The Palestinian Elections: Their Intricacies and the Issues of Self-Determination
Keywords: 
الانتخابات الفلسطينية
منظمة التحرير الفلسطينية
الضفة الغربية
قطاع غزة
التمثيل السياسي
تقرير المصير
فلسطينيو الشتات
Full text: 

منذ أن بدأ تنفيذ اتفاق "إعلان المبادئ" الموقع بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، اعتبر الجميع، إسرائيليين وفلسطينيين، موضوع الانتخابات الذي نصت بنود الاتفاق عليه نقطة من نقاط التحول في المسيرة الفلسطينية، وذلك لأنه سيشكل أول مناسبة ينتخب الفلسطينيون فيها ممثليهم. وبسبب خصوصية هذه الانتخابات وأهمية ما قد ينجم عنها بالنسبة إلى قضايا تُعتبر مصيرية بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني، دار الكثير من الأخذ والرد بين المفاوضين الإسرائيليين والفلسطينيين، وطالت المفاوضات بشأنها وتعقّدت بسبب الاختلاف على صلاحيات وطبيعة المجلس المنتخب، وأمور أُخرى مرتبطة بها.

ومهما تتأخر هذه الانتخابات عن الموعد، أو عن المواعيد التي حددت لها، فإنها ستُجرى في وقت ما، وذلك لوجود تقاطع في المصالح الفلسطينية والإسرائيلية بشأن إجرائها. وتتطلب هذه الانتخابات منا، بغض النظر عن موعد وكيفية إجرائها، التوقف عند ما سيترتب عليها على صعيد مستقبل الشعب الفلسطيني، والمجتمع الفلسطيني، والقضية الفلسطينية.

لقد نص اتفاق "إعلان المبادئ" على أن الانتخابات المزمعة هي "انتخابات سياسية عامة وحرة." وعليه، يجوز افتراض أن المجلس الذي سينشأ عنها سيكون مجلساً تمثيلياً. غير أن لاتفاق أوسلو قراءات، ويمكن أن يتمخض عن الاتفاقات اللاحقة، أو عن تطبيق ما يتم الاتفاق عليه، صيغ تختلف بحسب اختلاف قراءتنا لهذه الاتفاقات.

إن السؤال الجدير بالإجابة عنه اليوم يتعلق بكيفية التعامل مع المتغيرات السياسية التي نشأت عن اتفاق "إعلان المبادئ"، وإخضاعها للمصالح الحقيقية للفلسطينيين. وفي هذا السياق يمكن طرح السؤال التالي: إلى أي مدى، وضمن أي شروط ستؤدي الانتخابات إلى إقامة جسم يمثل الشعب الفلسطيني؟ والإشكاليات هنا عديدة، أولها يتعلق بنوع التمثيل ومداه، وهما مسألتان مرتبطتان بآلية تقرير المصير، وما زالتا موضوع تفاوض. وتتعلق الإشكالية الثانية بأن الصيغة المتفق عليها للمجلس المنتخب تفتقر، باستثنائها فلسطينيي الخارج، إلى القدرة على تمثيل الشعب الفلسطيني بمختلف فئاته. وهناك إشكالية ثالثة لا تقل أهمية تتعلق بأن ظهور جسم منتخب في الداخل يضع علامات استفهام بشأن استمرارية تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية للشعب الفلسطيني، وهي التي مثلته على مدى الفترة السابقة.

يجب أن نأخذ الواقع وماجريات الأحداث في الاعتبار عند معالجة مسألة تمثيل الشعب الفلسطيني، إذ إن المستجدات أصبحت تشكل جزءاً من الواقع السياسي الفلسطيني، الذي أصبح بدوره أكثر تعقيداً وتشابكاً. كما أن هذا الواقع أصبح حساساً إلى درجة أنه لم يعد قادراً على الخضوع للتجربة والخطأ أو للتسويف والانتظار.

ازدواجية السلطة

تميزت المرحلة التي بدأت بدخول القوات الفلسطينية، ثم ممثلي السلطة الفلسطينية، إلى قطاع غزة وأريحا، أي منذ منتصف سنة 1994 تقريباً، ببروز شكلين من أشكال ازدواجية السلطة، وهي ظاهرة متماثلة في أخطارها مع عدم وجود سلطة، إذ ينجم عنها فقدان كلتا السلطتين مقومات نجاعتهما وفاعليتهما:

الشكل الأول هو ازدواجية الهيئات الفلسطينية، أي منظمة التحرير الفلسطينية وسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني، وهو موضوع مرتبط بعلاقة "الداخل" و"الخارج"، وبشرعية اتفاق "إعلان المبادئ". ولتجنب المخاطر الناجمة عن هذه الازدواجية، يتوجب على الفلسطينيين، وبغض النظر عما سيتم التوصل إليه مع الإسرائيليين، أن يوضحوا المهمات والصلاحيات لكلتا الهيئتين. غير أن من المبكر معالجة هذا الموضوع ما دمنا لا نعرف ماهية "المجلس" الجديد، أو مجلس "الداخل" الذي سينشأ مع السلطة الفلسطينية تبعاً للانتخابات.

أمّا وجود السلطة الفلسطينية جنباً إلى جنب السلطة الإسرائيلية، فهو المشكلة الأخطر والأكثر إلحاحاً اليوم. لقد أدت هذه الازدواجية إلى فقدان الكثير من المقومات المهمة للحياة المدنية، وبدأ ذلك مع بداية الانتفاضة الفلسطينية والمحاولات الشعبية الأولى التي رافقتها لتجاوز السلطة الإسرائيلية تعبيراً عن الرغبة في التخلص من سلطة الاحتلال. أمّا اليوم، فإن السلطة الإسرائيلية تتقاسم النفوذ مع سلطة فلسطينية رسمية، وهي قسمة تهدد بعدم تمكن أي من السلطتين من الاهتمام بشؤون المواطنين في معمعان الصراع بشأن الصلاحيات والآليات، وخصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار اختلال، إذا لم نَقُل تعارض، أولويات السلطتين. وبالتالي، فإن الحديث عن الانتخابات لا يمكن أن يكون حديثاً عن خطوة إلى الأمام في المسيرة السياسية الفلسطينية إلاّ إذا كان متعلقاً بمجلس ذي صلاحيات تحل محل الصلاحيات الإسرائيلية، ويأخذ مكانه الطبيعي في آلية السلطة الفلسطينية. لقد اقترن دخول السلطة الفلسطينية إلى مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني بالعشوائية وعدم القدرة على تقدير الأمور، وعبّر عن حقبة طويلة من العمل الفلسطيني المفتقر إلى الاستراتيجيات الواقعية المعبِّرة عن الإجماع الفلسطيني الحقيقي والمستندة إليه لا إلى ذلك الإجماع المنبثق من التصفيق للشعارات والرموز. لكن المرحلة الجديدة تتطلب نوعاً آخر من العمل يتجاوز أخطاء أساليب العمل القديمة، وإلاّ أدى بنا انتخاب مجلس لا يعرف مهماته الحقيقية وصلاحياته الدقيقة إلى نشوء هيئة فلسطينية معوقة لتفعيل العمل الفلسطيني. بيد أن إنجاز هذه المهمة مرتبط بفهم المرحلة الحالية من المسيرة السياسية الفلسطينية، والتي تشكل محصلة للعمل الوطني في المرحلة السابقة بمختلف ألوانه واتجاهاته.

أزمة الحركة الوطنية

لقد أفضت المرحلة السابقة لأوسلو إلى أزمة في الحركة الوطنية الفلسطينية، كانت علاماتها بارزة على عدة صعد:

1) تراجع الفاعلية السياسية للجمهور الفلسطيني والابتعاد عن العمل السياسي. وقد تمظهر ذلك في فقدان الأحزاب والحركات السياسية قدرتها على الحشد والتنظيم.

2) تراجع مركز منظمة التحرير الفلسطينية عربياً ودولياً. وقد كان هذا التراجع مرتبطاً بحرب الخليج في البداية، إلاّ إن دخول منظمة التحرير الفلسطينية في حوار غير مباشر مع مختلف الأطراف الدولية في التحضيرات لمؤتمر مدريد وخلال جولات المفاوضات في واشنطن لم ينقذ هذا التراجع، وهو ما يدل على أن التراجع الذي حدث في إبان حرب الخليج وبُعيدها لم يكن موقتاً، وله أسباب أُخرى.

3) تفتت مختلف الأشكال المعبرة عن الوحدة الوطنية الفلسطينية:

- فقدت القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة دورها بالتدريج في الحفاظ على وحدة العمل الفلسطيني، إلى أن تلاشت بحلول العام السادس للانتفاضة.

- عبّر موقف الجبهتين الشعبية والديمقراطية من المسيرة السلمية والعملية التفاوضية عن انتهاء مرحلة إبقاء الخلافات الفلسطينية ضمن إطار اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

- خرج حزب الشعب الفلسطيني من المفاوضات، وبخروجه بدا واضحاً الانقسام في المعسكر الفلسطيني المؤيد للعملية السلمية.

- ثم جاء الإعلان في دمشق عن تشكيل الفصائل العشرة المعارضة للعملية السلمية ليعبّر عن الهوة الكبيرة، غير القابلة للجسر، بين المواقف الفلسطينية المتباينة.

إن دخول المسيرة السياسية الفلسطينية في مرحلة انتقالية،([1])   وهي مرحلة هدنة لا بد منها، يجعل ممارسة الوسائل التي تخدم هدف التحرر الوطني، مع أن الهدف لم يتحقق ولا يزال قائماً، غير فاعلة. وتكمن هذه الأزمة في أن الدخول في العملية التفاوضية، بتفصيلاتها البعيدة المدى، يسقط الأولوية عن المهمة التحررية البحت، وهو ما يعني أننا انتقلنا إلى مرحلة تقع علينا فيها مهمات بناء الحياة الفلسطينية، لا مهمة هدم الاحتلال الإسرائيلي وتصفيته فحسب. وفي هذا السياق، تجاوزنا مرحلة الهدم وانتقلنا إلى مرحلة البناء، من دون أن ننجز عملية الهدم. وباختصار، يمكن القول إن الأزمة تكمن في تداخل مرحلتين تطغى اللاحقة منهما على السابقة، أي تطغى مرحلة البناء، وهي مرحلة ممارسة تقرير المصير، على مرحلة التحرر.

والخروج من هذه الأزمة متعلق، طبعاً، بإنجاز مهمات التحرر الوطني في أثناء إنجاز المهمات الجديدة، لا بالرجوع إلى مرحلة سابقة ومحاولة إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء. ومن الواضح أن إنجاز هذه المهمات لن يتم بالوسائل القديمة التي فقدت نجاعتها، بل بالتحول إلى سبل وأدوات جديدة للعمل، متوافقة مع طبيعة المرحلة السياسية التي خضعت لكثير من الاعتبارات الجديدة. ومن هذه الاعتبارات خروج العالم من مرحلة الحرب الباردة، وترسخ مفهوم اقتصاد السوق، الذي يعني الخضوع لقوانين السوق العالمية، وما يتبع ذلك من تحديد مفهوم التحرر الوطني وصبغه بصبغة تكاملية لا انفصالية، وكذلك البحث عن دور جيو - سياسي جديد للشرق الأوسط، بالإضافة إلى التحول الجاري في التطلعات الإمبريالية نحو المنطقة، والتي لم يعد من الممكن تلخيصها بالرغبة في السيطرة على منابع النفط، وأخيراً المستجدات على صعيد الفهم والممارسة السياسية للفلسطينيين. وبغض النظر عن مدى التحول في مفهوم التحرر الوطني ومقاييسه، فإن النظر إلى عملية التحرر الوطني اليوم لا يمكن أن يتم إلاّ بإخضاع هذا الهدف التحرري لمجموعة أهداف متكاملة تتضمن، إذا تحققت، تحقيق تطلعات مختلف الفئات المتنوعة في المجتمع الفلسطيني. ولذلك يجب إخضاع شعار التحرير لشعار، أو لشعارات أُخرى أكثر تعقيداً تنتقل إلى مركز الصدارة في جدول الأعمال الفلسطيني، ليصبح شعار التحرير منضوياً تحتها، متخذاً بذلك مكانته كآلية لتحقيق أهداف فلسطينية ذات أبعاد اجتماعية.

ممارسة تقرير المصير: شعار المرحلة

من بين الشعارات الفلسطينية المركزية: التحرير والعودة وتقرير المصير، التي شكلت على مدى العقود السابقة ما سميناه: "الثوابت" الفلسطينية، فإن شعار تقرير المصير هو المرشح لاحتلال مركز الصدارة، بعد أن خضع هدف "العودة" لاعتبارات جديدة سنأتي إلى ذكرها.

وهكذا، إذا أصبحت ممارسة حق تقرير المصير هي المهمة الأولى في جدول الأعمال الفلسطيني، بعد أن أصبح شعار التحرير خاضعاً لها، فإنه يجب أن تُعتبر الانتخابات الفلسطينية الهدف المركزي في هذه اللحظة التاريخية، كونها تشكل الآلية المباشرة المعروفة لممارسة هذا الحق. ومع أن مفهوم تقرير المصير كان على مدى القرن الحالي مرتبطاً بمفهوم التحرر الوطني ومتلازماً معه، فإنه يترتب علينا اليوم النظر إليه على نحو مستقل عن مفهوم التحرر الوطني، أي عن مفهوم تحرير الأرض. طبعاً، إن الحديث عن حق تقرير المصير من دون الحق في التشريع الكامل واتخاذ القرار بالاستقلال، على سبيل المثال، يعني إفراغ مفهوم تقرير المصير من محتواه الجوهري. لكن تداخل المراحل، وهو تداخل ناجم عن تجاوز مرحلة التحرر الوطني، يدفعنا إلى البحث عن إمكان تقرير المصير "على مراحل"، أي القبول موقتاً بممارسة جزئية لتقرير المصير. وليس الاندفاع بهذا الاتجاه ناشئاً عن الرغبة في التفريط، بل هو محاولة لسرقة الوقت إلى حين يتم التوصل إلى حلول تمكّن الشعب الفلسطيني، من دون الإفراط في التضحية، من إيجاد صيغ ملائمة لضمان آليات تقرير المصير. ذلك بأن إقامة الدولة على الأرض الفلسطينية في هذه المرحلة ليست كفيلة بتوفير الشروط الضرورية لممارسة مشروعة لتقرير المصير للشعب الفلسطيني. ويكمن سبب ذلك في أن مفهوم تقرير المصير يعني اتخاذ القرار بشأن المصير كقرار داخلي للشعب الذي يمارس هذا الحق. أمّا نحن، فلسنا قادرين على ممارسة هذا الحق بصورة غير منقوصة قبل حل قضية الشتات الفلسطيني من جهة، وقضية الفلسطينيين المواطنين في دولة إسرائيل، وهي الأكثر تعقيداً، من جهة أُخرى.

وحدة الشعب الفلسطيني ووحدانية تمثيله

إن الواقع الجغرافي - السياسي اليوم أبعد ما يكون عن شعار وحدة الشعب الفلسطيني؛ فقضية اللاجئين أصبحت اليوم من القضايا الدولية لا من القضايا التي يتوقع حلها في سياق الحل الفلسطيني - الإسرائيلي. وبقيام الدولة الفلسطينية، أو أي صيغة تُطرح كبديل منها، سيتحول موضوع العودة إلى موضوع استيعاب، وسيجد الفلسطينيون أنفسهم في الوضع الذي وجد فيه يهود دولة إسرائيل التواقين إلى استيعاب "الوافدين الجدد" من جهة، والممتعضين من الثمن الاقتصادي والاجتماعي الباهظ الذي يترتب على هذا الاستيعاب من جهة أُخرى. ومع أن هذه المعطيات ليست حديثة، فإننا نضطر إلى طرقها اليوم لأن الأسباب الموضوعية التي مكنتنا طوال الوقت من الحديث عن وحدة الشعب الفلسطيني بدأت تزول. لقد كان العامل الأساسي الخارجي([2])   الذي يمكّننا من الحديث عن وحدة الشعب الفلسطيني عملياً، كما ذكر الدكتور حيدر عبد الشافي في محاضرة له في مؤتمر بشأن الانتخابات والنظام السياسي الفلسطيني، يكمن في وحدانية تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية لهذا الشعب.([3])

ولا بد هنا من التوقف عند هذه القضية الحساسة: لقد ظلت منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بغض النظر عن موقعه الجغرافي. وكان هذا التمثيل يتمتع، حتى مرحلة قريبة، بنوعين من أنواع الشرعية:

l شرعية مكتسبة داخلياً من الإجماع السياسي الفلسطيني؛

l شرعية مكتسبة من الاعتراف الدولي بأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

وقد فقد كل من نوعي الشرعية المكتسبة مقوماته: ففقد الاعتراف الدولي قيمته منذ أن بارك المجتمع الدولي مسيرة مدريد بصيغتها التي سلبت منظمة التحرير الفلسطينية الصلاحيات المباشرة في التفاوض باسم الشعب الفلسطيني، ونقلته فيما بعد إلى ما أصبح سلطة فلسطينية غير متماثلة في الواقع مع منظمة التحرير الفلسطينية.

أمّا الإجماع الفلسطيني على منظمة التحرير الفلسطينية كممثل، فلم يعد مصدراً لمشروعية هذا التمثيل، وذلك لعدة أسباب:

l خروج الانتفاضة الفلسطينية سياسياً إلى حيز متقدم على منظمة التحرير الفلسطينية في التصور السياسي المستقبلي، وفي الآلية. فقد كانت الانتفاضة سباقة في طرح البديل العملي لسياسة التقاسم الوظيفي، وفي إيجاد أنوية مؤسسات محلية للتنظيم الاجتماعي من خلال الاتجاه نحو إشراك الجمهور العريض في صوغ الشعارات السياسية والتحول إلى المبادرة السياسية، بدلاً من الاكتفاء بردات الفعل التي تميزت السياسة الفلسطينية بها حتى الانتفاضة. وقد تجسد هذا التوجه في محاولة إقامة مؤسسات ديمقراطية قاعدية (grass roots) ومنبثقة من الأفراد، عبر تجربة اللجان الشعبية.

l بزوغ الحركات الإسلامية كحركات سياسية جماهيرية، وانخراطها في العمل السياسي المحلي، على الرغم من حفاظها على طبيعتها "الأممية" كحركة هدفها الاستراتيجي الدولة الإسلامية والجهاد، كمفهوم غير محدد بهوية وطنية، وإعلانها أن منظمة التحرير الفلسطينية لا تمثلها.

l اختيار وفد فلسطيني مفاوض مستقل عن هيكلية منظمة التحرير الفلسطينية، وافتراض إمكان وجود إجماع شعبي عليه، على الرغم من الافتقار إلى الإجماع الفصائلي، ناهيك بالإجماع السياسي. أي أنه من الممكن الافتراض أن قرار اختيار تشكيلة الوفد كان يمكن أن يحظى، بحسب تصور الذين اختاروه، بموافقة فلسطينية محلية. وقد بدا هذا جلياً في تركيبة الوفد التي أخذت العوامل الجغرافية والعشائرية والدينية في الاعتبار. أمّا المؤشر الآخر على أن تكوين الوفد المفاوض من فلسطينيي الداخل في الأساس شكل خطراً فعلياً على وحدانية التمثيل، فهو إقدام قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على محادثات أوسلو على الرغم من قدرة الوفد المفاوض في واشنطن على التوصل إلى صيغ أفضل من صيغة أوسلو. وعلى الرغم من أن هذه الأخيرة كانت محاولة لتقديم تنازلات في الاتفاق في مقابل إقحام منظمة التحرير الفلسطينية في العملية السلمية بصفة الشريك الفلسطيني، فإن ما تمخض عن هذه المقايضة في الواقع هو استبدال منظمة التحرير الفلسطينية بالسلطة الوطنية الفلسطينية.

ومن الممكن، في هذا السياق، المجادلة بشأن نجاعة الاتجاه الرافض داخل منظمة التحرير الفلسطينية، حيث إن الانقسام في المواقف، بعد أن أصبح اتفاق "إعلان المبادئ" واقعاً، أدى إلى نشوء سلطة فلسطينية مختلفة عن منظمة التحرير الفلسطينية، الأمر الذي لا يخدم تطلعات الاتجاه الرافض لاتفاق "إعلان المبادئ"، أو الاتفاقات التي تبعته، داخل المنظمة.

كما أن من الممكن المجادلة بأن السلطة الفلسطينية هي في الواقع منظمة التحرير الفلسطينية في حلة جديدة. بيد أن هذا النوع من التحول، إذا ما قبلنا به، وصرفنا النظر عن مشكلة "الخارج"، لا يقع في نطاق مجموعة التحولات التي مرت المنظمة بها في الفترات السابقة، والتي لم تغير من جوهرها التمثيلي للشعب الفلسطيني، ذلك لأنه مرتبط بنمط جديد من أنماط النشاط السياسي للمجتمع. فنقل المؤسسة التمثيلية إلى الداخل يعني حصر التمثيل في الداخل من دون أن يحل الإشكاليات الأُخرى المرتبطة بشرعية هذا التمثيل، والتي ذكرناها أعلاه.

وبفقدان منظمة التحرير الفلسطينية صفة وحدانية التمثيل للشعب الفلسطيني (من وجهة نظر الداخل على الأقل)، بالإضافة إلى العوامل الموضوعية الأُخرى التي ذكرناها، انتهت المؤشرات الخارجية (غير المرتبطة بالعاطفة القومية) على وحدة الشعب الفلسطيني.

إن فقدان الوحدة هذا يعني، في أقل تعديل، أنه لا يمكن لأجزاء الشعب الفلسطيني كافة ممارسة حق تقرير المصير بآلية واحدة. وبهذا يصبح لفكرة ممارسة تقرير المصير "على مراحل" ما يبررها. أمّا النتيجة الثانية، والتي تشكل نقطة أضعف على الرغم من إمكاناتها العالية، ولن نخوض فيها، فهي أن فقدان الوحدة سيؤدي إلى تعدد مصائر مختلف مجموعات الشعب الفلسطيني، والذي سيتطلب منا في حال حدوثه أن نواجهه بواقعية على الرغم مما يحمله في طياته من آلام وضياع أحلام.

القدس والانتخابات

إن المشكلة الأُخرى المتعلقة بوحدة الشعب الفلسطيني هي مشكلة القدس، وهي مشكلة حرجة، إذ إن الحل الذي سيتوصل المفاوضون إليه بشأن المدينة سيجعل سكانها العرب إمّا في وضع سكان المناطق المحتلة سنة 1967، وهو الوضع الطبيعي، وإمّا، عملياً من وجهة نظر تصنيفهم كفلسطينيين، في وضع المواطنين في دولة إسرائيل، أصحاب الوضع الأكثر تعقيداً فيما يتعلق بآليات التعبير عن انتمائهم إلى الشعب الفلسطيني. وهذا هو السبب الذي يجعل وضع سكان القدس الشرقية أحد الخطوط الحمر التي لا يجب تجاوزها لجهة القبول بانتخابات "المجلس الفلسطيني".

وتزداد مشكلة القدس حساسية لأسباب عدة؛ فرمزية القدس وخصوصيتها الدينية بالنسبة إلى الفلسطينيين تجعلان قضية الاتفاق بشأنها مقياساً لمدى التجاوب الشعبي مع الانتخابات ومع العملية السلمية برمتها. أمّا بالنسبة إلى باقي العرب، فإن خصوصية القدس ورمزيتها تجعلان منها عاملاً مهماً في تحديد طبيعة العلاقات العربية - الفلسطينية، وهما تحددان المدى الذي سيكون من الممكن أن يتجاوز العرب فيه الفلسطينيين في العلاقات بإسرائيل.

غير أن هناك ما يدعو إلى التفاؤل في هذا الصدد، إذ إن إلحاق القدس الشرقية بإسرائيل يضع الأخيرة في الموقع الذي دفعها إلى بدء العملية التفاوضية، فهي تدرك حساسية قضية القدس بالنسبة إلى العرب والمسلمين والمسيحيين، وهي أن تحقق، من دون التوصل إلى صيغة مرضية لهؤلاء جميعاً، حلمها بالانفتاح والتطبيع. 

شرعية الانتخابات وشرعية السلطة

أمّا إذا اتفقنا على أن المجلس سيمثل المجتمع([4])   الفلسطيني، أي على إمكان تطبيق مبدأ الانتخاب الذي يكرس مبدأ تجزئة حق تقرير المصير، كما يكرس واقع انقسام الشعب الفلسطيني، فإن ذلك ينقلنا إلى المعضلة الثانية المتعلقة بالانتخابات، وهي شرعية هذه الانتخابات.

تستمد الانتخابات شرعيتها، إذا ما كان لها أي صفة شرعية، من اتفاق أوسلو. وهي إذا ما تمت واكتسبت شرعية الأمر الواقع، فإنها تضفي بذلك شرعية على مصدر شرعيتها الأول، أي على اتفاق أوسلو وعلى ما نتج منه بالتالي، بما في ذلك السلطة الفلسطينية. وستكون هذه شرعية جديدة مستمدة من الناخب الفلسطيني لا من توازن القوى والمصالح الدولية والإقليمية التي أدت الدور الأكبر في العملية السلمية. وإكساب هذا النوع من الشرعية للسلطة الفلسطينية سيكرس واقع حلولها مكان منظمة التحرير الفلسطينية وما يترتب، وسيترتب على ذلك. بيد أنه يبدو صحيحاً أن "من حسن حظنا أن أوسلو بالذات، وهي التي جسدت فقدان الإجماع وبالتالي الشرعية، قد وفرت في نفس الوقت آلية جديدة ومصدراً جديداً للشرعية: الانتخابات."([5])   ففي ظل الافتقار إلى جميع أشكال التمثيل الشرعي داخلياً، والناجم عن استبدال شرعية منظمة التحرير الفلسطينية بشرعية السلطة الفلسطينية، اكتسب تمثيل السلطة الفلسطينية المقومات الخارجية للشرعية التي كانت للمنظمة، لكنه لم يكتسب المقومات الداخلية، وعلى رأسها الإجماع الفلسطيني. وفي ظل هذا الافتقار، يشكل مصدر الشرعية الانتخابي الجديد خطوة على طريق استكمال أسباب مشروعية النضال في سبيل تحقيق بنود جدول الأعمال الفلسطيني.

إن اكتساب السلطة الفلسطينية مقوماً جديداً لن يشكل عاملاً مقدِّماً أو مؤخِّراً في شرعية العملية السلمية، ذلك لأن هذا المقوم الجديد ناجم عن هذه العملية، لكنه سيشكل عاملاً مهماً، إذا ما أحسّنا استخدامه في التخلص من ازدواجية السلطة من جهة، وفي إكساب السلطة الفلسطينية بعداً وطنياً جوهرياً، أي بعداً متعلقاً ببسط النفوذ على الوطن لا بعداً وطنياً من حيث انتماؤه الأيديولوجي، من جهة أُخرى، بحيث يمكنها من التصرف كسلطة سياسية تامة.

وكون الانتخابات نتاجاً للعملية السلمية، فإن الهيئة المنتخبة ستكون بالضرورة:

1 - هيئة مفاوضة؛

2 - جزءاً من السلطة أو مرجعاً تشريعياً لها (وهو الأمثل)؛

3 - تعبيراً عن الوضع القائم الذي سيشكل المنطلق والوزن الفلسطينيين في المفاوضات بشأن المرحلة النهائية.

وفي هذا السياق، ستكون السلطة الفلسطينية، وقد اكتسبت مقومات الشرعية التي تحدثنا عنها أعلاه، مؤهلة بصورة أفضل لاتخاذ عدد من الخطوات الضرورية لاستبدال وسيلة الإجماع، التي شكلت مصدراً لقوة الموقف السياسي الفلسطيني في الفترة السابقة، بوسيلة جديدة، وهي الديمقراطية التي تمكن الهيئة التنفيذية في السلطة من التعبير، بالاستناد إلى الهيئة التمثيلية المنتخبة، عن مصالح وآراء الأغلبية، مع الحفاظ على حقوق المعارضة. ذلك لأن وجود المجلس المنتخب سيشكل أحد الأسباب للفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية والارتقاء بوسائل العمل الفلسطيني إلى المستوى المدني.

خلاصة

إن خوض العملية الانتخابية لن يفي بالأغراض التي سقناها أعلاه، والمتعلقة بجعل العملية الانتخابية وسيلة للنضال في سبيل تحقيق مجموع التطلعات الفلسطينية، وجعلها خطوة على طريق الممارسة الكاملة لحق تقرير المصير، إلاّ إذا اقترن بعدد من الشروط التي ستوفر له مقومات النجاح كي لا تتكرر التجربة الفلسطينية التي افتقرت إلى عنصر التخطيط المستقبلي. فمن دون تجاوز نقاط الضعف في الموقف الفلسطيني، ومن دون إيجاد البدائل والحلول لها، فلا الانتخابات ولا سواها ستستطيع وقف الشعب الفلسطيني على طريق الممارسة الفعلية لتقرير المصير. ومن أهم هذه الشروط:

أولاً: يجب تجاوز وسائل العمل القديمة، على أن يقترن هذا التجاوز بهضم التجربة النضالية الفلسطينية لا بتكرارها أو طمسها، الأمر الذي يتطلب بذل الطاقات في درس هذه التجربة والإفادة منها بتجرد وموضوعية، وتوجهاً نقدياً إيجابياً نحو الذات مغايراً للتوجه السائد الذي يمكن وصفه بِجَلْد الذات. فمن غير الممكن تصور ازدهار أي وجه من وجوه البناء الفلسطيني في ظل الاشمئزاز حيال الذات، على الرغم من وجود ما يبرر ذلك في المرحلة السابقة من العمل السياسي الفلسطيني.

ثانياً: النظر إلى مختلف الأمور المتعلقة بالحركة الفلسطينية من منظار الأهداف لا الوسائل، الأهداف النهائية لا المحلية. فالميزانية الفلسطينية والشرطة وإعادة المبعدين وإخلاء المستوطنات وبناء البنية التحتية، وما إلى ذلك من مهمات ملقاة اليوم على كاهل السياسيين الفلسطينيين، هي وسائل لبلوغ الهدف الفلسطيني المتعلق بممارسة حق تقرير المصير، وليست أهدافاً مستقلة.

ثالثاً: الانتباه إلى خطورة مرحلة ازدواجية السلطة القائمة اليوم، والتي ستبقى قائمة إلى حين بلوغ الحل العادل، والعمل على الحد من مظاهرها.

رابعاً: التعامل بحذر شديد مع قضية الفصل الجغرافي بين مناطق الوجود المجتمعي الفلسطيني (الضفة الغربية وقطاع غزة). ففرض أنظمة الحصص (كوتا) والتمثيل الاعتباطي (في مقابل المهني) للمنطقتين الجغرافيتين يحمل في طياته من المخاطر ما يوازي مخاطر الفصل التعسفي بين المنطقتين. والانتباه إلى أن تماثل وضع الضفة الغربية مع وضع قطاع غزة كشرط للشروع في الانتخابات، يجب أن يكون تعبيراً عن المساواة في المدى الذي تطال صلاحيات الهيئة المنتخبة به الإقليمين، لا أن يكون شكلياً أو موقتاً.

خامساً: التحول الجاري في طبيعة منظمة التحرير الفلسطينية ودورها لا ينسحب بصورة مباشرة على جميع مؤسساتها، حيث إن بقاء المجلس الوطني الفلسطيني وتفعيله هما أحد السبل الرئيسية للحفاظ على أهم مظهر قانوني من مظاهر وحدة الشعب الفلسطيني. غير أن من الضروري إجراء بعض التعديلات على مهمات المجلس الوطني بعيد الانتخابات، وبالقدر الذي يكون فيه المجلس المنتخب تشريعياً، بحيث تقصر صلاحياته على الأمور المتعلقة بقضايا الشعب الفلسطيني لا بالدولة الفلسطينية أو المجتمع الفلسطيني، أي أن على المجلس الوطني القيام بدور مشابه لدور "الوكالة اليهودية" في تنظيم عملية عودة فلسطينيي الشتات إلى فلسطين، على الرغم من كل ما في ذلك من سخرية تاريخية.

سادساً: تأكيد أن انتهاء مرحلة التحرر الوطني لا يعني التخلي عن مهمات التحرر الوطني غير المنجزة. إن الطرح الذي سبق بشأن انتهاء مرحلة التحرر الوطني يتعلق بتغيير سلّم الأولويات السياسية لا بتغيير المهمات المنوطة بالحركة الفلسطينية في مجملها.

سابعاً: العمل الدقيق على الحفاظ على وحدة المجتمع الفلسطيني، وأعني هنا إيجاد الآليات الضرورية للتعبير السياسي والاقتصادي والمؤسسي عن الإجماع الفلسطيني إلى حين الانتخابات، وبصورة خاصة في منطقة غزة، حيث إن أي اقتتال أهلي في القطاع سيفسح في المجال لإدارة عجلة العملية السلمية باتجاهات جديدة تهدف إلى انتزاع قطاع غزة من الوحدة الفلسطينية، وهو ما يزيد في مختلف الطموحات إلى فرض حلول موقتة ذات طابع فصلي عنصري أو توسعي تعسفي. لقد شكل قطاع غزة الدافع الرئيسي إلى عدد من الخطوات السياسية التي خطتها مختلف القوى في المنطقة باتجاه استقلالية عملية تقرير المصير الفلسطيني. ومن هذه الخطوات تخلي الحكومات الإسرائيلية، مضطرة، عن فكرة إقامة دولة يهودية على أرض إسرائيل الكبرى، على الرغم من أن المفهومين متلازمان في الفكرة الصهيونية. وقد عبّر وزير الخارجية الإسرائيلية شمعون بيرس عن ذلك بوضوح حين ذكر في أحد تصريحاته أن تصوره الحديث لإسرائيل الكبرى هو تصور إسرائيل الكبيرة بقدراتها الاقتصادية والأكاديمية لا الجغرافية. وكان بيرس قد مهد لهذه الفكرة في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" قائلاً: "نستطيع أن نستنتج أن ثروة الأمة لم تعد تعتمد كثيراً على مواردها الطبيعية وامتدادها الجغرافي، أو على تركز الثروات فيها. إن ثروة الأمة هي حصيلة تراكم المعارف.. وتعتمد على تطور الأفكار العلمية ذات التطبيقات التكنولوجية."([6])   والخطوة الثانية التي صبت في الاتجاه نفسه هي قرار الأردن فك الارتباط بالضفة الغربية، وقد سبقها رفض السادات تسلُّم قطاع غزة من الاحتلال الإسرائيلي.

إن فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وحصر الكينونة الفلسطينية، بمعناها الحقوقي السياسي، فيه يعنيان تحفيز الاتجاهات الميالة إلى الإبقاء على الأيديولوجيا الصهيونية بشقيها، ولا يعني هذا أني أقول إن لها، بشقيها، أي حظ من النجاح، لكن ذلك سيؤدي إلى زيادة الآلام المرافقة لعملية الحل السلمي وإطالتها.

ثامناً: الانتباه إلى شروط العملية السلمية برمتها وإلى طبيعتها المعقدة:

l الطبيعة الإقليمية للعملية.

l قيام العملية، ولا سيما منذ أوسلو، على تحالف إسرائيلي - مصري - فلسطيني جديد معاد للأصولية، وهو تحالف يطمح إلى انضمام حلفاء جدد.

l العملية السلمية التي ابتدأت في مدريد يمكن، ويجب أن تكون بداية لعملية أوسع، تنصب الجهود العربية فيها من أجل إعادة ترتيب المنطقة، كخطوة أولى على طريق تغيير طبيعة التقاسم الوظيفي العالمي القائم بين الشمال والجنوب.

إن رسم الاستراتيجيا الفلسطينية وفقاً لهذه التصورات يتطلب وجود حكومة وطنية قادرة على استيعاب مصالح الجماهير الفلسطينية، والتعبير عنها على تنوعها وفقاً لمبدأ الهيمنة المحدودة القائم على إحداث توازن بين القوى المؤثرة في الدولة يُضطر الشريحة الحاكمة إلى أخذ مصالح الشرائح الأُخرى في الاعتبار، حيث لا تجد هذا الشرائح ما يدفعها نحو الثورة والانقلاب واللجوء إلى العنف. وكي يتسنى للحكومة ذلك، يجب أن تكون قادرة على العمل بحد أدنى من القيود الخارجية وحد أقصى من القيود الداخلية. وهذا في تصوري ما يجب أن يشكل المحور الحقيقي للموقف من الانتخابات. فالهيئة المنتخبة، ولكونها هيئة مفاوضة، لديها القدرة على حل المعضلة الأولى اليوم، وهي تصفية ازدواجية السلطة بتسلمها المهمات السلطوية من الإسرائيليين، والعمل على إنشاء المؤسسات السلطوية الفلسطينية القادرة على التعبير عن طموحات الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، بحيث يكون التعامل مع فلسطينيي الشتات مبرمجاً وفقاً للاتفاقات اللاحقة وقدرة الاستيعاب التي على هذه السلطة توفيرها في الداخل على نحو مدروس، بحيث يفضي ذلك كله، في نهاية الأمر، إلى ممارسة غير منقوصة لحق تقرير المصير.

تاسعاً: التأكد من توفر شروط نزاهة الانتخابات وتمثيليتها للمجتمع الفلسطيني، ولا سيما أن هذه الموضوعات لا تتعلق بالفلسطينيين وحدهم، بل بالظروف التي أدت إلى جعل انتخاب هيئة تمثيلية فلسطينية موضوعاً يتم التفاوض بشأنه مع إسرائيل وبإشراف دولي. ويزداد الخطر الكامن بوجود اقتناع مبرر بأن الانتخابات في ظل الوجود العسكري الإسرائيلي لا تفي بأغراضها، وبأن إعادة الانتشار لن تكون كافية لتغيير الوضع على نحو يغير من هذا الاقتناع. ولن يخفف وطأة الأمر وجود المراقبين الدوليين، لأن هناك إجماعاً على أن المراقبين، أياً يكونوا، ممنوعون من اتخاذ الموقف المحايد تجاه مختلف الأطراف التي يمكن أن تخوض المعركة الانتخابية، بسبب عدم تجانس مواقف مختلف الاتجاهات من العملية السلمية والمفاوضات التي ينبثق منها القرار المتعلق بهذه الانتخابات.

وكي تكون الرقابة على نزاهة التصويت وفرز الأصوات وسير الحملة الانتخابية كافية لتقرير نزاهة الانتخابات بصورة عامة، يجب أن تتوفر الوسائل لضمان نزاهة المبدأ الانتخابي نفسه، وتكافؤ الفرص لدى مختلف الفلسطينيين الذين ستنطبق قرارات المجلس المنتخب عليهم وتطالهم صلاحياته، أي أن على هذه الانتخابات أن تتمتع بفاعلية تمثيلية حقيقية.

ولا تشكل نزاهة الانتخابات وظروفها أساساً كافياً لخوضها بالنسبة إلى أي طرف من الأطراف الفلسطينية؛ فهناك شكوك مبررة بشأن الفائدة التي سيجنيها الشعب الفلسطيني من هذه الانتخابات. إذ حتى لو أقدمنا على تحييد مشكلة إعادة الانتشار، أي لو افترضنا أن عملية إعادة انتشار القوات العسكرية الإسرائيلية تمت على الوجه الذي يريده الفلسطينيون، وأوجدنا مختلف الضمانات والتطمينات بصدد نزاهة عملية الاقتراع، وما إلى ذلك من مقومات، فإن الانتخابات لا تغدو كونها وسيلة لتحقيق أهداف. إنها في صورتها المثلى آلية لممارسة حق تقرير المصير، وتحتاج، كي تؤدي مهمتها، وكي نجد في تأديتها هذه تبريراً كافياً لقيامها، إلى ظروف وشروط تضمن قدرتها، في نهاية الأمر، على تأدية هذه المهمة.

إن المطلوب، كمواصفات ضرورية للعملية الانتخابية، يتلخص في التأكد من أن الناخب حين يتوجه إلى صندوق الاقتراع، يدلي بصوته على نحو يعبِّر فيه عن رؤيته لمصالحه وثوابته، وبالتالي لهذا المرشح أو ذاك لاتخاذ القرارات السياسية نيابة عنه. ولهذا السبب، فإن الحد الأدنى من الشروط الضرورية لضمان فاعلية الانتخابات الفلسطينية هو التالي:

1 - القدرة على توليد جسم تمثيلي للمجتمع الفلسطيني.

2 - ضمان قدرة جميع الأطراف التمثيلية على خوض المعركة الانتخابية.

3 - وضوح مهمات الهيئة المنتخبة وصلاحياتها.

4 - وجود السبل الكفيلة بتمكين الهيئة المنتخبة من القيام بمهماتها.

5 - القدرة على محاسبة الهيئة المنتخبة، هيئة وأعضاء.

6 - وجود الهيئة المنتخبة في هيكلية معينة بحيث تصبح خاضعة للرقابة.

7 - وجود إمكان معقول للطعن بالانتخابات.

 

المصادر:

([1])  لا أقول هنا "المرحلة الانتقالية"، لأني أتحدث عن مرحلة نمر بها بالضرورة نتيجة الدخول في المفاوضات قبل التحرير، وبغض النظر عن نتائجها.

([2])  أي العامل الذي يمكن الدفاع عنه من وجهة النظر غير المرتبطة بالمشاعر القومية الخاصة بالفلسطينيين أو بالعرب. ومن أجل المقارنة، على الرغم من عدم التكافؤ، يمكن أن نتذكر أن وحدة "الشعب" اليهودي ما زالت حتى هذا اليوم موضوع جدل على المستوى الفكري ومساومة على المستوى السياسي. أمّا فلسطينياً، فإن توازن القوى القائم اليوم لا يسمح بالمساومة السياسية في هذه القضية خارج نطاق الحل الإقليمي والمفاوضات المرتبطة به.

([3])  حيدر عبد الشافي، "النظام السياسي الفلسطيني والانتخابات: قراءة وطنية مستقلة"، في: "الانتخابات والنظام السياسي الفلسطيني"، تحرير خليل الشقاقي (نابلس: مركز البحوث والدراسات الفلسطينية، 1995)، ص 96.

([4])  استخدم مصطلح "المجتمع الفلسطيني" للتعبير عن الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، لتمييزه من مصطلح "الشعب الفلسطيني" الذي يشمل الفلسطينيين كافة أينما وجدوا.

([5])  خليل الشقاقي، "الانتخابات وشرعية النظام السياسي الفلسطيني"، في: الانتخابات والنظام السياسي ..."، مصدر سبق ذكره، ص 16.

([6])  Shimon Peres, The New Middle East (New York: Henry Holt,1993), p. 100.

Author biography: 

مضر قسيس: أستاذ الفلسفة في جامعة بير زيت.