطنية الفلسطينية. فعلى سبيل المثال: إن إغلاق مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، وإعادة فتحها بصورة مفاجئة أيضاً، في الأردن سنة 1986 وفي سوريا سنة 1984 وفي مصر سنة 1987، لدليل على هشاشة أوضاع حركة التحرر الوطني الفلسطينية. فالعمل المعتاد للمؤسسات الفلسطينية أو للاتحادات النسائية أو الطالبية أو العمالية يمكن أن يحظر فجأة من قِبل البلد المضيف، لكن ما أن تتحسن العلاقات السياسية بالبلد المضيف حتى يسمح لهذه المؤسسات والتجمعات بالعمل مجدداً. الباب مفتوح إذاً أمام الضغوط والتحكم من قِِبل الدولة التي تقدم إلى منظمة التحرير الفلسطينية في تمكين العراق من التحكم في موقف منظمة التحرير الفلسطينية خلال أزمة الخليج. ذلك بأنه من الصعوبة بمكان أن تكون فريقاً بلا دولة في لعبة تشارك دول العالم فيها، كما أن الانتماء إلى حركة تحرر مبعثرة تعالج مشكلات شعب مشتت لهو أمر أشد عسراً.

IV  كانت قوة القاعدة الاجتماعية - الاقتصادية من العوامل الحيوية في حركات التحرر العربية. فقد أمدّتها بالدعم والموارد والقوة وبحسّ الاستمرار في مواجهة التدابير القاسية التي كانت تفرضها سلطات الاحتلال. وقد منح ذلك كله هذه الحركات ضرباً من الاستقلال الذي تحتاج إليه لوجودها ولانتصارها.

أما في حالة الفلسطينيين فإن مخيمات اللاجئين في لبنان، التي صارت حتى سنة 1982 بمثابة المركز السياسي والثقافي والعسكري شبه المستقل للحركة الوطنية الفلسطينية، كثيراً ما كانت مصدر ضعف للفلسطينيين. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية تتلقى الدعم وتستمد مواردها من الفلسطينيين المنتشرين في أنحاء الشتات ولكن قاعدتها الاستراتيجية كانت في مخيمات اللاجئين في لبنان. ومن سخرية الأقدار أن طبيعة هذه المخيمات نفسها، لا سيما ضيق رقعتها الجغرافية، كانت تعني أن منظمة التحرير الفلسطينية منفية بمعنى ما، لافتقارها إلى بعض الموارد المهمة. وقد أثرت هذه الحال في استقلالها، وزادت المشكلات الأمنية والتنظيمية تفاقماً.

وقد حملت هذه القيود والحدود الجغرافية منظمة التحرير الفلسطينية على توسيع قاعدة عملياتها، لكن سواء أجاء عمل المنظمة هذا من قبيل الدفاع عن النفس أم من قبيل ضمان مواقع أفضل، فقد وجدت المنظمة نفسها في حال صراع مستمر على الأراضي اللبنانية. فمن ذلك أن قدرة المنظمة على انتزاع إدارة شؤون المخيمات، التي كانت لم تزل حتى سنة 1969 تحت سيطرة الحكومة اللبنانية، شكلت تحدياً لسلطة الدولة اللبنانية ولتفردها المطلق بحق استعمال القوة على أراضيها. وقد اعتبرت الدولة اللبنانية ذلك تدخلاً في شؤون البلد الداخلية. وقد كانت الحكومة اللبنانية تخشى أيضاً الغارات الانتقامية الإسرائيلية وما قد تستجره هذه الغارات من عواقب على التوازن الداخلي الطائفي الدقيق في البلد. لذلك راحت الصدامات، منذ سنة 1969، تتكرر بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية.(19) وقد أتاحت المواجهات المسلحة للفلسطينيين الفرصة لتوسيع قاعدة عملياتهم في اتجاه الجنوب وفي اتجاه المناطق المتاخمة لمخيمات اللاجئين.

أدى توسع منظمة التحرير الفلسطينية (في لبنان) إلى ردة فعل من قِبل قوات الكتائب الموالية للحكومة، وإلى تورط منظمة التحرير الفلسطينية في الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت سنة 1975.(20)  وقد أدارت المنظمة مع حلفائها من اللبنانيين مناطق كاملة من لبنان، وكانت مسؤولة عن تمين الغذاء والمحروقات والخدمات للمناطق الواقعة تحت سيطرتها.(21)   وفي الوقت نفسه، خاضت المنظمة وحلفاؤها معارك ضارية ضد القوات السورية وحلفائها سنة 1976. يضاف إلى ذلك أن حلفاء المنظمة من الحركة الوطنية اللبنانية بدأوا يطالبون بمزيد من التنسيق، فزادوا الأوضاع تعقيداً. وقد تنامى تخوف الحركة الوطنية اللبنانية من الوجود الفلسطيني القوي والمسيطر في كثير من الأحيان. وبحلول أواخر صيف سنة 1976، كانت إسرائيل قد أفلحت في زرع أسباب الشقاق والاحتكاك في الجنوب اللبناني. ثم أوجدت قوة لبنانية مقاتلة في الجنوب اللبناني معزِّزة أمن مناطقها الحدودية. وفي سنة 1978، وبعد اجتياح إسرائيل الكثيف للجنوب اللبناني، أُرسلا قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام.(22)  

كانت منظمة التحرير الفلسطينية تحارب في لبنان على أكثر من جبهة واحدة: ضد الإسرائيليين والكتائبيين والسوريين وحركة أمل.(23) وبحلول سنة 1980 كان لبنان يتساءل عن الحكمة في كونه مقراً لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ذلك بأنه بات غير قادر على تحمل مسؤولية كونه البلد العربي الوحيد ذا الجبهة المفتوحة على إسرائيل. وهكذا، واجهت منظمة التحرير عقبة أُخرى في وجه وجودها ونشاطها.

لقد طرح وجود منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان أسئلة عدة: كيف يمكن لحركة وطنية أجنبية متركزة في مخيمات اللاجئين في لبنان ـ وطرف في حربه الأهلية ـ أن تتوقع كسب حرب استقلال أو تحرير ضد بلد آخر يحتل أراضيها؟ كيف يمكن لحركة وطنية فلسطينية أن تتوقع الفوز في حين أن مواردها وقواعدها الاجتماعية ـ الاقتصادية لا تضاهي بأية صورة من الصور موارد وقواعد خصمها الراسخ القواعد والمتحكم في موارد وافرة وفي الأرض التي يسعى الفلسطينيون لتحريرها؟

في المرحلة الأولى كانت هذه الحركة قد أملت بأن يعينها التدخل العسكري العربي على استعادة أرضها السليبة. وفي المرحلة الثانية كان خيارها الوحيد، بسبب الحرب الأهلية اللبنانية، أن تضرب في لبنان جذوراً أعمق فأعمق بحيث يتعذر اقتلاعها. تلك كانت استراتيجيتها السياسية والعسكرية. لكن سرعان ما ذب الأمل بنصر عسكري على إسرائيل، ثم سعت منظمة التحرير الفلسطينية لمقايضة موقعها في لبنان، ولا  سيما سيطرتها على الجنوب اللبناني، بدولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة (يساعدها في ذلك الضغط العربي وإمكان تسوية سلمية مع إسرائيل بعد حرب 1973). وإذا لم تأخذ التسوية العربية - الإسرائيلية المقترحة طموحات الفلسطينيين في الحسبان، فسيكون في وسع منظمة التحرير الفلسطينية أن تصد تسوية مقترحة كهذه من موقعها الحصين في لبنان.

وقياساً بالنموذج المعتاد لحركات التحرر الوطني العربية، كانت التحديات الفريدة التي واجهت منظمة التحرير الفلسطينية تعني أن تأثير الدول العربية الأخرى، سواء أكان إيجابياً أم سلبياً، يكتسي أهمية حيوية وحاسمة في تطور الحركة الوطنية الفلسطينية. وقد أضر التنازع في النفوذ بين الدول العربية الاثنتين والعشرين بمنظمة التحرير الفلسطينية. يضاف إلى ذلك أن تأثيرات الحركة الوطنية الفلسطينية في كل بلد عربي قد جعلت هذه البلاد حساسة لما يصدر عن الحركة الفلسطينية من أعمال وسياسات؛ فالأردنيون كانوا يخشون التوسع الإسرائيلي، كما أن صراع حكومتهم الطويل مع منظمة التحرير الفلسطينية بشأن تمثيل الفلسطينيين كان يعبر عن اهتمامهم بالضفة الغربية ورغبتهم في السيطرة على نتائج أية تسوية بحيث تعزز موقعهم في المنطقة. أما السوريون، المعنيون بالحفاظ على دور قيادي إقليمي، فإنهم رأوا في الحركة الوطنية الفلسطينية امتداداً لاهتماماتهم السياسية أكثر مما رأوا فيها حركة مستقلة لها مجالها الخاص بها. وقد سعت سوريا، جراء حرصها على دورها في أية تسوية مستقبلية لوضع هضبة الجولان، للتأثير في جميع الأطراف الذين يشكلون ما تعُّه سوريا الكبرى (لبنان والأردن والفلسطينيين). وأما مصر، أكبر الدول العربية وأهمها، فقد وقعت سنة 1978 اتفاقية سلام مع إسرائيل، الأمر الذي أضعف الحركة الفلسطينية في مواجهة السياسة الإسرائيلية من جهة، والمحاولات السورية لاحتوائها من جهة أُخرى. وأما العراق، البلد الأقل أهمية من حيث العلاقة بالصراع العربي - الإسرائيلي، فقد حاول التعويض عن موقعه الخلفي بالمواقف والشعارات الداعية إلى مطالب الحد الأقصى. وقد حاول، على هذا النحو، أن يستخدم الحركة الوطنية الفلسطينية من أجل أهدافه الخاصة، وأن ينازع سوريا ومصر بشأن زعامة العالم العربي. وكانت كل دولة عربية في المنطقة تحدد علاقتها بالحركة الوطنية الفلسطينية بحسب أهدافها الخاصة. وقد عوَّق ذلك جهود الفلسطينيين لخدمة قضيتهم وعقَّد مسارها. فكان أن تركزَّت الصراعات بين منظمة التحرير الفلسطينية والدول العربية على مسألة التحكم في حركة التحرر الوطني الفلسطيني.(24)

إن أحدث الأمثلة الساطعة للصراعات العربية - العربية ولما تخلِّفه من آثار في الحركة الوطنية الفلسطينية هو أزمة الخليج في إبان الاحتلال العراقي للكويت. ذلك بأن ضعف القاعدة الاجتماعية - الاقتصادية لمنظمة التحرير الفلسطينية خلال الأزمة، وعجزها عن تقويم الأزمة تقويماً صحيحاً، أفضيا إلى تبعيتها لسياسة العراق. فهي إذ اقترحت على صدام حسين فكرة "الربط" بين الانسحاب من الكويت وحلّ القضية الفلسطينية، ثم ما كان من تأييدها لبيانه في 12 آب/أغسطس 1990، بدت أنها تحاول إحياء صيغة جديدة لسياستها في لبنان. وظنّت منظمة التحرير الفلسطينية، وكان ذلك الظن من أسوأ أخطائها الاستراتيجية، أن الوضع الذي أوجده العراق سيساعد في تجديد شباب الحركة.(25)

لقد أثرت الأزمة تأثيراً شديداً قاسياً في وضع الفلسطينيين في الخليج (الذين كان عددهم يتراوح بين 600,000 و 700,000).(26)  وخلَّفت في نفوس مواطني دول مجلس التعاون الخليجي، ولا سيما شعب الكويت، مشاعر المرارة والألم تجاه الفلسطينيين. ونمت في نفوس الكويتيين مشاعر شديد المرارة والقسوة حيال الجالية الفلسطينية برمتها بعد التحرير. وقد ضربت هذه المرارة جذورها في فترة الغزو العراقي وسياسة منظمة التحرير الفلسطينية خلال الأزمة، والدور الذي قامت به أقلية نشيطة من الفلسطينيين المتعاونين مع قوات الاحتلال العراقية، وصور التأييد الفلسطيني العلني لصدام في الأردن وغيره من الدول، والدور الذي قامت به عدة فصائل فلسطينية مسلحة عملت في مدينة الكويت على نحو مشابه لعم العراقيين. يضاف إلى ذلك أن قدرة صدام حسين على استغلال مشاعر الفلسطينيين وغيرهم من العرب لتحقيق أهدافه السياسية ضد خصومه من العرب لإضفاء التسويغ العقلاني على احتلال دولة عربية قد زاد تلك المرارة حدة.(27)

وبينما أظهرت أحوال الكويت بوادر التعافي والتحسن منذ حزيران/يونيو 1991ن ازدادت الجالية الفلسطينية في الخليج ضعفاً على الصعيدين الديموغرافي (السكاني) والاقتصادي. فقد تقلصت هذه الجالية في الكويت إلى 150,000 نسمة خلال الاحتلال العراقي. وبحلول كانون الثاني/يناير 1992، كان هذا العدد قد انخفض إلى ما يقارب 40 ألفاً. وقد جُمدت أنشطة منظمة التحرير الفلسطينية العلنية كلها، وفي ذلك نكسة كبرى للمنظمة.

إن رقّاص العلاقات الفلسطينية - العربية لا يزال يتأرجح بين طرف أقصى وطرف أقصى. فالصدامات السياسية والعسكرية مع سوريا والأردن ولبنان قد أثرت في الحركة الوطنية الفلسطينية في هذه الدول. وأزمة العلاقات بدول الخليج عقب الحرب مثال آخر للظاهرة نفسها التي تهدد الحركة الوطنية الفلسطينية. إن كون الحركة الوطنية الفلسطينية تعمل داخل حدود دول أُخرى، وتعتمد على تلك الدول، يجعلها في صراع معها. وقد كانت أزمة الخليج أسوأ هذه الصراعات بسبب إفراط منظمة التحرير الفلسطينية في الاعتماد على العراق، وبسبب قدرة العراق على إثارة الجماهير الفلسطينية.

V  في النموذج المعتاد لحركات التحرر الوطني العربية، كان المناخ الدولي كثيراً ما يعمل على نحو مؤات لها. فالرأي العام بين مواطني الدولة المستعمِرة وبين دول العالم كان عاملاً مهماً وقابلاً للاستثمار في مصلحة الحركات العربية الاستقلالية. يضاف إلى ذلك أن الحفاظ على المستعمرات كان قد غدا عبئاً اقتصادياً لا جدوى من استمراره مع دخول العالم عصراً جديداً يعتمد على علاقات التبعية أو التبادل الاقتصادية والسياسية والعسكرية.

لقد تشكلت حركة الاستقلال الفلسطينية في عالم كان الرأي العام فيه قد بلغ أهمية متعاظمة، لكن كان عليها في الوقت نفسه أن تسعى لتحقيق غاياتها في عالم ما بعد الاستعمار، في عالم بات للدول القومية والمستعمرات السابقة فيه مصالح جديدة وثابتة، ضمن مناخ دولي مستقطب بين الشرق والغرب. وقد واجه الفلسطينيون بالتالي عالماً أقل استعداداً للإصغاء إلى مطالبهم.

ومما عوّق حركة الفلسطينيين أنهم كانوا في صراع مطلق مع اليهود. فقد كان الغرب ينظر إلى إسرائيل باعتبارها الملاذ الوحيد لليهود الذين نجوا من المحرقة الكبرى في الحرب العالمية الثانية. وكان الفلسطينيون طبعاً ينظرون إلى الأمور نظرة مغايرة لهذه. والتعاطف الدولي كان في اتجاه الدولة اليهودية الوحيدة في العالم. ولذلك، كان نفر غير قليل ينظر إلى الفلسطينيين كامتداد للقوى المعادية لليهود والشائعة في تاريخ اليهود (في الغرب).

ومن جهة أُخرى، فلئن كانت حقبة الحرب الباردة قد أفادت الفلسطينيين من حيث دعم الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية والعالم الثالث لقضيتهم، فإن نهاية الحرب الباردة عرَّضت المطالب الفلسطينية والكثير من الدعم الذي تتلقاه الحركة الفلسطينية لوقائع جديدة. فـ "النظـام العالمـي الجديـد" و "أزمة الخليج" سارا في اتجاه معاكس للمساعي التي يبذلها الفلسطينيون من أجل بلوغ المرحلة الأخيرة من نموذج التحرير المعتاد - الاستقلال وإقامة دولة خاصة بهم.

VI  إن طبيعة الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي العصية والمطلقة، وتشتت الفلسطينيين وما انجرَّ عنه من قيام الحركة الوطنية الفلسطينية على قاعدة من اللاجئين، وتضمينات النزاع الإقليمية، والمناخ الدولي، كل ذلك عوامل أدى تضافرها إلى خلق حركة وطنية فريدة. ونظراً إلى الصعوبات الفلسطينية الناتجة من تضافر هذه العوامل، فقد تمكن الإسرائيليون من كبح مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية. وقد كان الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، وما انجرَّ عنه من فقدان قواعد منظمة التحرير الفلسطينية ومثله حرب المخيمات، بمثابة تذكرة بهذه الصعوبات.(28) وتفاعل هذه العوامل، وما استتبعه من تعقيدات إقليمية ودولية، ولدّا أزمة مستمرة في الحركة الوطنية الفلسطينية، ومنه هذه الحركة من الاقتداء بالنموذج المعتاد وتحقيق نتائجه. ونظراً إلى الصعوبات الفريدة الماثلة، فقد استغرقت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وبناها التنظيمية في مشكلة الاستقرار الداخلي وفن البقاء. وتعلمت المنظمة أن تناور في العالم العربي، ولم تكن تود أن تولد الاحتكاكات أو الانشقاق بين الفلسطينيين مهما تكن الأوضاع. لذلك، فإنها اتبعت سياسة الإجماع غير المجدية، إذ سعت لأرضية مشتركة توحِّد القوى والجماعات كلها.

إن الانتفاضة التي انطلقت في كانون الأول/ديسمبر 1987 يمكن أن تعدَّ عملاً يقارب بعض أوجه النموذج المعتاد لحركات التحرر الوطني. فالنكسات التي عانتها حركة التحرر الوطني الفلسطيني في الشتات على مدى عقدي السبعينات والثمانينات، ومثلها قدرة الفلسطينيين على صوت الاستقلال السياسي في الضفة الغربية وقطاع غزة، قد حوِّلتن في إطار الانتفاضة، إلى الطاقة السياسية والثقافية والاقتصادية والإنسانية المطلوبة لإنشاء دولة. غلا إن الانتفاضة، كظاهرة تضاهي النموذج المعتاد، بلغت ذروتها في فترة 1988/1989.

وفي حين أن التحديات كانت تتعاظم في وجه الحركة الوطنية الفلسطينية، فإن منظمة التحرير الفلسطينية لم تتكيف مع الوضع الجديد.إذ إنها بانهماكها في مواجهة جمهرة المنافسين الدائمة الحضور، والتحسب لتدخل الدول العربية، ومحاولة حماية المصالح الشخصية السطحية لبعض قادة الفصائل داخل التراتبية القيادية، تساهلت حيال سوء تصرف الأفراد في صفوفها. وقد عوَّق ذلك محاولات الإصلاح الديمقراطي، وعطَّل قدرتها على تقويم ما يواجهها من مخاطر قديمة وجديدة تقويماً صحيحاً.(29)

ومن أجل مواجهة أوضاع عقد التسعينات الجديدة لا بد من أن يشرع الفلسطينيون في إجراء تغييرات جذرية في بنية منظمة التحرير والجماعات التي تسيطر عليها. ولا بد للمنظمة برمتها من أن تجد سبيلا لتولية القيادة عبر الوسائل الانتخابية الديمقراطية، وأن تلتمس السبل لانتخاب الذين يحضرون المجلس الوطني الفلسطيني انتخاباً ديمقراطياً عاماً. إن سيطرة مجموعات المقاتلين المنفيين القدماء (على الرغم من دورهم السابق) وتحكمهم في المقاعد والمناصب غير مفيدّيْن لبقاء الفلسطينيين في هذه المرحلة. وينبغي لمنظمة التحرير الفلسطينية أن تحاول إصلاح بيروقراطيتها، ومن جملتها المنظمات الجماهيرية النسائية والطالبية والعمالية، للاستفادة من قدراتها المالية واستثمار مواردها البشرية على أفضل وجه ممكن في مشاريع تعضد بقاء الفلسطينيين. وفي وسع منظمة التحرير، في الشتات، أن تغدو منظمة أعمال إنسانية ثقافية اجتماعية في سعيها لإتاحة التطور والترقي أمام الفلسطينيين. وهي إذا ما أصلحت مؤسساتها وبناها، فإنها تستطيع أن تغدو منظمة قادرة على خدمة شعبها حيثما كان على نحو أشبه بما تقوم المنظمة الصهيونية العالمية به (حيال اليهود). ولا بد، عقب أزمة الخليج، من بذل كثير من الجهود الإبداعية في هذا الاتجاه.

يضاف إلى ذلك أن من شأن انتخابات حرة في الراضي المحتلة أن تقوم بدور مهم في أي مسعى يهدف إلى الإصلاح الديمقراطي في بنية الحركة. إن دور الأراضي المحتلة في إتاحة قاعدة اجتماعية - اقتصادية ومجموعة جديدة من القادة مهم أيضاً من أجل مستقبل الفلسطينيين. لذلك، ينبغي أن تكون الانتخابات الحرة، في ظل أوضاع مؤاتية، هدفاً في حد ذاتها. ولا بد لكثير من الوظائف السياسية المؤثرة في أوضاع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غز’ من أن تعالجها هيئة ممثلين ينتخبها سكان تلك المناطق. ولا بد لهذا من إنشاء أحزاب وطنية حديثة وتغييرات حديثة لإنجاز هذه المهمة. ولا بد، تالياً، من أن تغدو التنمية الاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة في مقدم الأولويات، ضمن إطار تسوية أو أي ترتيب انتقالي.

يضاف إلى ذلك أن منظمة التحرير الفلسطينية إذا ما أقرت بخطأ في التقويم والسياسة حيال أزمة الخليج، فهي ربما استطاعت أن تضع نفسها مجدداً على طريق التقارب مع دول الخليج. وهذه القضية، وإن تكن مؤلمة وعسيرة على الأطراف كافة، فإن انعدام التقارب سيخلِّف آثاراً سلبية في "تعافي" الحركة الوطنية الفلسطينية ونهوضها من كبوتها.

وبما أن تاريخ الفلسطينيين منذ سنة 1948 محاولة لإعادة خلق الهوية والوجود الفلسطينيين، فلا بد من أن يقوَّم تقويماً جديداً وأن يوضع في سياق النظام العالمي الجديد والتحركات الهادفة إلى حلّ الكثير من النزاعات المستعصية في العالم. والنموذج المعتاد للحركات الوطنية الاستقلالية، الذي تمثل الانتفاضة آخر محاولة فلسطينية جادة منه، يجب أن يعاد تقويمه في ضوء التطورات العالمية المستجدة. والحقبة المقبلة من التاريخ الفلسطيني ستعتمد على قدرة الفلسطينيين (مثلما يتبيّن من خلال جولات مؤتمر السلام الذي بدأ في مدريد،  في تشرين الأول/ أكتوبر 1991) على الْتِماس نماذج بقاء تتجه نحو المستقبل بدلاً من أن تظل متخندقة في الماضي. وعلى الرغم من التعقيدات كلها التي تعترض هذا السبيل، فإن نهج التعاون في إطار سلمي هو وحده الكفيل بأن يحقق للشعب الفلسطيني التقدم الاقتصادي والاستقرار والبقاء السياسي.

 

* سبق أن نُشرت هذه الدراسة في:

Shafeeq Ghabra, “National Independence in the Arab World: The Case of the Palestinians,’ Journal of Arab Affairs, Vol. 11, No. 1, Spring 1992, pp. 68-90. 

وقد أضاف المؤلف تعديلات طفيفة إلى الترجمة العربية للدراسة.                                                                                                                

 

 المصادر:

(1) أنظر:

George Lenczowski (ed.), The Political Awakening in the Middle East (Englewood Cliffs, NJ: Prentice-Hall, 1970), pp. 72-78; P.J. Vatikiotis, The History of Egypt: From Muhammad Ali to Mubarak (Baltimore, MD:

The Johns Hopkins University Press, 1985), pp. 247-270.

(2) أنظر:

Howard Sachar, A History of Israel: From the Rise of Zionism to Our Time (New York: Alfred Knopf, 1979), pp. 64-88, 138-162. 

(3) أنظر:

Benny Morris, “Operation Dani and the Palestinian Exodus from Lydda and Ramle in 1948,” Middle East Journal, 40 (Winter 1986), pp. 82-109; Benny Morris, The Birth of the Palestinian Refugee Problem 1947-1949 (Cambridge:  Cambridge University Press, 1987); Erskine B. Childers, “The Wordless Wish: From Citizens to Refugees,” in Ibrahim Abu-Lughod (ed.), The Transformation of Palestine: Essays on the Origin and Development of  the Arab-Israeli Conflict (Evanston, IL: Northwestern University Press, 1971), pp. 165-202                                       

(4) أنظر:

Tom Segev, 1948: The First Israelis (New York: The Free Press, 1986).

(5) ثمة مجتمعات عربية عدة اختبرت أشكالاً من التهجير مختلفة وأقل كثافة بسبب استيطان المستعمرين. أنظر: عبد الملك التميمي، "الاستعمار الاستيطاني في الوطن العربي"، سلسلة "عالم المعرفة" (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1983).

(6) وقد عبَّرت "فتح" عن السياسة في كراريس عدة كُتبت في فترة 1965/1966. أنظر: حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، "من منطلقات العمل الفدائي: تحرير الأقطار المحتلة"؛ وانظر أيضاً: "الجلسات الحركية"، الأعداد 1 ـ 12، 1965. 

(7) أنظر: فيصل حوراني، "الفكر السياسي الفلسطيني 1964-1974: دراسة لمواثيق الرئيسية لمنظمة التحرير الفلسطينية" (بيروت: منظمة التحرير الفلسطينية ـ مركز الأبحاث، 1980). 

(8) Stephen Hemsley Longrigg, Syria and Lebanon under French Mandate (New York: Octagon Books, 1972). 

وانظر أيضا: وميض نظمي، "الجذور السياسية والفكرية والاجتماعية للحركة القومية العربية الاستقلالية في العراق" (بيروت:مركز دراسات الوحدة العربية، 1984).

(9) مثَّل هذا التفكير كل من سياسة حركة القومية العربية وحزب البعث والناصرية، انظر:  Yezid Sayigh, “Reconstructing the Paradox: The Arab Nationalist Movement, Armed Struggle, and Palestine, 1951-1966,” Middle East Journal

(10) "من منطلقات العمل الفدائي"، مصدر سبق ذكره، ص 84.

(11) Alan Gresh, The PLO: The Struggle Within (London: Zed books Ltd., 1983), pp.34-57.

(12) Ibid., pp. 131-175.

(13) Sheila Ryan, “Plans to Regularize the Occupation,” in Nasee H. Aruri (ed.), Occupation: Israel over Palestine (Belmont, MA: Association of Arab-American University Graduates, 1983), pp.339-375.                                 

(14) Janet Abu-Lughod, “The Demographic Consequences of the Occupation,” in Aruri (ed.), Ibid., [. 258.

(15) من أجل معطيات بشأن الفلسطينيين بعد سنة 1948، أنظر:

Rosemary Sayigh, Palestinians: From Peasants Revolutionaries (London: Zed Press, 1979); Pamela Ann Smith, Palestine and the Palestinians, 1876-1983 (New York: St. Martin’s Press, 1984);                                             

يزيد صايغ، "الأردن والفلسطينيون" (لندن: رياض الريس للكتب والنشر، 1987)؛

Shafeeq N. Ghabra, Palestinians in Kuwait: The Family and the Politics of Survival (Boulder, CO: Westview Press, 1987); Lauri A. Brand, Palestinians in the Arab World: Institution Building and the Search for State (New York: Columbia University Press, 1988). 

(16) أنظر: بلال الحسن، الفلسطينيون في الكويت: دراسة إحصائية" (بيروت: منظمة التحرير الفلسطينية ـ مركز الأبحاث، 1974).

(17) Brand, op. cit.

(18) مقابلة مع أبو إياد (صلاح خلف)، عضو اللجنة المركزية في "فتح"، الكويت، ربيع 1990.

(19) كانت صدامات تشرين الأول/أكتوبر 1969 وأيار /مايو 1973 أشد الصدامات دلالة.

(20) أنظر:

David C. Gordon, The Republic of Lebanon: Nation in Jeopardy (Boulder, CO: Westview Press, 1983); Walidi Khalidi, Conflict and Violence in Lebanon (Cambridge, MA: Harvard Center for International Affairs, 1979).

(21) أنظر:

Rashid Khalidi, Under Siege: PLO Decisionmaking during the 1982 War (New York: Columbia University Press, 1986), pp.17-41.                                                                                                                                                        

(22) من أجل دراسة تحليلية لهذه الفترة، أنظر:

Helena Cobban, The Palestinian Liberation Organization: People, Power and Politics (New York and Cambridge, UK: Cambridge University Press, 1984)                                                                                                                                 

(23) ابتداء من سنة 1979، وقعت في الجنوب اللبناني وفي بيروت بصورة متقطعة اشتباكات بين حركة "أمل" وجبهة التحرير العربية، التي يدعمها العراق، والحزب الشيوعي اللبناني وغيرهما من المنظمات اللبنانية، وقد حافظت "فتح" على حيادها إلى أن انجرت إلى الصدام مع "أمل" سنة 1981.

(24) أنظر:

Alan R. Taylor, “The PLO in Inter-Arab Politics,” Journal of Palestine Studies, Vol. II, No. 2 (Winter 1982); Aaron D. Miller, : Jordan and the Arab-Israeli Conflict: The Hashemite Predicament,” Orbis, 29 (Winter 1986).               

(25) Walid Khalidi, “The Gulf Crisis: Origins and Consequences,” Journal of Palestine Studies, Vo. XX, No. 2 (Winter 1991), pp. 16-17.                                                                                                                                                                 

(26) Rashid Khalidi, “The Palestinians and the Gulf Crisis,” in Micah L. Sifry and Christopher Cerf (eds.), The Gulf War Reader: History, Documents, Opinions (New York: Times Books, Random House, 1991), p. 427.                       

(27) مقابلات مع مواطنين كويتيين ومع فلسطينيين مقيمين في الكويت. الكويت، تموز/يوليو ـ تشرين الأول/أكتوبر 1991؛ أنظر تقريرنا عن مرحلة الاحتلال العراقي للكويت:

Shafeeq Ghabra, “The Iraqi Occupation of Kuwait: An Eyewitness Account,” Journal of Palestine Studies, Vol. XX, No. 2 (Winter 1991), pp. 112-125.                                                                                                                         

(28) Rashid Khalidi, Under Siege, op. cit.

(29) أنظر بشأن هذا الموضوع: صبري جريس، "حوار من نوع آخر"، "شؤون فلسطينية"، العدد 170-171 (أيار/مايو ـ حزيران/يونيو 1987)، ص 3 – 32.

Author biography: 

شفيق الغبرا : أستاذ مساعد في جامعة الكويت ـ قسم العلوم السياسية.