لغتي هويّتي: نحو سياسة لغوية شمولية
لمواجهة تحديات اللغة العربيّة في إسرائيل
محمد أمارة
كفر قرع: دار الهدى؛ عمّان: دار الفكر، 2020. 306 صفحات.
ينضم هذا الكتاب إلى سلسلة من الدراسات الأكاديمية العديدة كمّاً وكيفاً، والتي أجراها البروفسور محمد أمارة عن اللغة العربية في المجتمعَين العربي واليهودي في موضوعات: المكانة الرسمية والقانونية للغة، وتدريسها في المجتمع اليهودي في جهاز التعليم والمؤسسات الأكاديمية، وسياسة التربية اللغوية، وموقعها في المشهد اللغوي، إلى غير ذلك من موضوعات. لكن الكتاب الذي بين أيدينا يختلف في طرحه ونهجه عن الدراسات السابقة بأمرين: الأول، أن الكتاب موجّه الى الإنسان العربي المثقف الذي يسعى لأن تكون لغته العربية هي اللغة الأساسية في حياته الفردية، وذلك لتعزيز هويته الفردية والجمعية داخل مجتمعه؛ الثاني، تشخيص حالة اللغة العربية، وعرض برنامج مفصل وشمولي كحل لتغيير الوضع القائم. وقد بيّن أمارة تحقيق ذلك بقوله: "حرصت على وصف السياقات والاستراتيجيات التي ترتبط باللغة العربية، وطرح التحديات ومواجهتها وذلك من خلال رؤية منهجية وعلمية، ابتغاء بناء سياسة لغوية شمولية. لن أكتفي برسم خطوط عريضة للقيام بالتغيير، وإنما سأقترح خطوات عملية بنّاءة لما يسمى إدارة اللغة. كل ذلك من منطلق أن اللغة هي مؤشر هام للهوية الفردية والجمعية، وأن اللغة قادرة على إنتاج معرفة أصيلة" (ص 18).
يشتمل الكتاب على تسعة فصول وخاتمة، تعاين قضية اللغة العربية في إسرائيل من خلال أربعة محاور، وفق الترتيب التالي:
المحور الأول: يتكون من الفصل الأول والمقدمة، وهما المادة النظرية التي تشكل البنية الأساسية للطروحات الرئيسية التي اعتمدها الكتاب: الأيديولوجيا، والسياسات، وإدارة اللغة.
المحور الثاني: من الفصل الثاني حتى الفصل الخامس، ويناقش وضع اللغة العربية في إسرائيل من عدة زوايا. يتناول الفصل الثاني التغيرات التي مرّت بها اللغة العربية تاريخياً في فلسطين منذ الفتح الاسلامي إلى أن نشأت دولة إسرائيل، ومدى حضورها وحيويتها في المشهد الإسرائيلي على ضوء دخول اللغة العبرية، ففي ظل الصراع العربي - الإسرائيلي يرى كثيرون من الإسرائيليين في اللغة العربية لغةً عدوة. ويفحص الفصل الثالث السياقات الداخلية والإقليمية المؤثرة في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل، وانعكاس ذلك على اللغة العربية. فبعد نكبة 1948 انقطع الفلسطينيون عن محيطهم العربي، ووقعوا تحت وطأة الحكم العسكري، لكن هذا التواصل عاد بعد هزيمة حزيران / يونيو 1967، وبدأ الانكشاف على اللهجات العربية عبر وسائل الإعلام. وفي الوقت نفسه، دخلت العبرية المخزون اللغوي الفلسطيني وبقوة، كونها اللغة المهيمنة على المجالات العامة اقتصادياً وثقافياً. ويعاين الفصل الرابع النسيج اللغوي الفلسطيني الذي أصبح مركباً ومتنوعاً، إذ تمازجت فيه عدة لغات وعلى رأسها العبرية. ونتيجة ذلك، نشأت لهجة وسطى تدعى "العريربيّة" (مزج العبرية في العربية المحكية)، كما دخلت الإنجليزية هذا النسيج كناقلة للثقافة الغربية بتأثير العولمة، لكن اللغة العربية بقيت حيّة كلغة قومية وثقافية تُستعمل في كثير من مجالات حياة الإنسان العربي الفلسطيني. أمّا الفصل الخامس فيتناول سياسة التربية اللغوية تجاه الناطقين باللغة العربية، إذ يتعلم الطلاب في جهاز التعليم ثلاث لغات في آنٍ واحد على التوالي: العربية والعبرية والإنجليزية. وفي المدارس الخاصة يتعلمون أيضاً اللغة الفرنسية، الأمر الذي يساهم في تعزيز الشراكة بالمعرفة والوعي اللغوي، ويجعل العربي إنساناً متعدد اللغات والثقافات.
المحور الثالث: يتكون من الفصلين السادس والسابع، ويتناول التحديات اللغوية التي تجابه اللغة العربية. فالفصل السادس يرصد التحديات التي جابهت ولا تزال تجابه اللغة العربية، مثل الازدواجية اللغوية، واللهجات المحلية، والاستعمار، وهيمنة اللغات الأجنبية والتبرج اللغوي، وينتهي بوصف التحديات الخاصة التي تجابهها اللغة العربية في إسرائيل كالعبرنة، والعصرنة (التطور التكنولوجي)، والعولمة. أمّا الفصل السابع فيعالج مسألة مواجهة التحديات المذكورة آنفاً. ويرى المؤلف أن العرب قادرون على مواجهة هذه التحديات من خلال الاستعمال المكثف للغة العربية وجعلها لغة الحيّز العام في الوظائف والمجالات كافة.
المحور الرابع: يتكون من الفصلين الثامن والتاسع، ويقدّم حلولاً عملية. فالفصل الثامن يتمحور حول إدارة اللغة من خلال استخدام اللغة العربية على نطاق واسع وشمولي: في البيت، والمؤسسات المحلية (الحارة؛ المسجد؛ الكنيسة؛ وسائل الإعلام؛ الحيّز العام المحلي؛ الحكم المحلي)، وعلى المستوى الإقليمي والمحلي. أمّا الفصل التاسع فيركز على إدارة اللغة من خلال المدرسة، وعبر الناشطين في الممارسات اللغوية بهذا الحقل، وهم أساساً الطلاب، وكذلك المعلمون، والأهالي، والحكم المحلي ووزارة المعارف عبر سياستها اللغوية نحو المجتمع العربي ولغته.
وفي الخاتمة، يؤكد أمارة أن إسرائيل تتعامل مع اللغة العربية من منظور استعماري استعلائي بغية إضعافها وإقصاء العرب الفلسطينيين عن مشروع الأمة الإسرائيلية. إن هذا الوضع يفرض على الفلسطينيين أن يكونوا واعين لهويتهم القومية وثقافتهم العربية، الأمر الذي يتحقق عبر اللغة العربية، ذلك بأن حفظ هذه اللغة يضمن حفظ الهوية والذاكرة الجمعية.
إن القيمة الإضافية للكتاب لا تكمن فقط في الجانب النظري، وهو مادة غزيرة بالمفاهيم اللغوية الحديثة، تثري الباحثين وطلبة العلم على حدٍّ سواء، بل في الجانب التطبيقي أيضاً. وفي اعتقادي، فإن هذا الكتاب يُعدّ رائداً في تشخيص التحديات التي تواجه اللغة العربية في إسرائيل، والمفتاح لحل هذه التحديات هو بناء تربية لغوية شمولية تكون اللغة العربية فيها هي السائدة في المشهد اللغوي. فاللغة العربية في إسرائيل هي لغة تمكين، ولغة الذاكرة الجماعية والهوية القومية لأنها لغة حيّة ونابضة، لها وجودها وبقاؤها على الرغم من التحديات التي تعصف بها. ومن أجل المحافظة عليها يقترح أمارة ترسيخ ثلاث أساسيات:
الأول: تذويت أهمية اللغة العربية الفصحى المعاصرة، وتعزيز مواقف العرب الفلسطينيين الإيجابية تجاهها، لأنها صالحة وقادرة على أن تكون لغة علمية وعملية ونفعية، وهذا ضمن الأيديولوجيا اللغوية.
الثاني: اللغة العربية العامية والعربية الفصحى ليستا في حالة صراع، وإنما هي حالة من التنوع اللغوي.
الثالث: توفير الظروف المساعدة لاستخدام اللغة العربية بأبعادها ومختلف مستوياتها في جميع المجالات التي تؤثر في استخدام اللغة.