بعد مرور أكثر من خمسة عشر شهراً على انعقاد مؤتمر مدريد ـ وقد عُلِّقت المفاوضات من جرّار تغيُّر الإدارة الأميركية وأزمة المبعدين - بات من المفيد أن نقوِّم ما حققته المفاوضات حول الطاولة وما استجرَّته فعلاً على أرض الواقع. ولا بد لهذا التقويم، في المنظور الفلسطينيين من أن يجري وفق المعايير التالية: مدى تمهيد هذه المفاوضات لإقامة دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة بأكملها؛ مدى إفساح المفاوضات في المجال لحل القضية الفلسطينية من أوجهها كافة؛ وأخيراً تأثيرها في وحدة الحركة السياسية الفلسطينية.
إن القواعد المرجعية التي وُضعت أصلاً للمفاوضات لم تكن حسنة الفأل في شأن تلبية هذه الشروط. أولاً، على الرغم من وجوب قيام التسوية المتوخاة على أساس قرار مجلس الأمن رقم 242، فإن الولايات المتحدة لم تأتِ إلى ذكر مبدأ "الأرض مقابل السلام" في رسالة الدعوة إلى المؤتمر بل سلَّمت بحق الفرقاء المعنيين في الاختلاف بشأن تفسير مضمون القرار، ولا سيما فيما يتعلق بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية والسورية. ثانياً، اقتصار دور الأمم المتحدة في العملية على دور ثانوي (إن لم نقل إنكار أي دور لها أصلاً). ثالثاً، مع أن غاية المفاوضات بلوغ تسوية شاملة للنزاع العربي - الإسرائيلي، فإنه يُنَص على وجوب إقامة صلة ملزمة بين مختلف الجبهات ضد بعضها الآخر. رابعاً، يعرّض انعدام الترابط الملزم بين مختلف جبهات المفاوضة لمزيد من التعقيد من جراء الجدول الموضوع للمفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية تخصيصاً. إذ بينما فُسح في المجال كي تعقد سوريا والأردن ولبنان مع إسرائيل اتفاق تسوية نهائياً، وفي أسرع وقت ممكن، فقد طُلب من الفلسطينيين أن يفاوضوا على مرحلتين منفصلتين: أولاهما لبلوغ اتفاق على "ترتيبات فترة الحكومة الذاتية الانتقالية" لمدة خمسة أعوام في الأراضي المحتلة، وثانيتهما من أجل التوصل إلى تسوية نهائية تستند إلى القرار رقم 242، ولا تبدأ المرحلة الثانية إلا في العام الثالث من الفترة الانتقالية. خامساً، لم يحدَّد مدى الحكومة الذاتية الفلسطينية ولا صلاحيتها بل اعتُبر محلاً للاتفاق عليهما خلال المفاوضات. كما أنه لم ترد أية إشارة إلى مبدأ تقرير المصير للفلسطينيين ولا إلى مبدأ إنشاء دولة لهم. سادساً، لا وجود لوفد فلسطيني مستقل يواجه الإسرائيليين؛ بل على المندوبين الفلسطينيين أن يكونوا في جملة وفد أردني - فلسطيني مشترك، وأن يأتوا من الضفة الغربية، باستثناء القدس الشرقية، ومن قطاع غزة ومن دون أن يكونوا من مسؤولي منظمة التحرير الفلسطينية ولا من فلسطينيي "الشتات".(1)
وقد توخّى المسؤولون الأميركيون، الذين تَبَنَّوا فعلاً معظم الشروط التي فرضها رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق يتسحاق شمير لعقد المؤتمر، من خلال دعوتهم الفلسطينيين إلى التفاوض وفق هذه الشروط، أن يرسلوا إلى منظمة التحرير الفلسطينية، قيادة الفلسطينيين الرسمية، رسالة تنطوي على دلالات معينة. وكانت المنظمة، التي لم تزل ترغب في الاشتراك في المفاوضات منذ سنة 1974، مدعوّة إلى اطّراح إعلانها الدولة الفلسطينية الذي أصدرته في تشرين الثاني/ نوفمبر 1988، والذي يدعمه الفلسطينيون في أغلبيتهم العظمى وتعترف به أكثر من 100 دولة من دول العالم. وكانت المنظمة مدعوة إلى أن تؤجل مدة خمسة أعوام، على الأقل، أي حل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين الذين يشكلون أكثرية الشعب الفلسطيني والذين لا يزال قطاع كبير منهم، في لبنان والكويت، في أمسِّ الحاجة إلى حل منصف. وكان المطلوب من المنظمة أيضاً أن تعطي الضوء الأخضر لعملية تهدف صراحةً إلى تهميشها لمصلحة سلطة فلسطينية من المزمع إقامتها في الضفة الغربية وغزة؛ سلطة لا تتمتع، لمدة خمسة أعوام، إلا بصلاحيات محدودة تتعلّق بشؤون الحياة اليومية، وذلك في ظل الإشراف العام من قِبل الحكم العسكري الإسرائيلي، ومن دون أية ضمانة في شأن المبادىء التي تحكم الحل الدائم. وبذلك كانت المنظمة تُحَثُّ (بصورة غير مباشرة) على الإقدام على هذه القفزة المهدِّدة لكيانها وللشعب الفلسطيني خلال مرحلة لم تكن قادرة فيها على الرفض.
كان صيف سنة 1991، الذي شهد خطوات الولايات المتحدة التمهيدية لعقد مؤتمر السلام، فترة شديدة العسر حقاً بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني؛ إذ جاءت تضيف أسوأ الأوضاع الدولية إلى أزمة عميقة أصلاً. فمن حيث التحالفات، ما عاد في وسع المنظمة الاعتماد على القوة المضادة - الاتحاد السوفياتي - في السياستين الإقليمية والدولية بعد تداعي الاتحاد السوفياتي وسقوطه. وكانت قد باتت معزولة عن دول أوروبية وعربية ذات نفوذ، كمصر والعربية السعودية وسوريا، من جراء موقفها في إبان حرب الخليج. أما داخلياً، فقد راح كل جانب من جانبي السجال الدائر بين دعاة سياسة القوة لبلوغ الأهداف الوطنية الفلسطينية وبين دعاة سياسة الشرعية الدولية ينحي باللائمة على الجانب الآخر، ويحمِّله تبعة الأحوال القائمة. فالتنازلات الفلسطينية التاريخية التي قُدِّمت في مبادرة السلام الفلسطينية في تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر 1988 لم تفض إلى أي شيء؛ وكانت الهجرة اليهودية المكثفة من الاتحاد السوفياتي إلى إسرائيل والأراضي المحتلة قد تسارعت منذ ذلك التاريخ، كما تبددت بصورة مفجعة الآمال الأصلية التي عُقدت على الردع المتبادل العراقي - الإسرائيلي الذي كان من شأنه أن يحمل الولايات المتحدة وإسرائيل على القبول بمفاوضات متوازنة. وكان شعور بالإخفاق ممض يسمِّم الجو الفلسطيني، لا على مستوى القيادة داخل الأراضي المحتلة وخارجها على السواء، فحسب، بل على المستوى الشعبي أيضاً. فمن ذلك أن الانتفاضة شهدت داخل فلسطين حالاً خطرة من التراجع، بينما راحت الجوالي الفلسطينية في الخارج تجتهد في إعادة صوغ دورها العام في النضال الفلسطيني ككل، وذلك في مواجهة الضربة الإضافية التي أُنزلت بشعار "الكفاح المسلح" الذي تحطم في لبنان سنة 1982. كما كان على الفلسطينيين في الأردن (أكثر من 60% من سكانه) أن يواجهوا التحديات التي باتت تطرحها هناك عملية التحول إلى الديمقراطية. وكانت بقايا قوات منظمة التحرير المسلحة قد تبعثرت منذ سنة 1982 في بلاد عربية عدة وأضحت معنوياتها متآكلة. وكان قسم كبير من بيروقراطية المنظمة الشبيهة ببيروقراطية الدولة قد بات مشغولاً بذاته، نظراً إلى افتقار هذه البيروقراطية إلى الدولة أو حتى إلى شبه دولة (كتلك التي كانت قائمة في لبنان حتى سنة 1982) تقوم برعايتها. أخيراً، ومع نضوب موارد الدعم من دول الخليج ومن تحويلات الفلسطينيين المالية، بدأت الأزمة الاقتصادية تلوح في الأفق.
وهكذا فلئن بدت عواقب قبول القيادة الفلسطينية بالشروط الأميركية سيئة، فقد بدا رفض المبادرة الأميركية أسوأ عاقبة. ذلك بأن إبقاء الفلسطينيين خارج عملية السلام سيفضي إلى مزيد من العزلة، وربما أدى إلى إمكان الإخراج من تونس واستمرار أنشطة الاستيطان الإسرائيلية بصورة مطردة في الأراضي المحتلة (أي فقدان ما بقي من قاعدة إقليمية في فلسطين نهائياً)، هذا فضلاً عن إمكان إنهاء الحركة الوطنية الفلسطينية التي نشأت بعد سنة 1965، في حد ذاتها.
ومع ذلك، فالفلسطينيون لم يعوزهم بعض الأرصدة عشية انعقاد مؤتمر مدريد. فمن ذلك أن حلفاء الولايات المتحدة من العرب، الذين ما زالوا منذ عقدين يحثون واشنطن على بذل مساع جادة من أجل حل القضية الفلسطينية، قد باتوا يحتاجون الآن إلى تسويغ "بمفعول رجعي" لما كان من مشاركتهم في الحرب على العراق، وذلك على الرغم مما في أنفسهم من نقمة على الموقف الفلسطيني. أما الولايات المتحدة، التي ربما كان في وسعها أن تتحمل عدم الاستقرار في الشرق الأوسط بعد ما باتت موسكو عاجزة عن استغلاله، فقد بدت أمْيَلَ إلى تحقيق الاستقرار منها إلى عكس ذلك - أو على الأقل أمْيل إلى ضبط عدم الاستقرار - في منطقة قد تبيَّن للتو ما لها من أهمية استراتيجية. ولم يكن ذلك ممكناً إلا بواسطة إطلاق عملية تمنح الأمل، مهما يكن متناقضاً، لجميع الفرقاء، ومنهم الفلسطينيون.
أما إسرائيل، فإنها وإنْ كانت قد أمْلت - إلى حد ما - شروط المؤتمر، فقد انجرَّت عملياً إلى طاولة المحادثات بفضل مهارات المناورة التي يتمتع بها وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر. ذلك بأن نهاية حرب الخليج قد قلصت على نحو ملحوظ الأمل (أو الكابوس) المتعلق بالطرد الجماعي للفلسطينيين من الأراضي المحتلة، وكان على إسرائيل – حتى على ، وكان على إسرائيل – حتى على سرائيل شمير – أن تجد نوعاً من التطبيع لوضعها هناك: ضرباً ما من ضروب موافقة الفلسطينيين على شكل من أشكال السيطرة الإسرائيلية. ولم يكن أمام إسرائيل أي أمل بفرض سيطرة كهذه بالعنف أو من طرف واحد، ولم يكن ثمة أفضل من بدء المفاوضات للتوصل إلى ذلك. ولعل ما دار في حسبان شمير هو أن المفاوضات، وإنْ عجزت عن تحقيق التطبيع المأمول وفق الشروط الإسرائيلية، فإنها ستمكن إسرائيل من كسب الوقت (مع المضي في أنشطتها الاستيطانية في الضفة الغربية وغزة) من دون تقييد يديها. ومع ذلك، فمن الثابت أنه كان على المسؤولين الإسرائيليين أن يجلسوا أول مرة إلى طاولة المحادثات مع فلسطينيين غير ملزمين بإطاعة الأوامر التي تصدر عن سلطتهم المحتلة.
وأياً تكن نيات الحكومة الإسرائيلية وشروطها، ومثلها نيات إدارة بوش وشروطها، فقد كان لا بد لأية مبادرة سلام من موافقة الفلسطينيين على المشاركة فيها. فعلى الرغم من محاولة أميركية لانتزاع هذه الموافقة من الأردن ومصر (فضلاً عن قائمة بالمندوبين الفلسطينيين)، فإن بيكر لم يتمكن من الحصول عليها إلا من منظمة التحرير عبر ممثلين لفلسطينيي الداخل يرئسهم فيصل الحسيني، الذي التقى بيكر عدة مرات. وكان لمنظمة التحرير وحدها، بوصفها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، القدرة السياسية والمؤسساتية على بت أمر المشاركة الفلسطينية أو عدمها. كما أن المنظمة استطاعت، بعد مناقشتها لعملية مريرة وخطرة كهذه وتوصلها إلى الموافقة عليها بعد المناقشة، أن تبرهن على أن بنيتها ما زالت سليمة وتعمل بصورة دستورية، على الرغم مما يتنازعها من خصومات ومما حل بها من تدهور في المعنويات؛ فقد انعقدت الجلسة العشرون من جلسات المجلس الوطني الفلسطيني لهذه الغاية أيام 23 - 28 أيلول/سبتمبر 1991،(2) وأعطى المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية الضوء الأخضر في 17 تشرين الأول/ أكتوبر. والواقع أن المفاوضات منحت القيادة الفلسطينية، سواء خارج فلسطين أو داخلها، محوراً للتركيز وإحساساً بالغائية؛ إذ بينما كان السجال الداخلي يهدد بالذهاب (والتشتت) في الاتجاهات كلها بات منضبطاً ومقنَّناً، وفي إمكانه من الآن فصاعداً أن يجري في واحد من اتجاهين اثنين لا غير: مع المفاوضات، أو ضدها. كذلك لم يكن بروز فلسطينيين من الداخل إلى الصدارة أمراً سلبياً في حد ذاته؛ بل إنه، على العكس من ذلك، ضخ دماً جديداً في قيادة فلسطينية هي في أمس الحاجة إليه، كما أنه ترجم على مستوى القمة، وعلى نحو صحي وهادىء، الميلان المحتوم للميزان الاجتماعي - السياسي من ترجيح كفة الخارج إلى ترجيح كفة الداخل، ذلك الرجحان الذي كان قد حدث في الجماعة السياسية الفلسطينية على مستوى القاعدة الشعبية.
لا شك في أن عملية الْتِماس الموافقة الفلسطينية والحصول عليها قد بيَّنت أن عند الفلسطينيين بعض المقومات التي يمكنهم أن يستندوا إليها. صحيح أنهم وافقوا على حدود وشروط قاسية من حيث الشكل والمضمون، ولعل أهمها أن منظمة التحرير لم تُدعَ رسمياً إلى طاولة المفاوضات، ولو أن المنظمة دُعيت لأُدرج عندئذٍ - بصورة شبه حتمية - موضوع إقامة دولة فلسطينية في جدول أعمال المفاوضات. ولما لم يكن الفلسطينيون في موقع يمكنهم من الحصول على جدول أعمال كهذا منذ بداية العملية، فإنه لم يكن في وسعهم إلا أن يرجوا التوصل إليه على مراحل، وبصورة تراكمية، بفضل عملية المفاوضات نفسها. ويقضي هذا السيناريو، بأن تُقْدم إسرائيل بمشقة على الاقتراب في كل مرحلة خطوة صغيرة في اتجاه جدول الأعمال الفلسطيني، خطوة يكون لأثرها النهائي مفعول تراكمي طفيف بحيث لا يشكل في حد ذاته سبباً وجيهاً كافياً لأن تهدد إسرائيل بالانسحاب التام من العملية كلها.
وهنا، شكَّل إصرار الفلسطينيين على إحراز الموافقة المؤسساتية على مشاركتهم نموذجاً أساسياً. فقد اضطر الإسرائيليون، وحتى الأميركيون، إلى انتظار هذه الموافقة من قِبل أولئك الذين كان يودُّ الفريقان أصلاً إقصاءهم عن العملية، أي منظمة التحرير وجوالي الفلسطينيين في الخارج. والشرط الوحيد الذي استطاعت إسرائيل أن تفرضه أصلاً في هذا الشأن هو أن يمتنع المفاوضون الذين تنتدبهم المنظمة من التصريح بهذا الأمر علانية. وقد اعتبر ذلك جزءاً مما سُمِّي "الغموض البنّاء". إلا إن السؤال ظل قائماً بشأن الجهة التي ستكون أشد تمكناً من البناء على هذا الغموض.
ما من جواب كامل عن هذا السؤال حتى الآن. والفترة التي انصرمت منذ انعقاد مؤتمر مدريد لم تأتِ إلا ببعض المؤشرات، التي سيجري امتحانها في الصفحات التالية.
مؤتمر مدريد: 30/10/1991 – 1/11/1991
مثلما كانت الحال مع الشكل المؤسساتي لقبول الفلسطينيين الدعوة إلى مؤتمر مدريد كذلك كان مضمون هذا القبول محاولة أُخرى للمواءمة بين الأصول المرجعية للمفاوضات وبين الأهداف الفلسطينية العامة. وقد بُلِّغت هذه الموافقة رسمياً إلى راعيي المؤتمر في 22 تشرين الأول/أكتوبر(3) بلسان فيصل الحسيني رئيس الفريق الفلسطيني الموسع (الذي ينبغي عدم الخلط بينه وبين الوفد الفلسطيني المفاوض، في حد ذاته، الذي يرئسه حيدر عبد الشافي). وقد أوضح الحسيني(4) أن المشاركة الفلسطينية تستند إلى قرارات صادرة عن مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، وهي لا تعني التخلي عن الأهداف الفلسطينية المتعلقة بإقامة دولة على كامل الأراضي المحتلة، ومن جملتها القدس، أو عن تطبيق حق الفلسطينيين في العودة. وقد أشار عبد الشافي بوضوح إلى الفكرة ذاتها بعد تسعة أيام في خطابه الرسمي أمام المؤتمرين في مدريد.
كان من المعلوم أن إشارة عبد الشافي العلانية إلى منظمة التحرير تنذر بإثارة سخط الولايات المتحدة وبإغراء الوفد الإسرائيلي الذي كان شمير يرئسه بمغادرة قاعة المؤتمر. إلا إن هذه الإشارة كانت أكثر من مجرد لفتة رمزية: ففضلاً عمّا أوحت به صراحة من وحدة هيكلية القيادة الفلسطينية ووحدة أهدافها، فإنها بيّنت أن المندوبين الفلسطينيين ليسوا مجرد تكتل أفراد أو أعيان انتدبوا أنفسهم لهذه المهمة، ولا تُبَّعاً للوفد الأردني، بل هم هيئة تمثل الفلسطينيين حيث يكونون. وقد جرى التركيز على هذه الفكرة في مقابلات كثيرة مع وسائل الإعلام في مدريد، ثم كُررت مراراً فيما بعد داخل قاعة المفاوضات وخارجها.
أما وجوب اختيار المندوبين جميعهم من الضفة الغربية وغزة فحسب، مع استثناء القدس وجوالي الشتات، فأمر لم يعترف الفلسطينيون به شرطاً ملزماً قط، بل اعتبروه مجرد ترتيب أمر واقع ارتأت القيادة الفلسطينية التسليم بهم وقتاً من أجل تيسير بدء المفاوضات، ومجرد ترتيب تستطيع اطِّراحه متى استلزمت المصلحة الوطنية ذلك. وقد كان هذا التأويل، وما يستتبعه من وحدة الشعب الفلسطيني واستقلاله في صنع قراره، موضع اعتراف ضمني من قِبل وزير خارجية الولايات المتحدة في 31 تشرين الأول/أكتوبر، عندما استقبل رسمياً في مدريد أعضاء "لجنة التوجيه" المؤلفة من فلسطينيين من القدس والخارج.
وقد كان مؤتمر مدريد أيضاً مناسبة لتوكيد الهوية الفلسطينية بفضل المناورات التي جرت بعيداً عن الأنظار. فمع أن الفلسطينيين والأردنيين كانوا من الناحية الفنية يشكلون وفداً مشتركاً، فقد خُصَّ عبد الشافي بمكانة مساوية لغيره من رؤساء الوفود. فمن ذلك أنه جاء إلى المؤتمر في سيارة خاصة به، أُسوة بغيره من رؤساء الوفود، ومُنح مدة من الوقت لإلقاء كلمته في المؤتمر مساوية لما منح غيره من مدة، وقد جلس إلى طاولة المؤتمر بمنزلة غيره من رؤساء الوفود. أخيراً، حين رفضت إسرائيل وضع العلم الفلسطيني على طاولة المفاوضات، لم يجر وضع أي علم آخر.
الجولة الأولى من المفاوضات الثنائية: مدريد، 3/11/1991
قبل مغادرة مدريد، عقد الوفد الأردني - الفلسطيني المشترك مع الوفد الإسرائيلي جولة من المحادثات الثنائية مدة يوم كامل. وقد اتُفق في نهاية الجولة على أن المفاوضات ستجري "على أساس قراري مجلس الأمن 242 و 338."(5) وكان البعض قد توقع أن يفلح المندوبون الفلسطينيون في التوصل إلى عقد اجتماع منفصل مع الجانب الإسرائيلي بُعَيد جلسة افتتاح ثلاثية رسمية. لكن هذا لم يحدث. ومع ذلك، فقد وافق الوفد الإسرائيلي على أن المفاوضات "ستجري على مسارين: مسار فلسطيني - إسرائيلي، ومسار أردني - إسرائيلي." واعتقد كثيرون من الفلسطينيين يومها أن ذلك أقل ما يمكن أن يفعله الإسرائيليون، لكن في وسع المرء اليوم، إذا ما نظر إلى الماضي، أن يقول عن ذلك كان إنجازاً سريعاً حقاً.
الجولة الثانية: واشنطن، 4 - 17/12/1991
كان من المقرر أن تبدأ الجولة الثانية في واشنطن في 4 كانون الأول/ديسمبر، لكنها لم تبدأ إلا في العاشر منه بسبب ما أعربت إسرائيل عنه من استياء حيال كون مكان المفاوضات قد "فُرض فرضاً". والقول إن الجولة قد بدأت إنما هو تعبير مجازي، ذلك لأن المفاوضين لم يصلوا إلى طاولة المفاوضات قط؛ بل إن المناقشات اقتصرت على رؤساء الوفود الإسرائيلي والأردني والفلسطيني، وجرت في أروقة وزارة الخارجية التي كان من المفترض أن تُعقد المحادثات فيها.
وقد دار الجدل حول صفة المسار الفلسطيني - الإسرائيلي بالنسبة إلى "الهيئة" الأردنية - الفلسطينية - الإسرائيلية الكاملة. وكان الجانب الفلسطيني يأمل بالبناء على نتائج الجولة الأولى في مدريد، ويعتبر، بالتوافق مع الأردنيين، أن على المسارين أن يشرعا في الاجتماع في قاعتين منفصلتين من دون أدنى تأخير. وكان ذلك يوحي بأن الفلسطينيين والأردنيين يمثلان وفدين متمايزين في كل شيء إلا في الاسم. وقد جاء الوفد الإسرائيلي إلى واشنطن بمحاولة للتراجع عن الوعود التي كان قد قطعها في مدريد؛ فالموقف الإسرائيلي كان يقضي بتأليف بضع لجان فرعية وفرق عمل لمعالجة القضايا التي تنشأ عن جدول أعمال مشترك يتفق عليه الوفد الإسرائيلي والوفد الأردني - الفلسطيني المشترك. وتوسم هذه القضايا بأنها قضايا فلسطينية الصفة أو أردنية الصفة، إلا إنها تخضع لمعالجة اللجان الفرعية، بصرف النظر عن تشكيلها الوطني.
ومع أن الإسرائيليين تخلَّوا سريعاً عن هذه المقاربة ووافقوا على صيغة المسارين، فقد ظلوا يريدون التقليل من شأن استقلال المسار الفلسطيني (وبالتالي الهوية الفلسطينية)، وذلك من خلال التركيز على صلاحيات الهيئة المكتملة، والانتقاص من أوالية المسارين، بل مع محاولة جعل الهيئة المكتملة ضرباً من جهاز "توجيه" للمسارين. وقد تركزت المناقشات أسبوعاً كاملا على الصلاحيات الخاص بكل من المسارين بالنسبة إلى الهيئة المكتملة. وكان من مسائل الخلاف عدد المندوبين المشاركين في كل من المسارين وفي الهيئة المكتملة، ومنها أيضاً هل تجتمع الهيئة المكتملة بالاتفاق المتبادل أم بطلب أي من الفرقاء، وهل يحق لها معالجة القضايا الجوهرية أم الشؤون الإجرائية فحسب، وهل يوضع جدول الأعمال العام من قبل الهيئة المكتملة أم يخول كل مسار صلاحية وضع جدول أعمال خاص به.(6)
وقد بدا لفترة من الوقت أن مواقف الفريقين باتت متقاربة إلى حد يتيح الاتفاق، لكن في نهاية الجولة تقريباً كانت الاختلافات أغلب. وبصرف النظر عن الاعتبارات التكتية، ثمة سببان قد يكون من شأنهما تفسير أسباب العجز خلال الجولة عن بلوغ اتفاق على هذه المسألة: السبب الأول هو أن أسبوعا واحداً فترة أقصر من أن تكفي إذابة جو الارتياب وعدم الثقة الناجم عن التباين الأصلي في التوقعات وفي المواقف من مسألة عظيمة الرمزية أعتقد الفريقان، وربما بالغا في اعتقادهما، أنها ستخلِّف على نتيجة المفاوضات آثاراً خطرة الشأن. السبب الثاني هو أن ما كان يفترض أن يكون مجرد محاولة لتصميم شكل معين للاجتماعات قد تحول إلى محاولة لوضع بيان مشترك بشأن شكل الاجتماعات. فعلى مدى سبعة أيام انجرَّ الفريقان، من حيث لا يشعران، إلى تبادل مسوّدات عدة لبيان مشترك. ولما كانت كل كلمة مصدراً للخلاف في بيان كهذا، فإن الخلاف لم ينحصر في قضية مساري المحادثات بل تعداها إلى الصيغة الكلامية التي كانت ثانوية بالنسبة إلى تلك القضية، وإنْ كانت مهمة في حد ذاتها.
الجولة الثالثة: واشنطن، 13 - 16/1/1992
لا يمكن لأية عملية تفاوض أن تجري بمعزل عما يعتمل من عوامل على الأرض. من هذه العوامل التي عرقلت الاتفاق في جولة كانون الأول/ديسمبر نشاط الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية وغزة، وهو عامل استمر في تسميم العملية كلها، أو حتى عرَّضها للتوقف. فخلال الأسبوع الثاني من كانون الأول/ديسمبر 1991 حلَّت جماعة من المستوطنين في بعض منازل الفلسطينيين في سلوان، القدس الشرقية، وهو ما حمل الوفد الفلسطيني على توجيه احتجاج شديد إلى نظيره الإسرائيلي. ومن هذه العوامل أيضاً ما كان في أوائل كانون الثاني/يناير من قرار إسرائيل إبعاد اثني عشر فلسطينياً وما استجرَّه هذا القرار من تأجيل جولة كانون الثاني/يناير التي كان من المقرر أن تبدأ في السابع من الشهر، بعد ما علَّق الفلسطينيون، يؤيدهم في ذلك باقي الوفود العربية، سفرهم إلى واشنطن. ثم إن الجولة بدأت أخيراً في الثالث عشر منه بعدما صوَّتت الولايات المتحدة إلى جانب قرار مجلس الأمن رقم 726، الذي أدان القرار الإسرائيلي بشدة. ومن الجدير بالملاحظة أيضاً أنه ابتداء من هذه الجولة (وفي ما عقبها من جولات) منحت وزارة الخارجية الأميركية منسق منظمة التحرير في المحادثات الثنائية نبيل شعث تأشيرة دخول، بعد امتناعها من ذلك في السابق.
وقد تم في بداية الجولة التوصل إلى اتفاق على المسارين، وذلك بفعل الوساطة الأميركية، لا بل بفعل الضغط الأميركي على الجانب الفلسطيني أكثر منه على الجانب الإسرائيلي. وجاء في هذا الاتفاق(7) أن كل جولة من المحادثات ستتكون من اجتماعات على المسارين، شرط أن يتشكل المسار الفلسطيني من تسعة فلسطينيين وأردنِيَّيْن اثنين وأن يتشكل المسار الأردني من تسعة أُردنيين وفلسطينِيَّينْ اثنين (والغرض من هذا الخلط الحفاظ على مظهر أن الوفد أردني - فلسطيني مشترك). وتُفتح كل جولة من المفاوضات وتُختم بـ "اجتماع عام للمندوبين"، يحضره ثمانية فلسطينيين وأحد عشر أردنياً وثلاثة عشر إسرائيلياً. ويمكن لهذا "الاجتماع العام" أن ينعقد في أي وقت غبّ الطلب لمناقشة مسائل جوهرية، إلا إنه على مدى الجولات الثماني التي تمت حتى الآن لم يُعقد "الاجتماع" إلا للبحث في شؤون إجرائية. وإذا ما نظر المرء نظرة استرجاعية إلى هذا الاتفاق، في ضوء ما عقد من جولات في عهد حكومة شمير، وَجَد أن الاتفاق لم يكن رديئاً من وجهة النظر الفلسطينية؛ أما المرونة النسبية التي أبداها الجانب الإسرائيلي فلعلها تُعزى إلى رغبة الحكومة الإسرائيلية في عدم عرقلة مناقشة الكونغرس لمسألة ضمانات القروض (بعشرة مليارات دولار) المدرجة في جدول أعماله في 22 كانون الثاني/يناير.
وقد أتاح حل مسألة المسارين هذه لكلا الفريقين أن يطلق رشقاته الافتتاحية في شأن جوهر ترتيبات الحكومة الذاتية الانتقالية في 14 كانون الثاني/يناير. كان كل من الفريقين يودُّ الاحتفاظ بزمام المبادرة مع محاولة الظهور بمظهر التصرف وفقاً للأصول المرجعية العامة في الوقت نفسه. فقدم الجانب الإسرائيلي مسودة جدول أعمال، من 200 كلمة، لإدارة المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية. اما مضمون المسودة، التي استُخرجت على عجل من مشروع جدول أعمال شامل مؤرخ في 6 كانون الأول/ديسمبر 1991 كان قد قُدِّم إلى الأردنيين والفلسطينيين معاً في 13 كانون الثاني/يناير ورُفض من قِبل الطرفين، فكان يوحي بمحدودية نظرة إسرائيل إلى الفترة الانتقالية.(8) وقدم الجانب الفلسطيني مسودة جدول أعمال، من 130 كلمة، وخلاصة المنظور الفلسطيني للحكومة الذاتية خلال الفترة الانتقالية الذي يستند إلى انتخابات حرة تُجرى بإشراف دولي.(9) هذه الوثائق الثلاث أعطت أولى الأدلة الرسمية على الهوة الواسعة التي تفصل بين تصور كل من الفريقين. لكن لما كانت هذه التصورات قد قُدمت بتوسع أكبر في الجولة التالية من دون أي تغيير، فإننا سنعالجها لاحقاً.
كانت الوثيقتان اللتان تقدم الجانب الفلسطيني بهما تعبيراً عن مقاربة لم تزل ذات شعبتين: فمن جهة، أراد الجانب الفلسطيني أن يخوض مناقشة صيغته الخاصة للحكومة الذاتية؛ ومن جهة أُخرى، لم يكن أمامه أي خيار بديل من أن يعدِّد في طليعة جدول أعاله المقترح اهتمامات حيوية مثل: (أ) مواقفه من القدس والقرار رقم 242، والحق في تقرير المصير؛ (ب) المطالبة بوقف فوري لأنشطة الاستيطان وتطليق أحكام اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي المحتلة. وقد تمسك الجانب الفلسطيني بذلك تمسكاً ثابتاً لا يتزحزح، ليس فقط في مقترحاته اللاحقة في شأن بنود جدول الأعمال، بل أيضاً في جميع وثائقه المكتوبة وتصريحاته الشفهية في كل اجتماع تقريباً.
والواقع أن ذلك كان أضعف النقاط في استراتيجية التفاوض الفلسطينية؛ فقد شعر الفلسطينيون بأنهم ليسوا في موقع يمكنهم من التصرف وفقاً لميولهم الحقيقية (وللمطالب الملحة من قبل قاعدتهم الشعبية ومن قبل المعارضة الفلسطينية) المتمثلة في طرح هذه المطالب باعتبارها شروطاً مسبقة للشروع في المفاوضات. ولو أن هذه المطالب أُدرجت بمنزلة الشروط المسبقة لَمَا تقدّم الجانب الفلسطيني إذ ذاك بأي تصور في شأن الحكومة الذاتية أو لكان انسحب من قاعة المفاوضات إلى أن يلبي الجانب الآخر هذه الشروط. فالمقاربة ذات الشعبتين - أي الإعراب عن مطالبهم في القضايا الجوهرية مع السعي في الوقت نفسه للتقدم في مفاوضات الحكومة الذاتية، وذلك تفادياً لتأخير وقف أنشطة الاستيطان والتدابير القمعية - كانت المخرج الوحيد من المعضلة باستثناء ترك المفاوضات ومقاطعتها.
إلا إن هذه الاستراتيجية، أياً تكن مَوَاطن ضعفها قياساً بميزان القوى الفلسطيني - الإسرائيلي، لم تكن عديمة الفائدة من الناحية السياسية. فالشروع في مناقشة الحكومة الذاتية كان يعدُّ موقفاً بناء من وجهة النظر الأميركية، وربما كان من شأنه أن يقود إلى ربط جادّ بين ضمانات قروض المليارات العشرة ومسألة تجميد الاستيطان. ثم إن هذا الشروع قد خلف أثراً مباشراً في السياسة الداخلية الإسرائيلية، وهذا أم أهم. ذلك بأن مجرد ظهور المسار الفلسطيني - الإسرائيلي بمظهر الشروع في مناقشة الحكومة الذاتية قد عجَّل استقالة وزراء هتحيا وموليدت من حكومة شمير في 19 كانون الثاني/يناير. وقد قادت هذه الاستقالات إلى حرمان الحكومة مما تحظى به من أغلبية في الكنيست وأفضت في 4 شباط/فبراير إلى قرار إجراء انتخابات مبكرة في 23 حزيران/يونيو.
الجولة الرابعة: واشنطن، 24/2 – 4/3/1992
في الفترة الواقعة بين الجولتين الثالثة والرابعة تمكّن الفلسطينيون من تسجيل نقطة مهمة عند افتتاح المفاوضات المتعدّدة الأطراف في موسكو في 28 كانون الثاني/يناير. فمع أنهم مُنِعوا من المشاركة في المؤتمر لأن وفدهم كان مؤلفاً من فلسطينيي "الخارج" والأراضي المحتلة، ومنها القدس، فقد حصلوا على تعهُّد يجيز لفلسطينيي الشتات أن يكونوا أعضاء في الوفود الفلسطينية ضمن فرق العمل الملائمة (كالتنمية الاقتصادية واللاجئين). وقد عزَّز ذلك آمال الفلسطينيين بأن "قواعد مدريد الأساسية" ليست مقدسة بل يمكن تجاوزها. ومن الجدير بالذكر هنا الرسالة التي أرسلها وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر إلى فيصل الحسيني في شباط/فبراير، بوصفه رئيس الفريق الفلسطيني إلى مؤتمر السلام، والتي يكرر فيها التزام الرئيس بوش التسوية الشاملة. وقد جاء في الرسالة، التي أكدت أن الإدارة الأميركية تشارك في العملية لـ "تحقيق مصالح الولايات المتحدة القومية الحيوية"، حث للجانب الفلسطيني على "إدخال مزيد من التفصيلات"، على خطته لترتيبات الحكومة الذاتية في المرحلة الانتقالية.(10)
لكن قبل المغادرة لحضور الجولة الرابعة في واشنطن، ذُكِّر المندوبون الفلسطينيون بهشاشة وضعهم. فقد منعت السلطات العسكرية الإسرائيلية عضوين من أعضاء فريقهم المساند من مرافقة الوفد. ولفت هذا الحادث الأنظار إلى افتقار المفاوضين أنفسهم إلى الحصانة، فضلاً عن المشكلات التي ينبغي لهم مواجهتها من حيث أنهم أفراد مدعوون إلى القيام بمهمات دبلوماسية على الرغم من أنهم تحت الاحتلال:سلامتهم الشخصية وأمنهم؛ سرية الوثائق التي في حيازتهم؛ حماية محفوظاتهم وأماكن اجتماعاتهم؛ حرية تحركهم من الأراضي المحتلة وغليها وفي أنحائها كافة؛ حقهم في نقل أجهزة الكمبيوتر وغيرها من دون ممانعة أو تعويق، وما إلى ذلك. وعلى الرغم من هذا كله، فقد غادر الوفد إلى واشنطن من دون تحقيق أي تقدم في هذه المسألة التي ما زالت تنتظر حتى الآن حلاً مرضياً.
تم خلال الجولة الرابعة تبادل وثيقتين رسميتين؛ ففي الجلسة الافتتاحية قدم الجانب الإسرائيلي وثيقة تحمل تاريخ 20 شباط/فبراير، عنوانها "أفكار من أجل التعايش السلمي في الأراضي خلال الفترة الانتقالية."(11) وفي 3 آذار/مارسن قدم الجانب الفلسطيني وثيقة عنوانها "خطة موسعة: ترتيبات فترة الحكومة الذاتية الانتقالية: تصورات، إجراءات تمهيدية وكيفية الانتخابات."(12) ومن نافل القول إن الوثيقتين كانتا شديدتي التباين.
على ماذا اشتملت الوثيقة الإسرائيلية وماذا أغفلت؟ لقد شكلت هذه الوثيقة تراجعاً ملحوظاً عن شروط الحكومة الذاتية التي نصت اتفاقية كامب ديفيد عليها. فهي، خلافاً للاتفاقية، لم تذكر "سلطة" منتخبة للحكومة الذاتي تحل محل الحكم العسكري القائم الذي نُصَّ على انسحابه؛ ولم تُشر إلى الانتخابات أو إلى نقل السلطة وانسحاب القوات المسلحة الإسرائيلية؛ ولا إلى القرار رقم 242 والمفاوضات بشأن الوضع النهائي التي ينبغي أن تبدأ خلال الفترة الانتقالية.
ومما اشتملت الوثيقة عليه النص المتعلق بالحدود والقيود التي تقيد ترتيبات الحكومة الذاتية الانتقالية. فقد نصت على كون إسرائيل مصدر السلطة وعلى أن "القوانين والأوامر المعمول بها في يهودا والسامرة وقطاع غزة" ستظل سارية المفعول. والأهم من ذلك هو أن "كل الصلاحيات المقررة استناداً" إلى أن هذه القوانين والأوامر ستظل على ما هي. وفي هذا السياق "تفوض" السلطات والصلاحيات إلى "أجهزة ترتيبات الحكومة الذاتية الانتقالية" (كذا!) في اثنتي عشرة دائرة من دوائر النشاط، معدَّدة بصورة حصرية: إدارة القضاء؛ إدارة شؤون الموظفين؛ الزراعة؛ التربية والثقافة؛ الميزانية والضرائب؛ الصحة؛ الصناعة والتجارة والسياحة؛ الشؤون البلدية؛ الشؤون الدينية. أما السلطات والصلاحيات التي لم تحدَّد وتلك التي لم تفوَّض فتحتفظ إسرائيل بها.
وبذلك تكون الترتيبات إجراءات تتعلق بالسكان ولا تتعلق بوضع الأراضي المحتلة؛ إذ إن طبيعة "أجهزة الترتيبات" ستكون إدارية - وظيفية. وأما صلاحيات هذه الأجهزة وسلطاتها فستكون موضع ترتيبات تنسيق وتعاون مع إسرائيل "من أعلى مستويات التخطيط إلى أدنى مستويات التنفيذ." كما أن هذه الصلاحيات لن "تُطبَّق إلا على العرب من سكان يهودا والسامرة وقطاع غزة"، ولا تطبق على المدنيين الإسرائيليين المقيمين هناك ولا على الفلسطينيين في القدس التي تعتبرها الوثيقة الإسرائيلية "عاصمة إسرائيل، التي ليست جزءاً من المناطق. أما الأمن بأوجهه كافة - الخارجي منه والداخلي والنظام العام - فيكون من مسؤولية إسرائيل الحصرية. وسيستمر الإسرائيليون، بـ "مقتضى حقهم" في العيش والاستيطان في الأراضي المحتلة. وقد خلت الصيغة الإسرائيلية من أية إشارة إلى الإشراف على الأرض والمياه. كما أنها لم تتضمن أية إشارة أو أي تلميح إلى أن الفلسطينيين الذين ستفوض هذه السلطات إليهم يشكلون هيئة ما أو كياناً واحداً، هذا بصرف النظر عن أية إشارة إلى سلطة مركزية.
أما الوثيقة الفلسطينية، فقد اقترحت نقيض ذلك تماماً. وقد سُلمت إلى الجانب الإسرائيلي مشفوعة برسالة تكرِّر بنود البرنامج الفلسطيني فيما يتعلق بإقامة دولة مستقلة، وتشير إلى "مبادرة السلام الفلسطينية الصادرة في تشرين الثاني [نوفمبرٍ 1988 وغلى غيرها من قرارات المجلس الوطني الفلسطيني ذات العلاقة بهذا الموضوع." إلا إن الوثيقة الفلسطينية في حد ذاتها، وإن جاز تفسيرها بأنها ترسم صورة دولة مع جميع ما يتعلق بها من دون أن تطلق هذا الاسم عليها، فهي قد التزمت التزاماً دقيقاً أصول مدريد المرجعية العامة وشروطها، حتى عندما مُطَّت هذه الشروط إلى أقصى حد. فقد تقيَّدت، على نحو أخص، برسالة الدعوة الصادر عن راعيي المؤتمر والداعية إلى إجراء محادثات بين إسرائيل والفلسطينيين في شأن "ترتيبات الحكومة الذاتية الانتقالية."
إن الموافقة على هذه الترتيبات تعني، من وجهة النظر الفلسطينية، انتخابات سلطة سياسية مركزية تمكن الشعب الفلسطيني في الأرض الفلسطينية المحتلة من أن يحكم ذاته بذاته. فمن شأن الانتخابات أن تأتي بمجلس تشريعي لفترة الحكومة الذاتية الانتقالية. ولما كانت أجهزة هذه الحكومة الذاتية منتخبة من قبل الفلسطينيين، فإنها ستستمد سلطتها منهم. ولذلكن ستكون لها سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية. كما أن صلاحياتها ستشمل الأرض الفلسطينية المحتلة بكاملها، وفي جملتها الأرض والمياه والموارد الطبيعية. وسيكون لها قوة من الشرطة تحفظ الأمن والنظام العام. أما الحكم العسكري الإسرائيلي وإدارته المدنية فيتم إلغاؤهما وتُنْقَل صلاحياتهما وسلطاتهما إلى أجهزة الحكومة الذاتية. وتكمل القوات الإسرائيلية المسلحة انسحابها إلى مناطق إعادة الانتشار على حدود الأرض الفلسطينية المحتلة. وتحضيراً لإقامة الحكومة الذاتية لا بد من تهيئة بعض الأوضاع للانتخابات الحرة، كالإشراف الدولي وإنهاء الرقابة العسكرية وبسحب الوحدات العسكرية إلى خارج المناطق الآهلة.
وقد شدَّدت الوثيقة الفلسطينية على ضرورة أن تسترشد العملية كلها بالقرار رقم 242 وعلى أن الحكومة الذاتية الفلسطينية في الفترة الانتقالية إنما هي طور مرحلي على طريق تطبيق القرار تطبيقاً كاملاً وممارسة الحق في تقرير المصير. أما القيود الوحيدة على سلطات الحكومة الذاتية التي قبلت الوثيقة النظر فيها فهي تلك التي تنبع من كونها ترتيباً انتقالياً ومن النتيجة التي يتفق عليها الطرفان والتي تسفر عنها عملية السلام." أخيراً، سكتت الوثيقة عن أمرين: فهي، أولاً، مع تأكيدها عدم شرعية المستوطنات، فإنها لم تشر إلى وضعها ولا إلى وضع المستوطنين خلال الفترة الانتقالية؛ وهي، ثانياً، مع إعلانها مسؤولية الحكومة الذاتية عن جميع أوجه النشاط، فإنها لم تتكلَّف تعدادها.
والواقع أن هذه المسألة الأخيرة كانت أهم مسائل الخلاف مع الجانب الإسرائيلي بل، وهذا أدعى إلى الدهشة، مع الولايات المتحدة. فقد أرادت الأخيرة أن يَشْرَع الفلسطينيون في "التشابك" التفاوضي، أي أن يبدأوا أخذ كل ما يعرضه الإسرائيليون عليهم، وغن لم يتعدَّ ذلك المسؤولية عن "جمع النفايات". فقد كان الموقف الأميركي أن على الفلسطينيين أن يبحثوا في كل بند من البنود المحددة (كل دائرة من دوائر النشاط مثلاً) وأن يفصِّلوا للجانب الإسرائيلي مواطن الاتفاق معهم فيه ومواطن الخلاف. ولئن كان الفلسطينيون يريدون من الولايات المتحدة أن تتدخل، فعليهم أن يعبروا عن اختلافاتهم مع الإسرائيليين. بل إن بعض الرسميين الأميركيين أشاع في نهاية الجولة أنه يتهم الفلسطينيين بـ "تسجيل المواقف بدلاً من التفاوض."
والموقف الأميركي يجوز تفسيره، في أفضل الأحوال، بأنه موقف توازن يهدف إلى درء الانتقادات الموجهة ضد الإدارة من جراء موقفها الحازم من قضية ضمانات القروض لإسرائيل. إلا إنه كان من حيث الفحوى يبدو متضافراً مع موقف الإسرائيليين التفاوضي: فقد أراد الإسرائيليون حصر المفاوضات في الكيفيات والشروط التي يمكن في إطارها أن تفوض إلى إدارة فلسطينية بعض الشؤون المتعلقة بحياة الفلسطينيين اليومية. وفي وسع الإسرائيليين إذ يفعلون ذلك أن يظهروا بمظهر السخاء والبراغماتية، وإنْ كان يُمْلون فعلاً التصور الأساسي الذي يتم بمقتضاه نقل إدارة تلك الشؤون، أي تصور السيطرة والإشراف الإسرائيليين الكاملين.
وبالنسبة إلى الفلسطينيين، فقد انتهت الجولة الرابعة بنتائج متفاوتة؛ فهم، من جهة، قد تقدموا باقتراح ِ نموذجٍ صِيغَ في غاية التروي بحيث لا يفرِّط في المبادىء والأهداف الفلسطينية ولا ينتهك قواعد اللعبة الموضوعة لمؤتمر مدريد. وكان عليهم، من أجل بلوغ هاتين الغايتين، أن يتغلبوا على تحفظات ـ إنْ لم نقُل معارضة متنامية ـ من قِبل أحزاب (كحزب الشعب، أي الحزب الشيوعي الفلسطيني سابقاً) وجماعات (داخل "فتح") تؤيد المفاوضات لكنها ترى أن من المبكر جداً التقدم باقتراح نموذج، أو أنه يجب وقف الاستيطان أولاً. ومن جهة أُخرى شعر الفلسطينيون بالارتياب بسبب الموقف الأميركي وعدم جدوى المقترحات الإسرائيلية.
الجولة الخامسة: واشنطن، 27 - 30/4/1992
لم تكن ثمة توقعات من الجولة الخامسة؛ إذ إنها صُمِّمت لتكون قصيرة، وكان المتوقع منها أن تكون الأخيرة قبل الانتخابات الإسرائيلية. وكان أهم غايات الأطراف كلهم ضمان الانتقال والاستمرار إلى ما بعد الانتخابات مهما تكن نتائجها، وإبقاء الخيارات مفتوحة أمام مستقبل لا يمكن التنبؤ به. ومع ذلك فقد جاء كل من الفريقين وفي نيته تدعيم ما بدا أنه موطن ضعفه في اللقاء السابق. وبالنسبة إلى الإسرائيليين، كان ذلك ينحصر في قضية الانتخابات الفلسطينية. أما بالنسبة إلى الفلسطينيين، فكان مدار ذلك التفاوض في شأن التفصيلات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن "موطن الضعف" هنا عبارة نسبية تدل على مدى ما كان كل من الجانبين يدرك كيف يظهر في رأي المرجع الأميركي (غير القريب من الإنصاف).
فالجانب الإسرائيلي لم يكن يستطيع أن يطَّرح اقتراح الانتخابات الفلسطينية (الذي قدم في 3 آذار/مارس ضمن المقترحات الفلسطينية الموسعة) بمثل ما اطَّرح التصور الفلسطيني لترتيبات الحكومة الذاتية الانتقالية من سهولة. هنا كان لدى الفلسطينيين اقتراح عملي جذّاب يسهل الدفاع عنه، بينما كانت الوثيقة الإسرائيلية المقدمة في الجولة الرابعة عينها تفتقر إلى أية إشارة إلى الانتخابات. وقد ظن الجانب الإسرائيلي أن في وسعه أن يجد مخرجاً من موقفه الحرِج حيال الموضوع بأن قدم في الجلسة الافتتاحية في 27 نيسان/ابريل اقتراحاً للانتخابات البلدية "على سبيل التجربة.(13) وقد أمِلت إسرائيل من خطوتها هذه بأن تسجل هدفين: فمع الظهور بمظهر الملتزم بالأصول الديمقراطية، تستطيع انتهاز الفرصة لتبيِّن "أن الضغوط التي يمارسها في الراضي المتطرفون من شتى النزعات، الأصوليون منهم وغير الأصوليين، وعمليات الاغتيال الداخلية في صفوف الفلسطينيين أنفسهم" تحول دون إجراء انتخابات من أجل سلطة الحكومة الذاتية الانتقالية.
وقد بيَّن اقتراح الانتخابات البلدية - فضلاً عن اقتراح آخر قُدِّم في اليوم نفسه ويقضي بتسليم "مجال الخدمات الصحية فورا" للفلسطينيين - أن عند الإسرائيليين بدائل أكثر من مجرد التفاوض الجاد توصلاً إلى اتفاق رسمي أو المراوغة لكسب الوقت. فمن البيِّن أن الاستراتيجية البديلة الثالثة كانت تتمثل في طرح مقترحات على الطاولة في محاولة مباشرة للتأثير في الأوضاع على الأرض، فتستغل لهذه الغاية ردة الفعل التي يعتمدها المفاوضون الفلسطينيون، مهما تكن، وتستعمل عامل تفرقة في السياسة الداخلية الفلسطينية. وبعبارة أُخرى، لعل القصد من وراء اقتراح الانتخابات البلدية واقتراح الخدمات الصحية لم يكن التقدم خطوة في اتجاه رسمي على الفترة الانتقالية، بل طرح بديل من الاتفاق.
وقد أدرك الفلسطينيون التكتيكات الإسرائيلية بسرعة ورفضوا النظر إلى فكرة الانتخابات البلدية بعين الجد. وفي "مذكرة في شأن مسألة الانتخابات" تحمل تاريخ 28 نيسان/أبريل، بيَّن الفلسطينيون أن الاقتراح لا علاقة له بالمفاوضات، وأن الحكم العسكري الإسرائيلي عجز في الماضي عن منع محاولات اغتيال رؤساء بلديات فلسطينيين منتخبين، كما أنه أقال غيرهم أو أبعدهم عن ديارهم، وأن أصول المفاوضات المتعلقة بنقل السلطة إلى الفلسطينيين إنما تعني إجراء انتخابات عامة حرَّة مبنية على حق الجميع في الاقتراع. والمطلوب في إطار المفاوضات هو إنشاء سلطة مركزية من خلال انتخابات وطنية، لا اختيار نفر من الأشخاص في بعض الانتخابات البلدية وتنصيبهم بدائل من السلطة المركزية. إذ ما أن يتم انتخاب هذه السلطة حتى تقوم بتنظيم الانتخابات البلدية باعتبارها من المسؤوليات التي تشملها صلاحياتها.
أما فيما يتعلق بـ "موطن الضعف" الخاص به - وفق الاتهامات الأميركية، أي تفضيل "المبادىء العامة"، فضلاً عما يبدو من ممانعة في التعامل منذ البداية مع مجالات محددة من المسؤوليات - فإن الجانب الفلسطيني لم يجد صعوبة كبيرة في الرد بهجوم مضاد. فمن ذلك أنه قدَّم إلى الوفد الإسرائيلي، في 29 نيسان/أبريل، سلسلة من المطالب المكتوبة، اشتملت على المطالبة بإلغاء الأمر العسكري رقم 291 الذي صدر سنة 1968 والذي عُلِّقت بمقتضاه عمليات تسجيل العقارات في الراضي المحتلة؛ والمطالبة بتعليق الخطط التي وضعتها إسرائيل لاستعمال الأراضي والتي أدخلت تغييرات في قانون التنظيم المدني والقروي الأردي الصادر سنة 1966، وذلك لما استجرَّته هذه التعديلات من إبقاء 70% من الأراضي خارج متناول الفلسطينيين، مع وضعها في تصرف المستوطنات اليهودية؛ والمطالبة بإبطال التدابير التي خوَّلت "شركة المياه الوطنية" الإسرائيلية حق السيطرة على جميع موارد المياه في الأراضي المحتلة سنة 1982، بعد أن ظلَّت حتى ذلك التاريخ بإشراف الحاكم العسكري؛ والمطالبة بحرية الاطلاع على السجلات العامة، كسجل السكان، وتسجيل العقارات، والتخطيط لاستعمال الأراضي، وميزانية "الإدارة المدنية" التابعة للحكم العسكري.
إن هذه المطالب إذ تناولت مسائل محدَّدة وأثارت، عملياً، الشكوك في طبيعة الاحتلال الإسرائيلي التمييزية، فقد طاولت جوهر الأسس التي تقوم عليها خطة إسرائيل لمستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد كان من شأن المطالب، الصادرة عن مقاربة قانونية لا تقبل الطعن إذا ما نُظر إليها في دولة منقادة إلى حكم القانون، أن قدمت دعماً إضافياً إلى تماسك الخطة الفلسطينية الخاصة بترتيبات الحكومة الذاتية الانتقالية، وانطوت على إمكان نسف النموذج الإسرائيلي لهذه الترتيبات. لكن ما وزن المسعى الفلسطيني للتماسك والاتساق إذا ما قيس بقوة الاحتلال المحضة أو قيس بالهوة الفاغرة بين التطلعات الوطنية الفلسطينية وبين مواقف الولايات المتحدة، بوصفها راعية لعملية السلام؟
الانتقال من شمير إلى رابين
لئن لم تسفر الجولة الخامسة ن أي تقدم فإنها على الأقل أتاحت، مع الجولة السابقة، طرح فكرة أوشح بشأن موقف كلا الفريقين من جوهر المفاوضات. وفي الوقت الذي كان الإسرائيليون منهمكين في حملتهم الانتخابية الخاصة، عكفت المؤسسات الفلسطينية على تقويم العملية كلها. فقد اجتمع المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية مثلاً، بين 7 و 10 أيار/مايو، وأعرب في بيانه الختامي(14) عن تقديره العالي لأداء الوفد المفاوض "الذي هو وفد م.ت.ف. ووفد الشعب"، وأكد استعداده لمواصلة التزامه عملية السلام. كما أنه حذّر، في الوقت نفسه، من التعنت الإسرائيلي ومن خطر عدم التقيد بالجدول الزمني المحدَّد لإتمام الاتفاق على الترتيبات الانتقالية (أي بعد عام من افتتاح مؤتمر مدريد).
وعلاوة على إعطاء الضوء الأخضر لاستمرار المشاركة الفلسطينية في المحادثات الثنائية، كان اجتماع المجلس المركزي حرياً بالاهتمام لتحقيقه إنجازين رمزيين: أولهما إنه فتح الطريق أمام المشاركة الفلسطينية في فرق العمل المتعددة الأطراف، التي سيشترك في اثنين منها (اللاجئون والتنمية الاقتصادية) وفدان يرئسهما فلسطينيان من خارج الأراضي المحتلة؛ ثانيهما إنه على الرغم من أن بعض أعضاء الوفد الفلسطيني المشارك في محادثات السلام في واشنطن كان قد سافر إلى تونس من قبل وشارك في اجتماعات منظمة التحرير، فإن اجتماع المجلس المركزي هذه المرة قد اتسم بمشاركة هؤلاء بصورة مكشوفة ومعلنة في جلسة رسمية من أعمال إحدى هيئات المنظمة.
منذ انعقاد مؤتمر مدريد، راحت الصلات بين فلسطينيي الأراضي المحتلة ومنظمة التحرير تظهر إلى العلن على نحو متزايد. ففي 15 نيسان/ أبريل استقبل الرئيس ياسر عرفات، الذي كان قبل أسبوع قد نجا من حادث تحكم طائرة في جنوب ليبيا، الوفد الفلسطيني كله مع لجنة المستشارين المرافقة له في القاهرة. ثم إن العلاقة بين المنظمة والوفد قد بدت للعيان بحيث لم يعد من الممكن النظر إلى الوفد باعتباره يتلقى الضوء الأخضر من المنظمة، بل باعتباره فريقاً يتلقى التوجيهات من قيادته مع المشاركة في عملية صوغ القرار. فمن أجل زيادة هذا الأمر وضوحاً، ومن أجل توسيع قواعد اللعبة على مرأى من أية حكومة إسرائيلية مقبلة، استقبل رئيس المنظمة وسواه من المسؤولين الوفد المفاوض رسمياً وعلانية في عمان يوم 18 حزيران/يونيو، أي قبل خمسة أيام من إجراء الانتخابات الإسرائيلية. ومن النتائج الأُخرى لذلك في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث راحت المنظمات الأعضاء في منظمة التحرير تزيد في ظهورها السياسي.
وجاء فوز حزب العمل الإسرائيلي بنفحة جديدة من التفاؤل للفلسطينيين، وذلك بسبب ما كان رابين قد أدلى به من تصريحات توحي باستعداده لمحادثة الفلسطينيين بمعزل عن الأردنيين، مظهراً أنه لا يرى ضرورة لوجود وفد مشترك. كما أنه كان قد سخر من رفض شمير الاعتراف بوجود علاقة بين المفاوضين الفلسطينيين ومنظمة التحرير الفلسطينية، كما هزأ بفكرة الحكم الذاتي للشعب من دون الأراضي. ولذلك كان المأمول أن تبدأ الحكومة الإسرائيلية الجديدة، المستندة إلى تحالف مع حزب ميرتس اليساري، مرحلة جديدة، ربما انطوت على محادثات مباشرة مع منظمة التحرير، وإشراك أعضاء مقدسيين في الوفد الفلسطيني، وتقصير فترة الأعوام الخمسة الانتقالية، وبلوغ حل سريع لمسألتي الأرض والسلطة الفلسطينية المركزية، والربط الواضح بين الفترة الانتقالية والمبادىء التي ستحكم التسوية النهائية، وما إلى ذلك.
أدّى توقع تحسن الأجواء إلى تكثيف الاستعدادات للجولة السادسة المقرر انعقادها في نهاية آب/أغسطس. ففي الجانب الفلسطيني بدأ العمل بصورة خاصة على وضع نص أكثر قابلية لأن يكون وثيقة تفاوض ولتعجيل العملية، تالياً. وقد استلزم ذلك إعادة صوغ الخطة الفلسطينية للحكومة الذاتية بحيث تظل الصيغة الجديدة متسّقة مع المبادىء الأساسية، وتكون في الوقت نفسه أوجز عبارة، وتُكتب على نحو يجعلها قاعدة عملية أصلح للمناقشة. وكان المأمول أن يتم الاتفاق على نص متوسط، وأن يوقَّع قبل نهاية تشرين الأول/أكتوبر، أي قبل انتهاء "المهلة" أو "التاريخ المحدد" لإنجاز الاتفاق على الفترة الانتقالية، مثلما ورد في رسالة الدعوة، وقبل أيام من الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. والنص المتوسط لن يكون، بحسب ما كان يؤمل به، نص الاتفاق على الفترة الانتقالية في ذاته، بل مجموعة من المبادىء الأساسية، أو بياناً من صفحة واحدة يضم جميع نقاط الاتفاق بين الجانبين، أو إطاراً يمكِّن من تسهيل عقد اتفاق متكامل على الفترة الانتقالية.
لكن مع اقتراب جولة آب/أغسطس، برزت عوامل، منها تفصيلات خطة رابين "لتجميد الاستيطان" وتمييزه المستوطنات الأمنية من المستوطنات السياسية، وتراجعه بصورة عامة عن مواقف واعدة أكثر، ومنها افتقار حزب العمل إلى أية نظرية مجرَّبة في شأن الحكم الذاتي (إذ إن فكرة الحكم الذاتي كانت من اختراع الليكود سنة 1977، ومنها أن الوفد الإسرائيلي المفاوض الأصلي قد استُبقي. وبدأت هذه العوامل كلها تتضافر عندئذٍ على إشاعة جو من الحيرة والشكوك حيال ما يخبئه الإسرائيليون. وكان من الأفضل، في نظر الفلسطينيين، الإبقاء على الخيارات كلها مفتوحة والاستعداد لها إلى أن يكشف الجانب الإسرائيلي أوراقه في قاعة المفاوضات.
الجولة السادسة": واشنطن، 24/8 - 24/9/1992
جرت الجولة السادسة على مرحلتين، تفصل بينهما فترة استراحة مدتها عشرة أيام بهدف تمكين الأطراف من التشاور مع قياداتها. ومن المفيد، لأسباب عدة، أن ننظر إلى كل من المرحلتين على حدة.
المرحلة الأولى: 24/8 - 3/9/1992
في الاجتماع الأول الذي عقده المسار الفلسطيني - الإسرائيلي في 25 آب/أغسطس، قدم الجانب الإسرائيلي نصاً يحمل تاريخ 29 آب/أغسطس، وعنوانه: "المجلس الإداري لترتيبات الحكومة الذاتي الانتقالية: نظرة عامة".(15) ولم يختلف مضمون هذا النص اختلافاً يذكر عن وثيقة 20 شباط/فبراير التي قُدمت في عهد حكومة شمير. وهو لم يأت كسابقه، إلى ذكر القرار رقم 242، ولا إلى انسحاب القوات الإسرائيلية خلال الفترة الانتقالية، ولا إلى مسألتي الأرض والمياه. وقد جاء بقائمة أُدرجت فيها دوائر العمل السابقة نفسها، مع إضافة دائرة واحدة - هي البيئة - وتقسيم دائرة أُخرى إلى اثنتين، بحيث بات عدد الدوائر الإجمالي خمس عشرة دائرة.
إن أهم الأفكار الجديدة الواردة في النص الجديد ذِكْر مجلس إداري مؤلف من خمسة عشر عضواً (عضو واحد عن كل دائرة) يُنتخبون و "ينهضون معاً بأعباء إدارة المجلس الكلية." تلك أول التلميحات إلى فكرة هيئة فلسطينية أو وحدة مركزية. لكن نظراً إلى القيود التي وضعتها الوثيقة في شأن سلطاتها وصلاحياتها، فإنه لم يكن من الممكن بعدُ اعتبارها "سلطة" مركزية. والحق أن القيود المذكورة في الوثيقة الجديدة لم تختلف اختلافاً جوهرياً عن تلك المذكورة في وثيقة 20 شباط/فبراير. فمن ذلك أن المجلس الإداري لن تكون له إلا صلاحيات "إدارية - وظيفية" تفوَّض إليه (لم يكن ثمة من ذِكْر لـِ "نقل" السلطات من الحاكم العسكري إليه). أما سلطته في مجال سن أنظمة جديدة فتخضع للتعاون والتنسيق مع إسرائيل. ولم يُترك تحت السلطة والإشراف الفلسطينيين الحصريين، فيما يبدو، إلا دائرتان (هما الرعاية الاجتماعية وإدارة شؤون العاملين). يضاف إلى ذلك أن صلاحيات المجلس الإداري لا تطاول المجالات التي "تمس بحقوق إسرائيل ومصالحها، وسلطاتها الأخرى الباقية وفي جملتها تخصيصاً الأمن والإسرائيليون المقيمون في الأراضي [المحتلة]."
من ناحية أخرى، لم تتطرق هذه الوثيقة إلى بعض القضايا الخلافية التي ذُكرت في وثيقة شباط/فبراير. فقد كانت هذه الأخيرة قد نصت صراحة على استبعاد الفلسطينيين المقدسيين من المشاركة في ترتيبات فترة الحكومة الذاتية الانتقالية، كما استبعدت أية أبعاد جغرافية لهذه الترتيبات وأية تغييرات في القوانين والأوامر المعمول بها في الأراضي المحتلة. وكانت قد نصَّت صراحة أيضاً على أن مصدر السلطة سيظل في يد إسرائيل. ولم يُكرَّر أي قيد من هذه القيود في وثيقة آب/أغسطس، التي امتنعت أيضاً من استعمال الصيغ العدائية التي ظهرت في نص شباط/فبراير. وإذا ما نُظر إلى هذه التغييرات بعين التفاؤل فإنها تبدو أنها تدل على استعداد إسرائيلي للأخذ والعطاء في شأن هذه القضايا، خلال الأسابيع والأشهر اللاحقة. أما النظرة المتشائمة فقد تقلِّل من أهمية هذه التغييرات، وذلك على أساس أن صَاغَتَها الإسرائيليين شعروا بأن من غير الضروري تكرار تلك القيود لأن وثيقة أُخرى مرفقة (قُدمت في اليوم نفسه تحت عنوان "المفاوضات الخاصة بترتيبات الحكومة الذاتية الانتقالية: أفكار ومقترحات إضافية") نصّت صراحة على أن الوثيقة الجديدة مبنية على أفكر سابقة، أي على مقترحات قُدمت في عهد شمير.
في أية حال، فقد خاب رجاء الفلسطينيين بعدما توقعوا نصاً أكثر تعاوناً، وقد رأوا محقِّين أن الوثيقة الجديدة متحدرة من وثيقة شمير. وكان الأمر الجديد والوحيد في وثيقة آب/أغسطس فكرة "الهيئة" التي تضمَّنها اقتراح المجلس الإداري، إلا إن تضمينات المجلس الإداري ما لبثت أن قيَّدتها شروط (أو ضمانات، وفق المنظور المعتمد) صارمة إلى حد أنها أفرغت ذلك الاقتراح من مضمونه وجعلته لا يصلح منطلقاً للمفاوضات. وحتى من وجهة نظر التفاؤل، فإن الخطة الجديدة لم تقدم، فيما يبدون شيئاً أكثر من نوافذ في اتجاه انفتاح ممكن سيكون من شأن تحقيقه أن يمنح الجانب الإسرائيلي فرصاً للمطالبة بمزيد من التنازلات، بحيث يكون الفلسطينيون بعيدين، أو ربما أبعد، عن المبادىء الأساسية التي أعربوا عنها في صيغتهم الخاصة المتعلقة بترتيبات الفترة الانتقالية. فإذا كانت نوافذ الانفتاح هذه حاضرة حقاً في نص الخطة الجديدة بصورة ضمنية، فالأفضل للجانب الفلسطيني أن يثبت في موقعه وأن يمتنع من مناقشة هذه الخطة ـ لأن مناقشتها تعني التفاوض بحسب الشروط الإسرائيلية ـ والانتظار حتى تنكشف حقيقة نوافذ الانفتاح تلك تلقائياً (هذا مع الافتراض أن ليس ثمة من قيود على الوقت).
وقد قرر الجانب الفلسطيني ألاّ يتراجع عن موقفه الإيجابي من المفاوضات، وذلك مع توجيه الانتقاد الشديد إلى النص الإسرائيلي. ففي أول أيلول/سبتمبر، قدم وثيقة عنوانها "مسودة اقتراح: اتفاقية إطار في شأن ترتيبات الحكومة الذاتية الفلسطينية في الفترة الانتقالية".(16) وقد استمد نص هذا الاقتراح من وثيقة 3 آذار/مارس المتعلقة بالحكومة الذاتية، إلا إنه أضاف إلى مبادىء آذار/مارس الملخصة أعلاه النقاط التالية: تبسط الحماية الدولية خلال الفترة الانتقالية؛ وتبسط صلاحيات سلطة الحكومة الذاتية على جميع سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ وتشرف سلطة الحكومة الذاتية على الأنشطة الاقتصادية كافة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وعلى حركة الانتقال من الأراضي الفلسطينية وغليها؛ وتطبَّق الحكومة الذاتية على القدس الشرقية من دون أن يرتب ذلك أية نتائج بالنسبة إلى وضع مدينة القدس النهائي، كما أن سلطة الحكومة الذاتية ستكفل حرية تحرك أتباع الأديان كلها؛ أخيراًن تكون ترتيبات الأمن المتبادل موضع اتفاق ثنائي.
ومثلما تقدم إيضاحه من قبل، كانت غاية الفلسطينيين أن تكون مسودة الإطار، إذ نوقشت وتم الاتفاق بشأنها، قاعدة لمفاوضات أعمق تفضي إلى الاتفاق المتكامل الخاص بالفترة الانتقالية والمذكور في رسالة الدعوة إلى المؤتمر. لهذا السبب، كان هذا الاقتراح أقل ميلاً إلى التفسير والمحاججة، وأَمَيَلَ إلى الدقة، وأشد من وثيقة آذار/مارس توجهاً إلى العمل. وقد كُتب بأسلوب مباشر ومقتصد لا يترك مجالاً للاعتراض من باب اللغة واللهجة متى تمت الموافقة على المبادىء الأساسية التي يحويها. لكن الجانب الإسرائيلي لم يبدِ أدنى استعداد حتى لمناقشتها.
فترة الاستراحة: 4 - 13/9/1992
أتاحت الاستراحة لكل من الجانبين أن يعيد تقويم آخر المستجدات. ففي الجانب الفلسطيني لم تبدُ المحادثات واعدة عندما نُظر إليها في إطارها الأعم. وكان بعض التقدم المهم قد حدث في المسار السوري - الإسرائيلي؛ إذ قَبِل الجانب الإسرائيلي تطبيق القرار رقم 242 وإمكان انسحاب "في" الجولان، بينما تحدث السوريون أول مرة عن معاهدة سلام بشروط معينة. لذلك ساد الشعور بأن رابين لم يكن مهتما (ولا كان في وسع الأميركيين أن يجعلوه مهتما) بالانفتاح على الجانب الفلسطيني بصورة جدية. والحق أن إدارة بوش، التي كانت تريد التقدم قبل الانتخابات الرئاسية، لم تعد في وضع يمكنها من إقناع رابين بمزيد من الانفتاح، بل خلصت إلى تبني ضمانات القروض على الرغم من إقرار إسرائيل العلني بأن 11,000 وحدة سكنية على الأقل كانت لا تزال في طور البناء في الضفة والقطاع، هذا بالإضافة إلى 13,000 وحدة سكنية لا تزال في طور الإنشاء في القدس الشرقية. يضاف إلى ذلك أنه في ظل قرار رابين بـ "تجميد الاستيطان" سيسمح بمباشرة بناء 1000 - 2000 مبنى سنوياً في الضفة، إفساحاً في المجال أمام النمو الطبيعي".(17)
كان التخوف من أن رابين يراوغ - فهو يقدم للفلسطينيين ما يكفي من الوعود لإبقائهم حول طاولة المفاوضات لكنه يتجنب القيام بأي تقدم في القضايا الجوهرية - بينما يسعى لعقد صفقة مع سوريا. وقد تفاقم الارتياب من تكتيكات رابين جراء الهوة بين المواقف التي يعتمدها وفده خلال المفاوضات وبين تصريحاته المعلنة الأكثر انفتاحاً. يضاف إلى ذلك أن الإحساس بالسلبية الإسرائيلية كان أشد حدة على الجبهة الداخلية الفلسطينية، إذ كانت معارضة المفاوضات تتنامى مجدداً بعد الآمال الأولى التي برزت عقب هزيمة شمير. وبعد تأمل الصورة في مجملها، قررت القيادة الفلسطينية إعادة وفدها إلى طاولة المفاوضات مع إعادة تنظيم قائمة أولوياته.
المرحلة الثانية: 14 - 24/9/1992
كان في طليعة أولويات المقاربة الجديدة، وقبل أية مناقشة لمسألة الحكومة الذاتية وترتيباتها، الحصول من الجانب الإسرائيلي (ومن الراعي الأميركي) على توضيح للأصول المرجعية - ولا سيما الإقرار بانطباق القرار رقم 242 على العملية بكاملها، أي لا على محادثات الوضع النهائي فحسبـ بل على الفترة الانتقالية أيضاً.
ولم يكن هذا الطلب مجرد مسألة بلاغية. ذلك بأنه متى حدث هذا الإقرار بات الفلسطينيون في وضع أفضل ليطلبوا: (1) أن تُربط الفترة الانتقالية بالوضع النهائي ربطا يجعل تلك الفترة تمهيدا لذلك الوضع، لا من حيث التتالي بل من حيث الجوهر؛ (2) أن يكون أي ترتيب من ترتيبات الفترة الانتقالية متسقا مع تطبيق القرار رقم 242 تطبيقاً كاملا، أو على الأقل ألاّ يعوقه أو يبطله (فمن العوائق التي يمكن اعتبارها مبطلة للقرار ما يجري من توسيع للمستوطنات القائمة أو تعزيزها، أو ما يجري من تثبيت للتغييرات العملية والقانونية التي أدخلتها إسرائيل في الراضي المحتلة منذ سنة 1967)؛ (3) أن يكون للحكومة الذاتية الفلسطينية ولاية جغرافية (على أساس البعد الجغرافي الذي ينطوي عليه القرار رقم 242)، وسيطرة على موارد الأرض والمياه؛ (4) أن تكون القدس الشرقية (بما هي جزء من الأراضي المحتلة سنة 1967، والمشار إليها ككل في القرار رقم 242) جزءاً من ترتيبات الفترة الانتقالية؛ (5) أن تنسحب القوات الإسرائيلية على مراحل. وقد رفض الإسرائيليون الطلب الفلسطيني رفضا تاما، محتجِّين بأن القرار رقم 242 ينطبق على الوضع النهائي وبأنه قابل لتفسيرات مختلفة. أما الأميركيون، فكانوا يميلون إلى تأييد الجانب الإسرائيلي، وأعلنوا أنهم لا يستطيعون تخطي رسالة الدعوة، وحثوا الفلسطينيين على العودة إلى مسائل الحكم الذاتي. إلا إنهم أقروا، مع ذلك، بأن القرار رقم 242 ينطبق على العملية كلها، وأن المرحلتين مترابطتان.
في هذه الأثناء، كان الجانب الإسرائيلي قد عاد من فترة الاستراحة بوثيقة جديدة تحمل تاريخ 14 أيلول/سبتمبر ومعنونة بـ "تصور لترتيبات فترة الحكومة الذاتية الانتقالية: عناصر للاتفاق".(18) وكانت هذه الوثيقة مصوغة بإتقان وروية لم تعهدهما أية وثيقة إسرائيلية سابقة، وكان الغرض منها توضيح وثيقة 20 آب/أغسطس، وتقديم بعض النقاط التي تستتبعها والتي ما عاد من الممكن تحاشيها مدة أطول. فقد أشارت وثيقة أيلول/سبتمبر، أول مرة، إلى القرار رقم 242 لكن من حيث علاقته بمفاوضات الوضع النهائي، موضحة أن تلك المفاوضات لا بد من أن يشارك الأردن فيها لأن "القرار رقم 242 يتناول الدول." وقد أطلقت على المجلس الإداري اسم "المجلس الإداري الفلسطيني" الذي سينتخب في "انتخابات عامة" ويكون مسؤولاً أمام قواعده الانتخابية الفلسطينية، وستكون له "صلاحيات وسلطات تنفيذية عامة توكل إليه، من جملتها سلطة وضع السياسات وسنّ "الأنظمة والمراسيم الثانوية" (مع القيود ذاتها التي ذُكرت في الوثيقة السابقة، المتعلقة بما يبقى في يد إسرائيل من سلطات أُخرى كالأمن، و"الإسرائيليين المقيمين في الأراضي [المحتلة]"، والشؤون الخارجية، علماً بأن النقطة الأخيرة لم يُؤتَ إلى ذكرها في الوثيقة السابقة). أما بالنسبة إلى الولاية الجغرافية، فقد نصّت الوثيقة على أن "مجمل المسألة الإقليمية - الجغرافية" يجب أن يعالج في إطار مفاوضات الوضع النهائي، لكنها أضافت أن "المجلس الإداري الفلسطيني" ستكون له "الأوجه المناسبة المتعلقة بالبنى التحتية في الأراضي [المحتلة]." ثم وعدت بمناقشة قضيتي "المياه واستعمال الأرض" عندما يحين التفاوض بشأن التنسيق والتعاون. أخيراً، لم تعدِّد الوثيقة الدوائر الخمس عشرة، وهو أمر قد يفسَّر بأنه "تلميح" إلى استعداد جديد لمناقشة مجمل مجموعات القضايا المتعلقة بالحكومة الذاتية، لا كل قضية على حدة. بيد أن ذلك لم يكن يعني أن الهوة الفاغرة بين الجانبين، في شأن جوهر القضايا، قد ضاقت.
إذا أخذنا في الاعتبار مسودة الإطار الفلسطينية وما تبعها من إصرار على القرار رقم 242، ووثيقة 14 أيلول/سبتمبر الإسرائيلية بدا لنا أن ثمة كتلاً ثلاثاً من القضايا تبرز من المفاوضات: (1) الأصول المرجعية، ومن جملتها القرار رقم 242، وفكرة المرحلة الانتقالية؛ (2) الولاية الجغرافية، ومن جملتها مسائل الأرض والمياه والمستوطنات والقدس؛ (3) صلاحيات السلطة الفلسطينية، ومن جملتها القرار رقم 242، وفكرة المرحلة الانتقالية؛ (3) صلاحيات السلطة الفلسطينية، ومن جملة ذلك بنيتها، ومسألة صلاحية التشريع، ومسألة الانتخابات. وقد كان الجانب الفلسطيني، مثلما رأينا، ينوي حصر مناقشات المرحلة الثانية من جولة أيلول/سبتمبر في الكتلة الأولى؛ أما الجانب الإسرائيلي فقد رفض الاستجابة لذلك في فترة 14 - 17 أيلول/سبتمبر، لكنه بدا أنه يخطو خطوة إلى الأمام بالنسبة إلى كيفية مقاربة المفاوضات المتعلقة بالكتلتين الأُخريين. واجتناباً للدخول في طريق مسدود بسبب القرار رقم 242، غيَّر الفلسطينيون تكتيكهم في الأسبوع التالي (وهو الأسبوع الأخير من تلك الجولة)، وشاركوا في لقاءات ومحادثات غير رسمية مع المفاوضين الإسرائيليين، في وزارة الخارجية الأميركية، من أجل الحصول على توضيحات في شأن كتلتي المسائل الأُخريين، لكن من دون التراجع عن إصرارهم على تطبيق القرار رقم 242 على المرحلة الانتقالية.
الجولة السابعة: واشنطن، 21/10 - 20/11/1992
عاد الفريقان إلى طاولة المفاوضات في 21 تشرين الأول/أكتوبر، قبل أسبوعين من الانتخابات الرئاسية الأميركية. وقد تشبث الجانب الإسرائيلي بإصراره على بدء التفاوض في شأن ترتيبات الحكومة الذاتية. أما الجانب الفلسطيني فقد تمسك بالحصول على تطمينات إسرائيلية في شأن القرار رقم 242، ورفض المضي إلى ما بعد هذه المسألة في الاجتماعات الرسمية (التي شهدت خلال أسبوع 9 - 12 تشرين الثاني/نوفمبر مواجهة متوترة جادة بخصوص مسألة القدس). ومع ذلك واصل الفلسطينيون، على الرغم من تمسكهم بأولوية القرار رقم 242 وعلى الرغم من تشكيكهم في النموذج الإسرائيلي، المقاربة التي بدأوها في نهاية الجولة السابقة، والتي تعتمد على طرح الأسئلة بشأن النموذج في اللقاءات غير الرسمية. إلا إن عملية سبر المواقف تواصلت هذه المرة على نحو أكثر منهجية وتنظيماً؛ إذ أُلفت عدة مجموعات عمل غير رسمية (معنية بمفهوم الحكومة الذاتية والأرض والمسائل الاقتصادية). وكانت غاية الجانب الفلسطيني تقصّي موقف الإسرائيليين بالنسبة إلى جميع التطمينات الناشئة عن تصورهم للحكومة الذاتية، وذلك من خلال سيناريوهات محدَّدة تكشف المدى العملي لاستعدادهم للذهاب في شأن المبادىء التي قدموها بصورة إيجابية على الورق، وبالعكس، أي الاستفسار عما إذا كان من أسباب معقولة للاعتقاد أنهم قد يرضون عملياً بما هم يرفضون الاعتراف به مبدئياً.
عند نهاية الجولة كانت قد ظهرت عملياً صورة للنموذج الإسرائيلي أدق وأوضح. والصورة التي تكونت، وإنْ تكن مستمدة من ردود واستجابات إسرائيلية غير رسمية (أو من عدم وجود ردود كهذه أحيانا)، أكدت الكثير من مخاوف الفلسطينيين. ففي رسالة(19) بتاريخ 19 تشرين الثاني/نوفمبر سُلمت إلى الجانب الإسرائيلي، أعلن الفلسطينيون أن النموذج الإسرائيلي "مناقض تماما لأصول المؤتمر المرجعية"، وأنه يرمي إلى منح المستوطنين في الأراضي المحتلة "أقصى حد من الحكم الذاتي" والحفاظ على "الحد الأقصى من السيطرة" على الفلسطينيين، و "التمهيد لضم قطاع كبير" من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإقامة "نظام قضائي مزدوج، شبيه بنظام التفرقة العنصرية (الأبارتيد)." وقد وصف الفلسطينيون الصيغة الإسرائيلية بأنها "معقدة"، و "غير عملية"، و "غير قابلة للتسيير"، وأن من شأنها "أن تخلق من المشاكل أكثر مما تحل"، وأن تغذي "مصادر الاحتكاك والصراع وتمد من أجل "انتهاكات حقوق الإنسان"، وأن تنتج حكماً ذاتياً لن تكون سلطته "قادرة على اجتياز امتحان الزمن، حكماً يبقى فارغاً من الشرعية."
الجولة الثامنة: واشنطن، 7 - 17/12/1992
في هذه الأثناء، كانت الأوضاع على الأرض تزداد ترديا؛ فقد شاع في صفوف الفلسطينيين شعور بأن المفاوضات عديمة الفائدة، وبأنها تغل أيدي الفلسطينيين بينما تطلق لإسرائيل العنان في الأراضي المحتلة، بل إن المحادثات المتعددة الأطراف، التي كانت قد عملت في الربيع السابق على تصحيح تمثيل الفلسطينيين (بإشراك فلسطينيين من الخارج في فرق العمل الخاصة بمسألتي اللاجئين والتنمية الاقتصادية) بدت غير واعدة. ذلك بأن الإسرائيليين الذين كانوا قد قاطعوا، في عهد شمير، اجتماعات الربيع التي عقدها فريقا العمل حينذاك، جاؤوا الآن يطلبون ثمناً لمشاركتهم، وهو استبدال عضوي المجلس الوطني الفلسطيني اللذين يرئسان الوفدين بفلسطينيين غير منتمين إلى منظمة التحرير. وعلى الرغم من أن المشاورات في هذا الشأن جرت بمشاركة المنظمة المباشرة، وفتحت الطريق أمام مشاركة "الشتات" الفلسطيني في فرق العمل الثلاثة الأُخرى ضمن المفاوضات المتعددة الأطراف (المياه، البيئة، الأمن)، فليس ثمة من شك أن التسوية التي تم التوصل إليها لم تكن لبقة بصورة كافية. فقد اتُفق على أن يُدلي الرئيس الجديد للوفد الفلسطيني إلى فريق العمل الخاص باللاجئين (وهو عضو في المجلس الوطني الفلسطيني) بتصريح ملتبس يُفهم من تضميناته أن أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني ليسوا بهذه الصفة في الفترات الممتدة بين جلسات المجلس، وذلك لإتاحة المجال أمام انعقاد الاجتماع بحضور الفريقين في أوتاوا (كندا) في 11 و 12 تشرين الثاني/نوفمبر.
وقد قررت القيادة الفلسطينية أن ترسل إلى الجولة الثامنة وفداً مصغراً من أربعة أعضاء فقط، وذلك تعبيراً عن استيائها من الموقف الإسرائيلي على الأرض وفي المفاوضات الثنائية. يضاف إلى ذلك أنه لما كانت هذه الجولة ستُعقد خلال الفترة الانتقالية الواقعة بين انتخاب بيل كلنتون وبين توليه مهماته رسميا، فإن أي تقدم في هذه الجولة لم يكن متوقعاً.
في 14 كانون الأول/ديسمبر، قدّم الإسرائيليون إلى الجانب الفلسطيني وثيقة تحمل تاريخ 10 كانون الأول/ديسمبر عنوانها "توليف غير رسمي للأفكار الإسرائيلية في شأن تصور ترتيبات فترة الحكومة الذاتية الانتقالية".(20) وقد لخصت هذه الوثيقة الكثير من توضيحاتهم وردودهم التي أدلوا بها في لقاءات غير رسمية خلال الجولة السابعة، وأكدت التفسير الفلسطيني للصيغة الإسرائيلية (التي كانت قد قوبلت بتشكيك الولايات المتحدة فيها في نهاية الجولة). إما فيما يتعلق بالأصول المرجعية، أي الكتلة الأولى من مسائل المفاوضات، فإن الوثيقة لم تشكل أي تقدم ذي بال في الموقف الإسرائيلي: فالمشاورات في شأن القرار رقم 242، وفي "شأن المسألة الإقليمية الجغرافية كلها، والمسائل المتعلقة بالسيادة والسلطات أو العلاقات الصادرة عنها" ظلّت محصورة في مفاوضات الوضع النهائي، بينما ينبغي لترتيبات الفترة الانتقالية أن "تبقي الخيارات كلها مفتوحة" وألاّ "تصادرها ولا تحكم مسبقاً" على الوضع النهائي في حد ذاته. إلا إن الوثيقة أضافت، أول مرة، أن الترابط بين المرحلتين "بما هما جزآن من العملية نفسها" إنما هو ترابط ناشىء عن "تدخل الإطار الزمني". لكن هذه الصيغة كانت تقصِّ كثيراً عن إرضاء الفلسطينيين الذين طالبوا بألاّ يكون الترابط بين المرحلتين مجرد ترابط تسلسلي"، بل أن يكون "جوهرياً"، وألاّ تكون المرحلة الأولى مجرد فترة "موقتة" بل "تمهيدا" للثانية.
أما في شأن "مفهوم" ترتيبات الفترة الانتقالية الذي يشكل فعلاً أساس الكتلتين الثانية والثالثة من مسائل المفاوضات (الولاية الجغرافية وصلاحيات المجلس الإداري الفلسطيني)، فقد أقر الجانب الإسرائيلي بأن الصيغة التي تقدم بها إنما هي صيغة "مختلطة"، وهي مزيج من "الصلاحيات والسلطات التنفيذية - الوظيفية والأوجه المتعلقة بالبنى التحتية" التي ينبغي أن تأخذ "مخاوف إسرائيل" بعين الاعتبار الجاد (علماً بأن هذه المخاوف لم تحدد بأنها متعلقة بالأمن فحسب). وهكذا، كان الإسرائيليون يضفون الصدقية ضمنياً على الحجة الفلسطينية القائلة إن الصيغة الإسرائيلية قد صُممت بما يلائم الأهداف الإسرائيلية من دون أن تأخذ في الحسبان الجاد المستلزمات الحقيقية لنموذج حكومة ذاتية متماسك. لننظرْ إلى ذلك بشيء من التدقيق.
بالنسبة إلى الولاية الجغرافية (الكتلة الثانية من مسائل المفاوضات)، فقد نصت الوثيقة على أن المجلس الإداري الفلسطيني "ستكون له الأوجه اللازمة التي تتعلق بالبنى التحتية والتي ينبغي التفاوض في شأنها، مثال ذلك مسائل استعمال الأرض والمياه الواقعة ضمن الأراضي الخاضعة للإدارة العسكرية الإسرائيلية." وهذه الجملة تستثني آلياً القدس الشرقية غير الواقعة تحت الإدارة العسكرية بسبب ضمِّها. يضاف إلى ذلك أن كلمة "ضمن" ينبغي فهمها بوصفها نقيضاً لعبارة "على كامل"، وذلك بالمعنيين الرأس والأفقي. رأسياً: تعني "ضمن" أن إسرائيل ترفض الولاية الجغرافية في حد ذاتها (كما نعلم من قبل)، حتى "في الأراضي الواقعة داخل الأماكن التي يسكنها الفلسطينيون أو تلك المخصصة لهم" والتي "سيديرها" المجلس الإداري الفلسطيني. وسيتم لاحقاً النظر في القيود المفروضة على ولاية المجلس الإداري الفلسطيني في البلدان الفلسطينية، وذلك عند مناقشة صلاحيات الحكومة الذاتية. أفقياً: تعني "ضمن" أن "الأوجه الأخرى المتعلقة بالبنى التحتية" الواقعة في الأراضي المنظور فيها لا تقع تحت الولاية الفلسطينية. فمن ذلك أن "الأراضي الواقعة في المواقع التي يقيم الإسرائيليون فيها أو المخصصة لهم ستديرها أجهزة تعينها إسرائيل؛ أما الأراضي المستعملة لأغراض الأمن فسيديرها الجيش الإسرائيلي." ويطبق قيد رأسي - أُفقي في الآن نفسه على "الأراضي الأخرى" الباقية (أي على ما يسمى "أراضي الدولة")؛ إذ إن إدارتها "ستكون شراكة بين إسرائيل والمجلس الإداري الفلسطيني."
وهكذا، ستقسم الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967، أي الرقعة الجغرافية التي يجب أن تقوم الحكومة الذاتية الفلسطينية عليها مبدئيا، إلى خمس فئات، وذلك بمقتضى الخطة الإسرائيلية - وهي: القدس الشرقية، البلدات الفلسطينية؛ المستوطنات الإسرائيلية؛ المعسكرات العسكرية الإسرائيلية؛ "أراضي الدولة" - على أن تخضع كل منها لوضع قانوني مختلف، وبموافقة فلسطينية هذه المرة. ومن الوجهة القانونية، تعدُّ الصيغة الإسرائيلية "المرقَّعة" أسوأ من الوضع الذي ساد منذ سنة 1967 والذي كانت فيه الأراضي المحتلة كلها (وفي جملتها المستوطنات)، باستثناء القدس الشرقية، تخضع لولاية قانونية واحدة، هي ولاية الحاكم العسكري. ذلك بأن جعل المستوطنات خاضعة للإدارة الإسرائيلية، بحسب ما نصت الوثيقة الإسرائيلية عليه، يعطي فكرة واضحة بشأن توجهات الضم المضمرة بالنسبة إلى الوضع النهائي. أما الأراضي التي تصفها إسرائيل بـ "أراضي الدولة"، فإن الولاية المشتركة عليها تضعف المطلب الفلسطيني بالسيادة عليها في المفاوضات بشأن الوضع النهائي، وتمنح إسرائيل حق النقض بالنسبة إلى استعمالها خلال الفترة الانتقالية. إن لمسألة "أراضي الدولة" أهمية خاصة بالنسبة إلى إنشاء الطرق وتلبية الحاجة الماسة إلى التوسع في البلدات الفلسطينية الخاضعة، منذ خمسة وعشرين عاماً، لمخطط هيكلي صارم.
أما بالنسبة إلى صلاحيات الحكومة الذاتية وسلطاتها، وهي الكتلة الثالثة من مسائل المفاوضات، فيمكن الإشارة إلى نقاط عدة:
أولاً، تنص الوثيقة على أن اسم المجلس الإداري الفلسطيني قابل للتعديل متى ما تم الاتفاق على المفهوم، وأن عدد أعضائه يمكن أن يحدَّد بمقتضى وظائفه التنفيذية - الإدارية.
ثانياً، تبيِّن الوثيقة الإسرائيلية على أن سلطات المجلس الإداري الفلسطيني "لن تطبق على قوى الأمن والسلطات الإسرائيلية، ولا على الإسرائيليين المقيمين في الأراضي [المحتلة]، ولا على سوى ذلك من الأوجه المتعلقة بإسرائيل" - مع إمكان كون هذه الفئة الأخيرة واسعة جداً. ولن يكون للمحاكم الفلسطينية أيضاً من ولاية إلا على الفلسطينيين. أما "داخل البلديات الإسرائيلية"، فستنظر "المحاكم المحلية الإسرائيلية ذات الولاية في المسائل المحلية الطابع." أما في المسائل الجنائية، فـ "إن الإسرائيليين يحاكَمون في محاكم إسرائيلية." وفي المسائل المدنية "ستكون الترتيبات المختصة بالخلافات المتعلقة بالإسرائيليين والفلسطينيين موضع اتفاق لاحق (مثال ذلك آليات التحكيم)." إن جعل المستوطنات خاضعة لإدارة أجهزة تعينها إسرائيل" لَيُشكل مصدراً للمخاوف الجدية، سواء أُلحقت هذه الأجهزة بالوزارات الإسرائيلية (وبذلك مُنح المستوطنون في الراضي المحتلة وضع مواطنين "خارج إقليم وطنهم" Extra-territorial status)، أو أُنشئت هذه الأجهزة للفترة الانتقالية تخصيصا (ومعنى هذا منح المستوطنين "الحكم الذاتي" أيضا خلال تلك الفترة). وهذا الوجه ليس إقليميا فحسب بل إنه ينطبق على الأفراد أيضا؛ فالمستوطنون، أو حتى الإسرائيليون، الذين يتفق وجودهم في "البلدات" الفلسطينية لن يخضعوا لولاية المجلس الإداري الفلسطيني أو لولاية المحاكم الفلسطينية. كما أن "غير المقيمين سيخضعون لولاية المحاكم الفلسطينية أو المحاكم الإسرائيلية وفاقا لاختيارهم." وهذه بِدْعة قانونية تذكِّر بـ "الامتيازات" التي مُنحت للدول الأوروبية خلال العهد العثماني.
ثالثاً، لن تكون السلطات الفلسطينية مقصورة على الفلسطينيين فحسب، بل عن هذه السلطات نفسها ستكون مقيدة بالتنسيق والتعاون مع إسرائيل وبما تتمتع إسرائيل به من "سلطات متبقية" في المجالات التي لم تنح للفلسطينيين "سواء حُدِّدت في الاتفاق أو لم تحدَّد." أما المجالات التي نصت الوثيقة عليها كتابعة لسلطة إسرائيل المباشرة، فهي تلك المتعلقة بـ "امن والعلاقات الخارجية". وبالنسبة إلى الأمن، يكرر النص أنه سيكون "من مسؤولية إسرائيل الكاملة"، ويؤكد أن المحاكم العسكرية الإسرائيلية ستكون لها الولاية القضائية على الفلسطينيين (وعلى الإسرائيليين أيضا في الأراضي المحتلة) في الشؤون الأمنية فحسب. إلا إن الوثيقة الإسرائيلية تضيف أنه سيظل يحق للفلسطينيين "أن يرفعوا القضايا إلى محكمة العدل الإسرائيلية العليا"، وهذا يعني - ضمناً - أن ولايتها ستشمل الأراضي الفلسطينية المحتل ككل مثلما تشمل سكان هذه الأراضي.
رابعاً، أما بالنسبة إلى دوائر نشاط المجلس الإداري الفلسطيني، فإن الوثيقة لا تضيف شيئاً جديداً، بل إنها ترد على إصرار الفلسطينيين على منح سلطة التشريع لهذا المجلس على النحو التالي: فبينما تظل القوانين السائدة الآن "نافذة المفعول خلال الفترة الانتقالية" فمن الممكن القيام بـ "مراجعة" هذه القوانين في سياق المفاوضات، وذلك بمشاركة من الأردن. أما إذا نشأت "حاجات تشريعية خاصة" خلال الفترة الانتقالية فمن الممكن أن تُنشأ "آلية للمشاورات متفق عليها."
يتضح مما تقدم أن العناصر الجديدة في الصيغة الإسرائيلية للحكومة الذاتية لم تنفع إلا في الكشف عن حدودها وتعقيداتها. غير أن بعض التقدم قد تم بالتدريج بالنسبة إلى الكتلة الأولى من قضايا المفاوضات، أي القرار رقم 242 والفترة الانتقالية، وذلك من خلال ممارسة أُخرى لم يتناولها هذا المقال - تبادل مسودات جداول الأعمال، الذي لم يزل جاريا في موازاة المفاوضات منذ كانون الثاني/يناير. وحتى آخر الجولة الثامنة، فإنه لم يتم التوصل إلى أي جدول أعمال مشترك. والعقبة الأولى التي لم تزل تعترض ذلك إنما هي البند الأول تحديدا، أي ذاك الذي يتعلق بالأصل المرجعية. إذ كان الجانب الإسرائيلي قد بدا يلمح إلى صيغة جديدة - وإنْ لم تكن مرضية - لهذا البند الأول، وكان من المقرر لمحادثات اليوم الأخير من الجولة أن تركز على مسألة جدول الأعمال. لكن إسرائيل أبعدت، في 16 كانون الأول/ديسمبر، 400 فلسطيني، وحملت الجانب الفلسطيني بذلك على تعليق مشاركته في المفاوضات، فلم تُعقد الجلسة الختامية.
فضلاً عن كون الإبعاد انتهاكاً خطراً لاتفاقية جنيف الرابعة تذكيرا بالمأساة الفلسطينية كلها، فقد اعتبره الفلسطينيون فوراَ ضربة موجهة إلى جوهر المفاوضات. ومن وجهة نظر إسرائيل، كان الوفد الفلسطيني المدعو إلى مؤتمر مدريد يمثل الفلسطينيين "في الأراضي [المحتلة]" فحسب. وهؤلاء منقادون، منذ سنة 1967، لحكم نظام قانوني يعدهم "أجانب" مقيمين في وطنهم - فهم بلا جنسية في غزة، وأردنيون في الضفة الغربية. وهذا، في حد ذاته، يوحي بإمكان اقتلاعهم وإخضاعهم للمصير عينه الذي عرفه لاجئو سنتي 1948 و 1967. وانسجاما مع وضع "الأجانب" الذي فُرض عليهم. طُبقت سياسة إسرائيلية بيروقراطية لم تزل تستحثهم على مغادرة الأراضي المحتلة، وتثنيهم عن العودة، وتجعل اجتماع شمل الأُسر في غاية الصعوبة، وذلك عن طريق نظام معقَّد تصدَّق (أو تبطل) بموجبه وثائق إقامتهم وسفرهم. كما أن مخاوف الفلسطينيين الناتجة من وضعهم هذا قد ازدادت تفاقماً من جراء حملة اليمين الإسرائيلي المتطرف الداعية إلى طردهم جماعياً من "إرتس يسرائيل".
عندما دُعي الفلسطينيون إلى مؤتمر مدريد وافقوا على المشاركة والتفاوض بشأن ترتيبات الحكومة الذاتية الانتقالية، من دون أن يحصلوا من إسرائيل على اعتراف بحقهم في تقرير المصير وإنشاء دولة لهم في مقابل اعترافهم بإسرائيل من خلال قرار المجلس الوطني الفلسطيني الذي انعقد في الجزائر سنة 1988. بل إنهم ظنوا أن إسرائيل قد اعترفت، ضمناً على الأقل، بأن الرابط الذي يربط الفلسطينيين بأرضهم هو رابط التماهي والهوية لا رابط "إقامة الأجانب"، وأن إمارة هذا الاعتراف هي جلوس مندوبيها وجها لوجه مع مندوبين فلسطينيين من الأراضي المحتلة وفقا لشروط أملتها هي. إن اليسر الذي اتسم به اتخاذ الحكومة الإسرائيلية القرار بطرد ذلك العدد الكبير من الفلسطينيين قد أظهر أن حقيقة بديهية وأساسية إلى هذا الحد لم تحظ بعدُ باعتراف الحكومة الإسرائيلية، وان المفاوضات ما زالت في مرحلة مغير مستقرة.
ولما كانت الجولة الثامنة آخر الجولات التي عُقدت في عهد إدارة بوش، فقد استقبل الرئيس بوش في 16 كانون الأول/ديسمبر الوفود كلها على التوالي، بحضور وزير الخارجية السابق بيكر، مهندس عملية السلام. وقد استُقبل الجانب الفلسطيني ضمن إطار الوفد الأردني ـ الفلسطيني المشترك. لكن في التفاتة سياسية نحو الفلسطينيين، وربما أيضاً في محاولة لتسجيل سابقة أمام الإدارة المقبلة، استقبل الرئيس بوش في اليوم التالي الفريق الفلسطيني كله برئاسة فيصل الحسيني، وكان ضمن الوفد فلسطينيون من الخارج والداخل ومن القدس.
خاتمة
إن تقويم العملية التي امتدت من تشرين الأول/أكتوبر 1991 إلى كانون الأول/ديسمبر 1992 تقويماً مستنداً إلى المعايير الدقيقة التي ذُكرت في أوائل هذا المقال، وإن يكن سابقاً أوانه في هذه المرحلة، لا يمنع من أن نشير إلى بعض النقاط:
أولاً، إن المفاوضات لم تفضِ مثلما كانت القيادة الإسرائيلية - وحتى الكثيرون من مسؤولي الإدارة الأميركية - تأمل في بداية العملية، إلى إيجاد بديل من منظمة التحرير الفلسطينية، التي تجسد الدولة الفلسطينية واستقلال القرار الفلسطيني؛ فقد ظلت المنظمة في موقع القيادة من المفاوضات، مع تقدمها بصورة ملحوظة في عملية دمج الفلسطينيين من الداخل في آلية صنع القرار الفلسطيني. وقد أفلحت أيضاً في وضع نفسها في موقع الصدارة من المفاوضات، وفي ضخ مزيد من الحياة في قضية "حق العودة" للاجئي سنة 1948، لدى مناقشة ذلك في المفاوضات المتعددة الأطراف. ومع ذلك، فإن عملية المفاوضات ما زالت تثير مخاطر عدة على المنظمة، ولا سيما إذا أفضت إلى اتفاق مرحلي. ذلك بأن المنظمة ستواجه عندئذٍ تحدياً كبيراً، يتمثل في تصميم رباط سياسي ومؤسساتي بالسلطة الفلسطينية التي ستنشأ في الضفة الغربية وغزة، وذلك من أجل صون وحدة الشعب الفلسطيني.
ثانياً، لقد خلَّفت المفاوضات نتائج متفاوتة بالنسبة إلى وحدة الفلسطينيين؛ فالانقسامات الفلسطينية الداخلية لم تنته، إلا إن هذه الانقسامات ليست بين الداخل والخارج، بل إنها تمر عبر الداخل والخارج في الوقت نفسه، ووفقاً لخطوط مختلفة. ومن الحقيقي أيضاً أن معارضة القيادة الفلسطينية في شأن موقفها من المفاوضات قد تزايدت باطراد منذ مؤتمر مدريد، بيد أن القوى المعارضة داخل المنظمة لم تفلح في تقديم خيارات واقعية بديلة. وقد جاء التحدي الأكبر من خارج المنظمات المنتمية إلى منظمة التحرير، من الجماعات الإسلامية، التي ليس ثقلها المتنامي ناجماً عن واقعيتها، بل هو ناجم جزئياً عن كون السلوك الإسرائيلي حيال الفلسطينيين قد ازداد سوءاً، وعن كون المفاوضات باتت تبدو عاجزة عن تقديم شيء ذي بال، بحيث غدا الإحباط من محركات العمل. من المستحيل أن نعلم ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن الفلسطينيين رفضوا دخول عملية السلام، لكن من الصعب أن يصدق المرء أن المجتمع الفلسطيني كان يمكن أن يكون الآن أفضل حالاً لو أنهم لم يشاركوا.
ثالثاً، لم يصاحب عملية التفاوض أي تقدم حقيقي على الأرض من حيث تولي الفلسطينيين السلطة، كما أنه لم ينتج منها مثل هذا التقدم. والحق أنه بناء على بعض إنجازات الانتفاضة، وبناء على دوافع الفلسطينيين من أجل تحسين موقعهم التفاوضي، وبناء على عجز إسرائيل عن تطبيع الوضع على الأرض بالقوة المجردة، بدأ الفلسطينيون يطورون سبلاً ووسائل من شأنها أن تمكنهم من تولي المسؤولية في بعض المجالات (السياسية والاجتماعية والاقتصادية) المتعلقة بحياتهم اليومية. فمن ذلك أنه يمكن اعتبار اللجان والمجالس السياسية (للتربية والتجارة الخارجية والصناعة والزراعة والصحة وغيرها من المجالات)، التي قرر الفلسطينيون إنشاءها أو تطويرها في الراضي المحتلة في الفترة 1991 - 1992، أنها ترمي إلى انتزاع القرار من يد المحتل في هذه المجالات، أو إلى تمهيد الطريق لانتقال السلطة انتقالاً منظماً في حال نجاح المفاوضات. لكن أياً يكن المنظور المعتمد، فإن الانقسامات الداخلية والإخفاقات التنظيمية الفلسطينية قد أدت، مع القمع الإسرائيلي المتواصل، إلى الحؤول دون عملية تولي السلطة، أو عملت على تعويقها.
رابعاً، على الرغم من ادعاء إسرائيل أنها تثمِّن الاتفاق الفلسطيني - الإسرائيلي، فإنها لم تزل تنتهج على الأرض سياسة تناقض روح المفاوضات وحرفية أصولها المرجعية. ولم يقتصر الأمر على استمرار انتهاك حقوق الإنسان، بل تعداه إلى مزيد من الخطوات في اتجاه تعزيز السيطرة على الأراضي، وذلك من خلال تسارع عمليات التخطيط الهيكلي للبلدات الفلسطينية والمناطق التابعة لها، واستمرار أنشطة الاستيطان (وفي جملة ذلك أنشطة الاستيطان في القدس) وإنشاء الطرق التي تربط بعض المستوطنات ببعضها الآخر، وغيرها من الخطوات التي تواصلت خلال المفاوضات. وفي هذا كله عرقلة لتطبيق القرار رقم 242، سواء أكانت إسرائيل تقول بانطباقه على العملية كلها أم على مفاوضات الوضع النهائي فحسب. لكن الأمر الأكثر إلحاحاً هو أن "الوقائع الإسرائيلية على الأرض" تمعن في تهديد تماسك وتواصل القاعدة الإقليمية التي لا بد للحكومة الذاتية الفلسطينية من أن تقوم عليها خلال الفترة الانتقالية، وتحدِّد مسبقاً نتيجة المفاوضات، وتجعل من العسير جداً - إن لم يكن من المستحيل - التوصل إلى اتفاق على حكومة ذاتية ذات صدقية. والتغير الأساسي الذي جاءت حكومة رابين به، قياساً بحكومة شمير، إنما هو مواصلة أنشطة الاستيطان على نحو أقل استعراضا، وأكثر روية، ومن دون أن يقلق هذه المرة من ردات فعل الولايات المتحدة وملاءمتها.
خامساً، وعلى طاولة المحادثات نفسها، لم تقرب المفاوضات نشوء الدولة الفلسطينية. ومع ذلك فهي لم تستبعدها بل أدت إلى بعض التقدم إذا ما قيست بمواقف إسرائيل التفاوضية كما بدت في شباط/فبراير 1991. وقد تمت خطوة بطيئة منهكة في اتجاه قبول إسرائيل بسلطة مركزية فلسطينية خلال الفترة الانتقالية. كما تمت خطوة أخرى في مقاربة المفاوضات، أي في مناقشة صيغة الحكومة الذاتية على أساس مجموعات القضايا بدلاً من مناقشتها دائرة دائرة. وثمة أيضا تقدم آخر إذا ما عُدَّ كشف تهافت وتناقضات النموذج الإسرائيلي تقدماً. ومع ذلك فإن استثمار قوة المنطق في مواجهة منطق القوة ليس عديم الفائدة في المعركة بشأن كسب الرأي العام واستدراج تدخل طرف ثالث.
سادساً، إذا قيست المفاوضات بهدف تحقيق الهدف الانتقالي المعيَّن في مدريد ـ أي بلوغ الاتفاق على ترتيبات الحكومة الذاتية في الفترة الانتقالية خلال عام واحد - فإن النتيجة مخيبة للآمال: ذلك بأن آخر ما قدمته إسرائيل في كانون الأول/ديسمبر 1992 لم يتسق بعدُ مع مستلزمات الحكومة الذاتية، وهو بالتالي متخلِّف عن الجدول الزمني، وهو لا يتسق حتى مع اتفاقية كمب ديفيد المعقودة سنة 1978، ولا سيما في شأن قضية الانسحاب الإسرائيلي ونقل السلطات.
سابعاً، لم تقم الولايات المتحدة بالدور الذي نسبته إلى نفسها في بداية العملية، هذا بصرف النظر عن ميلها الشديد إلى جانب إسرائيل عندما وضعت الأصول المرجعية للمفاوضات. ففي رسالة التطمينات التي سلمت إلى الجانب الفلسطيني في تشرين الأول/أكتوبر 1991، وعدت الولايات المتحدة أن تقوم بـ "عمل الوسيط الشريف"، و "بدور القوة الدافعة في هذه العملية لمساعدة الأطراف على المضي قدماً نحو تحقيق السلام الشامل." وأكدّت أنه "لا يحق لأي طرف أن يتخذ من جانب واحد إجراءات تهدف إلى التحكم في مصير القضايا المطروحة للبحث"، أو "من شأنها أن تزيد في حدة التوترات المحلية أو جعل المفاوضات أصعب أو مصادرة نتائجها." وقد التزمت تحديداً "معارضة نشاط الاستيطان في الراضي المحتلة منذ سنة 1967.." وأكدت ضرورة تأسيس السلام الشامل على القرار رقم 242 والقرار 338، وعلى "مبدأ مقايضة الأرض بالسلام"، وعلى ضرورة وضع "حدّ للاحتلال الإسرائيلي"، والعمل على تأمين "الحقوق السياسية المشروعة للشعب الفلسطيني"، وخلق "علاقة جديدة من التفاهم المتبادل بحيث يقرُّ الفلسطينيون والإسرائيليون باحترام كل فريق منهما لأمن الآخر وهويته وحقوقه السياسية." وأكدت الطابع "الانتقالي" الذي يسم الفترة الانتقالية، وضرورة تحقيق "الانتقال السلمي المنظم للسلطة من إسرائيل إلى الفلسطينيين"، وحاجة الفلسطينيين إلى "تحقيق الإشراف السريع على القرارات السياسي والاقتصادية وسواها من القرارات المتعلقة بحياتهم والمؤثرة فيها." ومع أن بعض هذه الوعود ليس ملزماً للجانب الإسرائيلي، فإنه من الجلي أن الإدارة الأميركية لم تتصرف، من جهته،ن على نحو يتسق وهذه الوعود في أثناء المفاوضات.
وجملة القول: إن نتائج مفاوضات الأشهر الخمسة عشر هزيلة إذا قيست بمعيار المطالب الفلسطينية. ولذلك لا عجب من أن يتزايد، حتى في صفوف مؤيدي المفاوضات، عدد الداعين إلى تصحيح القواعد غير المنصفة التي وُضِعت في مدريد.
المصادر:
(1) أنظر الترجمة العربية لرسالة التطمينات الأميركية إلى الفلسطينيين ولرسالة التطمينات الأميركية إلى إسرائيل في: "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 8، خريف 1991، ص 284 ـ 291؛ وانظر الترجمة العربية لرسالة الدعوة إلى حضور مؤتمر مدريد في: المصدر نفسه، العدد 9، شتاء 1992، ص 194 ـ 195.
(2) أنظر نص البيان السياسي الصادر عن الدورة العشرين للمجلس الوطني الفلسطيني، الجزائر، في: "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 8، خريف 1991، ص 248 ـ 254.
(3) أنظر الترجمة العربية للرد الفلسطيني على الدعوة الأميركية ـ السوفياتية إلى مؤتمر السلام، في: "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 8، خريف 1991، ص 265 ـ 267.
(4) أنظر النص في: "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 8، خريف 1991، ص 206 ـ 213.
(5) أنظر الترجمة العربية لنص البيان في: "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 8، خريف 1991، ص 245.
(6) “Summary of the Washington Rounds,” Journal of Palestine Studies, 21, No. 3 (Spring 1992), p. 127.
(7) Ibid., pp. 127-128.
(8) أنظر نص المسودة الإسرائيلية لجدول الأعمال في: Ibid., pp. 131-132.
(9) أقدّمنظر الترجمة العربية لخلاصة المنظور الفلسطيني للحكومة الذاتية في :"مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 9، شتاء 1992، ص 201-203.
(10) أنظر نص رسالة جيمس بيكر إلى فيصل الحسيني في: Journal of Palestine Studes, 21. No. 4 (Summer 1992), p. 167.
(11) انظر الترجمة العربية للنص في: "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 9،شتاء 1992، ص 207-209.
(12) أنظر الترجمة العربية للنص في: "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 9، شتاء 1992، ص 210-217.
(13) أنظر الترجمة العربية للمذكرة الإسرائيلية في: "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 10، ربيع 1992،ص 167 ـ 168.
(14) أنظر نص البيان في: "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 11، صيف 1992، ص 205 ـ 208.
(15) أنظر الترجمة العربية للوثيقة في: "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 12، خريف 1992، ص 187 ـ 195.
(16) أنظر الترجمة العربية للوثيقة في: "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 12، خريف 1992، ص 200 ـ 202.
(17) “Report on Israeli Settlement in the Occupied Territories,” Vol. 2, No. 5 (September 1992), p. 6; No. 6 (November 1992), p. 4.
(18) النص في: Journal of Palestine Studies, 22, No. 2 (Winter 1993), pp. 150-155.
(19) النص في: Journal of Palestine Studies, 22, No. 2 (Winter 1993), 148-149.
(20) ملخص الوثيقة كما أصدره الوفد الإسرائيلي موجود في: Journal of Palestine Studies, 22, No. 3 (Spring 1993), pp. 155-156.