بشير مخول وغوردن هون. "الفن الفلسطيني المعاصر: الأصول، القومية، الهوية". إعداد وتحرير ومساهمة روان شرف. ترجمة عبد الله أبو شرارة. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2020. 279 صفحة.
ربما أصبح من الطبيعي أن نشاهد فناً فلسطينياً لنبحث عن خصوصيته التي لا تنفصل عن السؤال عن القومية، بل من المميز أن ينطلق بحث أو دراسة ما من الفن نفسه لدراسة علاقة هذا الفن المعاصر بسؤال أصوله ومنشئه، لأن معظم الدراسات النقدية والكتب الفنية قلّما ينطلق من الحاضر لرؤية المستقبل أو الماضي. لذلك يأتي هذا الكتاب الذي نحن في صدد مراجعته، بمثابة دراسة نقدية عن أسئلة المنشأ والقومية من خلال دراسة الفن المعاصر.
فما معنى فن، وما معنى فلسطيني؟ وكيف يعمل الفن والنكبة والمنشأ في عملية إنتاج الفن الفلسطيني المعاصر؟ هذه الأسئلة / المصطلحات (التي تنصهر معاً) وغيرها يسألها الباحثان، وتستمر على طول الدراسة لتقول لنا إن الفن الفلسطيني يسأل بنفسه الأسئلة الخاصة به، ويجيب عنها بطرق متنوعة ويضعها أمامنا لأن الفن المنخرط في إنتاج مصطلح الفلسطيني هو "فن متورط في إنتاج السياق الخاص به"، مثلما يذكر الباحثان في الفصل الأول.
لكن كيف نحدد بداية هذ الفن؟ ربما يكون ذلك هو "مشكلة البداية" التي استحوذت على مقدمة الكتاب، والتي يميزها إدوارد سعيد عن المنشأ، في أنها تتطور في أي اتجاه، وتشكل نقطة عودة محتملة، بينما المنشأ لا يمكن الانفصال عنه ويكون ثابتاً ومهيمناً.
قضية المنشأ والبداية كانت قضية خلاف بين مؤلفَين أحدهما فنان فلسطيني هو كمال بُلّاطة الذي ألف كتاب Palestinian Art: From 1850 to the Present الذي صدر عن دار الساقي في لندن (2009)، والآخر مؤرخة فن إسرائيلية هي غانيت أنكوري التي ألّفت كتاب"الفن الفلسطيني" قبل بُلّاطة بثلاثة أعوام. يرى الباحثان أن ذلك الخلاف على الاختلاف على سنة 1948، أمر مهم رمزياً، مع أنهما يتفقان على اعتبار سنة النكبة حدثاً مهماً في التاريخ الفلسطيني، وفي الإنتاج الثقافي أيضاً. لذلك، وبحسب إدوارد سعيد، فإنه يمكن للنكبة أن تكون منشأ وليس بداية بقدر ما تستمر في الهيمنة على ما ينبثق منها، غير أن حدوث تطور ثقافي مهم يجعلها بداية أيضاً.
ليس هناك أجوبة جاهزة في هذا العمل بقدر ما هناك معالجة فنية ونقدية ونظرة تحاول أن تطرح تلك الأسئلة الخفية بوضوح، فأنا دائماً ما كنت أسأل عن علاقة الفن الفلسطيني بالنص والكتابة، ولا سيما أن العودة إلى اللغة والنص كانت هاجساً عند الفنانين الفلسطينيين، وخصوصاً مصطفى الحلاج. وقد وجدت في هذا الكتاب أن تلك الأسئلة هي جزء مهم من "مشكلة البداية"، لأن طروحات الفن الفلسطيني كان يكتبها فنانون فلسطينيون ليسوا مؤرخين، ولذلك يعتبر الباحثان أن تلك الظاهرة لها علاقة بأهمية الكتابة والنص في الفن الفلسطيني. ومن هنا اتكأ الفن البصري على الأدب والمكانة المبجلة للكلمة، في حين أنتج الفنانون الفلسطينيون سياقهم الخاص، وهذا هو منشأ الفن الفلسطيني مثلما ينتجه الفنانون. فقد استلهم مصطفى الحلاج من الأساطير الكنعانية، بينما استجاب فنانو التحرر في الستينيات، كإسماعيل شموط وسليمان منصور، جزئياً لنداء الأدب لكتّاب مثل غسان كنفاني، ولأشعار محمود درويش التي احتلت مكانة مهمة في التعبير البصري، وأيضاً لأعمال فنانين آخرين.
ويبدو أيضاً في الفصل الأول المعنون بـ "مأزق المنشأ"، أن هذا المنشأ يتضح في ذلك التمفصل بين الحدود، بين ما هو فلسطيني وما هو إسرائيلي، فالحدود هي أشكال داخلية من الفصل العنصري على الأرض، وتظهر تجليات ذلك الأمر في مفهوم الآخر في "الجدار". لكن سؤال الفن في موضوع الحدود ليس عبور الحدود فقط، بل معايشة أوضاعها مثلما يُظهر عمل الحوراني "بيكاسو في فلسطين" الذي صمم وخطط لعملية اقتراض لوحة "جذع امرأة" لبيكاسو من متحف فان آبي في آيندهوفن في هولندا، وكان المشروع في كلّيته مشروعاً لربط الحدود من أجل التعامل مع المشكلات الأمنية والقانونية، وقد نجح في عرض اللوحة التي أحضرت معها جوها الخاص، مؤكدة عالمية الفن. أمّا "الجدار"، فيشكل تجلياً من تجليات القمع الإسرائيلي، على غرار مصطلح فلسطين / إسرائيل الذي يقوم بعملية الفصل لكنه يلحم الفكرتين معاً. وتأتي الأعمال الفنية لكثير من الفنانين لتبيّن ذلك، ومن أبرزها غرافيتي للفنان مجد عبد الحميد الذي رشّ بشكل عشوائي الحروف المكونة لإعلان استقلال فلسطين على جدار بين رام الله والقدس، وهو الإعلان الذي صاغه محمود درويش في سنة 1988. وهنا نرى أن الجدار يدمر اللغة كنَفْيٍ كامل لأي شكل من أشكال الاتصال.
أمّا الكارثة التي تشكل جزءاً من المنشأ، والتي يعالجها الفصل الثاني المعنون "المنشأ والكارثة" فإنها تكتب أسئلتها في حكاية "الصمت" الذي ذكّرني بأشياء كثيرة أيضاً كلاجئة، فقد تدرّبتُ على الاستماع إلى القصص، كأنها جزء من الكارثة. لكن المثير للاهتمام أن إدوارد سعيد لاحظ كيف يتصادف وجود الصمت في الأماكن الانتقالية للاجئين عندما يثار موضوع النكبة، كأن اللاجىء لا يريد أن يقول ماذا حدث، ويكتفي بسرد قصص عن ماضي الحياة في فلسطين من دون التطرق إلى تفاصيل النكبة. ويعود الباحثان إلى الأدب مرة أُخرى لتتبّع موضوع الصمت الذي يظهر في رواية "رأيت رام الله" لمريد البرغوثي، وسؤال غسان كنفاني الأبرز "لماذا لم يدقوا جدار الخزان؟" في "رجال في الشمس". وقد ظهر هذا الصمت في الفنون في أعمال فنية عديدة، وخصوصاً عمل الفنانة منى حاطوم "هناك الكثير لأقوله"، إذ أنتجت الفنانة فيديواً لوجهها، مع قبضتَين ذكوريتين تمنعانها من الحديث، كأنها تحمل الكارثة في داخلها فلا تستطيع أن تقول من هذا الكثير شيئاً. وهنا يبرز سؤال آخر في الذهن عن علاقة الصمت بالمرأة أيضاً وكيف يكون هو منفى آخر للمرأة، وهو ما لم تتطرق إليه الدراسة لتركيزها على موضوع الهوية والقومية.
أمّا "القدس"، فهي رمز لاستمرارية أساطير المنشأ فيما يتعلق بالهوية والقومية، فنقرأ في الفصل الثالث المعنون "القدس: السرّة والبقعة العمياء" كيف أن التصوير القومي للقدس الذي ينتجه الفنانون الفلسطينيون، وخصوصاً فناني التحرير، قدم صورة للأمة كمكان متماسك مع مركز رمزي، لكن بعض الفنانين الشباب انتقد النظر إلى المدينة كصورة وليس كمكان فعلي. واللوحة الأشهر التي تعكس القدس كصورة وسرّة، هي لوحة جمل المحامل لسليمان منصور التي تمثل فلاحاً يحمل القدس على ظهره، ويبدو ذلك الحمل ثقيلاً، لكن لا خيار له كأنه مضطهد من فكرة القدس، وكأنه هو هذا الفنان الذي يحمل مسؤولية أيقونية النضال الوطني. علاوة على ذلك، هناك طبعاً خيارات أُخرى أمام الفنانين داخل الخط كعبد عابدي الذي صمم العديد من النصب التذكارية كشكل من أشكال تأكيد الهوية القومية. ومع أن أساليب أيقنة النضال اختلفت هنا طبعاً، إلّا إنها فيما بعد تخففت من ذلك عبر الذهاب نحو البورتريه الذاتي في الفنون، وهو ما تحدث الكتاب عنه في الفصل الرابع.
غير أن فكرة حمل القدس تشبه فكرة الخريطة المحمولة، وغالباً ما تصوَّر على أنها شيء ثمين محمول أو يسلّم باليد، وهو ما ناقشه الباحثان في الفصل الخامس المعنون "تماسك الشتات"، والذي تبدو فيه خريطة فلسطين مختلطة تماماً بهيئة امرأة، كما في لوحة إسماعيل شموط وهو من فناني التحرير، والذي أدى دوراً في بلورة صورة القومية من خلال الرموز التي تبنّتها منظمة التحرير الفلسطينية. لكن المثير للاهتمام فعلاً هو أنه على الرغم من الاختلافات بين الفن الذي ينتجه الجيل الحالي وما أنتجه فنانو التحرير، فإن العديد منهم يُعتبرون مؤثرين وناشطين، وهم مستمرون في التجريب والتطوير، ولذلك يُعتبرون من الفنانين المعاصرين، مثل سليمان منصور الذي كان أحد مؤسسي الأكاديمية الدولية للفنون في فلسطين، مع أنه يرفض تلك الأبوّة.
لقد أدى المجاز دوره في الفن الفلسطيني مثلما فعل في الشعر، فكانت المواد التي استخدمها الفنانون مشحونة رمزياً: التراب؛ المواد الطبيعية؛ شجرة الزيتون؛ الخزف؛ البيت. لكن سؤالاً كان يدور في ذهني: لماذا لم يظهر المخيم في الفنون كأيقونة مثلما ظهر في الأدب؟ ويبدو أن السؤال كان أكثر نضجاً عند فناني اللجوء مثل عبد الرحمن قطناني الذي يستخدم مواد المخيم: الألمنيوم، والأشرطة الحديدية التي يلعب بها الأطفال في الأزقة، ليقرر في عمله العودة قائلاً: "سنعود بعد ستة أيام إن شاء الله." وقد ظهرت فيما بعد وجوه أُخرى للفكاهة كرسم الحمار، إلى جانب بعض الفنون والفوتوغرافيا، وهذا الأمر نوع من اختبار الواقع السخيف الذي يعترض على رفع المكان إلى عوالم الأساطير مثلما عبّر محمود درويش قائلاً: "لا بد لكل أسطورة من حمار معاصر يضفي على زمنها لحظة راهنة."
في هذه اللحظة الراهنة المتفائلة جداً، وهذا الواقع المعقد سياسياً، فإن هذا الكتاب يحفز على قراءة الفن الفلسطيني بطريقة مغايرة تنطلق من أسئلته عن وجوده وعلاقته بسؤال الهوية وبالأدب أيضاً، وهو ما يشد القارىء أو الباحث إلى قراءة معمقة لكل فن فلسطيني قديم أو جديد لأن ذلك، مثلما قال البروفسور جوناثان هاريس، هو "إعادة لقراءة الوعي الفلسطيني، في رؤيته إلى المستقبل." إنه المستقبل الذي يراه الفن انطلاقاً من أسئلة الحاضر وبعين على روح الماضي القلقة.
ويبقى هناك سؤال كثيراً ما بحثت عنه في الفن والأدب، وربما يشكل أحد أسئلة الهوية، وهو عن العلاقة بين الذات والجماعة، وهل تتجه الفنون نحو سؤال ذاتي عن هويتها؟ هذا الكتاب يجيبني عن هذا السؤال بأكثر من شكل، ولا سيما أنه يعرض أعمال الفنانين الذين انتقدوا، من خلال أعمالهم، الكليشيهات الجاهزة.