تُعدّ قضية العنف الاجتماعي الداخلي، في الأعوام الخمسة الأخيرة، الهاجس والتحدي الأكبر أمام المجتمع الفلسطيني بنخبه السياسية والاجتماعية في الأراضي المحتلة في سنة 1948. فالعنف الذي أضحى في العقد الأخير عامة، والأعوام الخمسة الأخيرة خاصة، منظومة متكاملة وسلوكاً، بات يشكل نمط الحياة داخل البلدات والمدن العربية وفي الأحياء العربية داخل المدن المختلطة كحيفا وعكا ويافا. ونمط الحياة هذا، صار يعيد إنتاج ذاته يومياً من خلال بنى اجتماعية واقتصادية وسياسية، صارت مصالحها تتشابك مع وجود منظومة العنف هذه التي لا يبرز منها فعلياً كناتج نهائي إلاّ أعداد من القتلى تزداد بمرور الوقت. ارتفعت في الأعوام الأخيرة أعداد قتلى العنف الاجتماعي في الوسط العربي في إسرائيل من 58 ضحية خلال سنة 2015 إلى 76 ضحية خلال سنة 2018، بينهم 14 امرأة.[1] ولم يكد يمر شهر واحد من سنة 2019، إلاّ وقتل خلاله 6 فلسطينيين،[2] في مؤشر عملي إلى تحوله من سلوك فردي إلى منظومة اجتماعية تتعمق أكثر فأكثر، في غياب أي حلول جذرية أو معالجة جدية. أمّا مجمل عدد القتلى جرّاء العنف الاجتماعي منذ سنة 2000 حتى منتصف سنة 2017، فبلغ 1236 ضحية.[3] تسعى هذه المقالة لقراءة العنف الاجتماعي في الداخل الفلسطيني، من خلال قراءة الظرف السياسي ـ الاجتماعي الذي يتغذى العنف عليه، ويتطور، ويعاد إنتاجه فيه. ومن المهم الإشارة إلى أن بعض المعلومات الواردة في هذه المقالة بشأن طرق عمل الإجرام في الداخل، تم الحصول عليها من خلال لقاءات مع شبان منخرطين في عالم الإجرام الذي يزداد عدد مَن يدخلون إليه يومياً، أكان عبر سوق السيارات المسروقة، أم الأسلحة، أم المخدرات. أرقام مخيفة وتواطؤ إسرائيلي يشير تقرير لمراقب الدولة الإسرائيلي، إلى أن عدد عمليات إطلاق النار في البلدات والتجمعات العربية، ما بين سنتي 2014 ـ 2016، يفوق عمليات إطلاق النار في البلدات اليهودية بما يعادل 17,5%،[4] علماً بأن نسبة العرب من مجمل السكان لم تتعدّ 20% في الفترة التي يتطرق إليها التقرير. كما يشير رد وزارة الأمن الداخلي الإسرائيلية على استجواب قدّمه النائب العربي في الكنيست يوسف جبارين، إلى أنه خلال الفترة 2015 ـ 2017، فُتح 521 ملف إطلاق نار في مدينة أم الفحم وحدها. ووفقاً للإحصاءات فإنه تم تسجيل: 174 عملية إطلاق نار في سنة 2015؛ 163 عملية إطلاق نار في سنة 2016؛ 184 عملية إطلاق نار في سنة 2017. والمثير للاهتمام، أن الشرطة الإسرائيلية لم تقدم سوى ثلاث لوائح اتهام في سنة 2015، ولائحتَي اتهام في سنة 2016، ولائحة اتهام واحدة في سنة 2017، أي أن الشرطة عملياً لم تتهم سوى 6 أشخاص، من أصل 521 عملية إطلاق نار[5] في المدينة التي بلغ تعداد سكانها 54,954 نسمة مع نهاية سنة 2017.[6] وتجدر الإشارة إلى أن هذه المعطيات تستند إلى حوادث إطلاق النار التي فتحت الشرطة تحقيقات بشأنها، علماً بأن هناك العديد من الحوادث المماثلة التي لم يتم فتح أي تحقيق فيها، وهي كثيرة. وفي سياق متصل، فإن رد آخر قدمته وزارة الأمن الداخلي على استجواب قدمته النائبة عن القائمة المشتركة عايدة توما، يشير إلى أنه في سنة 2016، كانت نسبة المتورطين في جرائم حيازة وتجارة سلاح من غير اليهود، تتراوح ما بين 64% و84%، علماً بأن نسبة اليهود من عدد السكان هي 80% تقريباً. وقد سُجلت 540 مخالفة لها علاقة بالسلاح غير القانوني، 447 من المتورطين فيها كانوا من غير اليهود، أي عرباً.[7] تشير هذه المعطيات إلى المزاج العام الذي يسيطر على الشارع العربي في الداخل الفلسطيني. ففي المعدل حدثت في أم الفحم وحدها، بمعدل سنوي، 174 عملية إطلاق نار تقريباً، أي عملية كل يومين، وذلك من دون احتساب حوادث العنف الأُخرى، مثل السرقة. المعطيات الآنفة الذكر، تطرح سؤالاً عن صعوبة الحياة اليومية في البلدات العربية، المحاصرة بالاستيطان اليهودي وبالأوتسترادات والشوارع السريعة وسكك القطار، لتغدو أماكن معزولة تتكثف في أزقتها عمليات إطلاق النار، وليغدو العنف سلوكاً عاماً ومقبولاً ما دام لا يمس باليهود. فمثلاً في الحي العربي "الحلّيصة"،[8] في حيفا، يسمع السكان صوت إطلاق النار بشكل شبه يومي، من دون تدخّل من طرف الشرطة الإسرائيلية، لكن في اليوم الذي أُطلقت النار على سيارة للشرطة، فُرض طوق أمني على الحي، وأُخرج فوراً مطلق النار والسلاح المستعمل في عملية إطلاق النار. وفي المقابل، لم تتهم الشرطة إلاّ شخصاً واحداً بين 184 مطلق نار في أم الفحم خلال سنة 2017. مشكلة الانتماء غير المكتمل تتأسس الحالة السياسية والاجتماعية في الأراضي المحتلة منذ سنة 1948، على وضع ضبابي، فعلى الصعد التاريخية والثقافية والقومية والاجتماعية، فإن فلسطينيي 48، وبصورة عامة، هم أقرب اجتماعياً وثقافياً إلى الحالة الفلسطينية والعربية خارج حدودهم الجغرافية، منهم إلى الحالة الإسرائيلية؛ أمّا قانونياً، فهم إسرائيليون بحكم وثائق التعريف التي يحملونها ويتعاملون قانونياً وقضائياً من خلالها، وفي الحالتين يتم التعامل معهم على أنهم أغراب. فإسرائيل ترى فيهم عدواً فلسطينياً تحت الاختبار، وعليهم أن يثبتوا دائماً أنهم لا يشكلون "خطراً أمنياً"، ولا يربطون مصيرهم بمصير الشعب الفلسطيني عامة، وأن قيادتهم السياسية تهتم بقضاياهم اليومية وغير منشغلة بالقضية الفلسطينية. لقد بدا هذا الأمر أكثر وضوحاً خلال الانتخابات العامة السابقة، حين حرّض نتنياهو اليهود على التصويت لحزبه لأن "العرب يهرولون إلى الصناديق" لتغيير النظام، وبالتالي فإن العرب يشكلون خطراً على المؤسسة يتعين على اليهود التصدي له حتى في الصناديق. ومن مظاهر التمييز ضد فلسطينيي 48، أنه يتم تفتيشهم في المطار بحسب "نظام التعرف على الوجه" (Facial Recognition System)، كإرهابيين محتملين. وخلات التظاهرات يعامَل العربي بعنف مفرط، وتطلَق عليه النار مثلما حدث في تظاهرات تشرين الأول / أكتوبر 2000. ويشير تقرير مراقب الدولة مثلاً، إلى أن إحدى الأزمات الرئيسية في تعامل الشرطة مع العنف والسلاح في المجتمع العربي، هي عدم وجود الثقة التي تؤدي إلى التعاون ما بين الشرطة والعربي. ما سبق ليس أمثلة محصورة للتمييز ضد عرب 48، بل إن هناك العديد من المظاهر التي تبدأ من الإهمال المتعمد إلى العداء القومي والديني، في دولة تعرّف نفسها بأنها دولة اليهود وليست دولة المواطنين. إننا أمام حقيقة أن فلسطينيي 48 هم حالة إسرائيلية غير مكتملة، إذ إن إسرائيل دولة لليهود، وتُشتق فيها المواطنة من الدين، وأمام حقيقة ثانية وخطرة تتمثل في أنهم حالة فلسطينية غير مكتملة أيضاً، فهم موجودون في الشعارات والخطابات الشعبوية، لكنهم ليسوا محسوبين على أي مشروع وطني فلسطيني. بكلمات أُخرى: يضع الفلسطيني في الداخل رجله على العتبة الإسرائيلية ولا يدخلها؛ وعلى العتبة الفلسطينية ولا يدخلها أيضاً. يعيش المجتمع الفلسطيني في الداخل، ويتفاعل ويتحرك سياسياً ضمن معادلة البقاء خارج العتبتين، وهذا أيضاً ما تأسست عليه حركته الوطنية ونخبه السياسية: مساواة وحرية للشعب الفلسطيني كخطاب ناظم للحزب الشيوعي؛ هوية قومية ومواطنة كاملة كخطاب ناظم للتجمع الوطني الديمقراطي؛ وأخيراً، هوية دينية وخطاب الأمة الإسلامية كخطاب ناظم للحركات الإسلامية. ووسط هذا الضباب السياسي المتناقض، يبدأ المجتمع بالبحث عن ذاته، عن وجوده، عن كيانه وعن مكانته، في واقع تمارس إسرائيل عليه، علاوة على حقيقة كونها الدولة اليهودية، شتى أشكال العنصرية البنيوية والاجتماعية: دولة لليهود حصراً؛ اضطهاد ديني؛ آلاف حالات الإقصاء عن الحيز العام في المقاهي والحانات؛ عنصرية شعبية تجلّت في التقرير الأخير لحملة "المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي"، والذي جاء فيه أنه خلال كل 71 ثانية، يتم كتابة منشور تحريضي ضد الفلسطينيين من طرف مستخدم إسرائيلي؛ بلدات عربية مخنوقة جغرافياً ولا تتوسع وفقاً لحاجات النمو السكاني، بل إنها أقرب إلى المعازل والبؤر السكانية؛ ظرف مادي واقتصادي صعب جداً وسط غياب للمناطق الصناعية وقلة فرص العمل والتجهيل الثقافي في التعليم الحكومي المعادي جوهرياً للعرب والرواية العربية. مجتمع عالم ثالث في دولة عالم أول المركّب الأساسي الآخر الذي يشكل عاملاً حاسماً في فهم انتشار منظومة العنف، هو العامل الاجتماعي. فالفلسطينيون في الداخل، انغلقوا على ذاتهم، ولم ينفتحوا على دولة إسرائيل كلياً بعد تأسيسها في إثر نكبة فلسطين في سنة 1948، وحافظوا على عاداتهم الاجتماعية وتقاليدهم كردة فعل على الدخيل الأوروبي الذي جاء مع دولة اليهود ذات التكوين الاجتماعي الغربي. فحدث إقصاء متبادل بينهما، وقامت الدولة بعملية فرز بين الحيز اليهودي، والآخر العربي. إن العنصرية منتشرة في إسرائيل من القمة إلى القاعدة، وهي تمارَس من خلال حاخام في صفد، مثلاً، يوصي بعدم تأجير العرب منزلاً، أو لجنة في مبنى ترفض البيع للعرب مثلما حدث مؤخراً في اللد، أو عبر قانون "لجان القبول" الذي يخوّل لجنة "الكيبوتس"، أو البلدة اليهودية، رفض ساكن جديد بذريعة عدم الملاءمة الاجتماعية ـ الثقافية للمكان. أمّا الفلسطينيون، فانغلقوا كردة فعل اجتماعية ـ ثقافية على التحرر الأوروبي وجميع مظاهره، والذي جاء عنوة وبالقوة مع تأسيس الدولة اليهودية، وليس كمسيرة تحرر اجتماعي ذاتي يلتقي فيها الفكر مع التطور الطبيعي لهذا التجمع السكاني الفلسطيني؛ أي أن المتغير الاجتماعي ـ الثقافي، جاء من فوق كفرض أمر واقع بالقوة، في إثر هزيمة سياسية وعسكرية للقومية التي ينتمون إليها. وفي المقابل، تشكل الدولة الحديثة الطبيعية البديل لليهود من القوانين والأعراف الاجتماعية، وتحتكر القوة المشروعة عن طريق تطبيق القانون، فتصهر المواطنين تحت مظلة المواطنة والقانون العام، وتحتكر العنف ضمن حيز سيادة الدولة، وبذلك يكون القانون والمحكمة والدستور، أساس الحكم بين المواطنين من اليهود. أمّا بالنسبة إلى واقع الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة منذ سنة 1948، فهذا كله غير طبيعي: الدولة، وبالقوة، تفكك النسيج الاجتماعي وقوانينه التي تعارض قوانين الدولة في بعض الأماكن، وفي المقابل، لا تفرض ذاتها كتنظيم بديل من التنظيم الاجتماعي والأعراف والتقاليد والعادات، لأسباب كثيرة منها عدم وجود علاقة مواطنة كاملة، ومنها الغربة عن الدولة، والعداء لها. ما يجري فعليا هو مزيج من نوع آخر: سلطة تحضر كحالة شكلية تعبّر عن سيادة سياسية قمعية استعمارية وعنيفة جداً؛ البنى الاجتماعية المفككة تعيد تركيب ذاتها وفق معادلة القوة وليس التقليد، فتسيطر القوة المادية أولاً طبقياً، ثم يبدأ بروز السلاح بصفته قوة ترهيب وامتياز في واقع الغاب؛ هذه القوى تندمج مع السلطات المحلية الخدماتية التي تطرح ذاتها كنشاط سياسي داخل البلدات العربية، وتبدأ بالتفاعل: رئيس المجلس المحلي يحتاج إلى السلاح لترهيب الناس والسيطرة على البلدة وفرض حضوره وسط غياب الدولة؛ رأس المال يحاول الحفاظ على ذاته فيلجأ إلى طلب الحماية من قوى الإجرام ذاتها التي تهدده؛ الدولة تتحالف معهم جميعاً عن طريق خلق هدوء سياسي يضمن تفوّق اليهود وإبعادهم عن عنف العرب. وتبدأ هنا تحديداً، عملية إعادة إنتاج العنف كمكون جوهري في المزيج المشكل للحيز العام في البلدة العربية. استناداً إلى هذا المنطق، يمكن فهم دور الحركات السياسية والحركة الوطنية عامة، في موضوع العنف تحديداً. فمع تراجع الفعل السياسي والوطني في الداخل، والذي من مظاهره انخفاض أعداد المشاركين في المناسبات الوطنية العامة كذكرى هبّة تشرين الأول / أكتوبر، ويوم الأرض، وتراجع نسبة الملتحقين من الشباب بالأحزاب السياسية، وضعف المشاركة في النشاطات والإضرابات التي تدعو إليها لجنة المتابعة العليا، بدأت ترتفع بالتدريج وتيرة العنف وأعداد القتلى. فالحركات السياسية، كانت ولا تزال تؤدي في الواقع الفلسطيني، دوراً تنظيمياً وتثقيفياً للمجتمع كبديل من الدولة المسلوبة. وبالتالي، مع تراجع هذا الدور التنظيمي، والمكانة الاجتماعية التي لها عدة أسباب يمكن الخوض فيها في مواقع أُخرى، بدأت الساحة تتفرغ لأشكال تنظيم أُخرى: الإجرام، ورأس المال، والسلطة. ومن هذا المنطق فقط، يمكن فهم التحول نحو العنف: فبينما كانت لجان الصلح الاجتماعي تُفرَز من خلال لجنة المتابعة ولجنة رؤساء السلطات المحلية، باتت اليوم تُفرَز من طرف عائلات الإجرام ذاتها. وفي الأعوام الأخيرة، بدأت تتعمق هذه الظاهرة، إلى درجة أن يتم إطلاق النار على وساطة صلح في إحدى البلدات العربية، قامت بها قيادات اجتماعية وشخصيات ثقافية محسوبة على الأحزاب السياسية والحالة الوطنية، كي يتم استبدالها بوجاهة صلح أُخرى مركبة من رموز عائلات إجرام فرضت عملية الصلح بعد أن هددت الطرفين بتحمّل العواقب. انطلاقاً من هذا المنطق الذي يعيش فيه الفلسطيني في الداخل حالة من الانفصام أمام الدولة، يمكن فهم آليات معالجة العنف المطروحة، وكيف باتت هذه الآليات والأدوات عبارة عن مجرد أدوات لتصدير المشكلة إلى مواقع أُخرى في أفضل الأحوال، وإعادة إنتاج العنف ذاته في أسوأ الأحوال. أحد هذه الحلول التي يتم اللجوء إليها مباشرة بعد أي عملية قتل، وبصورة تلقائية، هو التهجير من القرية أو البلدة أو الحي، إلى بلدة أُخرى وحي آخر خوفاً من عملية الثأر التي من الممكن أن تتفاقم. وهذه الطريقة، ومع أنها أكثر الطرق اتّباعاً وتلقائية، إلاّ إن السؤال بشأنها ومدى نجاعتها وإسقاطاتها لم يُطرح بجدية بعد. فمع عملية القتل، يُطلب من العائلة القاتلة، أو المتهمة بالقتل، مغادرة البلدة إلى بلدة أُخرى. وماذا بعد؟ هذا هو السؤال. ففي معظم الأحيان، تسكن العائلة بعيداً عن مركز البلدة، لتبتعد عن الوسم والسمعة والابتزاز، ولا سيما أن البلدات العربية في الداخل لا تزال تعيش على نمط الحياة غير المدينية حتى لو كانت تسمى مدناً: الجميع يعرف بعضهم البعض؛ الغريب محل تساؤل وشك؛ الغريب محل خوف أيضاً في نسيج مهدد أصلاً. وفي حال كان الغريب غريباً بسبب القتل، فإن ذلك كله يغدو مضاعفاً. لذلك، تسكن العائلات في الضواحي وعلى هوامش البلدات العربية التي هي أصلاً محاصرة، بعيداً عن الناس، حيث تبدأ مسيرة التسلح لحماية الذات. أمّا الهاجس الآخر، فهو "الدّية" التي تدفعها العائلة في مقابل العودة إلى البلدة، والتي من الممكن أن تصل إلى ملايين الشواقل غير المتوفرة بطبيعة الحال بسبب الظروف الاقتصادية. وهنا تحديداً تبدأ الحاجة إلى المال السريع والكثير: تجارة أسلحة ومخدرات وسيارات. وهكذا، لا يبدو غريباً أن تجد في ضواحي مدينة كشفا عمرو مثلاً، أغلبية عائلات الإجرام التي دخلت تلك المدينة هرباً من الثأر، قد أضحت بعد وقت قصير مستقرة فيها، ثم صارت تنشط بعيداً عن المركز وبعيداً عن العين. تبرز في هذا السياق خطة لجنة المتابعة التي أقرّتها اللجنة في سنة 2017، والتي تحمّل فيها المسؤولية أولاً للشرطة الإسرائيلية، وقد افتتحتها بتظاهرة إلى مدينة القدس احتجاجاً على تقاعس الشرطة، علاوة على تعزيز لجان صلح محلية برعاية السلطات المحلية، ونشر التوعية والتثقيف في المدارس وداخل الأسرة. هذا الأمر مع أهميته، يبقى في إطار الخطط النظرية ما دام دور اللجنة ذاتها وصدقيتها وتعامل المجتمع معها في تراجع ملحوظ، وما دامت قدرتها على فرض حل يفكك منظومة العنف منوطةً بقدرتها على التطور وإعادة الاعتبار إلى ذاتها وإلى الحركة الوطنية. منظومة تعمل من تلقاء ذاتها لا يوجد تأريخ واضح لبدء هذا التحول من ظاهرة لها عناوينها ومناطقها إلى منظومة تعمل من دون علاقة بالأسماء أو المناطق أو العائلات، غير أن هذا التحول كان متدرجاً. وبما أن الحديث يدور عن تحول في سوق سوداء، فإنه خارج المنظار العلمي أو البحثي. إلاّ إن ما يرويه المتورطون في مجال الإجرام، يدل على ما هو أعمق من مجرد جريمة منظمة؛ إنه تحول المجتمع برمّته إلى منظومة جريمة. فيروى أنه حتى الأعوام العشرة الأخيرة، كان هناك عائلات إجرام منظم في الداخل، تعمل في مناطقها وتقسم مناطق نفوذها بحسب المنطقة الجغرافية: النقب للعائلة الفلانية، والمركز للعائلة الفلانية، والشمال للعائلة الفلانية، وكل عائلة تملك شبكة من المعارف والجنود في داخلها، يتوزعون على منطقة النفوذ. أمّا في الأعوام الخمسة الأخيرة حتى مطلع سنة 2019، فيقال إن هذه العلاقات العائلية تفككت، وبات الانخراط في سلك الجريمة مفتوحاً على شرائح أوسع: كل شاب، في أي قرية أو بلدة، يستطيع شراء الأسلحة وبدء تشكيل شبكة صغيرة تتوسع بالتدريج في حدود البلدة ذاتها، وتبدأ من المحلي إلى القطري في شبكة علاقات تتوسع حتى في السجون الإسرائيلية ومن خلال "الأعمال الإجرامية". وهذا طبعاً من دون إغفال أهمية سهولة الحصول على السلاح الموجود في البلدات العربية بكثرة، فقد صرّح وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، أنه بين سنتَي 2014 و2015، فُتح في الشرطة الإسرائيلية ما يعادل 2500 قضية لها علاقة بالسلاح غير المرخص، وطبعاً مع الإشارة إلى أن هذا السلاح هو نفسه الذي وقع في يد الشرطة. ومع تعمق هذا التحول، دخلت إلى مجال الإجرام فئات كثيرة: محامون معروفون لشبكات الإجرام التي لا تلجأ إلاّ إليهم، وهم ذوو علاقات جيدة مع الادعاء، فضلاً عن أنهم يحصلون على مبالغ خرافية من النقود تصل إلى ملايين الشواقل، ويستطيعون الانتظار حتى خروج المتهم، الأمر الذي يجعله مديناً لهم، وهم بدورهم مدينون لعائلات إجرام أكثر؛ رؤوس أموال تدفع تكاليف القضاء بدلاً من المتهم في مقابل الحماية من المتهم ذاته. وطبعاً، تبدأ رويداً رويداً عملية توسيع المجالات لتشمل المخدرات وسرقة السيارات بصورة خاصة، بحيث تصبح البلدات العربية في الداخل سوقاً يباع فيها كل ما تحظر إسرائيل بيعه قانونياً. [1] انظر: "إحصائيات ضحايا القتل في الوسط العربي حتى يوم 2 / 5 / 2018"، "أمان ـ المركز العربي للمجتمع الآمن"، في الرابط الإلكتروني التالي: https://goo.gl/9P7t7B [2] انظر: ضياء حاج يحيى، "6 ضحايا عرب في جرائم القتل منذ مطلع العام"، "عرب 48"، في الرابط الإلكتروني التالي: https://goo.gl/R97K1X [3] الأرقام مستقاة من تقرير لمراقب الدولة الإسرائيلي، بعنوان: "تعامل الشرطة مع قضايا العنف وحيازة السلاح في مناطق سكن المجتمع العربي"، وهو يتطرق إلى الفترة 2014 ـ 2016. [4] المصدر نفسه. [5] نوعا شبيغل، "فتح أكثر من 500 تحقيق في عملية إطلاق نار منذ 2015، ستة لوائح اتهام تقدّمت"، "هآرتس" (بالعبرية)، 27 / 12 / 2017، في الرابط الإلكتروني التالي: https://www.haaretz.co.il/news/law/.premium-1.5223438 [6] "عدد سكان أم الفحم تجاوز 54 ألف نسمة"، "عرب 48"، 16/ 1 / 2018، في الرابط الإلكتروني التالي: https://goo.gl/xArBGK [7] النسب هذه مستقاة من تقرير عبري صادر عن لجنة الأبحاث التابعة للكنيست، بعنوان: "معطيات بشأن العنف في المجتمع غير اليهودي"، يتطرق إلى الفترة 2014 ـ 2016، ومتوفر في الرابط الإلكتروني التالي: https://fs.knesset.gov.il/globaldocs/MMM/c3f72047-fcb6-e611-80ca-00155d0... [8] الحلّيصة هو حي عربي في مدينة حيفا، يقع على مدخل المدينة الشمالي مباشرة، وهو من أكثر الأحياء انتشاراً للجريمة بين أحياء حيفا العربية. وللاطلاع أكثر على سيرة الحي وظروف الحياة فيه، انظر: "حيفا: الحليصة حي على هامش المدينة"، "عرب 48"، 4 / 3 / 2015، في الرابط الإلكتروني التالي: https://goo.gl/x3V7zh