تستند الدبلوماسية الرسمية على مجموعة واسعة من الأدوات والأنشطة، بينها ما اصطُلح على تسميته الدبلوماسية الرقمية التي زاد الاهتمام بها في العقد الأخير، والتي تتمركز حول استخدام شبكات التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف الذكية. وقد احتلت إسرائيل المركز الثامن عالمياً في استخدام الدبلوماسية الرقمية، بحسب تقرير الدبلوماسية الرقمية لسنة 2016، بينما تبوأت فلسطين موقعاً متأخراً في هذا التصنيف (المركز الثاني والسبعون)[1]. لكن في خضم هبّة القدس ومعركة "سيف القدس/حامي الأسوار" تغيرت هذه المعادلة؛ فما هي أسباب ومظاهر هذا التغير وما هي ردة الفعل الإسرائيلية.
يشير موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى استخدام الدبلوماسية الرقمية كأداة لنشر الرواية الإسرائيلية، بواسطة تفعيل أكثر من 850 قناة عبر الشبكة العنكبوتية تابعة للوزارة، بست لغات مختلفة (الإنكليزية، العربية، الإسبانية، الروسية، الفارسية، العبرية). والتي يتم تزويدها بمواد مرئية ومكتوبة جاهزة يشرف عليها قسم الدعاية (الهسبراة) في الوزارة[2]. ويبدو أن هذه القنوات والمنصات حققت اختراقاً مهماً، فمن خلال الاطلاع على صفحة الفايسبوك (إسرائيل تتكلم بالعربية) بتاريخ 20/6/2021، نجد 3.2 مليون مشترك في الصفحة[3]، في المقابل نجد 95 ألف متابع لصفحة وزارة الخارجية الفلسطينية[4].
ساهم دخول مجموعة متطوعة من الشباب والشابات الفلسطينيين على خط الدبلوماسية الرقمية في تعزيز الأداء الفلسطيني، فمع اندلاع هبّة القدس وتسارُع قضية التهجير القسري لسكان الشيخ جرّاح، زاد الاهتمام بمخاطبة الرأي العام العالمي، تجسّد ذلك في تصدُّر هاشتاغ (#انقذوا_حي_الشيخ_جرّاح) قائمة الأكثر تداولاً على منصات التواصل الاجتماعي العربية، والحال نفسها مع هاشتاغ #SaveSheikhJarrah باللغة الإنكليزية[5]. وقد استطاعت مجموعة من النشطاء، وبأدوات بسيطة تتمثل في الهاتف النقال، الوصول إلى شرائح واسعة على مستوى العالم، وذلك من دون الحاجة إلى صرف ميزانيات عالية، وهو ما ساهم في إعادة الاهتمام بالقضية الفلسطينية.
تعززت الدبلوماسية الرقمية فيما يتعلق بهبّة القدس من خلال أمرين، أولهما: البث المباشر على وسائل التواصل الاجتماعي للأحداث الساخنة من القدس (باب العامود، الشيخ جرّاح، المسجد الأقصى)، وثانيهما: إشراك مجموعة كبيرة من المؤثرين (انفلونسر) على مستوى الوطن العربي والعالم الغربي في الحملة القائمة لفضح الممارسات الإسرائيلية، فعلى مستوى الوطن العربي شاركت مجموعة من المؤثرين البث المباشر لهذه الأحداث على الصفحات الشخصية (في الفايسبوك وتويتر وإنستاغرام والتيك توك وغيرها)، علاوة على تضامُن المؤثرين في العالم الغربي مع حي الشيخ جرّاح من خلال الكتابة على الهاشتاغ، وقد جذبت هذه الحملة العديد من المؤثرين والفنانين والرياضيين، وحتى بعض عارضات الأزياء اللواتي لم يسبق لهن الاهتمام بالقضايا السياسية.
أثارت هذه الحملة تعاطفاً واسعاً مع القضية الفلسطينية، وفضحت الممارسات العنصرية للاحتلال، وهو ما أثار حنق المؤسسة الإسرائيلية. تجسد ذلك باجتماع وزير الدفاع الإسرائيلي بني غانتس مع إدارتيْ فايسبوك وتيك توك، حاثاً إياهما على محاربة المحتوى الفلسطيني، عقب هذا الاجتماع رُصد عدد من الانتهاكات بحق المحتوى الرقمي الفلسطيني، من أبرزها إغلاق منصة تيك توك تابعة لحساب شبكة "قدس" الإخبارية[6]. خضوع منصات التواصل للطلبات الإسرائيلية ليس جديداً، ففي تقرير صدر عن المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي تحت عنوان "هاشتاغ فلسطين 2020"، تم توثيق استمرار شركات، مثل "فايسبوك"، و"واتساب"، و"تويتر"، في الخضوع لوحدات الأمن الإسرائيلية، من خلال الاستمرار في فرض الرقابة على المحتوى الفلسطيني الرقمي، فقد استجاب فايسبوك لـ 81% من الطلبات المقدمة من وحدة السايبر الإسرائيلية[7]، كما أوقف تويتر عدداً من الحسابات بناءً على معلومات من وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية، بينما استمر تيك توك ويوتيوب في السماح للعديد من مقاطع الفيديو التي تحتفي بعنف الجيش الإسرائيلي بالظهور عليها.
على الرغم مما سبق ذكره، إلّا إن الإبداع الفلسطيني تجاوز محاربة المحتوى من خلال "المقاومة بالحيلة" (بحسب مفهوم جيمس سكوت)[8]، وذلك لتجاوُز خوارزميات منصات التواصل، سواء من خلال تقطيع أحرف الكلمات التي تتم محاربتها ككلمة شهيد، أو من خلال عدم تنقيط الكلمات، بل إن الشباب الفلسطيني شنّ هجمة مضادة على بعض المواقع كفايسبوك من خلال خفض تقييمه، وهو ما تسبب في خسارته الملايين من قيمة أسهمه.
استطاع الشباب الفلسطيني إحداث تأثير ملموس على صعيد مخاطبة العالم، يمكننا أن نلمسه في الحملة المتزايدة للتضامن مع الشعب الفلسطيني ضد الانتهاكات الإسرائيلية. استشعرت المؤسسة الإسرائيلية خطورة ذلك، وهذا ما دفعها إلى زيادة الميزانيات المخصصة للدبلوماسية الرقمية الإسرائيلية لمواجهة الانتفاضة الإلكترونية الفلسطينية، وعلى الرغم من ضعف إمكانيات الفلسطينيين، إلّا إن المؤسسة الإسرائيلية لم تستطع الهيمنة على المشهد الإعلامي كما اعتادت سابقاً، وذلك بسبب الفعل الفلسطيني من ناحية، وتهافُت الرواية الإسرائيلية من ناحية أُخرى، والتي يسهل تفنيدها، الأمر الذي فضح الاحتلال وممارسته ووضعه في موضع المدافع عن نفسه. وليس أدل على ذلك من كشف الصحافة الإسرائيلية عقب انتهاء معركة "سيف القدس" عن موافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي على مقترح أمني بحجب مواقع التواصل، لكن وزارة القضاء أسقطت هذا المقترح[9].
على الرغم من النجاح الذي حققته الدبلوماسية الرقمية الفلسطينية، إلّا إنها بحاجة إلى مزيد من التطوير والاهتمام والتبنّي الرسمي لها، فمعظم الجهود الحالية يقوم بها متطوعون، بعضهم هواة يفتقرون إلى الخبرة والأدوات، وهذا يوجب على الخارجية الفلسطينية إعطاء هذا الجانب المزيد من الاهتمام وتخصيص الميزانيات اللازمة لتطوير هذا القطاع من خلال إنتاج محتوى رقمي فلسطيني قادر على تفنيد الرواية الإسرائيلية، وفضح ممارسات منظومة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني.
[1]وائل عبد العال، "الدبلوماسية الرقمية ومكانتها في السياسة الخارجية الفلسطينية" (بيرزيت: جامعة بيرزيت، 2018)، ص 4.
[2]وزارة الخارجية الإسرائيلية، "الدبلوماسية الرقمية" 21/6/2021. (بالعبرية)
[3]موقع "اسرائيل تتكلم بالعربية" على الفايسبوك، 21/6/2021.
[4]موقع "وزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينية" على الفايسبوك، 21/6/2021.
[5]موقع "الوطن"، تصدر هاشتاج "انقذوا حي الشيخ جرّاح"، 10/5/2021.
[6]"الجزيرة مباشر"، طلب إسرائيلي من “فايسبوك”و “تيك توك”بشأن الأوضاع في فلسطين المحتلة.. ماهو؟ 16/5/2021.
[7]المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي، هاشتاغ "فلسطين 2020"، أيار/مايو 2021، ص: 26.
[8]جيمس سكوت، "المقاومة بالحيلة: كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم"، ترجمة ابراهيم العريس ومخايل خوري (بيروت: دار الساقي، 1995).
[9]صالح النعامي، "نتنياهو وافق على حجب مواقع التواصل خلال العدوان على غزة"، صحيفة "العربي الجديد"، 30/5/2021.