Developing the Palestinian Economy
Keywords: 
التنمية الاقتصادية
بروتوكول باريس 1994
الاقتصاد الفلسطيني
الضفة الغربية
قطاع غزة
إعلان المبادئ 1993
إقامة الدولة الفلسطينية
مقابلات
original article: 
Full text: 

س كيف تقوِّم بروتوكول باريس الذي ينظم العلاقات بين إسرائيل والمناطق الخاضعة للحكم الذاتي، والذي أُبرم في أواخر نيسان/ أبريل؟

عبد: إذا ما أخذ المرء في عين الاعتبار أن بروتوكول باريس مشروط بشروط اتفاق أوسلو، المبني بدوره على فكرة  "الحكم الذاتي المحدود" للفلسطينيين، كان لا بد له من القول إن النتائج التي تم التوصل إليها في مفاوضات باريس جاءت، في بعض أوجهها، أقرب إلى مصالح الفلسطينيين مما قد يتوقع من قراءة إعلان المبادئ قراءة متأنية.

ففي مجال التجارة الخارجية مثلاً، كانت الضفة الغربية وقطاع غزة تُمنع، تحت الاحتلال الإسرائيلي، من إقامة علاقات سوية مع الدول العربية. ولم تكن التجارة الخارجية مع الأردن تتجاوز نسبة 10% من مجموع تجارة الضفة الغربية وقطاع غزة، وكانت في معظم الأحيان تقل عن هذه النسبة كثيراً. أما في ظل البروتوكول الجديد، فإن للفلسطينيين الحق في وضع سياستهم الخاصة في الاستيراد، وتحديد نسب الرسوم الجمركية، ووضع المعايير الخاصة بالتفتيش والتقويم بالنسبة إلى عدد كبير من السلع، بما فيها السلع الأساسية كالسكر والأرز وجملة من المواد الغذائية الأُخرى، فضلاً عن مواد البناء كالأسمنت والخشب والآلات والمنتوجات النفطية. ولذا، فالفلسطينيون وإن كان عليهم أن يستوردوا كثيراً من حاجاتهم وفقاً لنظام الجمارك الإسرائيلي، فإن قيمة السلع التي بات في وسعهم الآن أن يستوردوها من العالم العربي ومن سواه، بموجب نظام التجارة الخارجية الفلسطيني البحت، ربما بلغت عدة مئات من ملايين الدولارات سنوياً. ومن المعلوم، طبعاً، أن الاتفاق لا يخول الفلسطينيين حق إدارة تجارتهم الخارجية كما يحلو لهم وتبعاً لمصالحهم الوطنية الخاصة. لكن الملامة في ذلك لا تقع على بروتوكول باريس بل على إعلان المبادئ.

في مجال المال والمصارف بات الفلسطينيون مخولين بموجب البروتوكول أن ينشئوا سلطتهم المالية الفلسطينية الخاصة التي يحق لها أن ترخص للمصارف وأن تنظم عملها في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن تدير الاحتياطي الرسمي، وتعمل كدائن في الحالات القصوى، وتصفي حسابات القطع الأجنبي مع الأردن وإسرائيل. والواقع أن هذه الصلاحيات لم تكن ملحوظة أصلاً في إعلان المبادئ.

وفي مجال ثالث – أسواق رؤوس الأموال، ضريبة الدخل، حوافز الاستثمار، التأمين، وما إلى ذلك – للفلسطينيين ملء الصلاحية لتدبير شؤونهم كما يروقهم. أما في حال الضرائب غير المباشرة، ولا سيما ضريبة القيمة المضافة، فإن النظام الضريبي في الضفة الغربية وقطاع غزة سيظل قريب الشبه من ذاك المعمول به في إسرائيل، لكن ربما لم يكن ذلك شيئاً سيئاً في نهاية المطاف. ذلك بأن إسرائيل تمتاز بنظام من أكثر أنظمة ضرائب القيمة المضافة فعالية في العالم. وإذا تمكن الفلسطينيون من إدارة نظامهم الضريبي بالفعالية ذاتها فقد يكون في وسعهم أن يفوا بقسط كبير – ربما تجاوز النصف – من مستلزمات الموازنة بالاعتماد على ضريبة القيمة المضافة. وسيؤدي ذلك لا إلى تعبئة الموارد الداخلية والاستغناء عن الدعم الخارجي للموازنة فحسب، بل  أيضاً إلى السماح بالتخفيف من أعباء ضريبة الدخل، ولا سيما عن كواهل ذوي الدخل القليل.

أخيراً، في مجال التجارة مع إسرائيل، لم يكن للفلسطينيين في الماضي أي دور في تحديد ما يمكن أن يصدّروه إلى إسرائيل بينما صار لهم الحق، بمقتضى البروتوكول، في أن يصدّروا كل شيء تقريباً، وبلا قيود، باستثناء ست سلع زراعية لا يمكن تصديرها الآن إلى إسرائيل إلا ضمن قيود معينة. وأنا أتوقع ألا تصمد هذه القيود بسبب انفتاح الحدود وعدم قابلية قوى السوق للكبح والضبط. وفي أية حال فإن هذه القيود نفسها ستلغى بعد أربعة أعوام، فتصبح التجارة بعدها حرة تماماً.

ثمة مجال لم يحقق الفلسطينيون فيه تقدماً، وهو القوى العاملة. ولا تزال إسرائيل مستمرة في السيطرة على تدفق العمال الفلسطينيين إليها.

وثمة، طبعاً مشكلات أخرى في بروتوكول باريس، وأود أن أشير هنا تحديداً إلى إهمال العلاقة المميزة بين الضفة الغربية وقطاع غزة وبين الأردن إهمالاً تاماً. لكن ربما كان في وسعنا العودة إلى هذه القضية لاحقاً.

س ذكرت عدم التقدم في ضبط تدفق القوى العاملة الفلسطينية إلى فلسطين. أليس هذا شأناً مهمّاً، علماً بأن القوى الفلسطينية العاملة داخل إسرائيل من أهم مصادر الدخل في الأراضي المحتلة؟

عبد: بلى، لسوء الحظ. إلا إنني أظن أن الإسرائيليين سيضطرون عاجلاً أو آجلاً إلى إعادة فتح حدودهم أمام العمل الفلسطينيين. والأرجح أنهم لن يعودوا إلى المستوى المعهود قبل حرب الخليج، لكن ربما سمحوا بدخول 50,000 أو 70,000 عامل، ومن شأن هذا أن يخفف الضغط عن سوق العمل الفلسطيني. لكن لا بد لي من القول، مع ذلك، إنني أجد من المفارقات المثيرة للسخرية أن تكون القيادة الفلسطينية، التي تسعى مبدئياً للاستقلال التام عن الاقتصاد الإسرائيلي، منهمكة في المطالبة بزيادة نسبة القوى العاملة الفلسطينية الملتمسة العمل في إسرائيل. إذ يجب أن يكون من أولويات القيادة أن تعبئ الفلسطينيين في حملة وطنية عاجلة لتنفيذ برنامج التنمية في أقرب وقت ممكن من أجل خلق فرص العمل للشعب في بلده. بلى، إن لدي من الواقعية من يكفي لأدرك أن مثل هذا الهدف مما لا يمكن تحقيقه إلا في المدى الطويل، وأن ليس ثمة من بديل للمستقبل المنظور، لكنني لم أر قيادة فلسطينية تعرب عن هذه النظرة على نحو واضح ومفصل.

س يلاحظ بيان صحافي صدر عن البنك الدولي أن نسبة الدخل الفردي من الناتج المحلي الخام في الأراضي المحتلة يفوق نظيريه في الأردن ومصر، وأن الخدمات، مع ذلك، كالكهرباء والماء والهاتف، تشبه نظائرها في بعض من أكثر الدول تخلّفاً في العالم. إلى ماذا تعزو هذا التباين، وحال البنى التحتية إجمالاً؟

عبد: لا مجال للشك في أن البنية التحتية في الضفة الغربية وقطاع غزة تراجعت كثيراً خلال سبعة وعشرين عاماً من الاحتلال الإسرائيلي عن نظيرتها في الأردن، الذي حقق خلال الفترة نفسها تقدماً لافتاً في تطوير بنيته التحتية وفي مجالات المواصلات والاتصالات والصحة والتربية، على الرغم من تدني نسبة الدخل الفردي فيه. ذلك بأن الإنفاق الإسرائيلي على حاجات التنمية في الضفة الغربية وقطاع غزة ظل زهيداً خلال الاحتلال، مع أن الإنفاق على نظير ذلك من حاجات المستوطنات وصل إلى عدة مليارات من الدولارات – أو ربما أكثر بحسب بعض التقديرات. وهذه وقائع لا جدال فيها. والواقع أن دراسات البنك الدولي قد بيَّنت أن ما دفعه الفلسطينيون من أموال الضرائب، منذ أواسط الثمانينات، يفوق ما ينفقه الإسرائيليون في الأراضي المحتلة. وتدل التقديرات بالنسبة إلى الأعوام الأخيرة على نحو  ثلث الإيرادات الضريبية المجباة من أهالي الضفة الغربية وقطاع غزة لم يوظف منه شيء هناك – ويقدر ذلك بنحو 150 مليون دولار سنوياً. وتبعاً لبنود هذا البروتوكول سيستمر الإسرائيليون في جباية الضرائب على السلع المستودة عبر المرافئ الإسرائيلية أو على السلع المصنوعة داخل إسرائيل والمصدرة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، إلا إن الأموال المجموعة على هذا النحو ستحوَّل الآن إلى السلطة الفلسطينية وفقاً لأصول وحسابات محددة بدقة.

س كيف تقوِّم نقل السلطات حتى الآن، واستناداً إلى زياراتك الكثيرة للأراضي المحتلة وتونس؟

عبد: لقد طالت مفاوضات نقل السلطات أكثر مما كان متوقعاً، وحدث منذ توقيع الاتفاق في 13 أيلول/ سبتمبر حتى مغادرة الإسرائيليين أخيراً لغزة وأريحا ف 18 أيار/ مايو، تآكل لا يستهان به في تأييد الاتفاق نفسه وتأييد مهندسيه داخل م. ت. ف. وقد تردَّت، في الوقت نفسه، الأوضاع الاقتصادية (والسياسية) على الأرض في غير وجه من الأوجه المهمة. فمع إغلاق الحدود، وتأخر الاستثمارات، وخيبة الآمال من فرص المعونة، تفاقم الركود الاقتصادي والاستياء السياسي. وفي هذه الأثناء لم يعمل شيء يذكر لتهيئة الأوضاع القانونية والتنظيمية الضرورية لتنشيط الاستثمار الخاص. كما أن برنامج الإنماء، الذي كان من الممكن الشروع فيه منذ تشرين الأول/ أكتوبر أو تشرين الثاني/ نوفمبر، لم يقلع إقلاعاً صحيحاً. فقد بُدِّد كثير من الوقت الثمين مع استمرار تفاقم الوضع الاقتصادي.

أما عملية نقل السلطات في حد ذاتها، فقد كانت ناجحة بأضيق معاني الكلمة. إذ باتت قوات الأمن الفلسطينية على الأرض، وتولى الفلسطينيون جميع دوائر الإدارة، وفوق هذا كله تم الحفاظ على السلام داخل المجتمع الفلسطيني. ومع ذلك، فإن المرء يتملكه شعور بأن الفلسطينيين يرتجلون، خلافاً للإسرائيليين. من ذلك أن القادة الفلسطينيين المحليين، والمعينين من تونس والمفتقرين في أكثر الأحيان إلى الإعداد اللائق، قد بذلوا جهوداً بطولية لمعالجة الواقع، لكن عملهم كان يشكو، بوضوح، من معوق أساسي هو انعدام التوجيه من قبل قيادة م. ت. ف. والوضع مقلق على نحو خاص في مجال الإدارة المالية الحاسم – أي في إدارة الأموال العامة – التي انهارت تماماً مع رحيل الإسرائيليين، نظراً إلى افتقار الفلسطينيين التام إلى الاستعداد لذلك. فاستحالت جباية الإيرادات الضريبية وامتنع صرف النفقات العامة.

إن المرء ليأمل طبعاً بأن تعالج هذه المشكلات الآن، بعد أن تم إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية وتعيين المسؤولين عن الأنظمة المالية وتحديد مهماتهم. ولا بد لي من أن أشير في الوقت نفسه إلى أن عملية التعيينات يكتنفها الغموض، ولا مبالغة في هذا القول: إذ إن الأساس الدستوري، الذي بالرجوع إليه تمت إقامة السلطة الفلسطينية أو تعيين أعضائها، ليس واضحاً، وهذا بقطع النظر عن الإطار القانوني لقيامهم بمهماتهم العامة. ولا بد من القول أيضاً أن التعيينات التي تمت حتى الآن لا توحي بثقة كبيرة، ومن المقلق حقاً أنه لم يبذل أي مسعى لدعوة عدد كبير من المهنيين ذوي الكفاية العالية والخبرة من بين السكان الفلسطينيين.

س لا يستطيع المرء أن يتَّهمك بالإفراط في التفاؤل...

عبد: المشكلات ضخمة حقاً. فالمسألة ليست مسألة التقاط القطع المتناثرة وإعادة إقامة إدارة مدنية ترث إدارة الاحتلال. ثمة أيضاً مهمة دمج البنى الإدارية الوافدة مع م. ت. ف.، كما هي، في نسيج مجتمع مدني متمرد في جوهره لكنه ديمقراطي ومنفتح، عنيت مجتمع الضفة الغربية وقطاع غزة.

ثمة مشكلة إقامة مؤسسات الحكم الوطني الذاتي وإدارتها بحيث تحصَّل الإيرادات الضرورية لتمويل الخدمات الأساسية التي يحتاج إليها الأهالي الذين طال حرمانهم من الخدمات الأساسية الضرورية لحياة لائقة. ثمة حاجة إلى وضع "القواعد" لحياة سياسية تعددية ومدنية، وضمان كون الانتخابات المقبلة في الضفة الغربية وقطاع غزة حرة ونزيهة. ولا بد أيضاً من إنشاء الآلة المؤسساتية الكفيلة بتنفيذ برنامج تنمية طموح يصل حتى نصف مليار دولار في العام الأول، وبالنهوض بالمسؤوليات التجارية والمالية والنقدية المكتسبة بفضل بروتوكول باريس. كما أن العلاقات، المتردية حالياً، بالدول العربية، ولا سيما الأردن، تحتاج إلى التحسين والتقوية.

ولئن سألتموني عن م. ت. ف.: هل تستطيع مواجهة هذه التحديات بنجاح لأجبتكم إذ ذاك إجابة متشائمة.

س ذكرت أن برنامج التنمية لم يقلع بعد. ويشاع أيضاً أن المعونات الموعودة كافة قد تأخر وصولها. فما سبب ذلك؟

عبد: إن المسؤولية عن بطء التقدم في دفع أموال المساعدات تقع على عاتق مقدمي الهبات، كما تقع على الجانب الفلسطيني. لكن من الجدير بالملاحظة أولاً أن التوقعات التي ولَّدها الإعلان بشأن التعهد بتقديم 2,4 مليار دولار في الخريف الماضي كانت غير واقعية. فقد ركَّز كثير من الانتباه على حجم المساعدات ولم يصرف ما يكفي من الاهتمام إلى المؤسسات الضرورية لترجمة التعهدات بالمساعدة إلى مشاريع ملموسة على الأرض.

فضلاً عن هذا، يمكن أن يشار إلى موطني ضعف آخرين. أحدهما أن الفلسطينيين أنفسهم كانوا بطيئين، كما بيَّنت، في إنشاء مؤسسات فعالة وكفية لإدارة البرامج والمشاريع – تحديد مشاريع التنمية؛ إعداد الوثائق والدراسات؛ توفير الإشراف الإداري؛ التفاعل مع مقدمي الهبات في شأن آليات التمويل وأولوياته. فحتى اليوم، وبعد تسعة أشهر من توقيع إعلان المبادئ، لا تزال مؤسسات الجانب الفلسطيني غيرعاملة بفعالية تامة.

س ما السبب المعرقل في هذا المجال؟

عبد: لا مجال هنا إلا للتخمين. من المؤكد أن م. ت. ف. تأخرت أحياناً في اتخاذ القرارات الضرورية لتمكين الموظفين الموجودين على الأرض من التصرف. وذلك يعزى بعضه، بلا شك، إلى أسلوب رئيس المنظمة، الذي كان محْجماً، وليس في ذلك ما يستغرب، عن السماح بإقامة مؤسسة حديثة تشتمل على مقومات التوازن الداخلي بين السلطات، وأصول المراقبة والمحاسبة والتدقيق، إلخ.، التي ربما عرقلت سيطرته الشخصية. وعموماً، فإن قيادة م. ت. ف. في تونس لم تبد التفهم الكافي – أو أنهان على الأقل استهانت بشأن التعقيدات – لعملية إنشاء مؤسسات الإدارة الحديثة وتشغيلها. يضاف إلى ذلك أن هذه القيادة ظلت منشغلة مدة طويلة بمفاوضات القاهرة ثم بمفاوضات باريس بحيث أنه لم يبق لديها، إذا ما أخذنا حدود قدرتها الإدارية في عين الاعتبار، ما يكفي من الموارد للنظر في مهمة بناء المؤسسات أو التعاطي مع البنك الدولي ومع مقدمي الهبات، فضلاً عن التعقيدات التقنية المترتبة على المئات من مشاريع التنمية.

والمحزن أن القطاع الخاص الفلسطيني، بما يملك من قدرات ضخمة وخبرة غنية، كان يستطيع القيام بدور أساسي في تنفيذ برنامج التنمية بكامله، لو أنه دعي إلى القيام بذلك. وبينما تشكل إدارة البرنامج المقترح مهمة شاقة بالنسبة إلى م. ت. ف. فإن تنفيذ المشاريع على النطاق المأمول يُعدُّ أمراً عادياً بالنسبة إلى عدة شركات فلسطينية خاصة. من ذلك أن البرنامج الكامل لتنمية الضفة الغربية وقطاع غزة خلال العام الأول، الذي يقدر البنك الدولي تكلفته بنحو 400 مليون دولار، يمثل أقل من 30% من العمليات السنوية لشركة فلسطينية واحدة هي مجموعة المقاوملين المتحدين، التي تتمتع بقرابة نصف قرن من الأداء الباهر في مجالي الهندسة والبناء في الشرق الأوسط.

وقد أظهر مقدمو الهبات أيضاً قلة تفهم لتعقيدات المجتمع الفلسطيني ولدقائق عملية اتخاذ القرارات داخل م. ت. ف. من ذلك ما أُضفي من أهمية على المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية وإعادة الإعمار (PECDAR) باعتباره المرجع الصالح الوحيد الذي يمكن من خلاله صرف الأموال، مع الإهمال التام لطَيف واسع من البنى المؤسساتية الضرورية لتأمين المساندة والمواد المكملة والمراقبة والمراجعات الملائمة.

ومهما تكن الحال، فقد وقّعت السلطات الفلسطينية في الأسابيع القليلة الماضية مع البنك الدولي اتفاقات بشأن المساعدة التقنية، وبشأن جزء على الأقل من برنامج التنمية، بحيث يمكن الشروع في صرف بعض الأمول، أقلّها تلك المخصصة من قبل البنك الدولي نفسه ومن قبل بعض مقدمي الهبات.

س هل تحقق تقدم ما في شأن إقامة المؤسسات الأُخرى الضرورية لمجهود المساعدات؟

عبد: إن أهم الحلقات المفقودة على الإطلاق هي حلقة النظام المالي. إذ إن الدوائر في الضفة الغربية وقطاع غزة التي كانت تحت الإدارة المدنية الإسرائيلية كانت في معظمها تدار من قبل فلسطينيين، وستستمر هذه الدوائر في عملها الآن – الصحة والتربية والخدمات الاجتماعية وما إلى ذلك. لكن هذه أيضاً ستفتقر إلى الأموال قريباً، وربما ستتوقف تماماً ما لم يعضدها نظام مالي وضريبي فعال. عندما غادر الإسرائيليون غزة وأريحا، وفي غياب أي تنسيق، خلفوا فراغاً هائلاً لم يكن في وسع الفلسطينيين أن يملأوه. فقد كانت الشؤون المالية كلها المتعلقة بالضفة الغربية وقطاع غزة – الضرائب؛ إدارة الأموال النقدية؛ إعداد الميزانيات؛ رواتب العاملين؛ التدقيق المالي، وما إلى ذلك – في أيدي الإسرائيليين، وكانت جميع عمليات معالجة المعطيات للميزانية والضريبة والخزينة تجرى، ولا تزال تجرى، في إسرائيل. ولم يكن في الضفة الغربية ولا في قطاع غزة أية مقومات للمعالجة، ولذلك فحتى لو وجد ما يكفي من الفلسطينيين ذوي المهارة والخبرة لإدارة النظام المالي، فإنهم لن يتمكنوا من القيام بذلك من دون الاتفاق مع الإسرائيليين على استعمال أجهزة وبيانات الكومبيوتر الموجودة في ثلاثة مراكز متخصصة في إسرائيل. لكن الواقع أن في الضفة الغربية وقطاع غزة عدداً قليلاً من الفلسطينيين الحائزين على المؤهلات المطلوبة لإدارة الأنظمة المتقدمة جداً التي طورها الإسرائيليون خلال الأعوام الماضية في مجالات الضريبة والميزانية والخزينة. وقد حثَّ صندوق النقد الدولي، في سياق برنامجه للمعونة الفنية، المعنيين على ضرورة اتخاذ الاحتياطات اللازمة قبل مغادرة الإسرائيليين، بحيث يُضمن قدر معقول، على الأقل، من الاستمرارية في معالجة الإيرادات والنفقات العامةن مقترحاً، على سبيل المثال انتقاء بعض الاختصاصيين الفلسطينيين في وقت مبكر للاطلاع عن كثب، والعمل مع الإسرائيليين لاكتساب الخبرة في الأنظمة القائمة. وقد عرض صندوق النقد الدولي أيضاً تدريب المسؤولين الفلسطينيين على إدارة الضرائب والإدارة المالية بصورة إجمالية، لكن من نكد الحظ أنه لم تتخذ الاستعدادات الكافية، فكان من جراء ذلك توقف النظام المالي عن العمل في غزة وأريحا من الآن. وإذا لم يلجأ الفلسطينيون إلى شيء، كإجراءات الطوارئ لإعادة تنشيط الأنظمة القائمة، فلن يكون في مقدورهم توليد الإيرادات التي تحتاج إليها ميزانية الإدارة الفلسطينية المأمولة ولا تأدية الدفعات الضرورية لمختلف المصالح والدوائر، بما فيها رواتب موظفي القطاع العام. والخطر – لا بل المأساة – الذي ينطوي عليه هذا الوضع هو أن الموارد التي ستكون متاحة لسلطة الحكم الذاتي ستُستمد في معظمها، والحال هذه، من تحويل أموال الضرائب المستوفاة في الجمارك الإسرائيلية بحيث يغدو قطاع غزة والضفة الغربية أشد تبعية لإسرائيل مما كانا في السابق.

ومن الجدير بالملاحظة، مع ذلك، أن هذا الوضع ربما كان موقتاً، وأن الفلسطينيين، بعد فترة من التوافق المصحوب ولا شك ببعض الخسائر في الإيرادات، سيتمكنون من إعادة تركيب الإدارة المالية في غزة وأريحا أولاً ثم القيام ببعض الاستعدادات لتولي المسؤولية بكاملها في باقي الضفة الغربية متى تم التوصل إلى اتفاق على تلك المنطقة.

س في عودة وجيزة جداً إلى قضية مقدمي الهبات، ثمة أحاديث عن محاولة السلطات الفلسطينية الالتفاف على المؤسسات الدولية والتوجه إلى مقدمي الهبات مباشرة أو إلى بعض الشركات الخاصة بالنسبة إلى بعض المشاريع. فإذا صح ذلك ما هي مدلولات هذه الاتصالات الثنائية؟

عبد: يسمع الناس أنباء هذه الاتصالات، وما دامت المسألة مسألة اتصالات فحسب، فلا ضير في ذلك. لكن إذا ما عقدت صفقات فعلية بين مقدمي الهبات أو الشركات وبين م. ت. ف. أو، وهذا أسوأ، بين أولئك وبعض الأفراد داخل المنظمة، فإن ذلك سيكون سيىء العاقبة. من المقبول أن يكون لكل من مقدمي الهبات أولوياته في صوغ مقاربته لمساعدة الفلسطينيين. ومن الضروري أن يتحاشى الفلسطينيون الوقوع أسرى أية علاقة ثنائية أو مجموعة متناقضة من هذه العلاقات. والفلسطينيون إذا ما تعاملوا مع المؤسسات الدولية فلن يقتصر انتفاعهم على الإفادة من خبرتها الغنية في مجال التنمية بل من مسؤوليتها أيضاً ومن شفافية الأنظمة والأصول التي تعتمدها هذه المؤسسات في إدارة معونات التنمية. وهذا أمر في غاية الأهمية للفلسطينيين، لا لأنهم ما زالوا حديثي عهد في هذه اللعبة، بل لأن نسبة المساعدات الخارجية إلى مجموع الموارد المتاحة كبيرة للغاية. لذلك ننصح للقيادة الفلسطينية بقوة أن تبادر بأسرع ما يمكن إلى إقامة مؤسسات حديثة للإدارة المالية؛ مؤسسات تكون أصولها الإجرائية واضحة شفافة، ويكون العاملون فيها معروفين وعرضة للتفتيش والمحاسبة. فإذا ما أنشئت هذه الأنظمة تبعاً للقوانين، فإن جميع الاتصالات بالأطراف  الخارجية ستجري من ضمن الأصول المعتمدة، وتكون العقود عرضة لمساعي المنافسة الصريحة والتدقيق لجميع المواضعات المحاسبية المرعية الإجراء في ظل الأصول الدولية لإدارة المشاريع. فإن لم يعمل بهذه النصائح، فسيُشرع الباب على الفساد والاختلاسات وسوء الإدارة، وعلى الإخفاق الاقتصادي والسياسي في نهاية المطاف.

س مع أن الوقت قد ضاع أو بُدِّد في التأخيرات كما قلت، فماذا يجب أن يُعمل الآن؟

عبد: ثمة بعض المهمات الأساسية التي من شأنها أن تشكل حجارة الزاوية للصرح المنوي بناؤه في الضفة الغربية وقطاع غزة. وإن مدى نجاح القيادة الفلسطينية في إنجاز هذه المهمات سيحدد حظوظ هذا الصرح في البقاء أو في التداعي تحت أثقال قصر النظر وسوء التدبير.

أولى هذه المهمات هي إقامة البنى السياسية والقانونية والإدارية الملائمة والقادرة على تلبية الحاجات الملحة في مجالي العدالة والاستقرار، مع السماح في الوقت نفسه بذلك النوع من التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي من شأنها أن تلبي توقعات السكان الفلسطينيين المتضخمة. لا وجود الآن لأية منظومة قانونية متماسكة لترشد السلطة الوطنية الفلسطينية في القيام بمسؤولياتها. فما هو موجود الآن إنما هو خليط مربك من قوانين الانتداب البريطاني والقوانين الأردنية في الضفة الغربية، وبعض التنظيمات الإدارية المصرية في قطاع غزة، وفوق ذلك كله نحو 2000 أمر عسكري فرضها الاحتلال الإسرائيلي منذ سنة 1967 على جميع أوجه الحياة اليومية تقريباً. فمن الواضح إذاً أن لا بد من وضع منظومة قانونية جديدة.

ثانياً: لا بد للمؤسسات التي تشكل لحمة المجتمع الحديث وسداه من أن تُنشأ، أو أن يعاد إنشاؤها أو تحديثها وتشغيلها تشغيلاً كاملاً. ولا تشتمل هذه على البنى المؤسساتية الجوهرية، كالقضاء المستقل والسلطة التشريعية المستقلة والسلطة التنفيذية المحددة على نحو ملائم فحسب، بل تشتمل أيضاً على مؤسسات أُخرى تشكل نسيج العلاقات السوية بين السلطة والمواطنين، كالإدارة المالية، والنظام التربوي، ونظام الضمان الصحي والاجتماعي، وما إلى ذلك.

ثالثاً: من الضروري جداً أن يتم تنظيم برنامج التنمية وإطلاقه فوراً من أجل إعداد البنى التحتية الأساسية، وتأمين فرص العمل، وبالتالي إيجاد الثقة في آفاق اقتصادية أفضل في ظل الحكم الذاتي الفلسطيني.

رابعاً: لا بد للعلاقات المالية والاقتصادية بالأردن (وبسواه من الدول العربية في الوقت الملائم) التي توترت من جراء الإهمال وانعدام التنسيق، من أن تنشّط، وتبعث فيها الحياة، وتبنى على أسس أسلم من ذي قبل بحيث يمكن للاقتصاديين أن ينتفعا من التعاضد القائم بينهما – من حيث حركة السلع، والقوى العاملة، والوساطة المالية، وتنسيق الضرائب والرسوم الجمركية، وما إلى ذلك.

أخيراً: لا بد من إيجاد الحوافز الملائمة لاستدراج مشاركة القطاع الخاص الفلسطيني النشيط والغني بالموارد. ونحن جميعنا ندرك أن حس المبادرة الفلسطيني قد قام بدور بارز في تنمية البلاد العربية المجاورة خلال الأربعين عاماً المنصرمة، ويجب أن تجيَّش موارد هذا القطاع الغنية والمتنوعة بصورة عاجلة للمشاركة في عملية التنمية وإعادة الإعمار. إن ما تستطيع الحكومات عمله في عالم اليوم محدود – ولا بد حقاً من نهوض القطاع الخاص بمهمة تأمين فرص العمل والتنمية الصناعية والسياحية، وتحديث أنظمة الاتصالات والمواصلات، وهلم جراً.

س قلت في مناسبات سابقة إن إعلان المبادىء تشوبه عيوب جوهرية. لكن يبدو من ملاحظاتك أنك تفترض أن هذه العيوب ‘إنْ وجدت تعزى أساساً إلى سوء التدبير الفلسطيني...

عبد: أنا لا أفترض ذلك على الإطلاق. إن ما أحاول قوله هو أنه لا يحق لقيادة فلسطينية اختزلت، من جانب واحد، مهمتها في "التحرر الوطني" إلى مجرد حكم ذاتي محدود، لا يحق لها أن تخفق في هذا المسعى المحدود. لأن من شأن هذا الإخفاق أن يشكل كارثة على الشعب الفلسطيني.

يقيناً إن القيود التي تحدُّ من قدرة الفلسطينيين على إنجاح الاتفاق شديدة جداً وربما أدَّت إلى شلِّه. فإذا ظلَّت مشكلة المستوطنات بلا حل، وظلت القدس بعيدة عن متناول الفلسطينيين، وإذا لم تقرَّ السيادة على الأرض، فقد لا يتمكن الاتفاق من البقاء. وبصرف النظر عن هذه القيود السياسية ثمة أيضاً قيود لا يستهان بها في المجال الاقتصادي؛ قيود تحد من قدرة الاقتصاد الفلسطيني على النمو في أفضل الاتجاهات. وربما لم تكن هذه القيود حاسمة الأثر في المرحلة المبكرة جداً من تطور هذا الاقتصاد، تماماً مثلما أن القيود السياسية قد لا تصبح مثار جدل إلى ان تبدأ محادثات الوضع النهائي. هذه هي المسلمات المضمرة في إطار اتفاق أوسلو: ربما كانت معقولة لكن من الجائز أيضاً أن تجانب الصواب. ومع ذلك فأنا أعتقد أن الموقع الذي وضعت القيادة الفلسطينية نفسها فيه يلقي قسطاً كبيراً جداً من عبء إنجاح الاتفاق على الفلسطينيين أنفسهم.

إن المنطق الذي يصدر إعلان المبادىء عنه يقوم على أساس أن كل خطوة تحدد مصير الخطوة التي تأتي بعدها، بحيث إنك إذا أخفقت في إنجاز خطوة لا تستطيع الانتقال إلى الخطوة التي تليها. الأمم الأُخرى الساعية لتقرير المصير لا تخضع عادة لهذه السلسلة من التجارب المتزايدة الصعوبة لتحقيق حقوقها وحرياتها الأساسية. يضاف إلى ذلك أنه ليس هناك ضمانة على الإطلاق بأن يحصل الفلسطينيون، بعد سلسلة العقبات هذه، على ما يصبون إليه من كامل تقرير المصير. وهذا عيب أساسي بالنسبة إلى الفلسطينيين.

ويعتري إعلان المبادىء، في المنظور الفلسطيني، وجه آخر من النقص. فـ م. ت. ف. لم تزل تجسد بالنسبة إلى الفلسطينيين الإحساس العميق بالهوية والوحدة الوطنية. وكان المأمول منها أن تصون تطلعاتهم الوطنية وحقوقهم التاريخية. إلا إن ما كان من انخراط المنظمة انخراطاً مباشراً، وعلى تلك الدرجة من الحميَّة، قد قلَّص مكانتها الآن؛ فبالنسبة إلى الفلسطينيين خارج الضفة الغربية وقطاع غزة، وهم الأكثرية، ربما أضعف ذلك شرعيتها. وكان الأقرب إلى الحكمة تمكين القيادة المحلية في الأراضي المحتلة من عقد الاتفاق على الحكم الذاتي المحدود، بتوجيه من المنظمة. كان في وسع المنظمة، بهذه الطريقة، أن تصون دورها الأوسع كوصية على الحقوق الوطنية الفلسطينية إلى أن يحين وقت البحث فيها ومعالجتها؛ وكانت تمكنت في الوقت نفسه، أيضاً، من تعزيز سلطتها كممثل شرعي وحدي لجميع الفلسطينيين أينما كانوا.

لكن هذا كله قد بات من قبيل البحث الأكاديمي الآن. فالاتفاق قد وقع، وغدا، تالياً، من وقائع الحياة. فما البديل الآن؟ إن قدرة التحكم التي كانت في أيدي الفلسطينيين من قبل – الانتفاضة؛ ضغط المجتمع الدولي على إسرائيل؛ الإجماع العربي؛ قدرة م. ت. ف. على الدعوة إلى القضية الفلسطينية وما تحققه هذه الدعوة من صدى داخل المجتمع الدولي – قد حُيِّدَت في معظمها أو بُدِّدَت.

والاتفاق يترك، على الرغم من حدوده كلها، منفذاً لبناء مجتمع ديمقراطي منفتح واقتصاد سريع النمو. ومن الجائز أن يتيح النجاح في هذين المجالين عند نقطة ما بداية محو حدود الاتفاق هذه. ومهما يكن الأمر، فإن النجاح في هذا المشروع مرغوب فيه أكثر من استمرار الوضع السابق. وهنا أعتقد أن على كل واحد مسؤولية حقيقية – لا أولئك الذين يؤيدون الاتفاق فحسب بل أيضاً أولئك الذين يعارضونه. فلن يجدي مستقبل الشعب الفلسطيني نفعاً وقوف المرء جانباً والاكتفاء بمهاجمة الاتفاق من دون التقدم ببدائل بنّاءة. علينا أن نعمل خيراً من هذا. ثمة طرق كثيرة للمساهمة في مجهود التنمية، وإن لم يكن المرء راضياً تماماً عن النهج الذي اختير.

س هلاَّ عدت إلى النقطة التي ذكرتها في شأن حاجة الفلسطينيين إلى التنسيق مع الأردن؟

عبد: من أسوأ نتائج استراتيجية اللامبالاة التي اعتمدها الرئيس عرفات مردودها السلبي على العلاقات الفلسطينية – الأردنية. لا شك عندي في أن الحفاظ على علاقات وثيقة ومنفتحة مع الأردن يخدم مصالح الفلسطينيين. فالأردن يستطيع العيش بيسر من دون الضفة الغربية وقطاع غزة لكنني شبه متيقن من أن العكس لا يصحُّ. لذلك كان من أُولى الأولويات أن يظل التشاور والتنسيق بين الجانبين أهم سمات علاقتهما المميزة.

ففي المجال الاقتصادي تُرِكَ بعض القضايا يتردى ويفسد من دون أدنى ضرورة. ولا بد من حله بلا تأخير. وفي مسألة التبادل التجاري بين الضفة الغربية وقطاع غزة وبين الأردن، بذل الفلسطينيون، عقب بروتوكول باريس، قصارى جهدهم لفتح باب التبادل مع الأردن، وحققوا، مثلما أشرت من قبل، مكاسب لا يستهان بها، وإنْ لم يتوصلوا – وليس في مقدورهم – إلى تحرير الاقتصاد الفلسطيني تحريراً تاماً من ترابطه الوثيق بالاقتصاد الإسرائيلي. والتحدي الذي يواجه الفلسطينيين والأردنيين هو استثمار الفرص التي أتاحها بروتوكول باريس والسعي لتنميتها والتوسع فيها باتجاه التبادل التجاري المفتوح والحر في المستقبل.

ومن مسائل الخلاف الأُخرى ما يتعلق بالعملة أو العملات التي ستستعمل في الضفة الغربية وقطاع غزة، وربما ما يتعلق ببعض القضايا الأُخرى الباقية والمتعلقة بتنظيم المصارف، ولا سيما المصارف الأردنية التي تفتح فروعاً لها في الضفة الغربية وقطاع غزة. وثمة مجال ثالث يدور النقاش حوله ويتعلق بالوسائط التي يمكن لأموال المساعدات الأجنبية أن تستعملها لتمويل مشاريع التنمية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهو مجال يستطيع المصرف المركزي الأردني أن يقوم فيه بدور فعَّال إلى أن يتمكن الفلسطينيون من إقامة مؤسساتهم الخاصة. ومهما تكن الحال، فإنه ينبغي للفلسطينيين أن يتوصلوا إلى الاتفاق مع الأردنيين على هذه القضايا كلها في أسرع وقت ممكن، لأن التأخير في ذلك سيكون أغلى تكلفة على الفلسطينيين بمرور الزمن. 

س هل تعتقد أن الفلسطينيين سيحصلون يوماً على دولة مستقلة؟

عبد: ما زلنا بعيدين جداً عن إقامة دولة، على الرغم من التصريحات المتفائلة التي تدلي القيادة بها. إن تحويل الترتيبات الحالية إلى مقومات دولة يتوقف على إبداء الإسرائيليين قدراً كبيراً من حسن المودة وطيب الإرادة والمرونة، بما في ذلك الاستعداد لتقديم التنازلات في قضايا حيوية وعالية التوتر كالمستوطنات والقدس وحقوق الأرض والماء، وما إلى ذلك. كما أن ذلك يستلزم من الفلسطينيين قدراً كبيراً من البراعة وسعة الحيلة والعمل الدؤوب، فضلاً عن الدعم المستمر من المجتمع الدولي. لست على يقين من أن في وسعنا الاعتماد على تحقق هذه المستلزمات الثلاثة. لقد أبدى الإسرائيليون غاية الدقة في القيام بالتعهدات التي التزموا بها في الاتفاق، وهم، يقيناً، يريدون لهذه التجربة النجاح بقدر ما ينفرون من العيش مع عواقب انهيار التجربة الفلسطينية. لكنهم كانوا صارمين في حرفية تأويلهم للاتفاقات، ولا يمكن لأحد أن يتهمهم بالإفراط في السخاء أو حسن المودة. أما بالنسبة إلى المجتمع الدولي فأظن أن من الجائز أن يفقد الاهتمام بهذه القضية وينصرف إلى الاهتمام بأمور أُخرى بعد فترة ابتدائية قد تطول عاماً أو عامين.

والمعوَّل عليه في نهاية التحليل، هو قدرة الفلسطينيين الذاتية على تنظيم أنفسهم وتعبئة مواردهم للتنمية وإعادة الإعمار. هذه هي فرصتهم: فإن أفلحوا في إقامة مجتمع ديمقراطي منفتح واقتصاد نابض نشيط، فلا شك عندي في أن مطالبتهم بإنشاء دولة ستلقى أذناً صاغية، بل ربما استجيب لهم فيما أظن.

وفي رأيي أن من المخاطر التي تواجه الفلسطينيين الآن خطر عدم إدراك الفرص المتاحة اليوم، وخطر عدم استغلال تنوع الوسائل الموضوعة في تصرفهم استغلالاً كاملاً، أو محاول القفز فوقها في محاولة لتحقيق ما هو أكبر وأبعد مما نص الاتفاق عليه. وفي اعتقادي أن من الأجدى للفلسطينيين عند هذا المنعطف أن ينكبوا على العمل الدؤوب لإنشاء مجتمع ديمقراطي منفتح ومزدهر، وأن يدعوا مسألة الدولة تأخذ مجراها بدلاً من الإصرار على جميع مغريات الدولة، وصرف الهمة عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فما نفع دولة ذات سيادة مع مغريات الاستقلال كافة – مصرف مركزي، ونقد وطني، وحدود، وجيش وشرطة، إلى ما هنالك – دولة سيدة لكنها فقيرة معدمة مرتهنة للمعونات مثقلة يالديون وعاجزة عن تدبير شؤونها. أمامنا الكثير من الأمثلة لدول مستقلة كهذه.

كان من الأمثل للفلسطينيين أن يحصلوا على الاستقلال التام أولاً وأن ينتقلوا من ثم إلى إنشاء مجتمع ديمقراطي واقتصاد مزدهر، فإن فعلوا ذلك نعموا بمزايا الحالين. لكن هذا لم يحدث، وأخشى أن علينا تحقيق ذلك بأعسر الطرق. من أجل مصالح جميع من في المنظمة، ومن أجل مصالح الفلسطينيين قبل الجميع، دعونا نرجو النجاح لهذا الاتفاق.

Author biography: 

جورج ت. عبد: مسؤول كبير، حالياً، في صندوق النقد الدولي في واشنطن. وكان حتى وقت قريب المدير العام لجمعية Welfare، وهي مؤسسة فلسطينية للتنمية والمساعدات، مقرها في جنيف. وله كتابات مستفيضة في قضايا التنمية الاقتصادية والقضية الفلسطينية. وتعبِّر هذه المقابلة عن آرائه الشخصية في المسائل التي نوقشت لا عن رأي صندوق النقد الدولي. وقد نشرت مجلة Journal of Palestine Studies هذه المقابلة في العدد 23، صيف 1994.