نال فيلم "حُمّى البحر المتوسط" العديد من الجوائز وإعجاب المشاهدين والنقاد، وشكّل بنجاحه هذا نقطة انطلاقة إضافية إلى الفيلم الفلسطيني الدرامي. وسأحاول في هذه المقالة مقاربة العمل من خلال أدوات التحليل النفسي، قاصراً إياها على سردية الفيلم. وأنا لم أتطرق إلى الدور النسائي في الفيلم، لأنه يتميز بسوء التشخيص: الطبيبة تخطىء في تشخيص المرض؛ المعالِجة النفسية لا تتمكن من اكتشاف نية الانتحار لدى المريض؛ الزوجة تشخّص علاقة وليد بجلال على أنها علاقة صداقة تحسّن من شعور زوجها؛ الأم تتحدث عن ترميم البيت بينما هناك حاجة إلى ترميم علاقتها بزوجها.
لقطة من فيلم "حُمّى البحر المتوسط" لبطلَيه عامر حليحل بدور وليد، وأشرف فرح بدور جلال. والفیلم من إخراج مھا الحاج
النقلة الضرورية: تقاطع الجغرافيا والتاريخ واشتباك الذاتي بالعام
تمثل زيارة بطل الفيلم مع ابنه (الذي يعاني أوجاعاً في البطن) لعيادة الطبيب، النقطة المفتاحية وعقدة العمل الدرامي، والتي بتفكيكها نستطيع الولوج إلى أعماق السردية الروائية للسيناريو واستخراج اللؤلؤ من محاره. الطبيب العربي غائب اليوم، ويدعى (يا للمصادفة) ياسر، وتحل مكانه الطبيبة الروسية القادمة الجديدة، وهي التي تشخّص حالة الطفل وتطلق عليها اسم: "حُمّى البحر المتوسط"، وهو الاسم الذي سيغدو عنوان الفيلم.
إن هذه الحركة الذكية ترفع العمل من مصاف الذاتي إلى العام، وتوحد أحداثه في كلّية واحدة. لدينا هنا غياب وحضور: العربي غائب، المستوطن حاضر. والآخر الحاضر هو مَن يفرض التسميات، وهو مَن يسمي الأشياء، وهو الذي يرفع الدلالة، والدالّ هنا هو السيد / المستوطن الذي تنضوي تحته سائر الاستعارات والمجازات والمعاني. وسيتبيّن لنا لاحقاً أن غياب الطبيب العربي هو استعارة لغياب المشروع الوطني.
حُمّى البحر الأبيض المتوسط هي مرض وراثي ذاتي الالتهاب يسبب ارتفاعاً متكرراً في درجة الحرارة والتهاباً مؤلماً في البطن والصدر والمفاصل. ويصيب المرض العرب واليهود الشرقيين والأكراد والأتراك والأرمن، وجيناته تحمل بصمات جغرافيا تتقاطع مع التاريخ الضارب في القدم: الحروب والسبي والهجرة والاحتلال. وهو بهذا مرض يمكن القول عنه إنه جغرافي - تاريخي. إن حضور هذا المرض المُحمّل بالتاريخ والجغرافيا يحيلنا إلى الذات والواقعي، ويضع الذات أمام الواقعي، وفق المفهوم الذي وضعه المحلل النفسي الفرنسي لاكان (Lacan)؛ أي الواقعي بصفته موضوع القلق والصدمة، حين "تنعدم أمامه كل الكلمات وتفشل جميع المقولات."[1] إن هذا البعد الواقعي هو ما يجثم على شخوص الفيلم، وإزاء هذا الواقعي تتلعثم الذوات وتصاب بالحَبسة (عدم القدرة على الكلام).
الحَبسة
جميع الشخصيات الذكورية الرئيسية في الفيلم مصابة بعدم القدرة على إتيان الكلام المفيد المعبّر عن الذات الحقيقية المتكاملة مع نفسها والقادرة على القيام بالفعل المنتج وتحقيق الوجود. فالجد (الفنان يوسف أبو وردة) مغيّب تماماً أمام الحضور الطاغي للجدة، وهو منذ زمن بعيد يكتفي بالسعال تعبيراً عن ضيقه، ويتذمر من الاحتفال بعيد ميلاد زوجته الباذخ! لمَن؟ لابنه الكاتب المصاب بـ "الاكتئاب". وهذا الجد لا يعبّر عن ذاته إلّا من خلال التورية بخفة ظل عن سيقان زوجته عندما كانت أصغر سناً؛ خفة ظل تخفي خفة حضور، فهو غير قادر على الاحتجاج على تدخينها السيجارة في غرفة مغلقة وهو المصاب بالسعال المزمن، وقد قرر الموت حياً. إنه والد الأب المهمش وليد، والذي تعرض للإذلال مرتين: مرة من زوجته،[2] ومرة لأنه يُسأل دائماً: "لماذا تركتَ الحصان وحيداً يا أبي"، كونه من جيل النكبة.
نحن إزاء عُصاب أُسري متوارث بأبعاده المتعددة: الحفيد مصاب أيضاً بالحَبسة ولا يستطيع التعبير عن حالة الضيق النفسي التي تصيبه في درس الجغرافيا مع مدرّسته التي تؤنبه لاستخدامه تسميات الأمور بمسمياتها: فلسطين والقدس. وهو يعبّر عن هذا الضيق بألم جسدي، ليس بالضرورة هروباً من الحصة المدرسية، بل إن الامر أبعد من هذا: فالابن سر أبيه. إنه يتماهى مع حقيقة الحالة النفسية لوالده وليد ويكشفها.
وليد: اكتئاب وسوداوية أم حداد؟
وليد أيضاً مصاب بالحَبسة، فمنذ عامَين لا يستطيع أن يكتب روايته ويطبعها، وهو مثلما يقال لنا، مصاب بـ "الاكتئاب". إن مفتاح تحليل الحالة النفسية لوليد هو ما يزودنا به ابنه، من خلال هذا التماهي معه والمُعبّر عنه بألم جسدي؛ الابن هو مَن يكشف حالة الفقدان التي يعانيها والده، ويضع أيضاً، من خلال التشخيص المغلوط فيه لحالته، حالة والده في سياقها المادي الملموس. وهنا سأقتبس ما كتبه فرويد عن "الحداد والسوداوية":
الحِداد هو عادة ردة فعل على فقدان شخص محبوب، أو أمر مجردٍ ما، يحل محل هذا الشخص المحبوب، كالوطن، والحرية، أو المثل الأعلى، وهكذا. وهذا الأمر يثير لدى بعض الأشخاص حالة من السوداوية (ميلانخوليا) بدلاً من الحداد، ونحن بالتالي نحدد هذه الحالة على أنها استعداد مرضي.[3]
إذاً، حالة وليد النفسية تتجلى لنا في سياقها الموضوعي، أي في سياقها التاريخي - الجغرافي، أبعد ممّا يكون عليه الاكتئاب النمطي للفرد في المجتمع البرجوازي، هذا الاكتئاب الذي يجري تعليبه وتغليفه لينضوي تحت اقتصاد تسويق الأدوية. لهذا، هو نوع آخر من أنواع الحمى الشرق الأوسطية! فنحن أمام حالة من الحداد الوجودي على فقدان الوطن في "عالم ليس لنا"؛ عالم غادره المعنى وهُزمت فيه الروح.
إن حالة الـ "لاجدوى" التي يعيشها وليد تشتبك مع نقيضها، أي مع إحساسه بكلّية القدرة المتمثلة في شعوره بالإثم، وفي مسؤوليته عن موت والدة صديقه في المشهد الأول (والذي يبدو للوهلة الأولى كأنه من خارج السياق)؛ هذا الصديق الذي يجاهد كي يقنعه بأنه غير مسؤول عن موت والدته. وقد يبدو أن الأمرين: الإحساس بالـ "لاجدوى" والإحساس بكلّية القدرة، متناقضان، لكنهما يجتمعان في شخصية بطل لوكاش الإشكالي، البطل التراجيدي الذي يذوِّت الوعي الممكن[4] للجماعة، متحملاً المسؤولية ومعبّراً عنه. غير أن هذا التذويت يبقى هنا ساكناً في اللاوعي، ومنكفئاً إلى اغتراب وجودي. والاغتراب هنا هو شكل من أشكال التعويض عن فعل المقاومة المفترض وجودها أمام الفقدان المستمر ما دامت الذات لم تُتمم فعل حدادها. أمّا الذات هنا، فموجودة في حداد متصل متجدد ينام ويصحو متنقلاً بين شاطىء بحر حيفا وقصف غزة. وهذا الحداد حداد وجودي للجماعة، يختلف عن حداد الذات الفردية الذي يمكن تتميمه في معظم الحالات من خلال طقوس الموت والدفن والحداد، فيتم إدراج فقدان الشخص المحبوب في سجل عالم الذات الرمزي، بالانتقال بعد إتمام طقوس الحداد إلى عالم الواقع المعاش.
إن هذا الحداد غير المكتمل هو ما يلقي بوليد إلى لجّة سديم السوداوية التي لا مخرج له منها إلّا بالتدمير الذاتي من خلال فكرة الانتحار أو الموت على يد قاتل أجير. وعلينا أن نرى في فكرة الانتحار أنها دفاع أخير في وجه الجنون، مثلما سنرى لاحقاً.
يضع كل من فرويد ولاكان، على الرغم من اختلاف التأويل الجوهري بينهما، هاملت شكسبير أنموذجاً للسوداوية وضرورة الحداد ومراوحة الذات المترددة بين الفعل والانكفاء. فهاملت في المشهد الثاني من الفصل الثاني للمسرحية يصف[5] الحالة النفسية التي ألمّت به من دون أن يدري سببها، إذ إنه فقد مرحه وانطوى على ذاته لا يمارس أي رياضة، ولم تعد زرقة السماء بنجومها، ولا الأرض بطبيعتها وخيراتها، تعنيان له شيئاً، كما أنه لا يجد لذة في الإنسان ولا في المرأة، فهذان ليسا إلّا تراباً.
إن ادعاء عدم المعرفة هو جزء أساسي من الشعور بالسوداوية، لكن هاملت يعرف بالتأكيد مَن قتل أباه واستولى على العرش وتزوج أمه. فهذه المعرفة المكبوتة والمنفية إلى اللاوعي، هي التي تحتاج إلى التعبير عنها بفعل الكلام الكامل.[6] فطيف والده المغدور يدفع هاملت نحو الهذيان، ويسمم له عقله، فيراوح متردداً بين قتل عمه ليثأر لموت أبيه وخيانة أمه وبين قبوله وإذعانه للملك الجديد، أي بين الإخلاص لبنوّته وبين ولائه للمملكة.
هاملت، في الحالة التي نحن بصددها، ضروري بصفته الأمير الذي فقد أباه، وهو موضوعه المحبوب، وحُرم من عرشه ومملكته؛ وهو ضروري لفهم كامل الحالة النفسية لذات وليد، لكنه غير كافٍ بهذه الصيغة وحدها. فالسوداوية هي فشل الذات في استيعاب فقدان الموضوع المحبوب وتضمين قيمه في تكوين الأنا العليا (بصفتها وكيل الآخر داخل الذات)، غير أن الذات المستعمَرة، وفق الناقدة والمنظرة الهندية رانجانا خانا،[7] غير قادرة على المرور بالحداد على فقدانها ثقافتها وقومها، لأن هيمنة المستعمر الفكرية غدت غير مرئية لها، فضلاً عن أنها، بصفتها ذاتاً مستعمَرة، تبقى خارج المنظومة الرمزية المستعمِرة. لهذا تحاجج رانجانا خانا وتنتقد هؤلاء المنظرين الذي يتصورون أن الصيغ المفهومية النمطية التي يقترحها بعض المحللين النفسين لفهم الذات البرجوازية في عصر الحداثة وما بعدها، هي غير قابلة للتطبيق بالكامل على الذات المستعمَرة، ذلك بأن للذات التابعة تاريخاً آخر مغيّباً.
إن صورة غسان كنفاني المعلقة كالأيقونة على جدار مكتب وليد تستدعي بطلاً مشابهاً لوليد لكن مع مصير مختلف. ففي روايته "عائد إلى حيفا" يستطيع بطله سعيد تَمَثّل الفقدان بشكل مختلف. يزور سعيد مسقط رأسه حيفا وبيته ويلتقي بطفله الذي تُرك في البيت تحت وطأة حالة الهلع والهروب من المدينة فور سقوطها؛ غير أن المدينة لم تعد مدينته ولا البيت بيته ولا الابن ابنه، إنه الآن ضابط في الجيش الإسرائيلي. إزاء هذا اللقاء مع الواقعي الصادم "يرتد سعيد إلى الوراء.. دوار مفاجىء يعصف به.. حلم طويل ممطوط وكابوس لزج يفرش نفسه فوقه كأخطبوط هائل."[8]
ينتقل سعيد سريعاً من حالة الصدمة والفقدان المتجسد بكليته في هذا اللقاء الصادم مع الواقعي، ويخرج من حالة الحداد، مُذوّتا قيمة الموضوع المفقود على شكل سؤال استنكاري: "أتعرفين ما الوطن يا صفية؟ الوطن ألّا يحدث ذلك كله [....] إن الوطن بالنسبة لنا مجرد شيء تحت غبار الذاكرة.. الوطن هو الماضي.. أمّا خالد فالوطن عنده هو المستقبل."[9]
تنتهي الرواية بأمنية سعيد بأن يكون خالد قد التحق بالمقاومة. وما ينقذ سعيداً كذات من الانزلاق إلى حالة السوداوية والموت حيّاً هو مشروع بناء الوطن. وهكذا، يغدو تمثُّل الحداد، والتماهي مع الموضوع المحبوب التعويضي، أي مع الوطن المُؤمثل، هما المنقذ له من السقوط في السوداوية التي سقط إليها وليد.
جلال
إذا كان وليد هو الذات التي تراوح بين المعرفة وعدم المعرفة، فإن جلال هو الذات التي تشوه المعرفة. هو ذات المستعمَر التي تختار أن تُغيِّب معرفتها الحقيقية بأن تختار إقصاءها إلى مضارب اللاوعي، أمّا ما تُظهره من معرفة فهو وعيها المشوه. وبحسب لاكان فإن "إدراك المشوه ليس بالجهل، بل إنه يمثل تنظيماً معيناً لتوكيدات وإنكارات ترتبط الذات معها."[10]
هذا الوعي المشوه يتم التعبير عنه بالاستهزاء من الانتماء الوطني، وبالخفة في تناول مسائل الواقع المعاش، غير أن الوعي المشوه في موضوعنا هو ضرورة وجودية، ومهمته الحفاظ على نوع معين من تماسك الذات أمام عوامل انحلالها، إلّا إن هذه هي ذاتُ التابع (subaltern)، والتابع لا يستطيع الكلام.[11]
التابع لا يستطيع التعبير عن ذاته إلّا بوساطة آخر، ولهذا يلجأ وليد إلى حيواناته يؤنسنها. فالحداد تهتم به كلبته بحيث تغدو هي "الخنساء"، وهو لم يعد بحاجة إلى البكاء، لأن خنساءه تبكي الفقدان عنه، وإذا لم يكفِ هذا فإنه يلجأ إلى الكحول ورفيقه الأخطل حيوانه الآخر. إن أنسنه الحيوانات هذه هي بديله من الكلام، وسبق أن قلنا إنه مصاب بالحَبسة كسائر رجال الفيلم. وهذه المبالغة الحركية والكلامية في إظهار أنه يشعر بأنه في بيته هي في حقيقة الأمر تعبير عن اغترابه. ففي عالم فقد المعنى يكون السقوط إلى دوامة الإجرام أسهل الطرق للهروب من هذا الفقدان المضاعف. وأمام اضمحلال الذات وتفسّخها يستدعي جلال حمار دير قرنطل الذي قرر الانتحار. يمنح جلال الحيوان ذاتاً ووعياً ذاتياً، وإدراكاً للموت والماضي والمستقبل يقوده إلى وضع حد لحياته هرباً من التعب. فهل هذه محاولة جلال الأخيرة لطلب النجدة؟
وليد وجلال
كان لقاء الاثنين كارثياً، وقد كشف عن خيانة وليد وهشاشة جلال: "لا يوجد بين شخصين سوى الكلام أو الموت"،[12] وهزيمة الكلام الحقيقي المعبّر هو ما يميز هذه العلاقة بين الاثنين، والتي تنتهي بموت أحدهما. فبينما يجد وليد حلاً يفصّله على مقاسه هارباً نحو السوداوية، وبدلاً من أن يتمثل الفقدان، مثلما فعل سعيد في رواية غسان كنفاني بالانضواء تحت لواء مشروع الوطن، فإن وليد يكتفي بالتعبير اللفظي من دون الانخراط الحقيقي.
يصرح وليد في وجه جلال: "بتعرف شو مشكلة الفلسطينيين؟ مشكلتهن الجاهلين اللي مثلك." وإذا كانت الرسالة دائماً تعود معكوسة إلى مرسلها، مثلما يدّعي لاكان، فإن رسالة وليد هذه لجلال يجب أن تُقرأ بشكل معكوس: "مشكلة الفلسطينيين هي أمثال وليد." فالعلاقة التي ينسجها وليد مع جلال تتسم بالاستعلاء والتسفيه والحطّ منه على الرغم ممّا يبديه جلال من انفتاح وأريحية ومساعدة. وبدلاً من أن يحاول وليد فهم ظروف جلال وتفهّمها، وعلى الأقل الاستماع إلى مواجعه، وبدلاً من أن يعرض عليه المساعدة، فإنه يبقى منطوياً على ذاته متلذذاً بمرضه وسوداويته اللذين يُقعدانه عن تحمّل مسؤوليته الاجتماعية الأولية، إن لم نقل مهمته التاريخية. فالمفروض ممّن يُعلّق على حائط مكتبته صورة غسان كنفاني ويدّعي انتماءه إلى فلسطين أن يعي بشكل مختلف مهمته التاريخية. غير أن الأمر يتجه إلى أن يتخلى وليد عن ذاته، وأن يطلب من جلال أن يغتاله في مقابل المال. هذا الطلب الموجّه إلى جلال يقضي على ما تبقّى لذات جلال من تماسك.
يمثل وليد لجلال، وهو المثقف الذي يدّعي الانتماء إلى القضية، الآخر الكبير.[13] لكن عندما يكتشف جلال أن هذا الآخر الكبير ليس كبيراً، بل مجرد آخر مصاب بالهلع وبالسوداوية ويطالب بالموت، يغدو وليد مجرداً من المعنى، وفارغاً فاقداً لمكانته. وهنا، تجتمع بقية الكرامة التي يحتفظ بها جلال لذاته في وجه مطلب وليد منه أن يغدو قاتلاً أجيراً، وهي بقية تطالب بحقّها في الوجود الذي ثمنه انتحار حاملها. وانتحار جلال هو "الانتقال إلى الفعل"[14] التام، وخروج من المشهد ومن حلبة الآخر الكبير الفاقد للمعنى.
جلال هو التابع الذي يتكلم بالموت، ووليد هو المثقف اللاعضوي.[15] وحُمّى البحر المتوسط هي إذاً غياب المشروع الوطني التحرري.
المصادر:
[1] عن مفهوم الواقعي لدى لاكان، انظر: ديلان إيفانس، "معجم تمهيدي لنظرية التحليل النفسي اللاكانية"، ترجمة هشام روحانا (دمشق: دار نينوى للدراسات والنشر، 2016)، ص 383.
[2] تمثل الأم بالنسبة إلى وليد "الأم الفالوسية"، أي الأم التي تحتفظ بالفلوس لنفسها؛ إنها مَن تنفّذ الخصاء لزوجها ولوليد.
[3] James Strachey, in collaboration with Anna Freud, The Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud, Volume XIV (1914-1916): On the History of the Psycho-Analytic Movement, Papers on Metapsychology and Other Works (London: The Hogarth Press, 1957), p. 243.
[4] بشأن البطل الإشكالي والوعي الممكن، انظر: فيصل درّاج، "نظرية الرواية والرواية العربية" (بيروت: المركز الثقافي العربي، ط 1، 1999)، الفصلان الأول والثاني عن جورج لوكاتش ولوسيان غولدمان على التوالي.
[5] وليم شكسبير، "مأساة هاملت أمير الدنمارك"، ترجمة وتقديم جبرا إبراهيم جبرا (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 5، 1979)، ص 88 – 89.
[6] الكلام الكامل أو الممتلىء يشير لدى لاكان إلى نوع محدد من الكلام ينطق عن الرغبة في لحظة محددة. ولمزيد من التفصيل بشأن هذا الموضوع، انظر: إيفانس، مصدر سبق ذكره، ص 305 - 308.
[7] Ranjana Khanna, Dark Continents: Psychoanalysis and Colonialism (Durham and London: Duke University Press, 2003), pp. 231-269.
وانظر بصورة خاصة الفصل المعنون بـ "هاملت في الأرشيف الاستعماري" (Hamlet in the Colonial Archive).
[8] غسان كنفاني، "عائد إلى حيفا" (بيروت: منشورات الرمال، 2015)، ص 74.
[9] المصدر نفسه، ص 77.
[10] إيفانس، مصدر سبق ذكره، ص 386.
[11] Donna Landry, Gayatri Spivak, Gerald MacLean (eds), The Spivak Reader: Selected Works of Gayati Chakravorty Spivak (New York; London: Routledge, 1996), p. 289.
تفرّق سبيفاك بين فعل الكلام (to talk) والحديث (to speak)؛ فالكلام هو فعل لفظي إنساني يدل على المستعمَر في مقابل المستعمِر. وانظر أيضاً: شكسبير، مصدر سبق ذكره.
[12] مصطفى صفوان، "الكلام أو الموت، اللغة بما هي نظام اجتماعي: دراسة تحليلية نفسية"، ترجمة مصطفى حجازي (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ومركز دراسات الوحدة العربية، ط 1، 2008)، ص 87.
[13] الآخر الكبير لدى لاكان هو: الغيرية المطلقة؛ اللغة؛ القانون؛ المعنى. وعن هذا المفهوم انظر: إيفانس، مصدر سبق ذكره، ص 48.
[14] يمثل الانتقال إلى الفعل لدى لاكان خروجاً من الشبكة الرمزية إلى تحلل الذات وإلى اللحظة التي تتحول فيها الذات إلى موضوع صرف. للتوسع انظر: المصدر نفسه، ص 80.
[15] المثقف العضوي لدى غرامشي هو الذي يقوم بمهمة تاريخية ثورية من أجل إعادة إنتاج الوعي لدى الفئات المهمشة المستغلة.