Covering Palestine
Special Feature: 
Full text: 

توطئة

تزامنت الحرب التي صبّت آلة الحرب الاستعمارية الصهيونية فيها جام قوتها على قطاع غزة، في إثر إعلان معركة "طوفان الأقصى" البطولية التي بدأت في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، مع حرب من نوع آخر؛ حرب لفرض سيطرة الكلمة في ساحات الإعلام. فبينما كانت الحرب مستعرة في الثغور كلها، كانت رحاها تدور كذلك على مستوى الرواية في مختلف ساحات الإعلام، لتشتد وتستعر بالتوازي مع اشتداد الحرب على غزة. وكانت "حروب الإعلام" في عدة ساحات، ما بين داعمة للمقاومة وبوق ضدها، تأخذ موضعها من المناقشة والتحليل. فبقدر ما كان حاضراً، خلال المعركة، نقاش بشأن "الحروب الإعلامية" بين ماكينة الإعلام الصهيونية والإعلام العربي وإعلام الناشطين والمتضامنين من مناصري القضية الفلسطينية، بقدر ما غاب عن هذا النقاش التناول النقدي لدور الإعلام الرسمي للسلطة الفلسطينية. ويبدو الأمر كما لو أن مناقشة دور الإعلام الرسمي الفلسطيني، سيفسَّر كأنه محاولة لزيادة فتق الشقاق الفلسطيني/الفلسطيني، أو الاصطفاف إلى جانب طرف فلسطيني في مقابل طرف فلسطيني آخر، وهو ما لا يحتمله الوضع في حينه. وثمة تفسير آخر لهذا الغياب عن ساحة النقاش، يمكن إحالته إلى التوقعات المسبقة التي بُنيت بشأن هذا الخطاب من تجارب سابقة، وخصوصاً خلال الحروب والاعتداءات الصهيونية المتواصلة على غزة والشعب الفلسطيني والشعوب العربية. فواحد من ملامحه هو محدودية سقفه أو عدم مقدرته على الارتقاء إلى مستوى توقعات الفلسطينيين، أكان الأمر يتعلق بشعورهم الجمعي بالقمع والإهانة اللذين يتعرضون لهما يومياً، أم بشعورهم بالانتصار مثلما حدث في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023.

ويمكن بشكل أولي عزو استثناء الإعلام الرسمي من "مشهد المتابعة"، سواء تلك المتعلقة بمناقشته تساؤلاً وتحليلاً، أو تلك المتعلقة بمتابعته الفعلية، من خلال تفسير سلوك المتابع (فلسطينياً أو غير فلسطيني) عند لحظة الاندهاش الأولى في إثر وقوع حدث جلل في فلسطين. إذ سيعمد المتابع إلى البحث في القنوات الإعلامية لمعرفة تفصيلات الحدث من دون أن يتبادر إلى ذهنه التوجه مباشرة إلى الإعلام الرسمي الفلسطيني الذي يفترض به أن يكون صوت الواقع فلسطينياً، إذ ترسَّخ في ذهنه أن الإعلام الرسمي لن يلبّي فضوله المعرفي، ولا حماسته العاطفية، ولا التعبير عن صوته الوطني. وهذه إجمالاً قاعدة عامة في مختلف وسائل الإعلام العربية الرسمية وشبه الرسمية، التي لا يعبّر خطابها عن نبض الشارع ولا يستجيب له، بل في كثير من الأحيان لا يعبّر عمّا يجري على الأرض إلّا عبر حقائق مجتزأة، تدفع بالمتابع نحو وسائل إعلام أُخرى سعياً لاستكمال الحقائق. وقد لخص الأديب السوري محمد الماغوط هذه المسألة بلغة مبدعة في مسرحيته الشهيرة "ضيعة تشرين" عندما قال على لسان الفنان دريد لحام: "افتاح الراديو على لندن تنشوف شو في أخبار عنّا"، وطبعاً مع ضرورة الالتفات إلى حقيقة اختلاف المشهد الإعلامي عند لحظة كتابة الماغوط للمسرحية، والنهضة الإعلامية التي يشهدها العالم العربي اليوم بوسائطه كافة.

ومع ذلك، لا تحول حقيقة عدم مقدرة الإعلام الرسمي الفلسطيني على غزو قلوب المتابعين من دون الاعتراف بأهمية هذا الإعلام وخطابه، فهو أولاً وأخيراً يقدّم السردية الرسمية الفلسطينية المعترف بها دولياً؛ ثانياً هو الإعلام الذي يمكن من خلاله قياس ردات فعل الرسمية الفلسطينية ومواقفها؛ ثالثاً هو الإعلام الذي يمكّن المتابع من التقاط حجم الدعاية والترويج اللذين توظّفهما المؤسسة الرسمية لخدمة "مشروعها" من خلالهما؛ رابعاً، يدل على حجم التمثيل أو الإقصاء لمكوّنات العمل الوطني الفلسطيني من خطاب الرسمية الفلسطينية؛ خامساً، وهو الأهم، يوضح حجم التغطية الرسمية لـ "فلسطين"، أو التغطية على "فلسطين"، وهو موضع النقاش في هذه المقالة. 

"تغطية" أم "تغطية"؟

عندما كتب إدوارد سعيد كتابه "تغطية الإسلام"[1] كان يهدف إلى توضيح كيف أن مصطلح "الإسلام" عامة، أصبح دمغة أو وصمة تعميم أيديولوجي في الغرب الذي عمل عبر وسائل إعلامه على تجريد الإسلام وإعادة تصويره وتحديد خصائصه ليصبح معروفاً في الغرب مثلما يريد هذا الغرب تعريفه ومعرفته. لقد وضع سعيد الخطاب الإعلامي الغربي موضع تدقيق ونقد، مستحضراً كيف أن "سياسة الكلمة" يمكن أن تغلق آفاقاً، وكيف يمكن أن تفتح متنفّسات خطابية أُخرى. ولعل من المفيد لنا اليوم، وفي ظل مجريات المعركة البطولية لـ "طوفان الأقصى"، إعادة استدراج تلك العلاقة ما بين الإعلام وفعل التغطية الإعلامية وخطابيته داخلياً من خلال التوقف عند مصطلح "التغطية" في عمل الإعلام الرسمي ومتابعته للمعركة، فنفهم كيفية تغطية فلسطين وإعادة تصويرها كما تريد الرسمية الفلسطينية تعريفها وتقديمها. ونحن لن نكون معنيين هنا بتحليل السياسات الإعلامية الغربية التي قيل فيها الكثير عندما يتعلق الأمر بـ "إسرائيل" كمستعمرة. فهذه السياسات الموصومة بالتماهي الأبيض - الأبيض، أو باختزال الحقائق بتبريرها بأنصاف الحقائق، أو حتى عبر تمرير الكليشيهات العاطفية باعتبارها حقائق موضوعية، جميعها أساليب نوقشت في كيفية التغطية الغربية للمنطقة العربية عامة، وللقضية الفلسطينية خاصة، بحيث تنتصر سردية أو وجهة نظر على الحقيقة وتفرض سطوتها عليها. ما يعنينا هنا، هو فهم كيف تغطي "التغطية" الإعلامية الرسمية لأحداث معركة "طوفان الأقصى" على فلسطين، وكيف تلقي بطبقات جديدة من أنصاف الحقائق على الحقيقة الأم الأولى، وتدفنها تحتها؛ أي كيف تدفن فلسطين، ناساً وأرضاً وحكاية، تحت خطاب رسمي ما زال متمسكاً بدبلوماسية الكلمة في وجه آلة الحرب والعنف الاستعمارية الصهيونية ومناصريها واعتذارييها، ولا يفتح آفاق الحرية إلّا عبر التضييق على خطاب التحرر الوطني والعالمي.

ذلك هو المفهوم الأول للتغطية. أمّا المفهوم الثاني، فهو الأكثر تداولاً، إذ تحضر في العمل الإعلامي، وخصوصاً في لحظات الأزمات والحروب، العبارتان الشهيرتان: "التغطية مستمرة"، أو "التغطية المباشرة"، أي المتابعة الآنية لمجريات الأمور وتطور الأحداث. وتعني أيضاً نقلها وتعميمها على جمهور المتابعين والمعنيين، فتزودهم بالمعلومات أو "الحقائق". وضمن هذا السياق، سيكون مصطلح "نقل الحقيقة" هو الآخر مصطلحاً شائعاً أيضاً، ذلك بأنه شعار أساسي في مهنة الإعلام وعند الإعلاميين، ويُعدّ معياراً قيمياً للحكم على مهارة ومهنية الإعلامي ووسيلة الإعلام التي ينتمي إليها. لكنه في الوقت ذاته مصطلح إشكالي، لأنه يخضع دائماً لمبضع النقد، ولا سيما أن "الحقيقة" دخلت هي الأُخرى عالم الـ "ما بعد"، أي عالم بات يعترف بـ "ما بعد الحقيقة" كقيمة يحلّ فيها التضليل محل الصدقية، والرأي مكان المعلومة، والانتماء الضيق مكان الانتماء العام إلى الأوطان والقضايا المبدئية.

هنا، ستصبح "تغطية الحقيقة" هي "تغطية على الحقيقة"، وسيصبح معنى "التغطية" مرادفاً لكلمة "الإخفاء" أكثر من كونه يعني إعلامياً الإظهار أو المتابعة والكشف. وستكون الواقعة المغطاة إعلامياً طريقاً للتغطية على طبقات من الحقائق المدفونة تحت سياسات الكلمة التي تُخفي أكثر ممّا تُظهر، بحيث تصبح "التغطية" السياسية والإعلامية، في السياق الفلسطيني، مترادفتين في تعريف فعل عدم الإظهار، بل تأكيد فعل "الإخفاء". 

الإعلام الرسمي الفلسطيني: ما يغطيه فيغطيه

ينقل تلفزيون فلسطين، ووكالة الأنباء الرسمية "وفا"، في بثّ حي ومباشر، وقائع جلسة مجلس الوزراء الفلسطيني بتاريخ 30 تشرين الأول / أكتوبر 2023. وفي صورة لافتة لأعضاء الهيئة الوزارية، يظهر رئيس الحكومة، محمد اشتيه، مترئساً الاجتماع، وفي الخلفية ملصق ضخم مطبوع عليه قائمة بأسماء الشهداء الذين قضوا في غزة حتى تاريخه، وتتخلل جزأه العلوي، وباللغتين العربية والإنجليزية، عبارة: "الشهداء لهم أسماء وعائلات وبيوت وأحلام" (Martyrs Have Names, Families, Homes & Dreams). فهذه الصورة تقول شيئاً كثيراً عن السيميائية السردية للخطاب الإعلامي الفلسطيني الرسمي الذي يحيل الأمور ويحوّلها من موضع إلى موضع آخر باستخدام المشهدية الاستعمارية نفسها التي يعيشها الفلسطيني. غير أن الخطاب الرسمي يتغاضى عنها ويعمل على تحويرها، فيعمد إلى ترسيخ معنى ما عبر الخلط بين دلالتين إحداهما صادقة والأُخرى مضللة، في انسجام مع المقولة الخلدونية[2] بأن العلامة، والتي هي هنا صورة أسماء الشهداء، يتم نقلها من صورة إلى أُخرى، وإعادة تصويرها وإنتاجها. فما الذي يتم تحويره وتغطيته أو قلبه في هذا المشهد؟

الجواب فاضح عندما نتقن فهم خطاب الإعلام الرسمي، والذي يستبعد أساساً فعل الشهداء ويدينه، بل لا يعترف به طريقاً للتحرير في خطابه الرسمي. وهنا، يجري تحويل رِفعة الشهداء إلى بلاغة ناعية وفرجوية تعتمد على ملصق أصمّ مصحوب بخطاب إنشائي يفتتح به رئيس الحكومة جلسته الأسبوعية.[3] وفي روتينية أدائية يتم اختزال المصطلحات والتعاريف وكل مشهد قتل بكلمات تريد تسوّل العاطفة تجاه السياسي الفلسطيني وبرنامجه للتسوية أكثر من دفع العاطفة إلى مسارب الفعل المقاوِم الحقيقي الذي يجعل الحلم الفلسطيني الأول القاضي بالتحرير حلماً متعيِّناً. فالخطاب الرسمي يتقن تفريغ المشهد من مضامينه بما له من مقدرة على تحوير سياق زاخر بالتضحيات إلى بلاغة خطابية، ويعمد إلى توظيفه كأداة تسويق انتهازية واستغلالية من أجل تمرير فهم الرسمية الفلسطينية للحل السياسي الذي لن تنجزه إلّا المقاومة الفعلية التي لا يمكن حصرها بـ "السلمية". ويجري توظيف الشهيد واسمه وحلمه وبيته وعائلته، كجزء من خطاب دبلوماسي استغاثي يستجدي عطف الآخر الغربي الذي يصطفّ إلى جانب العدو، ليضيف هذا الاستغلال طبقة أُخرى من الظلم فوق الظلم الأول الذي لحق بالفلسطيني منذ النكبة الكبرى المستمرة منذ سنة 1948. أي أن هذا الاستغلال سيكون متضارباً مع فهم الفلسطيني في حياته وبعد استشهاده، للفكرة التي يحافظ عليها لمعنى البيت والحلم والاسم والعائلة، وهو المعنى اللصيق بمعنى الهوية وأفق امتدادها تاريخياً إلى الوراء 75 عاماً، ومستقبلاً إلى الأمام بمساحة كاملة فوق فلسطين التاريخية.

وعلى الرغم من صدقية عبارة أن للشهداء أسماء وعائلات وأحلاماً وبيوتاً، فإنها عبارة توظّفها الرسمية الفلسطينية للتغطية على عبارة أهم فحواها أن لهؤلاء الشهداء وطناً. فهي تغطي على سؤال أكبر: "أين وطن الشهداء؟"، وتتجاور مع سؤال آخر: "ما هو شكل هذا الوطن؟" ذلك هو سؤال الشهداء الذين يعودون في الحروب كلها ليسألوا: "هل لنا اليوم وطن؟" هل "سنذهب إلى الوطن لتكون لنا أحلام وعائلات وبيوت؟". يختفي "وطن الشهداء" في الخطاب الإعلامي الرسمي، لأنه يختلف عن "وطن الرسمية الفلسطينية" المختزَل الحدود في سنة 1967، والمختزَل الحلول في حل مجحف يتغاضى عن مظلومية الفلسطينيين وشهدائهم، وقائم على "حل الدولتين".

سيظل الشهداء يعودون ويذهبون إلى لا مكان مثلما قال فيصل درّاج،[4] لأنهم لا يستطيعون العودة إلى وطنهم، ولا يستطيعون استبداله بأقل منه، وهو ما لا يستطيع الخطاب الرسمي الفلسطيني بلاغة وسياقاً تقديمه للشهداء. ففي قمة الهرم السياسي الفلسطيني، وفي خضم الحرب والارتفاع التصاعدي لأعداد الشهداء، تصدر تصريحات تنشرها وكالة "وفا"، لتصبح الصيغة الناظمة المكرورة لكل موقف سياسي رسمي فلسطيني خلال المعركة، وفحواها: "أن السلام والأمن في منطقتنا يتحقق من خلال تنفيذ حل الدولتين المستند لقرارات الشرعية الدولية، واستعداد الجانب الفلسطيني للعمل من أجل تحقيق هذا الهدف، وضرورة وقف جميع الاعتداءات واحترام القانون الدولي الإنساني في ما يجري بقطاع غزة."[5]

وبينما تبدو المساحة الجغرافية لحل الدولتين التي تتحدث عنها الرسمية الفلسطينية كافية سياسياً بالنسبة إليها، فإنها تبدو غير كافية بالنسبة إلى قوافل الشهداء. فمواكبهم التي لم تتوقف عن التكرار والحضور في مسيرة لا انقطاع لها منذ 75 عاماً، هي بمثابة عودة مستمرة لقول بليغ عن رفض بتر جغرافيا فلسطين التاريخية التي تحرَّك فيها الشهداء طولاً وعرضاً مرسِّخين بدمائهم مساحتها بأجسادهم، وحكايتها بحكايتهم، وأنينها بصرختهم الأخيرة في وجه الكون وخالقه: "أشهد أن لا إله إلّا الله"، كي تكون دماؤهم حلقة الوصل الأولى بزمن فلسطين الأول، مساحةً وجغرافيا وقصصاً عن بيوت وأحلام حقيقية كانت في الأمس وستكون غداً، من دون أن يجري تركيبها واصطناعها في عبارات البلاغة الرسمية الانتهازية التي تغطي على حكايتهم الأصلية. 

خطاب مبتور من دون سياق

إن المراقب المهتم بالخطابية الرسمية الفلسطينية، يُجبر نفسه على الجلوس قسراً لمتابعة وسائل الإعلام الرسمية، وتحديداً تلفزيون فلسطين، فـ "التغطية المستمرة"، هي بحد ذاتها لافتة. فخلال ساعات البثّ الصباحية والمسائية، يحترف التلفزيون الرسمي "تغطية" (إخفاء) مشاهد المجازر والدمار اللذين لحقا بغزة لحظة التغطية. كما يقوم الخطاب الإعلامي على بكائية تقول كثيراً عن مسألة مهمة، وهي احتراف بتر المشهد عن سياقه الحالي ضمن سياق معركة "طوفان الأقصى"، في الوقت الذي يجري تحويله إلى مشهد من دون السياق الأعم الذي تعيشه فلسطين كجغرافيا تحت الاستعمار الصهيوني الذي لن تنتصر عليه إلّا المقاومة المسلحة، ولن يجدي معه خطاب "اِحمونا" في وجه محرقة غزة واستباحة فلسطين وشعبها.

يجري التركيز بشكل كبير على حجم المعاناة الإنسانية في قطاع غزة نتيجة تحويلها إلى مربعات من الدمار وقصص من المآسي. كما يجري التركيز على تزايد أعداد الشهداء وانتشار جثامينهم في الطرقات وأُخرى تحت الركام، وعلى الوضع الصحي الكارثي الذي ينذر بانتشار الأوبئة، وعلى عجز ما يصفه تلفزيون فلسطين بــ "المجتمع الدولي"، عن وقف العدوان على قطاع غزة، وعلى دور الدبلوماسية الفلسطينية بمختلف مستوياتها السياسية، وبمحاولاتها ومساعيها لوقف العدوان وربطها بضرورة التوصل إلى حل سياسي شامل تعود فيه الرسمية الفلسطينية إلى "نفوذها" الذي يحدده العدو لها على غزة التي لحق بها وبأهلها الدمار الإبادي لآلة الحرب الصهيونية وحلفائها الغربيين الذين تستجديهم السلطة الفلسطينية وتصافح أيدي ممثليها الموغلة في دم الفلسطينيين الذين اعتصموا بالمقاومة وخيارها لكسر حصارهم والدفاع عن دارهم. وفي الشريط الإخباري في أسفل الشاشة، يعرض التلفزيون عدة محطات إخبارية، بين الضفة الغربية وتطورات الأحداث فيها، وساحات التضامن مع غزة، وحالة الطقس!

وفي هذا السياق، تبدو التغطية شاملة ومتكاملة، وتقدم سردية متماسكة عن الحرب بتفصيلاتها الدقيقة ولحظاتها الآنية، لكنها في الحقيقة لا تغطي على قضايا محورية وأساسية فحسب، بل على قضايا هي في صلب الحرب اليوم أيضاً، وفي صلب التعريف الفلسطيني لمعنى الفعل السياسي،[6] وهو العمل المقاوم وفعل المقاومة. فهذه التغطية تقدم للفلسطينيين مشاهد من غزة لا تحمل غير المأساة والدمار منذ أول حرب شُنّت عليها في سنة 2008، بعد عام من تولّي حركة المقاومة الإسلامية/ حماس حكمها في السنة السابقة، بل يبدو واضحاً أن صوت المقاومة وصورتها غائبان تماماً: فعلاً وخطاباً وإنجازاً. فبينما زخرت شاشات الفضائيات ووسائل الإعلام بمختلف وسائطها بالمقاطع المصورة وبتصريحات الناطقين الإعلاميين باسم المقاومة، وخصوصاً أبو عبيدة الناطق باسم كتائب الشهيد عز الدين القسّام، وأبو حمزة الناطق باسم "سرايا القدس"، تبدو هذه المساحة في الإعلام الرسمي مساحة بيضاء فارغة، ربما يتم ملؤها فقط ببعض التغطيات القصيرة عن وقوع اشتباكات في الضفة الغربية، أو المواجهات عند "نقاط التماس"، أو وقوع اجتياحات للمخيمات التي لا تزال على عهد الوجود والمقاومة.

ومع ذلك، ربما يكون من المفيد الإشارة إلى "تقدم - تراجع" الإعلام الرسمي في التعامل مع المقاومة عقب تتبّع مقاطع متنوعة من التغطية الإعلامية لتلفزيون فلسطين في أول أيام الحرب وما تلاها. فقد حضر خطاب المقاومة بشكل واضح، وفقط، في اليوم الأول من المعركة، اليوم الذي تفاجأ فيه الجميع وذهل، فلم يتمكن حتى التلفزيون الرسمي من تجاوز خطابها. فكان التلفزيون الرسمي تقريباً يسمي الأشياء بأسمائها، فالمقاومة هي مقاومة وليست "إرهاباً"، وما كان يسميه "إسرائيل" عاد وسماه "فلسطين المحتلة عام 1948"، كما يرد في الشريط الإخباري تعريف المستوطنين بـ "المستعمرين".[7] لكن في اليوم الثاني للمعركة، بدأت تختفي وتتراجع المقاومة تحت كلمات ولغة عادت لتنسجم مع لغة الرسمية الفلسطينية. فمع أن الحدث الأساسي ببدء العدوان الصهيوني على غزة كان متزامناً مع استمرار مقاتلي المقاومة في الاشتباك داخل المستعمرات التي تحاصر "قطاع غزة"، والتي كانت أرضها المحتلة من قبل جزءاً من "لواء غزة" قبل الحكم المصري، إلّا إن تلفزيون فلسطين بدأ حينها بتعريف المقاتلين المشتبكين باستخدام مصطلح "الشبان"، فها هو مذيع تلفزيون فلسطين يقول: "مازال عدد من الشبان يتحصنون في عدد من المستوطنات... التي دخلوها يوم أمس."[8] بعد ذلك، وعلى ما يبدو، جرى تصويب كلمة "الشبان" بحيث حلّت محلها، كلمة "المسلحين"، بينما أشارت مراسلة تلفزيون فلسطين من قطاع غزة، ثم المذيع المصاحب لها في أثناء التغطية، إلى "صواريخ المقاومة" واصفين إياها بـ "المقذوفات"؛ تقول المراسلة: "الانفجارات تخرج كما ذكرت من أكثر من اتجاه [....] من ذات المشهد الذي بدأ الساعة السادسة والنصف صباحاً وهو خروج المقذوفات من المحافظات الجنوبية."[9]

في الأيام التالية، قام الإعلام الرسمي، بما فيه تلفزيون فلسطين، ووكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"، وكذلك صحيفة "الحياة الجديدة"، الصحيفة الرسمية للسلطة الفلسطينية، بإقصاء صوت المقاومة خارج نطاق التغطية. ويلاحَظ كيف تراجع تماماً التقدم الضئيل لخطاب المقاومة داخل الخطاب الرسمي، بل سيختفي تماماً كل اصطلاح يتعلق بالمقاومة وتعابيرها، وستعود مصطلحات وكلمات الرسمية الفلسطينية إلى مكانها، لتستمر في العمل خارج السياق الفلسطيني بما هو سياق مستعمَر، مقزِّمة إياه في سياق "الاحتلال". وستدور الكلمات في فلك ثنائية المحتل والواقع تحت الاحتلال، وليعبَّر عنها بـ "أفعال" اللغة التي تقسم العلاقة ما بين عنف "المحتل" وضحيته الفلسطينية.

يستحضر الخطاب الرسمي "أفعال" اللغة العربية ضمن هذه الثنائية. فالأفعال التي تعرّف العنف الاستعماري توضع كلها في سياق عنف الاحتلال، الذي: "يقتحم؛ يجبر؛ يعتقل؛ يقصف؛ يهدد؛ يشنّ؛ يستهدف؛ يطلق؛ يقذف؛ يعتدي؛ يصيب؛ يمنع؛ يقطع؛ يرتكب؛ يُغِير؛ يهاجم؛ يفجر؛ يحاصر؛ يبيد؛ يُرهب." أمّا الأفعال التي تستحضر ضحية الاحتلال فإنها تزجّ الفلسطيني في خانة "المفعول به"، وإن كان أساساً هو "فاعل" مشهد يفترض المواجهة مع عدوه كنقطة انطلاق لفهم العلاقة الاستعمارية، فالفلسطيني: "يُشيّع؛ يُفجَع؛ يعزّي؛ يموت؛ يرتقي؛ يصاب؛ يودّع؛ يصرخ؛ يعاني؛ يُباد؛ ينتشل؛ ينعي؛ ينجو؛ ينزح؛ يتظاهر؛ يستنكر؛ يدين؛ يحترم؛ يلتزم؛ يسائل."

ولذا، فإننا نفهم من أفعال اللغة المتعلقة بالفلسطيني في الخطاب الرسمي أن هنالك دائماً فعلاً أسبق على الفعل الواقع على الفلسطيني الذي يكون فعله محصوراً دائماً في فعل من الدرجة الثانية، أي "لا فعل" أو "انفعال"، وغير قادر على أن يكون فاعلاً، مع أن مشهدية معركة "طوفان الأقصى" كسرت تحنيط الأفعال في توابيت لغة السياسي، وأخرجت الفعل المقاوم منها ووضعته في سياقه الاستعماري الأشمل، إلى سياق الحرية والتحرر. فقد تمكّن الفلسطيني، وليس للمرة الأولى، أن يكون فاعلاً مذهلاً في سياق أعاد تصويب مشهدية فلسطين بالكامل، دافعاً سؤال "لماذا حدث ما حدث في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023؟" إلى سؤال معرفي أكبر عن فلسطين تحت الاستعمار، أرضاً وناساً وحكاية لا يمكن "تغطيتها" بالخطابية الرسمية، لأن فلسطين هي شمس الوضوح المطلقة.

 

المصادر:

[1] إدوارد سعيد، "تغطية الإسلام: كيف تتحكم وسائل الإعلام الغربي في تشكيل إدراك الآخرين وفهمهم"، ترجمة سميرة نعيم خوري (بيروت: دار الآداب، ط 1، 2011).

[2] انظر عن تعريف ابن خلدون للسيميائية في: عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون، "مقدمة ابن خلدون" (بيروت: دار الجليل، د.ت.)، ص 550.

[3] انظر الصفحة الرسمية لرئيس الحكومة محمد اشتيه للاطلاع على خطابه في أثناء جلسة مجلس الوزراء المشار إليها، في الرابط الإلكتروني.

[4] فيصل دراج، "إلى أين يذهب الشهداء؟"، في: فيصل دراج، "بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية" (بيروت: دار الآداب، 1996)، ص 7 - 11.

[5] انظر: وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"، في الرابط الإلكتروني

[6] بشأن الفعل السياسي الفلسطيني انظر: رولا سرحان، "نمطان من السياسة"، صحيفة "الحدث الفلسطيني"، العدد 196 (أيلول / سبتمبر 2023).

[7] انظر موقع تلفزيون فلسطين في تغطيته لليوم الأول من معركة طوفان الأقصى، في الرابط الإلكتروني.

[8] انظر تغطية تلفزيون فلسطين لليوم الثاني من معركة طوفان الأقصى، في الرابط الإلكتروني.

[9] انظر تغطية تلفزيون فلسطين لليوم الثاني من معركة طوفان الأقصى، في الرابط الإلكتروني.

 

Author biography: 

رولا سرحان: مؤسسة ورئيسة تحرير صحيفة "الحدث الفلسطيني"، ومرشحة في برنامج الدكتوراه في العلوم الاجتماعية في جامعة بيرزيت.