"الرواية هي النوع [الأدبي] الوحيد يواصل التطور،
وهي النوع الوحيد الذي لم يصل طور الاكتمال بعد."
ميخائيل باختين
تستند الرواية الفلسطينية إلى ثلاثة أسماء: غسان كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا، وإميل حبيبي. وإلى هذه اللحظة، بقيت أعمال هؤلاء الروائيين الثلاثة غير مُتجاوَزة من قبل الروائيين الفلسطينيين الذين بدأوا الكتابة الروائية بعد غسان وجبرا وإميل. إن روايات غسان كنفاني، بطاقتها التجريبية اللافتة وبحثها في الغني النوعي للأشكال لتجسيد الأفكار والتجارب التي حاول الكاتب أن يصوغها باستخدام الشكل الروائي، ظلت تعبيراً عن الحلم الفلسطيني وجدل هذا الحلم مع ذاته. ويستطيع قارئ الرواية الفلسطينية أن يلاحظ كيف أن تجربة غسان الروائية مرت بتحولات جذرية خلال الفترة الزمنية القصيرة التي عاشها (1936 – 1972)، وكيف أن هذه التجربة الروائية، المدهشة بغزارة الإنتاج والتنويع على الأدوات والتقنيات وأشكال الرواية، استطاعت أن ترسم، إضافة إلى التحولات التاريخية في التجربة الفلسطينية، القلق والطموحات والأتواق التي انطوى عليها الأفراد الفلسطينيون الذين رسمهم غسان في أعماله بريشة قلقة.
يركز غسان، منذ عمله الروائي الأول، "رجال في الشمس"، على الإشكاليات المصيرية التي صنعت معنى الوجود الفلسطيني، على ما يقيم في جوهر تجربة الفلسطينيين . وأنا أقصد من إيراد تعبير "الفلسطينيين" تأكيد أن غسان تنبه في مختلف أعماله الروائية إلى رسم المشهد الفلسطيني الواسع من خلال اختيار الشخصيات، وإخضاعها لعملية تفحص تفضي في النهاية إلى تشكيل المعنى الذي يحاول الروائي إيصاله إلى القارئ: أي القول إن التجارب الفردية للفلسطينيين محكومة مسبقاً بواقع الفلسطينيين كشعب استؤصل من أرضه؛ وأصبح مستحيلاً على تجارب أفراده أن تعيش وتتطور بمعزل عن اختراق التجربة العامة وتأثيرها المسبق في هذه التجارب.
إن غسان كنفاني يستفيد من التنويعات الشكلية في النوع الروائي للتشديد على هذه الفكرة المحورية في عمله. ويمكن أن نلحظ التنوع الشكلي في رواياته وتطور تجربته من الشكل الفوكنري في "ما تبقى لكم"، عبر تعدد الرواية وجعل الأرض شخصية محورية من شخصيات الرواية، إلى رواية الفكرية التي تستخدم الشخصيات بوصفها وسائل سردية لإيصال فكرة محورية معينة. لكن اللافت في تجربة غسان الروائية هو قدرتها على التعبير عن التجربة التاريخية للشعب الفلسطيني؛ عن عناصر القلق والغنى الداخلي لهذه التجربة.
يمكن وصف روايات غسان كنفاني بأنها تشتمل بصورة أو بأُخرى على التعددية الصوتية؛1 على تجاور الأصوات وحضور الرؤى الأيديولوجية ومختلف أشكال التلفظ، لكن هذا التعدد الصوتي مخترق بصوت الراوي الذي يقوم، على الدوامن بإزاحة بؤرة العمل لتتطابق مع منظور للصراع تبناه الروائي نفسه (ضرورة الاعتماد على الكفاح المسلح للوصول إلى فلسطين). بهذا المعنى، فإن المشهد الروائي لدى غسان، المشتمل على التعددية والغني اللفظي والأيديولوجي، يُختزل إلى تلفظ وحيد الصوت ورؤية أيديولوجية معينة بانحياز الراوي إلى فكرة محددة تقيم في أساس العمل الروائي.
في المقابل، تجسد أعمال جبرا إبراهيم جبرا الروائية الرواية الوحيدة الصوت (المونولوجية) بامتياز. إنها تحاول الإيهام بتعدديتها الصوتيةـ لكنها ترسخفي وعي القارئ، وفي سياق هذا الإيهام، رؤية بورجوازية نخبوية للتاريخ الفلسطيني. فبدءاً بـ"صراخ في ليل طويل"، مروراً بـ"صيادون في شارع ضيق" و"السفينة" و"البحث عن وليد مسعود". ووصولاً إلى "يوميات سراب عفان"، يقوم جبرا بتوزيع الكلام على المتكلمين في الرواية من دون إعطاء اهتمام لاختلاف الرؤى والمنظورات بين شخصياته الروائية. إنه يوزع الرؤية نفسها على الرغم من محاولته الإيهام بأن ما تعرضه الشخصيات هو رؤى مختلفة للعالم، لكن سيطرة نظرة الكاتب النخبوية للتجربة الإنسانية، وتعملق الشخصية الروائية المركزية في جميع رواياته على حساب الشخصيات الأُخرى، يكشفان على الدوام الرسالة التي ينوي الكاتب إيصالها إلى القارئ: بالثقافة نستطيع تغيير العالم. وكل ما يصاحب ذلك من تركيز على النضال والتميز الفلسطينيين في عالم التجارة والاقتصاد ليس سوى إضافات هامشية إلى التخصيصة الأساسية للشخصيات المركزية في روايات جبرا، أي تمتعها بمعرفة واسعة وخبرة هائلة في المجال الثقافي. إن جبرا، بسبب من تركيزه على الشخصية المحورية في أعماله الروائية، يحمل رواياته شخنة شعرية عالية يطعم بها سرده، وهو ما يتطابق بالمفهوم الباختيني للرواية مع التشابه في الطبيعةبين الرواية المونولوجية والشعر. ثمة تنافذ مستمر بين الشعر والرواية المونولوجية لكن اهتمام جبرا بدخلنة العناصر الخارجية، والاهتمام بالتفصيلات، واستخدام الشخصيات وعناصر الحبكة للإيهام بتعددية صوتية، كل ذلك يجعلنا نضع أعماله في خانة الروايات التي تشتمل على تعددية صوتية متوارية عن الأنظار، على كسر من منظورات مختلفة للعالم. ومع أن روايات جبرا تنصرف إلى تأكيد واحدية النسيج الاجتماعي – السياسي، وتغلب الرؤية الأيديولوجية للمؤلف على الرؤى الأُخرى، فإن طبيعة الشكل الروائي ترغم الكاتب على إدخال رؤى مناقضة لرؤيته للعالم، كي يفسح المجال لرؤية النسيج الاجتماعي المتعدد أو رؤية الأيديولوجيات وهي تتناقض.
لقد ركزت على مفهوم التعددية الصوتية في كلامي السابق عن أعمال غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا الروائية لأن ذلك يتصل اتصالاً مباشراً بطبيعة الرواية الفلسطينية في نماذجها الأساسية التي غلّبت، لأسباب تاريخية مفهومة ذات علاقة بتجربة المقاومة الفلسطينية ، رؤى تاريخية محددة وأيديولوجيات كانت سائدة في حينه على غيرها من الرؤى والأيديولوجيات التي كانت مطروحة لكنها خفيضة الصوت. إن تغليب رؤى وأيديولوجيات معينة على غيرها يدخل الرواية في خانة الرواية المونولوجية، التي تقترب من الشعر في عالمها الأيديولوجي وكيفية نظرها إلى الأشياء والعالم.
في عمل إميل حبيبي الروائي نعثر على محاولة روائية متميزة للاستفادة من الأشكال التراثية للسرد لتقديم شكل مهجن من الأشكال التراثية والرواية الحديثة، وهو يستخدم في "المتشائل" المقامة، وفن الخير، واقتباس الأشعار والطرائف والأمثال، ويصهرها في النبية السردية للعمل. إنه يعمل على تكوين شبكة سردية معقدة تدور حول شخصية سعيد أبي النحس المحورية في النص، وهي شخصية بيدو ظاهرها غير باطنها، لكن المفارقات اللفظينة والموقفية تكشف عن طبيعة ولائها وتكشف في الوقت نفسه عن كوميديا سوداء يعيشها شعب مشرد على أرضه. والأعمال الروائية والسردية التالية لإميل حبيبي ("لكع بن لكع" و "أخطية") تذهب في لعبة التهجين إلى مداها،2 وهو في عمله الأخير، "سرايا بنت الغول"3يستخدم أساليب سردية مستعارة من "ألف ليلة وليلة" (الحكاية داخل الحكاية)، والأشعار المقتبسة، ومزج المادة التاريخية الواقعية بأحداث الرواية، واستخدام الهوامش التي تضيء الخلفيات المكانية والزمانية للحكايات، واللعب اللغوي، والرسوم، وظهور شخصية المؤلف بأفعاله وتاريخه الواقعي في ثنايا السرد.
إن إميل حبيبي يحقق في معظم أعماله الروائية رواية تشتمل على تعددية صوتية فعلية، وذلك عبر إدخال حبكات موازية للحبكة الرئيسية في العمل الروائي، ومن خلال استخدام الاقتباسات، والتعليق على المشهد، والمحاكاة الساخرة للحوادث والشخصيات. ولا أطن أن هناك روائياً فلسطينياً آخر، وربما عربياً، اتخذ من أسلوب التهجين، ومحاولة الخروج من قبضة الشكل الروائي المستعار من الغرب، بالطريقة المميزة والمدهشة التي نقع عليها في عمل إميل حبيبي، إن تجربة إميل حبيبي، التي كُتب عنها الكثير، ما زالت بحاجة إلى إعادة نظر فيما يتعلق بالتطويرات الشكلية التي أدخلتها إلى الرواية العربية، وفيما يتعلق بالتوازنات التي أقامتها بين شخصياتها وشخصيات روائية أخرى في الرواية في العالم ("كانديد" لفولتير و"الجندي الطيب شفاييك" لياروسلاف هاشيك)، وما أحدثه ذلك التهجين العجيب من أثر في الشكل الروائي.
* * *
لقد تكلمت في السطور السابقة على الملامح الرئيسية لعمل كل من غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي لإضاءة المشهد الرئيسي للتجربة الروائية الفلسطينية، وخصوصاً أن الأجيال التالية لم يتبلور في نتاجها حتى هذه اللحظة أعمال روائية توازي في النضج، على المستوى الشكلي ومستوى الخبرة الإنسانية التي تعرضها، أعمال هؤلاء الروائيين الفلسطينيين الثلاثة الكبار. إن المرء ليحس بالخيبة عندما ينبش في ذاكرته فلا تصطف أسماء أُخرى إلى جانب هذة الأسماء الثلاثة.
لا يعني الكلام السابق أن الروائيين الفلسطينيين الآخرين الذين جاؤوا بعد غسان وجبرا وإميل لم ينجزوا أعمالاً روائية لافتة، بل يعني أن الإنجاز الروائي لهؤلاء لم يكن بمجموعة بحجم إنجاز هؤلاء الروائيين الثلاثة. إن غلبة الشعار على الاهتمام يتطوير الشكل الروائي والاستفادة من إنجازاته العربية والعالمية قد جعلت الإنجاز الروائي الفلسطيني اللاحق يراوح في مكانه من التجربة الروائية العربية. وللتدليل على ذلك، سأقدٍّم عدداً من الملاحظات على بعض الروايات الفلسطينية التي صدرت خلال الأعوام الأخيرة.
"باب الساحة" لسحر خليفة
تكمن أهمية إنتاج سحر خليفة الروائي في اللحظة التاريخية التي ينطلق منها، وفي طبيعة الأسئلة التي يطرحها هذا الإنتاج على المجتمع والشكل الروائي. من هذا الالتصاق الحميم بالأسئلة ذات الطبيعة الأيديولوجية عامة، تكوّن عملاها الروائيان "الصبار" و "عباد الشمس". لكن ما يجب التنبيه إليه هو أن هناك دائماً في عمل سحر خليفة ثنائية أيديولوجية متجادلة بين الثورة في الأرض المحتلةودور المرأة في من هذه الثورة، وطبيعة العلائق القائمة بين المرأة، بوصفها طرفاً مهدور الحقوق، والبنية الاجتماعية – السياسية المتشكلة على أرضية الاحتلال. هذا هو مشروع سحر خليفة الروائي الذي يفصح عن نفسه دائماً في خطاب أيديولوجي "تحريري" للمرأة، عادة ما تنطق به شخصية نسائية مركزية في أية رواية من روايات الكاتبة. ولعل هذا الخطاب هو الذي يلحم أعمالها جميعاً بدءاً بــ "لم نعد جواري لكم" وانتهاء بــ "باب الساحة"، وهو ما يعني أن قارئ رواية "باب الساحة"4 لن يغفل عن القيمة الأساسية التي يتشكل حولها هاجس السرد والمادة الحوارية في العمل.
تصور سحر خليفة في "باب الساحة" الانتفاضة من خلال عيون هامشية (وهذا ما يسجل لسحر خليفة في رواياتها، حيث نعثر على تعددية صوتيه لافتة، وبروز للأصوات الهامشية بصورة لا نصادقها إطلاقاً لدى أي روائي فلسطيني آخر)، من خلال امرأة تقليدية وفتاة جامعية وفتاة هوى. وتتكون نواة المادة السردية من سلسلة من الحوادث المتتابعة في زمن الانتفاضة. وكما رأينا في أعمال جبرا الروائية، الذي يستخدم الشخصيات لتبرير أطروحاته الأيديولوجية النخبوية، فإن الشخصيات في "باب الساحة" هي وسائل وأرضيات للانطلاق والتشديد على الثنائية الأيديولوجية "رجل – امرأة" التي تحضر دائماً في روايات الكاتبة السابقة، وإن كانت مدرجة بصورة أكثر إقناعاً في "الصبار" و "عباد الشمس". ويدلل على هذا التركيز على الأطروخة الأيديولوجية النسوية أن سحر خليفة قد همشت خطاب الشخصية الذكورية الوحيدة في الرواية؛ وبيدو إدراج حسام في الرواية مناسبة لفحص الخطاب السنوي المتطرف الذي تحمله فتاة الهوى "نزهة" أو بالأحرى نوعاً من التحفيز لثورتها الصاخبة على المجتمع والوطن. إن المشروع الأيديولوجي لسحر خليفة لا يكتمل إلا بالسكوت عن ردات فعل حسام على خطاب نزهة. لقد بنت الروائية أطروحتها حول خطاب الفتاة الجامعية سمر التي تؤمن بالتغير من خلال فعل الانتفاضة، وكانت نزهة مجرد نسخة متطرفة من الخطاب النسوي أرادت الكاتبة من خلالها إيجاد معادلة بين الخطاب النسوي والخطاب التقليدي للمجتمع.
ما يحسب لرواية "باب الساحة" وروايات سحر خليفة الأُخرى هو التعددية الصوتية واللفظية فيها، وإدخال الخطاب التجديفي والنكات والألفاظ السوقية في إشارة واضحة إلى تعددية النسيج الاجتماعي في عالمها الروائي. إنها على النقيض من جبرا إبراهيم جبرا، تجعل الرواية مناسبة لنقل أصوات الآخرين والتعرف إلى خطاباتهم، والمشكلة الأساسية التي تعانيها كتابتها الروائية هي انحياز الراوي دوماً إلى الشخصية الروائية التي تحمل خطاباً نسوياً فاقعاً أحياناً بصورة لا تبررها البنية الروائية.
"الجراد يحب البطيخ" لراضي د. شحادة
يعمل راضي شحادة في "الجراد يحب البطيخ"5 على بناء عمل روائي يسميه "تغريبة فلسطينية"، في إشارة واضحة إلى استفادته من السير الشعبية، وتحديداً السيرة الهلالية. لكن الروائي لا يستفيد من طرق السرد التي تستخدمها السير الشعبية؛ إنه يخلع على إحدى شخصياته اسم الهلالي فقط، بينما يقوم في عمله الروائي الضخم على وصف واقع الانتفاضة وصفاً تفصيلياً يركز على ردات أفعال الشخصيات وطبيعة النسيج الاجتماعي الذي تشكّل بفعل الانتفاضة إن اللافت في هذا العمل هو استخدام مختلف اللهجات الشعبية لتجسيد الواقع الاجتماعي للشخصيات، ونقل صورة أمينة لتفكير الشخصيات وتجربتها خلال الانتفاضة. وكما نجد لدى سحر خليفة، التي تنقل لنا الجو واللهجة والتقاليد الاجتماعية لمدينة نابلس، فإن راضي شحادة ينقل التقاليد وطابع الحياة واللهجات السائدة في مخيمات قطاع غزة. ولأول مرة ربما، مع أعمال سحر خليفة وراضي شحادة، يعمل الروائي الفلسطيني على تجسيد مختلف التجارب من خلال البحث في الواقع واللهجات الشديدة الخصوصية، وهي سمة تنطوي عليها الرواية التي تشتمل على تعددية صوتية، وبالتالي أيديولوجية. ومع ذلك، فإن الانتشاء بفعل الانتفاضة يجعل شحادة يغفل إمكان وجود رؤى أيديولوجية مختلفة بشأن القضية الفلسطينية، ويغلّب صوت الفعل الثوري ضد الاحتلال على أي صوت آخر.
"رائحة الصيف" لفاروق وادي
تقوم رواية "رائحة الصيف"6 على وصف طفل لذكرياته وتجربته في ما يسميه الراوي "حارة الفردوس"، في إشارة واضحة إلى الطابع الفردوسي الحلمي للتجربة. طفل يفقد صديقه وينتحل اسمه ليستطيع الدخول إلى المستشفى لإجراء عملية لساقة، التي تحطمت بفعل الحادث الذي أودى بحياة صديقة الذي يعيش داخله الآن بعد موته. إن فاروق وادي يبني روايته من تذكرات طفل ومن أحلامه وهواجسه، ومن رغبات الكبير الذي آل ذلك الطفل إليه فيما بعد. ويوحي الكاتب لقارئه بأن روايته هي رواية سيرة ذاتية عندما يذكر أن اسم الطفل الذي يروي عنه هو "فاروق"، كما أن التركيز على العالم الداخلي للطفل وإهمال كل ما حوله من شخصيات، وعرض كل شيء من خلال عيني ذلك الطفل، كل ذلك يقرب هذا العمل من رواية السيرة الذاتية، التي تغيب عنها تماماً أية أصوات أُخرى غير صوت الطفل الملتصق بصوت الراوي. إن المؤلف يوهمنا بطريقة سرده وإعلانه نفسه باسمه الشخصي في النص الروائي، كما لاحظنا، بأنه يحكي حكاية شخصية. وبسبب التركيز على العالم الداخلي لشخصية واحدة في العمل، فإن الكاتب يستعين بالوصف الشعري، وشعرنة الأشياء والعلاقات والعالم، لإضفاء بعد كوني على تأملات الطفل وهواجسه وتذكراته. لكن الاستعانة بالشعر بصورة مستمرة، وعدم توضيح قسمات الشخصية، ولو من خلال نظرتها إلى نفسها، يضعفان العمل الروائي ويسمانه بطابع التسرع، كما أنهما يجعلان من اللافتات التي يثبتها المؤلف في بداية كل فصل من فصول الرواية، والتي يقتبسها من النفري وجلال الدين الرومي وأبو حيان التوحيدي وابن عربي وصلاح عبد الصبور ورامبو ومحمود درويش، مجرد مادة ملصقة على جسد النص. إنها لا تؤدي إلى أية وظيفة: لا شيء النص، ولا تعمقه، ولا تبني حبكات موازية داخله، ولا تعمل على إحداث تضاد داخله.
"شبابيك زينب" لرشاد أبو شاور
إذا كانت روايتا سحر خليفة وراضي شحادة تبنيان نسيجيهما الروائيين من واقع الانتفاضة الشعبية الفلسطينية التي اشتعلت في الشهر الأخير من سنة 1987، فإن رشاد أبو شاور، الذي لم يعش في الأرض الفلسطينية منذ هزيمة حزيران/ يونيو 1967، يقيم عمله الروائي الأخير، "شبابيك زينب"7 على المادة الوثائقية الخاصة بالانتفاضة والمأخوذة من التقارير التي تنشرها الصحف ووكالات الأنباء عن حوادث الانتفاضة. ويشير الروائي بصورة واضحة إلى مصادر مادته الروائية بإيراد تواريخ الحوادث وإيراد أسماء شهداء مدينة نابلس. الحوادث تدور، بصورة أساسية، في مدينة نابلس، والحوار الذي يدور بين الشخصيات يحاول رسم ملامح المكان والبيئة الاجتماعية للمدينة.
ما يلاحظ في هذه الرواية أنها تتعامل مع الانتفاضة بوصفها حادثاً خارجياً، لأننا لا نشهد تعميقاً للشخصيات أو إضاءة لدواخلها أو وصفاً لطبيعة تفكيرها بالأشياء والعالم. إن الشخصيات مجرد وسائل لتوضيح فعل الانتفاضة العلامق وأثره الذي لا يمحى في تغيير طريقة تفكير الناس. لكن هذا الوصف الخارجي للأشياء يضعف البناء الروائي ويراكم شخصيات باهتة لا نستطيع في الحقيقة تذكرها بعد الانتهاء من الرواية. وهناك في الحقيقة تسلط للأيديولوجيا على الفعل الروائي، ويتضح ذلك من خلال افتتاح الرواية بالحديث عن الطائفة السامرية التي لا نسمع صوت ممثلين لها في الرواية. إن الكاتب يركز، كما قلت، على فعل الانتفاضة، وبالأحرى على فكرة الانتفاضة، مغيباً بذلك الشخصيات والانتفاضة نفسها في سياق عملقة فكرة الانتفاضة.
"وصف الماضي" لغسان زقطان
"وصف الماضي"8 رواية ذات طبيعة مختلفة تماماً في المشهد الروائي الفلسطيني. إن الشخصيات فيها من العالم الآخر، والراوي الذي يروي عن تجاربه وعلاقاته ميت يروي عن موتى. عالم الرواية غريب تخترقه حوادث ماضي الموتى وأحلامهم وتلصصاتهم على بعضهم بعضاً بصورة تذكر برواية "بيدرو بارامو" للروائي المكسيكي خوان رولفو.
أن ما يلفت في هذا العمل، الذي يهجن لغة السرد بلغة الشعر، هو جرأته على بناء عمل روائي يروي فيه الموتى عن أنفسهم، وابتعاده عن الحبكات والأفكار الكبرى التي سادت الرواية الفلسطينية وأبعدتها عن البحث عن المشكلات الصغرى للبشر الفلسطينيين، التي تعد المادة الأساسية للرواية. وما يلفت في هذه الرواية أيضاً غموضها وعالمها المبهم ونوازع شخصياتها وهواجسها الغريبة. إن الشخصيات تُعرض في ضوءغامض، كما أن أفعالها لا تتعدى النظر والإصغاء والحوار الصامت في معظم الحالات. والفقرة التالية من الرواية توضح هذا الجو الغريب:
"في السنوات الأخيرة لم أعد أنظر في وجهه.. كنت أعرفه تماماً أحفظه وأراه ع وأردده مثل قراءة سورة الفاتحة غيباً، الإيقاع هو النواة بينما السورة تندفع بآياتها السبع الحاسمة وحيدة بطاقة غامضة وبديهية نحو مقصدها ثم تتجمع واضحة ونقية محروسة في (آمين).
"كان ضئيلاً وراضياً وميتاً وثمة خيط من الحياء يتلامع في وجهه، اعتذار، ربما، عن جهد سيحدثه بعد موته، جهد غير مقصود ولكنه ضروري.. جهد أن أدرك أنه لم يعد موجوداً أيضاً" (ص 20).
يوضح هذا الاقتباس طبيعة اللغة التي تستخدمها الرواية؛ تلك اللغة التي تختلف عن اللغة الوثوقية التي يستخدمها معظم الورائيين الفلسطينيين الذين يكتبون دوماً ع الموضوعات الكبرى، عن المقاومة وتحرير فلسطين والانتفاضة. من هذا الباب، فإن رواية غسان زقطان "وصف الماضي" هي نوع من تدشين بُعد جديد في الرواية الفلسطينية.
من هذا العرض لعدد من مختلف الروايات الفلسطينية التي صدرت خلال الأعوام الأخيرة، يتضح أن المشكلات الأساسية التي تعانيها الرواية الفلسطينية (غلبة الرؤى الأيديولوجية السائدة على التعبير الروائي، وغياب التعددية الصوتية عامة، وعدم تعميق الشخصيات الروائية، وغلبة الأفكار على الحياة الروائية، واستخدام الشخصيات مشاجب للأفكار والتصورات الأيديولوجية) ما زالت مهيمنة وطاغية على الإنتاج الروائي. وإذا كنا أشرنا إلى عدد قليل من الروايات، فإن ذلك لا يعني حكماً على الأعمال الروائية الأُخرى التي صدرت خلال الأعوام السابقة؛ إذ قد يكون بعض الروايات التي لم نشر إليها أنضج على الصعيد الروائي من الروايات التي تحدثنا عنها، لكن ضيق المساحة، أو عدم توفر بعض تلك الروايات بين أيدينا، جعلنا نقصر الحديث على الروايات المذكورة التي كانت بمثابة أمثلة لاستقصاء حالة التعبير الروائي لدى الكتّاب الفلسطينيين في الوقت الراهن، وهي حالة تتصف بالتراخي مستوى الكتابة الروائية إذا قيست بأعمال غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي، وحتى إذا قيست بالأعمال الروائية السابقة للروائيين الذين تحدثنا عنهم.
1 للتعرف إلى نظرية ميخائيل باختين في الرواية، وإلى مفاهيم التعددية الصوتية، والرواية المونولوجية والرواية ذات التعددية الصوتية، أنظر:
M.M. Bakhtin, The Dialogic Imagination: Four Essays (ed. Michael Holquist) (Austin: University of Texas Press, 1981).
ويراجع أيضاً: ميخائيل باختين، "الخطاب الروائي"، ترجمة وتقديم محمد برادة (الرباط: دار الأمان، 1987)؛ تزفيتان تودوروف، "ميخائيل باختين: المبدأ الحواري"، ترجمة فخري صالح (بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 1992).
2 أنظر: فخري صالح، "أرض الاحتمالات: من النص المغلق إلى النص المفتوح في السرد العربي المعاصر" (بيروت" المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1988)، ص 42-43.
3 إميل حبيبي، "سرايا بنت الغول" (لندن: رياض الريس للكتب والنشر، كانون الثاني/يناير 1992).
4 سحر خليفة، "باب الساحة" (بيروت: دار الآداب، 1990).
5 راضي د. شحادة، يروي لكم سيرة "الجراد يحب البطيخ: تغريبة فلسطينية" (القاهرة: مصرية للنشر والتوزيع، 1990).
6 فاروق وادي، "رائحة الصيف" (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993).
7 رشاد أبو شاور، "شبابيك زينب" (بيروت: دار الآداب، 1994).
8 غسان زقطان "وصف الماضي" (عمان: دار أزمنة للنشر والتوزيع، 1995).