I. تحولت مسألة معارضة أو تأييد اتفاق المبادئ الإسرائيلي - الفلسطيني، المسمى "اتفاق غزة وأريحا"، بسرعة خاطفة إلى قضية تسجيل مواقف. وخلال فترة وجيزة، تقل في قصرها عن مرحلة الاصطفاف في تأييد اتفاق كامب ديفيد ومعارضته، أصبح من الضروري التعامل مع وضع جديد لا يشابه الوضع القديم في الناحية السياسية.
لقد تحولت القضية الفلسطينية من قضية الصراع العربي- الإسرائيلي إلى قضية الاتفاق الإسرائيلي - الفلسطيني. ومع انتقال القيادة الفلسطينية إلى غزة أو أريحا أو إلى كليهما معاً أو إلى جزء منهما، تتحول القضية إلى قضية إدارية، ولن تخرج من دائرة الإدارة إلا إذا خرجت جماهير الشعب الفلسطيني إلى الشارع على الرغم من الاتفاق لتفرض على الطرفين أموراً لم يحسب الاتفاق لها حساباً.
وقد قصرت فترة الصراع بشأن الاتفاق لا بسبب قوة الطرف المؤيد له فلسطينياً ـ بل بسبب قوة الأطراف المؤيدة له في إسرائيل والعالم، وبسبب ضعف القوى المعارضة أو عدم تمكنها من تجاوز المظلة السورية المعارضة للاتفاق تكتياً، لا استراتيجياً، إضافة إلى عجزها عن طرح استراتيجية بديلة تحظى بمساندة شعبية استراتيجية تتجاوز العودة إلى تأكيد الشعارات التي فقدت مقومات وجودها، لا الموضوعية فحسب، فتلك فُقدت منذ زمن بعيد، بل الذاتية أيضاً.
حتى الثوابت الوطنية تحولت إلى "زوائل" أو إلى متغيرات وطنية عندما تم طرحها كشعارات، وشعارات مرحلية إلى ذلك. والميكانيزم نفسه الذي يحول "الثابت الوطني" إلى شعار مرحلي باتجاه هدف أسمى منه، إنما يحوله أيضاً إلى متغير غير مقدس وزائل بدوره، أو إلى هدف نهائي بعيد تقود مراحل أُخرى إليه.
لقد نشأ بعد الاتفاق وضع سياسي جديد على الرغم من بقاء موازين القوى في المنطقة والعالم على ما هي عليه، بل هو أكثر أمانة في ترجمتها وتلخيصها. لكن الواقع الجديد ليس أكثر "أبدية" من سابقه؛ فمن الممكن تغييره هو أيضاً ولا حاجة إلى الاستسلام له. لكن من أجل تغييره يجب التعامل معه، والتعامل لا يعني في أية حال من الأحوال قبوله أو التحمس له.
وعلى الرغم من كل شيء، وعلى الرغم من سرعة نشوء الواقع الجديد، فقد كانت هنالك حاجة ماسة إلى تسجيل موقف ضد الاتفاق من أجل استثمارها في الحالة السياسية الجديدة التي ستنشأ عنه، ومن أجل الاصطفاف داخل هذه الحالة السياسية بنهج فكري وسياسي معارض للنهج السياسي الذي يعتذر أمام المجرم ويقايضه الذاكرة التاريخية بالحماية الإسرائيلية.
لكن أخطأ من اعتقد أن تسجيل المواقف السياسية والفكرية ضد الاتفاق - صيغته وكيفية التعامل معه وعملية التطبيع الحضاري والسياسي التي ترافقه _ يعني العمل على نسف الاتفاق أو إعادة عملية التاريخ إلى الوراء؛ فمثل هذه التصورات لا يعني إلا أحد أمرين: مناشدة القيادة الفلسطينية (كما نوشد السادات في حينه) أو القيام بعمليات مسلحة هدفها نسف الاتفاق، فلا تقوي إلا الجناح الفلسطيني "المعتدل" - أي ربما تجعل الاتفاق أكثر توازناً - وربما، ولا أحد يدري كيف يعمل منطق التاريخ في النهاية، تؤدي إلى زيادة اعتماد هذا النجاح المعتدل على إسرائيل.
وبما أن القوى المساندة للاتفاق: الولايات المتحدة، وأوروبا، ومصر، وإسرائيل، وقيادة م.ت.ف.، أقوى بما لا يقاس من القوى المعارضة، وبما أن الاتفاق يتوج مرحلة بدأت في السبعينات أو سنة 1982، أو في العام الثاني للانتفاضة - وسنختلف دائماً في التأريخ لبداية هذه العملية - وربما أن الانتفاضة الشعبية، الشكل الوحيد الباقي للعمل الوطني، تراوح مكانها ضمن أزمة سياسية ترافقها أزمة اجتماعية شاملة منذ أكثر من عامين، فلا يبقى أمام المعارضة، التي ترغب في إعادة عجلة التاريخ إلى الخلف، سوى المناشدة العاطفية لقيادة م.ت.ف. بالعودة عن منهجها أو اللجوء إلى العمل المسلح النخبوي، وكلاهما لا يستحق أن يطلق عليه صفة استراتيجية.
ومع اتفاق توّجته في نظر الرأي العام عملية المصافحة لا عملية الانسحاب، وبذلك بدأ بنهاية سعيدة، ويطغى عليه طابع الصفة الاقتصادية والمشاريع "المشتركة" (حتى سماه أحد الصحافيين العرب: هذا غرام، لا سلام!!) والترتيبات الأمنية التي تختلط بالترتيبات الاقتصادية – ويناقش الفلسطينيون بموجبها أمن إسرائيل قبل الاعتراف بحقهم في إقامة دولة – مع مثل هذا الاتفاق، ينقسم الفلسطينيون إلى مؤيدين للاتفاق، ينبغي تشجيعهم، ومعارضين للاتفاق ينبغي عزلهم، في نظر العالم، وقمعهم، في نظر إسرائيل.
لا يستطيع أحد أن يعزل الجماهير الفلسطينية التي يدّعي الاتفاق أنه حل مشكلتها، والإمكان الوحيد المتاح للمعارضة هو العمل من خلال الحركة الجماهيرية التي لن تتظاهر ضد الاتفاق بل ضد مظاهره، ولا ضد الانسحاب من غزة بل من أجل الانسحاب من رام الله، ولا ضد الحكم الذاتي بل من أجل الاستقلال.
سيختلف المؤرخون بشأن تقويم الدور التاريخي للبنى السياسية الفلسطينية في الوصول إلى ما وصلنا إليه. لكن من الواضح أن هذه البنى قد أنهت دورها السياسي، على الرغم من احتفاظها بأسمائها القديمة. ولم يعد خافياً على أحد أن لا علاقة للأسماء بالمسميات.
إن المعارضة التي ما زالت تتمسك بالأسماء والبنى القديمة هي تماماً مثل الحركات التي تتمسك بالشيوعية "الحقيقية" بعد زوال الشيوعية. والمعارضة الوحيدة الممكنة، والقادرة على طرح منهج وطني وديمقراطي وإنساني وحضاري مقاوم للنزعات الإسرائيلية الاستعمارية الجديدة، هي المعارضة التي تقوم خارج الأطر المسماة حالياً م.ت.ف.، والتي فقدت كل علاقة بـ م.ت.ف. التاريخية، وأصبحت في الواقع ايديولوجية تبريرية لقوى سياسية واقتصادية تسعى بدورها للوصول إلى سلطة خارج أطر م.ت.ف. على الرغم من استخدامها التسمية. إن عودة م.ت.ف. التاريخية إلى الوجود غير ممكنة؛ لقد أصبحت بإيجابياتها وسلبياتها تاريخاً – والتاريخ قد يبول على ذاته لكنه لا يعود إليها.
لقد بدا تاريخياً أنه قد مهدت للاتفاق الإسرائيلي – الفلسطيني أزمة بنيوية تمثلت في عجز اقتصادي هائل في م.ت.ف. (وهي أول ثورة في التاريخ يبحث العالم في عجزها المالي). وقد أدى هذا العجز إلى عدم تمكن قيادة م.ت.ف. من الوفاء بالتزاماتها المالية لجهازها البيروقراطي الهائل، ولأسر الشهداء والمعتقلين وللمؤسسات الكثيرة التي تعيش على مخصصات م.ت.ف.، ومنها مؤسسات حيوية جداً للمجتمع الفلسطيني في الخارج والداخل – ومنها ما يهدف إلى التأثير السياسي فحسب عن طريق التحكم في الأرزاق.
ولم تتجلّ الأزمة حقيقة بالعجز ذاته، بقدر ما تجلت بعدم تضامن الفلسطينيين مع هذا العجز، بل تعبيرهم بشتى الوسائل والأشكال عن عدم تصديقهم وجود هذا العجز، أو عن تذمرهم من سوء الإدارة والفساد، وغير ذلك، بما يتراوح بين الدقة، والشائعة، والتجنّي، والتشهير - لكن المهم هو وجود الظاهرة – أي ظاهرة فقدان التضامن.
وعندما اعترفت إسرائيل بـ م.ت.ف. رسمياً، بعد فشل معادلة مدريد، أولاً وقبل كل شيء، نتيجة للإصرار اللسطيني العام على صدقية تمثيل م.ت.ف.، تبين أن المنظمة قد ضعفت إلى درجة أنها أصبحت مستعدة لدفع ثمن باهظ في مقابل هذا الاعتراف. لقد دُفع الهدف ثمناً في مقابل الاعتراف بالوسيلة، والواقع في مقابل الرمز، وفلسطين في مقابل الاعتراف بـ م.ت.ف.
ونظرياً فقط، يعني الاتفاق اعترافاً سياسياً بوجود الشعب الفلسطيني كأمة سياسية بالمعنى الحديث للكلمة، لأن م.ت.ف. كانت ترمز إلى وجود كيان سياسي فلسطيني – لكن المنظمة الآن احتوت الكيان، وبذلك لم تعد ترمز إلى قضية ما خارج مؤسستها وفوق شخص قائدها. أما عملياً فتجري محاولة، لا تبدي قيادة م.ت.ف. قدرة على مقاوتها، لتحويل هذا الشعب إلى محمية إسرائيلية مقطّعة الأوصال – تجمع قيادته بإسرائيل "مصالح مشتركة" يجري سعي حثيث، على مختلف المستويات، من أجل إبرازها.
ولم يكن الرفض الإسرائيلي لأي اتصال بِـ م.ت.ف. في الماضي قضية في حد ذاتها إلا بالنسبة إلى بعض العقائديين، الذين تحول لديهم رفض الحديث مع م.ت.ف. إلى ثابت من الثوابت الوطنية الإسرائيلية. أما بالنسبة إلى الدوائر الحاكمة في إسرائيل، فقد كان الرفض نتيجة للإصرار الإسرائيلي على عدم الاعتراف بالفلسطينيين شعباً ذا حقوق قومية. وكان من الواضح أنه إذا زال السبب زالت النتيجة أيضاً. وبذلك يتخلص الإِنجاز التاريخي الكامن في الاعتراف الإسرائيلي بالمنظمة – إنه اعتراف بالشعب الفلسطيني. ولا يقل عن ذلك أهمية أن هذا هو الانطباع السائد لدى مؤيدي الاتفاق في الشارع الإسرائيلي.
لكن النخب السياسية والعسكرية الإسرائيلية لا تتصرف بموجب الانطباع العام الذي نشأ عن الاتفاق، بل بناء على موازين القوى في المنطقة ومع م.ت.ف. التي ساعدتها إسرائيل في النهوض من أزمتها من أجل توقيع اتفاق ينهي الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني تاريخياً لقاء تحول م.ت.ف. إلى كيان فلسطيني يمارس عمله في غزة، ومناطق أُخرى لم تحدد بعد، تحت الوصاية الإسرائيلية.
لقد كان الجزء الأساسي في هذا الاتفاق هو ما ترغب إسرائيل في أن تتخلص منه في أية حال، أي قطاع غزة. والأدهى من ذلك كله هو أنه قد تبين بعد توقيع الاتفاق أن ما ترغب إسرائيل في التخلص منه كمشكلة قد تحول إلى مطلب فلسطيني يثير الأزمات في المفاوضات. فنحن نطالب بالانسحاب من قطاع غزة، لا مجرد إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي: لا حدود للمراحل!!
II. لقد أدت خلافات سياسية في الماضي إلى شق تنظيمات فلسطينية وإلى اصطفافات جديدة داخل المنظمات القائمة، وداخل م.ت.ف. بصورة عامة. وكان ذلك في أثناء النقاش بشأن البرنامج المرحلي مثلاً، أو النقاش، بعد الحرب التي شنتها إسرائيل على المنظمة في لبنان، بشأن اتفاق عمان، وبرنامج ريغان، وغير ذلك.
وانتهت هذه الخلافات عادة بضعف القوى الرافضة أو تهميشها، بعد عودتها المتأخرى إلى مرافقة التيار الذي بدأ مراحله بـ "إقامة السلطة الوطنية في أية منطقة تُحرّر"، وأنهاه بشعار "الدولتين". وفي كل مرة، كان يظهر أن التيار المركزي كان محقاً، وأن اليسار يتبعه في النهاية.
لكن الخلاف هذه المرة يأتي مع ضعف الأطر التي كانت تشكل مرجعاً بتجاوز الخلافات، وإطار إما أن تجعل الخلافات داخله وإما أن تهمش خارجه، كما جرى للمنظمات التي انشقت عن م.ت.ف. وانضوت تحت مظلة أنظمة عربية. وقد ترافق ضعف هذه البنى وتحولها إلى بنى بيروقراطية مع وجود معارضة أساسية للمسيرة السلمية منذ مؤتمر مدريد، قامت أصلاً خارج أطر م.ت.ف.
إضافة إلى ذلك، يأتي الحوار السياسي الفلسطيني الحالي، بعد شل الفعل السياسي للوجود الفلسطيني في لبنان، ونسف الوجود الاقتصادي الفلسطيني في الخليج. لقد تحول الشتات الفلسطيني من قوة سياسية فاعلة، بل من القوة الفاعلة التي تشكل العمود الفقري لحركة التحرر الوطني الفلسطيني، إلى قوة غائبة أو مغيّبة سياسياً، يحتل مكانها، بدلاً من أن يمثلها، الإطار البيروقراطي القائم في تونس. ويخضع هذا الإطار عملياً لسلطة فردية تناور باستمرار بين التيارات المختلفة، مستثمرة رأس مالها الرمزي تارة ورأس مالها المالي غالباً، فترضي البعض وتغضب البعض الآخر في عملية جذب وطرد تنشغل التيارات المختلفة فيها، وفي هذا الإطار، بكيل الإطراء والمديح أو التذمر والشكوى، بدلاً من بلورة المواقف المؤيدة والمعارضة فعلاً. فليس المديح تأييداً ولا التذمر والشكوى معارضة. ومن يتذمر من عدم إشراكه بصورة كافية في عملية اتخاذ القرار أو يشكو عدم تلقيه لمخصصاته، لا يستحق أن يسمى معرضة، بسبب ذلك وحده، حتى لو وصلت الشكوى حد الشتائم.
غير أنه في ظل هذه الحال البيروقراطية – العشائرية قد تبلور تيار واحد يستحق أن يسمى تياراً، وهو تيار يحث الرئيس أو الفرد على الاندفاع في العملية السلمية بقوة أكبر، ويتألف من القوى التكنوقراطية، وانتلجنسيا حركة فتح، إضافة إلى ما انشق عن التنظيمات اليسارية من عناصر. وهذا التيار بشكله الحالي هو من الظواهر التي رافق نشوؤها العملية السلمية منذ بدايتها بل يمكن اعتباره من إفرازاتها. ويدعو هذا التيار إلى مأسسة هذه العملية كي لا تعتمد على فرد واحد – كما يندفع إلى تحالف مع القيادات السياسية في الداخل بحماسة تفوق حماسة رموز حركة فتح، التي تنظر إلى القوى السياسية من الداخل كمنافس لها، في حين تريدها تابعة لها – وهذا لا يتم إلا من خلال التنظيم الفصائلي.
تنقسم القوى المؤيدة للاتفاق إلى قسمين: الأول هو الجهاز التاريخي لحركة فتح، وبضاف اليه جهاز الحركة التنظيمي والشبابي في المناطق المحتلة – وهو يرى نفسه القوة الأكثر استحقاقاً لتولي السلطة – والسلطة في المرحلة الراهنة لا تعني إلا الشرطة والمشاريع الاقتصادية الموعودة. أما القسم الثاني فيتألف من القوى السياسية الجديدة التي نشأت عن "عملية السلام" ذاتها – بالمعنى الواسع للكلمة – أي منذ بدأت عملية حوار وعملية سياسية مع إسرائيل. ويتألف كلا التيارين من قوى في الخارج وفي الداخل – أي لم يعد هنالك معنى للحديث عن صراع بين الداخل والخارج بالمعنى الضيق، أي بمعنى التنافس في الزعامة بين أشخاص من الداخل وأشخاص من الخارج.
ويبدو القسم الثاني أكثر ديمقراطية من التيار الأول لأنه يشدد على دور المؤسسات أكثر من تشديده على الطاعة التنظيمية، كما أنه يشدد على الكفاءات والمؤهلات أكثر من تشديده على الرصيد النضالي. وفي الحقيقة، اعتمد كلا التيارين أشخاصاً لأسباب سياسية أكثر منه بسبب المؤهلات وغير ذلك – أي إن كلا الطرفين يتعامل مع الأمور تعاملاً سياسياً كصراع على السلطة، لكن أحدهما يتبنى ايديولوجية أكثر ديمقراطية من الآخر. غير أن التيارين يؤيدان العملية السياسية بالدرجة نفسها. وقد يفرز أفراد من التيارين إلى المعارضة نتيجة لعدم الرضى من الحلول الوسط، التي سيتوصل التياران إليها، كل مع نفسه ومع الآخر، في المرحلة الأولى على الأقل.
أما التيارات المعارضة للاتفاق فتنقسم إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية: أولها التيار الإسلامي الذي تعارض أغلبيته العظمى الاتفاق – لكن، بسبب ازدياد شعبية هذا التيار في أعوام الانتفاضة الأولى، أصبح أقرب إلى نبض الجماهير من السابق. وإذا أضفنا إلى قربه من الفئات الشعبية البراغماتية المعروفة لقيادة حركة الإخوان المسلمين، أو ما بقي منها في حركة حماس، والتي تفسر، مثلاً، عدم دخول مواجهات مع النظام الهاشمي – نصل الي نتيجة أن هذا التيار مرشح للتعامل مع الاتفاق، أو مع الوقائع التي أفرزها الاتفاق، بقدر أكبر من الواقعية.
في هذه المرحلة يعيد هذا التيار إلى الأذهان التاريخ السابق لحركة فتح و"نظريتها"، في العمل، إذا استحقت أن تسمى نظرية: "العمل بدلاً من النقاش" أو الكفاح المسلح. وتقدم الحركة في مرحلة ما بعد الاتفاق، كما كانت الحال في العام الذي سبقه، بأكثر العمليات بطولية ضد الجنود والمستوطنين.
وليس هنالك أدنى شك في أن عمليات حماس المؤلمة ضد الجنود الإسرائيلية، كانت من الأسباب الأساسية التي دعت إسرائيل إلى التفاوض مع م.ت.ف. – أي إن هذه العمليات صبّت جدلياً في معسكر الخصم السياسي. لكن هذا الأمر لا يقلل من رصيد حماس السياسي – فالعلاقة السببية بين عمليات حماس والتراجع الإسرائيلي في غزة وفي مجال التفاوض مع م.ت.ف. تشكل سلسلة أقصر من أن يتعذر على الناس البسطاء إدراكها. لكن من غير الواضح ما إذا كانت العمليات الحالية معركة تقود باتجاه تنازلات إسرائيلية جديدة أم إلى مطالبة إسرائيلية للفلسطينيين بتنفيذ تعهداتهم بشأن أمن اسرائيل. في أية حال، تبقى لعمليات حماس تأثيرات جانبية مهمة، منها استمرار التوتر الجماهيري في التعمل مع الاحتلال، لا سيما في إثر عملية القمع المضاد التي تتبع العمليات العنيفة الناجحة ضد الجنود. لكن هل ستبدو الصورة هكذا بعد تسلم السلطة/الشرطة الفلسطينية مسؤولياتها؟
كما تعيد حركة حماس إلى الأذهان استراتيجية حركة فتح التنظيمية في اشتراطها على تنظيمات المعارضة الأُخرى أن يكون لها تمثيل يعادل تمثيلها مجتمعة في أية هيئة أو في أي شكل من أشكال التحالف في المستقبل. ويبدوأن مصير اليسار الفلسطيني منذ السبعينات يتلخص في أن يتخاصم على نصف المقاعد التي تبقيه له دائماً القوة الكبيرة (فتح أو حماس) التي ترغب في التحاف معها.
لقد تحولت الجبهتان الشعبية والديمقراطية، اللتان تشكلان التيار الثاني في معارضة الاتفاق، إلى القوة الأكثر عقائدية في الدفاع عن الثوابت الوكنية. وما زالت الجبهتان في حالة من التردد بين هدم مؤسسات م.ت.ف. والتحالف مع حماس ومقاطعة انتخابات الحكم الذاتي وبين إنقاذ ما يمكن بالتعامل مع العملية السياسية "من خارجها"، كما كان حالها منذ مؤتمر مدريد.
وتواجه الجبهتان اللتان تمثلان رصيداً مستقبلياً أساسياً لأية معارضة، بالقوى البشرية المثقفة والديمقراطية التي تضمانها، وضعاً جماهيرياً أصبح يضيق ذرعاً بالأجوبة المقدمة بشأن أسئلة مثل: لماذا لا تحقق الجبهتان وحدة كاملة واندماجية؟ لماذا لا تتحولان إلى حزب ديمقراطي حقيقي معارض؟ يخطىء من يعتقد في الجبهتين أن رصيدهما الجماهيري هو عقائد ماركسية لينينية مهلهلة – إن رصيدهما يتلخص في كونهما المعارضة الوطنية العلمانية التي في الإمكان أن تتحول إلى رصيد حقيقي للمجتمع المدني الفلسطيني وفي المستقبل، إذا تطورتا باتجاه ديمقراطي فعلاً، يراهن على الشعب الفلسطيني وعلى إمكان تنظيم حركته الجماهيرية.
إلى جانب هذين التيارين، هناك تيار ثالث تابع تماماً لسورياً ولاستراتيجية سوريا في التفاوض والتعامل مع الفلسطينيين – ولا وجود حقيقياً لهذا التيار في المناطق المحتلة – كما لا يمكن، بالبنى السياسية القائمة، أن يترجم هذا التيار رصيده النضالي الماضي أو تأثيره السياسي في بعض مخيمات سوريا ولبنان إلى تأثير في العملية السياسية الجارية.
III. إلى جانب التقسيم السياسي التقليدي للخريطة السياسية، تحتم هذه المرحلة التعامل بجدية مع مؤسسات فلسطينية لا تتقاطع بالضرورة مع الفصائل السياسية، وإنْ كان قسم منها يخضع مباشرة لهذه الفصائل خضوعاً ناجماً عن عدم الاعتراف بتوزيع الوظائف في المجتمع الفلسطيني – هذا التوزيع الذي لا بد من اعتباره شرطاً لقيام أي مجتمع مدني.
وقد نشأ قسم كبير من هذه المؤسسات، وبصورة خاصة في المناطق المحتلة، بتمويل من مصادر غربية حكومية وغير حكومية، أو مصادر عربية، أو متمولين فلسطينيين. وقليلة جداً هي المؤسسات التي تقوم بتمويل كامل من المجتمع الفلسطيني ذاته في المناطق المحتلة. وربما كانت هذه الحقيقة عقبة أُخرى في وجه قيام مجتمع فلسطيني مدني – فالمجتمع الفلسطيني بأكمله في الداخل لا يموّل جامعة واحدة أو أية مؤسسة رئيسية أُخرى. وربما كانت الأموال الوحيدة التي تُجمع من الناس مباشرة في حالات معدودة هي ما يجمع لبناء مسجد في حي ما – إذا لم تجند الأموال من الخارج – إضافة إلى أموال الزكاة.
ومع أن هذه المؤسسات لا تشكل في حد ذاتها بنية مستقلة ـ على الرغم من أن بعض المؤسسات ذو جذور عميقة في التاريخ الفلسطيني، ومن ذلك بعض المؤسسات التعليمية وبعض المؤسسات الخيرية الإسلامية والمسيحية، وعلى الرغم من تجنب هذه المؤسسات خوض صراعات على مستوى السياسة الداخلية الفلسطينية، كما تخوض السياسة صراعات في داخلها هي، فإن هذه المؤسسات مجتمعة بدأت تشكل نواة بسيطة لمجتمع مدني فلسطيني. ويتجلى ذلك بالوعي الذاتي لدى بعض النشيطين، بما في ذلك بعض نشيطي الفصائل، الذين يرفضون تسيير الؤسسات، التي ينشطون داخلها، بأوامر من أعلى.
وبعد إعلان الاتفاق الأخير، يساور القلق بعض قادة ونشيطي هذه المؤسسات من مصير في كيان سياسي فلسطيني ينعدم فيه الهامش لاستقلالية نسبية للمؤسسات التي تؤدي، على الرغم من كل شيء، وظائف حيوية للمجتمع الفلسطيني.
وقد ينشأ عن هذا الوضع المؤسساتي، الذي يمثله بعض الجامعات والمؤسسات الخيرية والتعلمية والصحية والحقوقية، نوع من المعارضة الاجتماعية ذات الاهمية السياسية – لا سيما إذا صح اعتقادي أنه في الكثير من هذه المؤسسات ينشط مثقفون وعدوا أنفسهم، لسبب غير واضح، بدولة فلسطينية ديمقراطية أكثر تطوراً من الواقع العربي الراهن.
هناك طبعاً وهم مفاده الفلسطينيين، شعباً ومجتمعاً، أكثر ديمقراطية من باقي المجتمعات والشعوب العربية. والقيادة الفلسطينية تساهم في تعميق هذا الوهم – بل إن قائد المنظمة افتخر أمام التلفزة الإسرائيلية مرتين بأن "ديمقراطيتنا مثل ديمقراطيتكم: سكر زيادة"!! وفي وهمنا الذاتي أننا لسنا ديمقراطيين فحسب، بل وننصح للآخرين، عن تجربة، بالتخفيف من الديمقراطية.
والحقيقة إن هذا الادعاء وهم وخرافة – ففي أوساط الحركة الوطنية تسود تعددية سياسية نتيجة لغياب الدولة المركزية – وشرط الديمقراطية هو وجود الدولة، لا غيابها. وحتى لو توفرت التعددة السياسية في دولة، فهذا لا يعني بأية حال من الأحوال توفر الشروط لقيام الديمقراطية. إن التعددية السياسية هي أحد الشروط لقيام الديمقراطية المعاصرة – وتاريخياً لم تكن التعددية حتى شرطاً؛ فقد طرح ديمقراطيو القرن الثامن عشر ديمقراطية لا تشمل تعدد الأحزاب,
لكن هذا الوهم إذا تحول إلى جزء من الهوية الثقافية الفلسطينية، فإنه قد بتحول إلى قوة دافعة هائلة إذا لم يقبل البعض بأقل من هذا الوهم – كما قد يتحول إلى فهم ذاتي فلسطيني في الداخل يصعب على أية سلطة فلسطينية أن تتجاهله. قد بتحول الوهم إلى يوتوبيا، تساعد المجتمع في صوغ هويته الثقافية التي تشكل عاملاً أساسياً في أية عملية سياسية.
ودور المؤسسات المنقوص والخجول والمسيّر في بعض الحالات، إضافة إلى الوهم الفلسطيني بشأن الديمقراطية، هو مجرد إمكانات نظرية كامنة تحتاج إلى ذات سياسية مؤثرة تحولها إلى قوة حقيقية فاعلة في العملية الجارية، من دون الحاجة إلى انتظار الإدارة الفلسطينية وقيامها. ذلك لأن تحركها قد يفرض على أية إدارة فلسطينية وضعاً لا يمكن تجاهله داخلياً، وكذلك في مجال التعاون مع إسرائيل، برفض التعامل الإسرائيلي الاستعلائي، وهو دور يجب أن ينتقل إلى المجتمع الفلسطيني وقواه المنظمة، لأن القيادة السياسية التقليدية أصبحت غير قادرة على القيام به.
إن القوة الاجتماعية الأساسية في الأراضي الفلسطينية التي احتلت سنة 1967، ولا سيما في المناطق التي عاشت ثباتاً نسبياً في بناها الاجتماعية، ما زالت هي البنية العشائرية التقليدية للمجتمع. وهو وضع سيتفاوت بين مختلف المناطق المحتلة لكنه، في أية حال، أكثر وضوحاً في الضفة منه في غزة، وفي الداخل أكثر منه في لبنان، وفي نابلس وجبل الخليل أكثر منه في مناطق شهدت هجرات واسعة.
وقد حافظت هذه البنى على الذات، لا على التقاليد والعادات فحسب. وكانت أيضاً عماداً للسلطة الأردنية، ولم يمسه الاحتلال الإسرائيلي عضوياً، لأن علمية التحديث التي جرت في ظل الاحتلال توقفت عند "تحرير" الأيدي العاملة من العمل في الأرض، وتصدير أنماط الاستهلاك – وقد انسجمت فئات التجار الجدد والمقاولين مع البتى العشائرية القائمة، ولم يكن لهذه الفئات أية وظيفة اجتماعية ثورية بأي معنى من المعاني.
أما الفصائل الفلسطينية، فقد انسجمت في نهاية المطاف، ولا سيما في الريف، مع البنية الاجتماعية القائمة، بل ساعدت في تكريسها أيضاً، وخصوصاً بعد أن فقدت دورها الاجتماعي الثوري، الذي كان قائماً خلال السبعينات في الوعي الذاتي للفصائل السياسية الفلسطينية، على الأقل. وقد قامت السياسة الفلسطينية بدور أكثر أهمية في الاقتصاد الفلسطيني عبر اختراق البنية العشائرية للمجتمع. لكن هذه البنية فرضت نفسها، في النهاية، على بنية الفصيل السياسي – أو حولت الفصيل السياسي ذاته إلى طرف يتصرف كأنه إحدى العشائر في القرية. وما زال بعض الشباب الثوريين يقاوم بجرأة نادرة، ويعلنها حرباً ضد الاحتلال وضد البنية العشائرية.
ومع غياب السلطة الإسرائيلية، على المستوى المجتمعي، في أعوام الانتفاضة، وعدم تمكن الحركة الوطنية من تقديم بديل مقنع من هذه السلطة، فقد عادت هذه البنية إلى مزاولة أوراقها التقليدية في فض النزاعات والخلافات وفي تقديم الحماية. وقد تخضع الإدارة الفلسطينية الضعيفة للإغراء السهل لتقوية نفوذها بالاستناد إلى البنية العشائرية القائمة؛ إذ في الإمكان استخدام هذه البنية حتى في الانتخابات، وذلك باختيار ممثلين عن العشائر في كل منطقة من مناطق الحكم الذاتي. وقد ثبت في الأردن أن البنى العشائرية المتصالحة مع السلطة كانت أكثر قدرة على إيصال ممثليه إلى البرلمان من الأحزاب. لكن الانتخابات الأردنية الأخيرة تجلِ واحد من تجليات عدة لقوة البنى العشائرية التي قد تعبّر عن نفسها أحياناً في الأحزاب ذاتها.
وبين سيناريوهات كثيرة ممكنة، هناك السيناريو الأسوأ، وهو قيام تحالف بين العشائر والجهاز التنظيمي لحركة فتح – يقوم هذا التحالف بالحفاظ على الأمن والنظام في ظل محمية اقتصادية وعسكرية إسرائيلية، أو إسرائيلية – أردنية. وللبنية العشائرية للمجتمع الفلسطيني تقاليد وأصول في التعامل مع القوتين.
قد يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام وضع بتم فيه التطبيع العربي مع إسرائيل، بل يتم أيضاً إقامة علاقات سلام وحسن جوار، وتتعامل المجموعة الأوروبية معه كأنه وضع سلام – لكن الفلسطينيين مشغولون بإدارة الصراع بين مؤيدين للاتفاق ومعارضين له وبين مؤسسات المجتمع المدنية وبنيته – كل ذلك قبل أن يحصلوا على دولة. ولا شك في أن هذا الصراع ضروري بعد الاستقلال، لكن قبل الاستقلال، وفي ظل التطبيع العربي – الإسرائيلي وانتقال القيادة الفلسطينية إلى غزة، يحوّل هذا الصراع القضية الوطنية الفلسطينية إلى قضية حسن إدارة في أوضاع أصبحت الإدارة فيها مهمة شبه مستحيلة.
ما هي مقومات الانتقال إلى الدولة الفسطينية في حال وجود سلام، ومشاريع مشتركة، وسلطة إدارية فلسطينية غير ديمقراطية تواجه حالة صراع مجتمعي وإداري يستمر فيه "خرق المعاهدة" وعمليات "الإرهاب"؟ في مثل هذا الوضع، فإن العالم لن يلقي اللوم إلا على الفلسطينيين.
وفي المقابل التحالف البيروقراطي – العشائري، فإن القوة الوحيدة القادرة على طرح نفسها دولياً هي المجتمع المدني الفلسطيني بمؤسساته وهيئاته وقواه المستقلة كافة المعنية بعلاقة مساواة مع إسرائيل لا علاقة قوة استعمارية مع محميتها – ولا تريد أن يشكل أي كيان فلسطيني جسراً إسرائيلياً إلى الوطن العربي. والسؤال الأساسي هو: هل تتوفر القوى اللازمة لإقامة مثل هذا التحالف؟
في أية حال، إن العائق أمام هذا التحالف لا ينبغي أن يكون شعار "م.ت.ف. الممثل الشرعي والوحيد". فقد كان هذا الشعار يصلح لمرحلة تأكيد وحدانية تمثيل م.ت.ف. كي يعترف المجتمع الدولي والخصم أيضاً، بها، وذلك بعد أن اعترف العرب بها بعد معركة تمثيل مع النظام الأردني. لكن بعد أن تم الاعتراف بالمنظمة، وأصبحت م.ت.ف. طرفاً تفاوض إسرائيل معه، بل وتشدد أيضاً على المصالح المشتركة مع هذا الطرف – أصبح ذلك التأكيد موجهاً إلى المجتمع الفلسطيني، أي أصبح تأكيداً غير ديمقراطي، موجهاً بصورة أساسية ضد التعددية الفلسطينية.
IV. من غير الممكن تجاهل المفاجأة التي أصابت الليكود، الذي وجد نفسه يتظاهر احتجاجاً ضد الاتفاق مع هوامش المجتمع الإسرائيلي الأكثر تطرفاً، مثل المستوطنين وأتباع حركة "حاباد" الحسيدية المسيائية.
ولا شك في أن هنالك مؤشرات كثيرة إلى تحول عميق وجدّي في المجتمع الإسرائيلي لا يعبّر عنه بتحول حاد في الموقف السياسي – فهذا لم يحدث حتى في الاتفاق – كما أنه من جهة أُخرى لا يقتصر على تغير سياسي طارئ. ومن هذه المؤشرات أن رابين يجرؤ على قيادة حكومة تقوم على أكثرية صوت واحد، ومن ذلك أصوات عربية في قوائم عربية خارج الائتلاف. وتستمر هذه الحكومة في عملية تفاوض مع م.ت.ف. بعد انسحاب حركة "شاس" من الائتلاف عملياً من دون أن يُحدث هذا كله شرخاً جدياً في المجتمع الإسرائيلي.
ومن الناحية السياسية، فإن جديد الاتفاق، بالنسبة إلى الإسرائيليين، هو أمر واحد فحسب، وهو التفاوض مع م.ت.ف. أما الجوانب الأُخرى من الاتفاق فمتضمنة إما في إطار مدرير وإما في اتفاق كامب ديفيد. و"الانسحاب" من غزة إنما هو قضية متفق عليها إسرائيلياً، من دون أي ضغط أجنبي، وبتأثير نضال غزة وحده. أما القضايا المركزية الأُخرى فمؤجلة – وكل ذلك أمور يسهل الدفاع عنها إسرائيلياً، لا سيما إذا لم تتم إزالة المستوطنات في المرحلة الأولى، وإذا لم يُبحث في موضوع القدس.
وبالنسبة إلى التفاوض مع م.ت.ف. فإنه الخطوة التي تشكل انقلاباً في تصرف النخب الحاكمة في إسرائيل – لكن هذا الانقلاب يأتي على خلفية شعبية ناضجة؛ فلقد سبق الانقلابُ في الوعي الجماهيري تصرف النخب الحاكمة من حيث عدم معارضته التفاوض مع م.ت.ف. – وهو أمر لم يكن خافياً، وأكدته استطلاعات الرأي العام قبل انتخابات الكنيست الأخيرة. وقد طرأ هذا التغيير في أوج الانتفاضة. ولا يمكن تفسير صمود الحكومة الإسرائيلية أمام المعارضة اليمينية إلا من خلال اتساع تأييد الاتفاق في المجتمع الإسرائيلي ليتجاوز حدود القاعدة الضيقة التي تستند الحكومة إليها.
إن الاتفاق لم يحظ بأجواء كامب ديفيد الحماسية والاحتفالية، التي بشرت بالخلاص من المواجهة مع القوة العربية الرئيسية. وكان من الواضح أن احتفال الرأي العام الفلسطيني بالاتفاق فاق احتفال الإسرائيليين به. وبطبيعة الحال، فإن اتفاقاً بين الشعب المحتل والشعب الواقع تحت الاحتلال لا يمثل علاقة أخذ وعطاء متبادلة. فهل هذه هي القضية؟ وهل يصلح هذا القول بالنسبة إلى حالتنا؟
على الرغم من تأكيد إسرائيل في سياستها الخارجية والداخلية موضوع "مكافحة الإرهاب"، وعلى الرغم من تبنّيها عقائد كاملة بشأن هذا الموضوع، وتصدير الخبرة الإسرائيلية في هذا المجال إلى الخارج، وعلى الرغم من إشباع الحالة النفسية والحضارية الإسرائيلية بهذه المقولة، فإن كل إسرائيلي عادي يدرك تمام الإدراك أن الإرهاب لا يشكل تهديداً أمنياً حقيقياً قياساً بالتهديد المصري أو السوري. وقد عبّر رابين عدة مرات عن هذا الرأي بقوله إن الإرهاب "سلاح الضعفاء"، وإنه يشكل إزعاجاً لا خطراً حقيقياً. وربما لا تصح أقوال رابين في حالة غزة، التي تحولت إلى عبء حقيقي، نتيجة لعدم إمكان حكمها بالوسائل المتاحة التي استُنزفت إلى أقصى حد في الأعوام الأخيرة.
ليس هناك شعور بالنشوة لأن التفاوض مع م.ت.ف. لا يعني تحييداً لعدو قوي. لكن هناك فهماً لأهمية الحديث مع م.ت.ف. من أجل التطبيع العربي، ومن أجل ضمان استقرار ما في الأراضي المحتلة. لكن الانطباع السائد في إسرائيل، بين النخب السياسية والأوساط الأكثر شعبية على حد سواء، هو أن إسرائيل أسدت للفلسطينيين معروفاً، أو جميلاً، عليهم أن يجهدوا أنفسهم طويلاً لتسديد ثمنه.
وليس هذا مجرد انطباع بل إنه انعكاس في الأذهان لعلاقة إسرائيل الفعلية بالاتفاق. ولم تقدم إسرائيل تنازلاً واحداً قط، مثل أية دولة استعمارية تنسحب من مستعمراتها، بل إنها تقدم كل تفصيل من التفصيلات – من إعادة نشر قواتها في غزة إلى إطلاق أي معتقل فلسطيني – كأنه تنازل إسرائيلي ينبغي أن يقابله تنازل فلسطيني. وإذا كان هنالك تنازل إسرائيلي كبير واحد، فهو الذي يتلخص بمصافحة عرفات. هذه المصافحة التي تشكل النهاية السعيدة – مع فارق واحد هو أن النهاية السعيدة وقعت في البداية.
ومنذ هذا "التنازل" الكبير، تصر إسرائيل على مقابل لكل تفصيل، سواء على شكل تحصين أمني للاتفاق أو على شكل ملاحقة فلسطينية للإرهاب...
ومع أن في الإمكان تلخيص التغير الذي طرأ بمجرد التعامل مع م.ت.ف. بأنه تحول نحو توجه عملي أكثر في التعامل مع الفلسطينيين، فإن هذا لا يلغي غلبة شعور المنتصرين الذين يقدمون "معروفا" هم "في الحقيقة" ليسوا بحاجة ماسة إلى تقديمه.
لقد طرأ تحول كبير على طريقة التفكير السائد في حزب العمل. ويمثل هذا التغيير شمعون بيرس الذي يصلح مثالاًَ للتحليل والدرس، لأن التحول لديه كان بالتدريج وخلال فترة طويلة، على عكس رابين الذي أحدث في سياسته تغيرا طارئاً من أجل تحقيق إنجاز سياسي.
وكان بيرس قد أغضب الولايات المتحدة عدة مرات منذ أصبح وزيراً للخارجية في الحكومة الإسرائيلية الحالية؛ فقد حاول أن يبدأ مبادرة تفاوضية مع كوريا الشمالية بشأن تسليحها لإيران، كما حاول أن يستغل عزلة ليبيا من أجل مبادرة سياسية في العلاقة معها – وكانت هذه المجالات كلها مناطق محظورة أميركياً. ونستطيع القول باختصار إن بيرس حاول أن يبلور سياسة خارجية إسرائيلية مستقلة تعكس سلم أولويات ينطلق من مصالح اسرائيل في المنطقة. وقد ينحرف سلم الأولويات هذا عن أولويات الولايات المتحدة.
وتوّج بيرس هذا التحرك عندما نقل المفاوضات من واشنطن إلى أوسلو، لإِخراجها من طوق مدريد، وفعل ذلك مستغلاً ضعف م.ت.ف. واستعدادها لتقديم تنازلات حقيقية في مقابل التعامل معها.
لقد تطور بيرس فكرياً مع تطور النموذج الأوروبي الذي تضامن معه دائماً. فهو الذي شارك في التخطيط لحرب السويس الأوروبية الاستعمارية، وذلك من خلال إقامة علاقات استراتيجية بفرنسا آنذاك، وبناء العلاقات الإسرائيلية – الألمانية بل إنه كان الشخصية الأكثر مبادرة وفعالية في هذه المجلات: إذ إنه دعم الجيش السري الفرنسي في الجزائر – ولا شك في أنه الرأس المدبر في بناء القوة النووية الإسرائيلية.
وتطور بيرس في المعارضة في عهد حكومة الليكود، كما تغير مع تغير الفكر السياسي الأوروبي عند قادة مثل ويلي برانت، وكرايسكي، وأولوف بالمي، هذا مع ملاحظة أن أقصى يسار الاشتراكية الديمقراطية الإسرائيلية مماثل في قناعاته ليمين الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية. وإضافة إلى هذا التغيير، أدرك بيرس، قبل غيره، حجم التغيرات الجارية في العامل العربي ومدى ضعف العرب الاقتصادي والسياسي قبل حرب الخليج وبعدها. إنه السياسي الإسرائيلي العملي أكثر في مجال التعامل مع تشتت الوضع السياسي العربي وضعفه، والذي رفض شمير حتى أن يأخذه بعين الاعتبار كسبب يدعو إلى إعادة التفكير في السياسة الإسرائيلية.
لكن هذه التغيرات في نهج التفكير لدى أوساط لا تنتمي إلى اليسار، بل إلى لب المؤسسة الإسرائيلية، لا تكفي شرح السياسة الإسرائيلية، العملية والبراغماتية أكثر، في التعامل مع الصراع.
لقد نشأت في اسرائيل قوة اجتماعية تعتمد هذا التغيير وتدعمه وتتبناه. ولم تنشأ هذه القوة في أوساط الحركة العمالية بل في أوساط الطبقات الوسطى، ورجال الأعمال، والمديرين، والتكنوقراط، التي رافقت النمو الاقتصادي السريع في السبعينات – تلك الأوساط التي تلقت دعماً أساسياً في تاريخها خلال فترة وجود الليكود في السلطة. ولا شك في أن وجود هذه الأوساط بهذا الاتساع هو نتاج لسياسة الليكود الاقتصادية، التي أنشأت أعداء الليكود السياسيين.
وشكلت هذه الأوساط قاعدة لليكود في البداية، لكنها أخذت تبتعد عن سياسته الشرق الأوسطية في عهد شمير، وخصوصاً بعد أن طورت آمالاً وأطماعاً بالتحول إلى قوة اقتصادية، لا عسكرية فحسب، في هذه المنطقة. وهي آمال لا تنسجم مع تصلب الليكود في تعامله مع الصراع العربي – الإسرائيلي والقضية الفلسطينية.
إن تطور القوة الاقتصادية إلى مستوى طموح مديري الشركات الإسرائيلية أمر غير ممكن من دون تحقيق سلام واستقرار في المنطقة، على نحو يجذب الاستثمارات الأجنبية ويمكّن من تحويل إسرائيل إلى محطة ترانزيت للمنطقة بأسرها، لكونها صاحبة الاقتصاد الأكثر تطوراً.
وعلاوة على كون السلام ضرورياً، فإن في الإمكان تحقيقه في المرحلة الراهنة بأبخس ثمن، نتيجة لضعف العالم العربي. لكن حتى في هذه الحال، ومن أجل تحقيق السلام، فإن هنالك حاجة إلى التخلي عن بعض المسلّمات العقائدية، ومنها الرفض القاطع وغير العقلاني لأي تعامل مع م.ت.ف.
بعد أن تبين لليكود أن الاتفاق واقع لا محالة وأنه ينتج واقعاً قد يتحول إلى محمية إسرائيلية بدأ تكتيكه التحول إلى الضغط من أجل أن يُحقِّق لإسرائيل أكبر عدد ممكن من المكاسب. ولم يعد الحديث يدور حول التفاوض مع م.ت.ف. بل حول شروط هذا التفاوض والدور الذي ستقوم م.ت.ف. به في العلاقة مع إسرائيل، ونوع الحكم الذاتي الذي سيقوم.
وفي عملية الضغط الجارية يقوم المستوطنون بالدور الأساسي ووراءهم اليمين الإسرائيلي بأجمعه. وتؤدي استفزازات المستوطنين إلى سلسلة من ردات الفعل تقود في النهاية إلى التشديد على الجوانب الأمنية في أي حل مقبل. والمستوطنون في هذه المرحلة لا يمثلون أنفسهم بل يعملون بتغطية كاملة من اليمين الإسرائيلي بأسره، ومع أن سلّم أولويات المستوطنين يختلف عن سلّم أولويات اليمين الإسرائيلي، فإن ما يجمعهما هو رغبة كلا الطرفين في بقاء المستوطنات. فبقاء المستوطنات سيتحول إلى عقب أخيل الاتفاق كله، ويؤدي إلى شل حركة الحكم الذاتي الفلسطيني نحو أي شكل من استقلالية القرار في أية قضية من القضايا.
ويخطئ ممن يعتقد أن رابين أو بيرس يتراجعان بضغط من اليمين الإسرائيلي أو من المستوطنين؛ فمواقف رابين بخصوص سيطرة إسرائيل على المعابر الحدودية والمستوطنات هي مواقف رابينية أخطأ الفلسطينيون في تفسيرها – إنها مواقفه لا موقف مفروضة عليه. إضافة إلى ذلك، فإن رابين يعتقد أن إسرائيل في وضع يسمح لها بالضغط على القيادة الفلسطينية الضعيفة، التي تحولت إلى رهينة في يديه، وهو ليس بحاجة إلى تقديم أي تنازل لها إلا ما يقرر أنه ضروري لبقاء مثل هذا النوع من العلاقة.
V. انطلقت المفاوضات العربية – الإٍسرائيلية بعد موافقة الأطراف العربية ذات العلاقة (سوريا، ولبنان، والأردن، والفلسطينيون) على جميع الشروط الإسرائيلية المسبقة، التي تمسكت إسرائيل بها تاريخياً: 1) تغييب دور الأمم المتحدة عن المفاوضات تغييباً كاملاً؛ 2) إجراء مفاوضات مباشرة (من دون شروط عربية مسبقة) ومنفصلة بين إسرائيل والوفود العربية، كل وفد على حدة؛ 3) توفير جانب تطبيعي إقليمي في عملية حل الصراع العربي – الإسرائيلي يتمثل في مشاركة دول عربية غير مواجهة لإسرائيل فيما يسمى المفاوضات المتعددة، التي تدور حول قضايا مثل التسلح، واللاجئين، والبيئة.
وبقبولهم هذا الشرط الأخير، وافق العرب عملياً على التصور الإسرائيلي والغربي الذي يرد الرفض الإسرائيلي إلى حالة "الخوف" والعزلة التي يعيشها الإسرائيليون في المنطقة، والتطبيع في المسار المتعدد كفيل أن يهدئ مخاوف إسرائيل وأن يطمئنها، الأمر الذي يساعد في تليين مواقفها في المفاوضات الثنائية. لكن إسرائيل استغلت المفاوضات المتعددة إلى أبعد حد من أجل الوصول إلى أقطار عربية خارج المواجهة المباشرة، ولذلك أيضاً خارج التفاوض المباشر.
أما في حالة الفلسطينيين فقد أضيفت شروط إسرائيلية أُخرى: 1) عدم تمثيل م.ت.ف. رسمياً في المفاوضات: 2) عدم انضمام فلسطينيين من القدس الشرقية إلى الوفد المفاوض – وذلك على الرغم من عدم وجود صفة تمثيلية للوفد، من وجهة النظر الفلسطينية؛ 3) إجراء المفاوضات على مرحلتين، وبعد الاتفاق على المرحلة الأولى، المسماة الحكم الذاتي والتي تستمر ثلاثة أعوام، يتم الاتفاق على المرحلة الثانية المتعلقة بما يسمى "الحل الدائم".
وتلخصت مرحلة التفاوض الأولى، بين مدريد وأوسلو، في محاولة فلسطينية مستمرة لمراجعة شروط مدريد. وتكثفت هذه المحاولة بعد صعود حزب العمل إلى السلطة. وقد فرض الفلسطينيون على إسرائيل أن تقبل باتصال علني بين الوفد الفلسطيني و م.ت.ف. لكن إسرائيل ظلت مصرة على أن تبقى م.ت.ف. رسمياً خارج المفاوضات، وأن تقوم بإضفاء الشرعية على الوفد المنتدب من خارجها. وكان هذا يعني القضاء على م.ت.ف. في المدى البعيد، إذ إنه بعد أن أُخرجت المنظمة من الأردن سنة 1970 ومن لبنان سنة 1982، وفقدت قاعدتها الاقتصادية المهمة في الكويت والخليج سنة 1991، بقيت الصفة الغالبة على م.ت.ف. صفة الجهاز البيروقراطي والتمثيل الرسمي – فإذا نزع التمثيل الرسمي أيضاً تصبح قضية إفراغ المنظمة من أي محتوى قضية وقت فقط – ولا سيما بعد أم رُبط ما بقي بشخصية رئيس المنظمة، كما تم فعلاً في الأعوام الأخيرة.
وقد ولّدت معادلة مدريد ميكانيزماً عاج بـ م.ت.ف. إلى العملية التفاوضية؛ فالوفد الذي لم يتخلص من إشكالية ولادته بتدخل أجنبي لم يكن يفاوض في الواقع بل كان يراجع شروط التفاوض – وكانت معركته الأساسية معركة إعلامية بطبيعتها. ووجد الوفد نفسه مضطراً باستمرار إلى العودة إلى الثوابت الفلسطينية وتكرارها في الإعلام. أما م.ت.ف. فقد وجدت نفسها خارج المفاوضات، وسط أزمة مالية وبنيوية، فأخذت تزيد في "الاعتدال" في مواقفها وفي تقديم تنازلات لا يستطيع الوفد المفاوض تقديمها؛ وذلك من أجل إثبات أهليتها للعودة إلى المفاوضات.
إن معادلة مدريد قد حملت في داخلها بذور فشلها وبذور عودة م.ت.ف. إلى المفاوضات. إذ بعد أن فشلت هذه المعادلة في حد ذاتها، وبعد أن تبين أن الولايات المتحدة، بإدارتها الحالية، أسيرة تصور ليكودي للمفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية، جرى نقل التفاوض، بمبادرة إسرائيلية، إلى خارج معادلة مدريد.
إذاً، تراجعت إسرائيل فيما يخص الإطار التفاوضي، فهل تراجعت في القضايا الأساسية التي اشتد الخلاف بشأنها في المفاوضات أو لم يتم التفاوض بخصوصها في الحقيقة؟ ونقصد بالقضايا الأساسية: 1 – الربط بين الحل المرحلي والحل الدائم؛ 2 – قضية المستوطنات؛ 3 – قضية القدس.
لا حاجة إلى مزيد من الكلام على الموضوعين 2 و3؛ فالموقف الإسرائيلي منها لا يزال يراوح مكانه، بل لقد طرأ تراجع، في اعتقادي، على الموقف الإسرائيلي من المستوطنات، ولا سيما مستوطنات الضفة الغربية. فهل طرأ تغير على الموقف من موضوع الخلاف الأول، أي الربط بين الحل المرحلي والحل النهائي بعد اتفاق غزة وأريحا؟ لنتمكن من الإجابة عن هذا السؤال، علينا أن نرى الجديد في فكرة "غزة وأريحا أولاً"، التي طُرحت في عدة لقاءات، كان بعضها ذا طابع أكاديمي إسرائيلي – فلسطيني، على هامش المفاوضات، قبل أن تبدأ مفاوضات أوسلو.
ليس الجديد طرح شعار غزة أولاً حلاً لمشكلة إسرائيلية، تحول فيما بعد إلى مطلب فلسطيني، ولا الجديد هو الإصرار الفلسطيني على إضافة شيء ما إلى غزة يربطها بالضفة – كي لا يبدو الأمر تخلصاً إسرائيلياً من مشكلة غزة من دون تقديم أية تنازلات أُخرى، بل الجديد هو التعامل الإسرائيلي مع مسألة الحكم الذاتي وحدة متكاملة تتجاوز عملية النقل المتدرج للمهمات أو الصلاحيات.
ويُعد هذا تجاوزاً حقيقياً لموقف الليكود ولموقف الإدارة الأميركية اللذين حبذا باستمرار عملية النقل المتدرج للمهمات في مجالات محدودة، مثل الصحة و السياحة التعليم، من دون الالتزام بإدارة فلسطينية شاملة في المرحلة الانتقالية. وقد أصر الفلسطينيون قبل أوسلو على إدارة فلسطينية شاملة في أنحاء المناطق المحتلة كافة. وتنازل الإسرائيليون عن تصورهم بشأن نقل المهمات في مقابل تنازل م.ت.ف. عن الإدارة في المناطق المحتلة كافة في المرحلة الأولى، وحصرها في منطقة واحدة هي غزة – وما زال النقاش جارياً بشأن أريحا.
من الناحية الإسرائيلية، في الإمكان عرض الموضوع بوصفه تنازلاً عن غزة، أي بوصفه تنازلاً يقل عن الحكم الذاتي الشامل الذي نص اتفاق كامب ديفيد عليه. أما من الناحية الفلسطينية، فمن الممكن عرض الموضوع بوصفه "إقامة سلطة وطنية في أية منطقة تُحرر". والحقيقة هي أن اتفاق غزة – أريحا ليس هذا ولا ذاك.
إن الاتفاق الذي تم التوصل إليه، والذي يؤجل أغلبية القضايا المعقدة، ويبقي القضايا المتفق عليها في صيغة عامة جداً، ويعبّر بهذا المعنى عن حنكة دبلوماسية من نوع ما، إنما هو مزيج من الحكم الذاتي الشامل في غزة وأريحا (التي لم يتفق بعد على تعريفها) وعملية نقل المهمات بالتدريج في مناطق أّخرى، بحيث يصبح نموذج "غزة وأريحا أولاً" "هو ما سيكون آخراً" في باقي المناطق المحتلة، مع استمرار الحديث عن قضايا مثل القدس، واللاجئين، والمستوطنات.
وبعد تطبيق نموذج "غزة وأريحا أولاً" في جميع المناطق المحتلة – ما عدا مواقع المستوطنات الأساسية – في نهاية الأعوام الخمسة، يتم تأطير هذه الوحدة السياسية الناشئة ضمن اتفاق أردني – فلسطيني لا يسمح بنشوء سيادة فلسطينية مستقلة فعلاً في الضفة والقطاع، ولا بقيام دولة واحدة في شرق الأردن وغربه معاً.
وإضافة إلى ذلك، فقد خُيِّل أنه قد تم حل قضية الربط بين الحل المرحلي والحل النهائي للأعوام الخمسة المقبلة، وذلك بتقسيم فترة الأعوام الخمسة ذاتها إلى مرحلتين، مع إنشاء علاقة بينهما تتجلى بنقل المهمات بالتدريج إلى باقي المناطق، وجعل هذه المناطق تشارك في انتخاب السلطة الإدارية الفلسطينية سنة 1994.
طبعاً، إن إسرائيل تفاوض بصورة مهنية بشأن التفصيلات كافة، بدءاً بإعادة نشر الجيش الإسرائيلي وحماية المستوطنات، وانتهاء بالتنسيق الاقتصادي والأمني مع المؤسسات الفلسطينية. ومن الواضح أن كل ما يتخيله الفلسطيني العادي إنجازاً في أوسلو لن يتحول إلى إنجاز على الأرض إلا لقاء مقابل، كما هي الحال في المفاوضات. وما نعتقد أنه البداية في هذه المفاوضات تعتقد إسرائيل أنه النهاية، وفي أقصى الحالات يتم التوصل إلى حل وسط.
إن كل صغيرة يعتقد الفلسطينيو أن إنجازها قد تم في أوسلو توضع على الأرض في سياق موازين القوى؛ فهناك حق للفلسطينيين في إقامة شرطة، لكن في الواقع يجب التفاوض بشأن هذا الحق بدءاً بعدد أفرادها وبتسليحها، وانتهاء بدورها وعلاقتها بالإطار العام، والإطار العام في رأي إسرائيل، هو أمنها. ويتضح بالتدريج حتى لأولئك الذين تحمسوا للاتفاق أن موازين القوى تحول التفاوض بشأن التفصيلات إلى عملية وصاية إسرائيلية، وفي علاقة الوصاية يقوم أحد الأطراف بالمطالبة والتظلّم أمام الطرف الآخر، الذي يقوم بدوره بدرس المظالم، والموافقة على ما يتلاءم من المطالب مع مصالحه، ورفض ما لا يتلاءم مع تلك المصالح.
هذه هي الحال في اتفاق لم يتجاوز موازين القوى بل عبّر عنها تعبيراً كاملاً بتحول الفلسطينيين من رفض الأمر الواقع ومحاولة تغييره إلى القبول به والتعامل معه من منطلق هذا القبول.
ولا يتوفر في اتفاق أوسلو، كما هي الحال في شروط مدريد، أي عنصر من عناصر المساواة أو النديّة بين طرفين – وهذه حقيقة لها دلالة أعمق كثيراً من التردد الإسرائيلي في عملية المصافحة والاندفاع الفلسطيني إليها.
وحتى موازين القوى الحالية لا تتطلب اندفاعاً فلسطينياً كما نشهد، ولا تسابقاً على كسب ود الصحافيين الإسرائيليين، فمن الممكن الحفاظ على الكرامة القومية والهوية الحضارية حتى في مثل هذه الأوضاع. وما كان من شأن تردد فلسطيني، أو حتى تعبير فلسطيني، في الاشمئزاز من جرائم رابين التاريخية أن يهدد المفاوضات ولا أن ينسف العملية السلمية. ومع ذلك، لم نر مثل هذا التردد، ولعل القيادة الفلسطينية اقتنعت بعد أوسلو بأن إسرائيل تقدم لهم جميلاً.
ويبقى أن في الإمكان حسم القضايا الأساسية خارج المفاوضات، أي من منطلق المساهمة في صنع موازين القوى، لا ترجمتها فحسب – والساحة الأكيدة لذلك هو الشعب الفلسطيني ذاته، الذي أثبت منذ أوسلو أنه قادر على التحرك في قضايا شتى، مثل قضيتي المعتقلين والمستوطنات.
كما أن في الإمكان تجريد حملة دولية ومحلية بشأن موضوع القدس، التي لا تتوقف اسرائيل عن تهويدها، إلى أن تتم مناقشة الموضوع مستقبلاً. وبدلاً من التعبير عن الندم على عدم دعم تيدي كوليك، الذي هوّد المدينة، فإن في الإمكان استغلال موقف الليكود الضعيف حالياً، من أجل شن حملة تتعلق بمدينة القدس. وسيثبت الزمن أن رئيس بلدية ليكودي غير قادر على تقديم إنجازات إسرائيلية في المدينة كما استطاع العمّالي كوليك.
هنالك جهات كثيرة للعمل الجماهيري، ويجب فتح هذه الجبهات جميعاً خارج المفاوضات، والخروج من دائرة قبول الاتفاق ورفضه – فهذه مواقف مهمة، لكنها ليست برنامج عمل. المهم هو وضع برامج عمل تتجاوز النهاية "المأهوية" (المأساوية – الملهاوية) التي وصلت القيادة الفلسطينية الحالية إليها.