مفهوم التحرر في منظار الثقافة النقدية الفلسطينية، 1948 - 1994
ماهر الشريف
بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2022. 220 صفحة.
هذا الكتاب هو آخر إصدارات المؤرخ والباحث الفلسطيني ماهر الشريف، وفيه يستكمل مساهماته البحثية السابقة في حقل الدراسات الثقافية والنقدية، وقد اعتمد فيه بصورة رئيسية على المنهج الوصفي، إذ يتناول عيّنة من المثقفات والمثقفين الفلسطينيين النقديين من مشارب متعددة، فيقتبس من أقوالهم، ويربط بينها، ويعلق عليها.
ينقسم الكتاب، إلى مقدمة وخمسة فصول وخاتمة، ونظراً إلى صعوبة تلخيصها، وشرح التباينات في مواقف المثقفين النقديين، فإنني سأكتفي بتبيان أبرز النقاط التي تطرّق إليها الشريف، وخصوصاً أن تلك التباينات ليست كثيرة، علماً بأن هؤلاء المثقفين في الإطار العام، يكادون يكونون متفقين فيما بينهم.
استهل الكاتب المقدمة بسؤال: "هل ينبغي لنا إرجاء التحرر المجتمعي إلى ما بعد إنجاز مهمات التحرر الوطني، أم إن السعي لتحقيق مهمات التحرر المجتمعي هو شرط نجاح النضال من أجل التحرر الوطني؟" (ص 1)، وهذا السؤال إشكالي لم تجب عنه بحسم الحركة الوطنية الفلسطينية، إذ انقسمت بين مَن يعطي الأولوية للتحرر المجتمعي، وتعميق الديمقراطية في أطر منظمة التحرير (حركات اليسار مثلاً)، وبين مَن يرى أولوية التحرر الوطني (حركة "فتح" مثلاً). وهذا الجدال ربما كان مقبولاً قبل أوسلو، لكن بعد قيام السلطة وتسلّمها مهمات إدارة المجتمع، بات لزاماً على الحركة الوطنية الإجابة عن هذا السؤال. وهنا أوضح الشريف أن التيار النقدي اعتبر أن التحرر المجتمعي شرط أساسي للتحرر الوطني، وقبل نيل الاستقلال (ص 1).
ورأى الشريف "أن المثقف النقدي [....] هو ذاك الذي رفض أن يكون آلة في يد السلطان" (ص 3)، وأن أول واجبات المثقف في أوقات المحن هو أن يحسّ بالأزمة ويحياها، وأن يحدد تحت وطأتها فهمه لوظيفته التي تتمثل في تبيّن الحقّ وتبنّيه.
تناول الفصل الأول تصور المثقف النقدي لدوره المجتمعي وعلاقته بالسياسة، وفيه اعتبر الشريف أن تاريخ الثقافة الفلسطينية هو تاريخ حافل بالالتزام (ص 15)، مستعرضاً كوكبة من المثقفين والأدباء الفلسطينيين في مرحلتَي ما قبل النكبة وما بعدها، ممّن أنتجوا أدباً مقاوماً لا ينوح ولا يستسلم، وإنما يمتاز برؤية بعيدة عن الارتجال والعاطفية، وبوعي عميق ومسؤول لأبعاد الصراع، مشيراً إلى أن هذه النخبة من المثقفين الفلسطينيين التزمت العمل المنظم، وانخرطت في منظمة التحرير نتيجة التداخل الموضوعي بين الطليعة الثقافية والطليعة السياسية، وبسبب حاجة الحركة الوطنية إلى المثقفين (ص 16).
في الفصل الثاني أكد الشريف خصوصية الهوية الوطنية الفلسطينية ودور الذاكرة في حفظها، وتعددية العناصر التي تكوّنها، وضرورة إبرازها سياسياً، والحقّ في سرد الرواية الفلسطينية التاريخية، وأيضاً إعلاء شأن العمق العربي للثقافة الفلسطينية، والإيمان بأهمية التفاعل الحي بين الثقافات المتعددة، ونبذ فكرة وجود ثقافة صافية (ص 76).
أشار الشريف إلى عجز المجتمع العربي عن فهم ما سمّاها عقدة الغرب ومواجهة التحديات العالمية، ورأى أن شرط الالتحام بالحضارة الإنسانية هو "التغلب على شعورنا بالنقص تجاه الغرب والغربيين، والسعي لفهم ذاتنا، أي هويتنا، وتاريخنا، وواقعنا ومستقبلنا" (ص 80)، وأن جذور النكبة تعود إلى التأخر الحضاري العربي، وما أحرزه الصهيونيون من نصر ليس مردّه تفوّق قوم على قوم، وإنما تميُّز نظام من نظام، فجذور الصهيونية متأصلة في الحياة الحديثة، خلافاً للواقع العربي المتخلف عن ركب الحضارة.
الفصل الثالث يبحث في مضامين التحرر وسبل بلوغه، مثلما استوعبها المثقف النقدي الفلسطيني، وخصوصاً مقاربته ظاهرة الحداثة، على مستوى البنية الفوقية الفكرية والبنى التحتية المادية، ودعوته إلى ضمان الحريات الفردية والجماعية وتكريس الديمقراطية، باعتبارهما محور عملية التحرر التي لا تحدث دفعة واحدة، وإنما تكون محصلة سياق طويل من التبدل والتغيير في مجالات البنية التحتية المادية، وفي المؤسسات الاجتماعية، وفي الممارسة السياسية (ص 92).
وأوضح الكاتب أن المثقف الفلسطيني يرى أن المجتمع الفلسطيني شأنه شأن بقية المجتمعات العربية، وإن بدا حديثاً في شكله ومظاهره المادية، إلّا إنه في حقيقته مجتمع تقليدي أبوي، تحكمه علاقات ما قبل الحداثة: الهيمنة الأبوية؛ العصبية؛ العشائرية؛ الولاء الطائفي؛ قمع الفرد؛ تحقير المرأة؛ بينما يتسم المجتمع الحداثي بصفات جوهرية أهمها العقلانية والعلمانية والمعرفة العلمية والمنهجية المنتظمة (ص93 - 94).
ويتناول هذا الفصل أيضاً نظرة المثقف النقدي إلى تحرر المرأة كقضية مجتمعية، فهذا المثقف يعتبر هذه المسألة مرهونة بتفكيك النظام الأبوي، وبأن تحرر المرأة ينطلق من منظور تحرري شامل، فكري وإنساني، وبالتالي فإن إرجاء تحرير المرأة يعني إرجاء تحرير الوطن (ص 101).
ورأى الشريف أن المقاومة الشعبية، خلال انتفاضة 1987، أوجدت ديمقراطية شعبية، وأعادت ترتيب العلاقة بين المرأة والرجل وبين الأب والأبناء، ومنحت المرأة مساحة أوسع لتتحرك ضمنها. لكن بعد أوسلو، شرعت تتشكّل حركة نسوية جديدة اعتمدت على التمويل الخارجي، واستبدلت المتطوعين بالموظفين، وركّزت على القضايا الاجتماعية على حساب القضايا الوطنية. غير أن تعزيز قدرة المرأة اقتصر على تمكينها اقتصادياً، لا على تمكينها من مقاومة الاحتلال (ص 105).
الفصل الرابع تناول الصهيونية، معاداة السامية، والتطبيع الثقافي، مركزاً على نقد المقولات الأساسية التي تبنّتها الحركة الصهيونية، ومفنداً طبيعتها العنصرية، ومحتواها الديني المختلط بالخرافات الدينية، وموضحاً تحالفاتها التي نسجتها مع المراكز الإمبريالية، وضرورة التمييز بين اللاسامية وبين انتقاد ودحض الرواية الصهيونية وممارسات إسرائيل (ص 143 - 155).
وفي مسألة التطبيع الثقافي، أشار الكاتب إلى أن محمود درويش اعتبر أن الثقافة الفلسطينية بعمقها العربي قادرة على احتواء الثقافة الإسرائيلية الغريبة وهضمها (وفق قانون التطور الحضاري)، وأن الحضور الفلسطيني هو العدو التاريخي للصهيونية، إذ يجعلها عاجزة عن توظيف انتصاراتها العسكرية، ويعطي النصر الصهيوني صفته الحقيقية وهي "هزيمة الانتصار" (ص 163 - 164).
ولفت الشريف إلى أن أنيس صايغ كان أكثر حدّة في مقاربته للتطبيع الثقافي، إذ إنه يرى أن التطبيع "مرض، بل وباء مُعدٍ، تمتد سلبياته إلى عموم أنحاء الوطن العربي الواحد [....] بل هو أخطر من الغزو العسكري" (ص 166).
في الفصل الخامس تناول الكاتب كيفية تصوّر المثقف النقدي لحل الصراع على الأرض الفلسطينية، وبيّن أن إدوار سعيد يرى أن جوهر القضية يكمن في حق العودة، وأن الصراع ليس صراعاً متّسق الأطراف بين شعبين لديهما حقوق متساوية، بل بين طرف معتدٍ ومذنب ضد طرف ضحية، وأنه من دون العدالة لن يتحقق السلام، وعلى الإسرائيليين أن يتحملوا مسؤولية ما فعلوه بالفلسطينيين (ص 174). أمّا هشام شرابي، فيحذر من تحويل الصراع من مجابهة قومية إلى مجابهة دينية (ص 175)، بينما يعتبر أنيس صايغ أن الصراع هو عبارة عن تناقض مركزي بين نقيضَين: الحقّ العربي، والأطماع الصهيونية (ص 176).
وقد اتخذ المثقفون النقديون موقفاً واضحاً في معارضة أوسلو، لأنه تسبب بتفكيك القضية الفلسطينية وتجزئة الفلسطينيين، كما أنه أضعف وحدانية تمثيل المنظمة للشعب كله، وأضعف دور الشتات (ص 177 - 183).
تناول الشريف الحلول التي تصوّرها المثقفون للصراع، والتي بيّنت تفاوتاً في اقتراحاتهم، واتفاقاً على الطابع السلمي لتلك الحلول، إذ لا يجب أن تكون عسكرية بل سياسية (185)، كما أن البديل من أوسلو هو مقاومة الاحتلال والاستيطان، وإعادة بناء الإنسان الفلسطيني في الوطن والشتات. وقد اقترح المثقفون بديلاً من حل الدولتين، هو حل الدولة الواحدة "ديمقراطية علمانية، أو دولة ثنائية القومية" (ص 188).