يُعتبر انتشار الأقليات، وتعدد اللغات في المدن من معايير الحداثة، مع ربط هذه الفكرة بحداثة البحر وحداثة الجبل التي تناولها المؤرخ والسوسيولوجي سليم تماري. فمنذ أواسط القرن التاسع عشر جاء إلى القدس العديد من الجوالي التي تزامن حضورها مع بدايات المشاريع الاستيطانية وموجات الهجرة المتنوعة، وخصوصاً الهجرات البروتستانتية،[1] والهجرات اليهودية.
ويوجد في القدس اليوم العديد من اللغات المستخدمة مثل: العربية، والعبرية، والإنجليزية، والروسية، وهناك لغات تمارس بشكل أقل شيوعاً مثل: الأرمنية، والييديشية، والسريانية، واليونانية، والفرنسية، والإسبانية، والإثيوبية، ولغة خاصة بالغجر أو "الدوم" الذين وفدوا إلى القدس منذ مئات السنين.
أمّا خريطة انتشار لغة ما أو نسبتها، فتعتمد على عدد الناطقين بها وأماكن تمركزهم، فعلى سبيل المثال تنتشر اللغة الأرمنية بكثرة في منطقة حارة الأرمن في القدس القديمة، نظراً إلى كونها نقطة ارتكاز للجالية الأرمنية، بينما تنتشر اللغة الييديشية[2] في حي شعاريم والأحياء الحريدية كونها منطقة ارتكاز لليهود الأرثوذكس، والعبرية والروسية والإثيوبية في الأحياء الغربية للمدينة، واللغة العربية في الأحياء الشرقية، وهكذا. أمّا بالنسبة إلى اللغات الأُخرى: كالفرنسية والإسبانية والألمانية واليونانية، فتوجد بشكل خاص ضمن الجماعات اليهودية المهاجرة من فرنسا والأرجنتين وغيرها. كذلك تُستخدم هذه اللغات في بعض الأديرة بحسب تنوعها، ولدى بعض العاملين في القطاع السياحي، وتُعتبر لغات ثانوية تدرّس في بعض المدارس التبشيرية الموجودة في الشطر الشرقي للمدينة.
وكانت المدينة قد عرفت قديماً بعض اللغات التي لم تعد تُستعمل مع أنها كانت لغات رسمية، مثل اللغة اليونانية التي كان يتحدث بها أهل المدينة عند الفتح العمري، واللغة اللاتينية التي كانت لغة المملكة الصليبية الرسمية في القدس خلال الفترة 1099 - 1187. وقد حلت اللغة العربية القُريشية مع الفتوحات الإسلامية مكان اللغة الآرامية والسريانية على الرغم من احتفاظها بكثير من مفرداتها، إذ إن أغلبية الكلمات العامية، وأسماء القرى[3] والمدن وحتى أسماء بعض العائلات التي يستخدمها المقدسيون اليوم، مستمدة من اللغة السريانية التي تُعتبر تطوراً عن اللغة الآرامية، وهي اللغة التي تحدث بها السيد المسيح. ومن اللغات أيضاً اللغة التركية التي توقف السكان الذين أتقنوها عن استخدامها بعد رحيل الأتراك العثمانيين عن المدينة في سنة 1917.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى أنه في بحر هذه التنوع اللغوي يوجد العديد من اللهجات المحكية التي تخص كل لغة، ففي اللغة العبرية هناك اللهجة السفاردية التي يتحدث بها اليهود الشرقيون، والأشكينازية التي يتحدث بها اليهود الغربيون. أمّا بالنسبة إلى اللغة العربية، فهناك لهجة الفلاحين ويستخدمها معظم سكان قرى القدس ومحيطها، ولهجة أهل المدن، ولهجة سكان منطقة جبل الزيتون في القدس الشرقية، ولهجة السكان المنحدرين من مدينة الخليل، ولهجة السكان المنحدرين من عرب 1948، واللهجة النابلسية، واللهجة الغزاوية، واللهجة البدوية، ولهجة عرب السواحرة. لكن مع المصاهرة والاختلاط، باتت اللهجات متقاربة، إلّا إنها تبدو أكثر وضوحاً عند كبار السن وفي القرى.
ويظهر تباين اللهجات هذا في مدّ بعض الكلمات، وفي قلب بعض الحروف، مثل قلب الحاء إلى الخاء في العبرية، وكذلك في قلب الكاف إلى شين، وفي قلب القاف إلى جيم أو كاف في اللهجات العربية، أو حتى في حذف بعض الحروف، وهذه ظاهرة لغوية قديمة مرتبطة بتطور اللهجات، وبتنوع الألسن والمناطق والقراءات، حتى إن العرب في سوق عكاظ وغيرها، كانوا يوحدون اللغة التي تُكتب بها القصائد والمواثيق. ومن أبرز هذه اللهجات: العنعنة،[4] والكشكشة،[5] والكسكسة،[6] والقطعة،[7] وغيرها. وكثيراً ما كان الاختلاف في اللهجات بين سكان المدينة الواحدة، وطريقة نطقها، موضع تندر وعنوانَ كثير من النكات الشعبية، والسخرية التي تؤدي دوراً وظيفياً في التعبير عن بعض التناقضات الاجتماعية.
اللغة والغزو الخارجي
يوجد ارتباط وثيق بين انتشار اللغة والغزو الخارجي، إذ يحاول كل منتصر أن يفرض سطوته ولغته وثقافته على المجتمعات التي يحتلها، ومن الضروري هنا التمييز بين حركة الاستعمار الأوروبي وما قبلها، لأن حركة الاستعمار مرتبطة بحركة الاستشراق. ويمكن هنا القول إن حركة الاستعمار الأوروبية ألحقت كماً هائلاً من الأذى الثقافي والتاريخي والديني بضحاياها، ففي حالات كثيرة تم طمس حضارات ولغات وأديان بأكملها لمصلحة الفكرة الدينية الأوروبية: اللغة الإسبانية والبرتغالية انتشرت في أميركا الجنوبية، بينما انتشرت الإنجليزية والفرنسية في أميركا الشمالية كونها مناطق نفوذ الفرنسيين والإنجليز، كما انتشرت لغة الأفريكانز في جنوب أفريقيا وهي لغة المستوطنين البوير،[8] وهذا كله على حساب أديان السكان الأصليين ولغاتهم، فبتنا نسمع ونوثق رواية الرجل الأبيض "الغازي" عن "أرض الميعاد"[9] و"العالم الجديد"، ولم نعد نسمع إلّا لماماً، مأساة شعب المايا، أو قصة السكان الأصليين في أستراليا، أو قصة قبائل الأباتشي أو الشيروكي أو البونتياك، والتي تحولت أسماؤها إلى سلع استهلاكية.
دور الهجرات
تُعتبر الحروب المحرك الرئيسي للهجرات، ويؤدي الموقع الجغرافي والأهمية الدينية والاقتصادية دوراً في تحديد هذه الهجرة، فقد كانت القدس بمثابة ممر لكثير من الهجرات. وهناك أنواع مختلفة من الهجرات، منها: الهجرة القسرية، والهجرة الاقتصادية، والهجرة الدينية، حتى إن بعض المؤرخين اعتبر أن الحملة الصليبية الأولى كانت عبارة عن هجرة دينية جماعية أكثر من كونها حملة عسكرية منظمة، وذلك نظراً إلى مشاركة كثير من الأطفال والنساء في تلك الحملة. ولعل أقدم الهجرات التي شهدتها القدس هو هجرة بعض القبائل العربية بعد انهيار سد مأرب في اليمن، ومن بعدهم العرب الغساسنة الذين سكنوا بلاد الشام، بينما تقول الرواية الإسرائيلية إن اليهود القدماء هم أول الجماعات المهاجرة، وإنهم أول مَن بنى المدينة ضمن دائرة من الجدل والتأويل. في السياق نفسه، ووفقاً لكثير من المصادر التاريخية، قام الفرنجة في أثناء احتلالهم القدس في سنة 1099، بقتل وتهجير معظم سكان المدينة، الأمر الذي أدى إلى هجرة العديد من القبائل العربية بعد الفتح الصلاحي في سنة 1187، وخصوصاً قبائل بني سعد، وبني غانم، وبعض الأكراد. وتزامن مع هذه الفترة موجات هجرة متتابعة لأقليات يمكن وصفها بالهجرة الدينية مثل: هجرة المغاربة، والإيرانيين، والأحباش،[10] والأفغان، والبخار (نسبة إلى بُخارى)، والأوزبك، والهنود، والأفارقة الذين جاؤوا من تشاد،[11] فضلاً عن الغجر الذين يُعرفون بـ "النَّوَر" أو "الدوم"، والذين وفدوا من شمال العراق.
وفي أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين حدثت موجات هجرة متعددة منها: هجرة اقتصادية إلى المهجر التي تسارعت اعتباراً من أواخر القرن التاسع عشر بسبب حالة الفقر والمجاعة، وجرّاء الحرب العالمية الأولى، ثم بعد رحيل العثمانيين، وتمتاز هذه الهجرات بأنها لم تكن هجرة قسرية؛ النوع الثاني من الهجرة هو الهجرة الاستيطانية، وخصوصاً هجرة الألمان واليونانيون والأميركيين والهجرة اليهودية التي تركزت قبل سنة 1882 في أربع مناطق رئيسية في فلسطين هي القدس وصفد والخليل وطبرية. واتخذت الهجرات اليهودية شكل خمس موجات أساسية، سبقها دور متعاظم للقنصليات والامتيازات الأجنبية، ولا سيما الامتيازات الروسية والفرنسية والإيطالية والإنجليزية والألمانية، والتي أدخلت لغاتها معها إلى مدينة القدس بصورة خاصة، وكذلك من خلال بناء كثير من الأديرة والكنائس والمستشفيات والمدارس التبشيرية والمراكز الثقافية التي ستؤدي دوراً مهما في النهضة الفكرية واللغوية، وفي تاريخ المدينة الاجتماعي.
وشهدت عشرينيات القرن الماضي أيضاً موجات هجرة اقتصادية ودينية داخلية إلى مدينة القدس، وخصوصاً من مدينة الخليل، وذلك بسبب الأوضاع الاقتصادية المزدهرة في المدينة، ودعوات بعض القيادات العربية، وخصوصاً المفتي أمين الحسيني، إلى التوجه إلى القدس في مواجهة الهجرة الصهيونية إليها، الأمر الذي يفسر وجود كثير من العائلات الخليلية في القدس الشرقية، والتي جلبت معها لهجتها إلى المدينة، وباتت ملموسة في الأماكن التي سكنتها تلك العائلات. إن توافد الجماعات الوظيفية من الأرياف والمحيط، ونمو الأحياء والمراكز الاقتصادية وأحزمة الفقر، أمور كلها تُعدّ من دلالات حداثة ونمو أي مدينة، إذ إن الجوالي والجماعات المهاجرة تنمو أو تندثر اعتماداً على العامل الاقتصادي أو بفعل الحروب. فعلى سبيل المثال، رحل كثيرون من اليونانيين والألمان الهيكليين إلى بلدهم جرّاء الحرب العالمية الأولى، مع أنهم أقاموا مستوطنات في القدس لا تزال موجودة إلى اليوم، وباتت جزءاً من أحياء القدس.[12]
دور الجوالي
يُعتبر وجود الجوالي واستقرارها العامل الأهم في تكوين أقليات لغوية، فقد سكن القدس العديد من الجوالي والجماعات الوظيفية مثل الروس، واليهود، والأميركيين،[13] والألمان، واليونانيين، والسويديين، والأرمن، والبولنديين، وجماعات أُخرى وفدت إلى المدينة بعد الفتح الصلاحي مثل المغاربة، والإيرانيين، والأحباش، والأفغان، والبخار، والأوزبك، والهنود، والجالية الأفريقية، والغجر، ومجموعة من الأقباط. وهذا الطرح لا ينفي وجود جوالي سكنت في مدن أُخرى في فلسطين غير القدس، مثل الشيشان والشركس.
وهذه الجوالي تؤدي دوراً مهماً في إحداث نهضة عمرانية وفكرية، إذ إنها تجلب معها لغاتها وثقافاتها الخاصة، وتحتكّ بالسكان المحليين وتتفاعل معهم، كما أنها تُدخل العديد من القيم وأنماط الحياة إلى المجتمع الذي تعيش فيه، بحيث إن كل جالية تترك بصماتها الواضحة في العمران والمؤسسات التربوية والترفيهية مثل المقاهي، فضلاً عن العديد من أنماط الحياة والحرف الجديدة مثل: النجارة والتصوير والعزف على بعض الآلات الموسيقية، والفنون الأُخرى. وفضلاً عن الجوالي التي أحدثت تنوعاً ثقافياً واجتماعياً وعمرانياً في القدس، فإن الزيارات الدينية والحج،[14] وزيارات المستشرقين، أضافت لوحة من التفاعل والانفتاح الذي عرفته القدس في تلك الفترة.
وقد برزت هذه الجوالي لعدة أسباب: فمنها مَن جاء لأسباب متعلقة باللجوء القسري مثل هجرة الأرمن بعد مجارز سنة 1915،[15] واليهود قبل سنة 1882 بسبب موجات معاداة السامية في أوروبا، ومنها مَن جاء لأغراض استشراقية كولونيالية، مثل الأميركية والألمانية والبولونية واليونانية.[16] وقد دفع تطورُ الرأسمالية المسألةَ اليهودية في أوروبا في اتجاهين متناقضين تماماً: فمن جهة، ساعدت الرأسمالية على استيعاب اليهود الاقتصادي، ثم الثقافي، ومن جهة أُخرى، ساعدت على نمو القومية لديهم جرّاء اقتلاع الجماهير من مراكزها الاجتماعية التقليدية، وحشرها في المدن، وإثارة النعرات اللاسامية ضدهم.[17]
وتؤسس الجوالي مجتمعات خاصة بها داخل الحواضر، مثلما فعل الأرمن في لبنان على سبيل المثال، وتؤدي دوراً مهماً في التطور الاجتماعي والاقتصادي واللغوي، على الرغم من احتفاظها بخصوصيتها اللغوية والإثنية. فعلى سبيل المثال أدى الشركس والشيشانيون دوراً مهماً في بناء مدينة عمّان عند تأسيس إمارة شرق الأردن.
مهاد اللغة العبرية في القدس
يُعتبر دخول اللغة العبرية الحديثة إلى القدس من المسائل التي تستحق الدراسة والاهتمام، علماً بأن إحياء الكتابة العبرية الأدبية بدأت مع حركة الهاسكلاه اليهودية، وهي حركة نهضوية ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر في أوروبا، وساهم في تأسيسها موشيه مندلسون وهارون هالي ولفسون وجوزيف بيرل، كحركة تجديد يهودية على أسس علمانية، تنادي بالحرية الفكرية، وتدعو رجال الدين اليهود إلى التخلي عن التعصب الديني، وإلى الانفتاح على الثقافات الأُخرى. ويمكن القول إن إحياء اللغة العبرية ارتبط ارتباطاً وثيقاً بتطور الحركة الصهيونية التي جاءت نتيجة إشكالية الاندماج بعد ظهور الفكرة القومية والمساواة والمواطنة وفشل اليهود في الانضمام إلى مشروع التنوير الأوروبي،[18] وهي إشكالية حولت معتقد المسيانية الديني إلى برنامج سياسي، فباتت الشعارات والرموز الدينية بمثابة برامج سياسية. وأبرز إنتاجات الحركة الصهيونية هو تجميع اليهود من مختلف أصقاع الأرض، وبناء مؤسسات حاضنة كالجيش والجامعات والمؤسسات الاقتصادية والثقافية، وصهرها صهيونياً ضمن ثالوث الجيش واللغة والدين المشترك، والذي بات يُعدّ العمود الفقري للمجتمع،. ويمثل بوصلة الهوية الوطنية، شكلاً وممارسة.
وأعيد إنتاج اللغة العبرية الحديثة في نهاية القرن التاسع عشر، على يد مجموعة من اللغويين اليهود لعل من أبرزهم: إليعيزر بن يهودا، ودافيد يلين، ولجنة اللغة العبرية التي عملت على تطوير اللغة العبرية من لغة خاصة بالطقوس الدينية إلى لغة مكتوبة ومحكية، وصولاً إلى جعلها اللغة الرسمية لدولة إسرائيل. ومع قيام دولة إسرائيل تم تأسيس مجمع اللغة العبرية الذي أدى دوراً حيوياً في تطوير اللغة. وقد واجهت عملية إحياء اللغة العبرية العديد من المشكلات، لعل أبرزها: البحث عن مفردات وكلمات جديدة؛ ملاحقة السلطات العثمانية لبن يهودا وسجنه؛ نشر اللغة واستخدامها في مجالات الحياة. وتُعتبر العبرية الحديثة لغة هجينة تضم كثيراً من الكلمات العربية والإنجليزية والفرنسية وغيرها. وقد اعتبر بن يهودا أن نهضة اليهود تكون في تبنّي اللغة العبرية في جميع مجالات الحياة، لذلك تم تأسيس العديد من الصحف مثل: صحيفة "حافتسيليت" التي تُعتبر من أوائل الصحف اليهودية التي كتب فيها بن يهودا، وصحيفة "هاتسفي" التي أسسها بن يهودا أيضاً في سنة 1884. وقد أدت هذه الصحف دوراً مهما في نشر العبرية، فضلاً عن المدارس والمعاهد الدينية.
اللغة العبرية والفلسطينيون
ثمة عدة عوامل لدخول اللغة العبرية أو بعض مصلحاتها في قائمة المفردات الفلسطينية، ليس كلغة كولونيالية فقط، بل كنوع من التأثير المتبادل.
العامل الأول في دخول اللغة العبرية إلى المجتمع الفلسطيني، أوجدته الظروف التي فُرضت على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة منذ سنة 1948 وبعد سنة 1967، في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، وتمثلت في الاحتكاك اليومي مع الإسرائيليين من خلال التجارة والتعليم وسوق العمل، أو لاحقاً في حالة السجن أو التعامل مع الحواجز الأمنية. وهو جانب قهري تطلّب من الفلسطينيين أن يتعلموا العبرية كنوع من المفردات القهرية، وهي مفردات ارتبطت بالعلاقة المباشرة مع الاحتلال، والمتمثلة في حالة السجن والعبور اليومي على الحواجز. فضلاً عن المناهج التعليمية العبرية المفروضة على بعض المدارس، ونمط الحياة في المناطق التي تُعتبر مناطق مختلطة سكانياً. وسمحت هذه الظروف للفلسطينيين ببناء معرفة جيدة عن المجتمع الإسرائيلي وطريقة حياته، بالتالي التغلغل أكثر وأكثر في الثقافة العبرية، وهو تغلغل تطور من خلال حركة ترجمة نشطة للأدبيات والتحليلات والصحافة العبرية.
العامل الثاني لدخول اللغة العبرية، ومثلما عبّر عنه فرانز فانون من خلال مصطلح الثنائية الثقافية، هو أن المحتلين، عند نقطة معينة، يشعرون بجاذبية لا تقاوم تجاه المستعمَرين وطريقة حياتهم، أمّا المستعمَرون فيريدون بأي ثمن، مثلما يقول باولو فيريري، أن يشبهوا مضطهديهم، وأن يقلدوهم ويتبعوهم، وخصوصاً الطبقة الوسطى التي يتحرق أفرادها لأن يصبحوا أنداداً للأشخاص رفيعي الشأن من الطبقة العليا.[19] وهذه الظاهرة شّخصها من قبل ابن خلدون عندما تحدث عن فتنة المنتصر: "والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمَن غلبها وانقادت إليه: إمّا لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لها، حصل اعتقاداً، فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به."[20]
أمّا العامل الثالث فهو استخدام الفلسطينيين لكثير من المصطلحات الصهيونية التي أصبحت ضمن قائمة المفردات العربية والخطاب السياسي المعاصر، مثل: "المحرقة" و"الغيتو" و"الشتات". واستطراداً، نرى أن التحول الذي أحدثه اتفاق أوسلو لم يقتصر على اللغة ذاتها فحسب، بل أيضاً على تغيير اللغة والمنظور الفلسطينيين إلى طبيعة العلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية، بحيث باتت المفردات الإسرائيلية تُعتبر محايدة وموضوعية. إن ما سعت له عملية أوسلو، إذاً، "كان قلب هدف السياسة الفلسطينية ذاتها، من هدف الاستقلال الوطني عن الاستعمار والاحتلال الإسرائيلي، إلى هدف يصبح الفلسطينيون بموجبه عالة في بقائهم السياسي والوطني على إسرائيل وراعيها الأميركي، وذلك لفائدة سلام محتلّيهم وأمنهم."[21]
المراجع:
- ابن خلدون، عبد الرحمن. "مقدمة ابن خلدون". تحقيق حامد أحمد الطاهر. القاهرة: دار الفجر للتراث، ط 1، 2004.
- أبو خضير، ناصر الدين. "أسماء قرى القدس: دراسة لغوية دلالية". "مجلة اتحاد الجامعات العربية"، المجلد 13 العدد 2 (2016)، ص 355 – 382.
- بشارة، عزمي. "مائة عام من الصهيونية: من جدلية الوجود إلى جدلية الجوهر". "الكرمل"، العدد 53 (خريف 1997)، ص 11 – 20.
- تماري، سليم وعصام نصار. "القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية، 1904 – 1917". القدس: مؤسسة الدراسات المقدسية، ط 1، 2003.
- الحوت، بيان نويهض . "صفحات أرمنية في تاريخ القدس". مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 43 (صيف 2000)، ص 63 – 73.
- العارف، عارف. "المفصل في تاريخ القدس". القدس: دار الأندلس، ط 3، 1992.
- العكش، منير. "الجلاد المقدس". "جسور"، العدد 7 / 8 (1996)، ص 5 – 41.
- فيريري، باولو. "نظرات في تربية المعذبين في الأرض". ترجمة مازن الحسيني. رام الله: دار التنوير للنشر والترجمة، 2003.
- لطف الله، حيدر. "الصهيونية وفلسطين: دراسة تاريخية". دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 2002.
- مسعد، جوزيف. "مقدمة للنكبة: الاستعمار البروتستانتي الأوروبي لفلسطين". "مجلة كنعان الإلكترونية"، 15 / 5 / 2020، في الرابط الإلكتروني التالي: https://tinyurl.com/y2dt3ekv
- نصار، عصام. "الحياة اليومية كمصدر لدراسة التاريخ: مشروع الجوهرية كوثيقة تاريخية". "حوليات القدس"، العدد 2 (شتاء 2004)، ص 49 – 55.
- Massad, Joseph. The Persistence of the Palestinian Question: Essays on Zionism and the Palestinians. New York: Routledge, 2007.
المصادر:
[1] جوزيف مسعد، "مقدمة للنكبة: الاستعمار البروتستانتي الأوروبي لفلسطين"، "مجلة كنعان الإلكترونية"، 15 / 5 / 2020، في الرابط الإلكتروني.
[2] الييديشية هي مزيج من الألمانية والعبرية القديمة يتحدث بها معظم اليهود الأشكيناز.
[3] انظر: ناصر الدين أبو خضير، "أسماء قرى القدس: دراسة لغوية دلالية"، "مجلة اتحاد الجامعات العربية"، المجلد 13، العدد 2 (2016)، ص 355 – 382، ويمكن الوصول إلى المقالة عبر موقع جامعة بير زيت في الرابط الإلكتروني.
[4] تحويل الهمزة إلى عين.
[5] إضافة الشين إلى الكاف في آخر الفعل.
[6] تحويل السين إلى كاف.
[7] قطع اللفظ قبل الانتهاء منه مثل حذف آخر حرف من الجملة.
[8] يعود أصل البوير إلى المستوطنين الألمان والهولنديين الذين استوطنوا جنوب أفريقيا قبل الاستعمار الإنجليزي.
[9] انظر منير العكش، "الجلاد المقدس"، "جسور"، العدد 7 / 8 (1996)، ص 5 – 41، في الرابط الإلكتروني.
[10] المقصود هنا طائفة الأحباش المسيحية الأرثوذكسية، وفي المقابل هناك يهود الفلاشا الذين هاجروا عبر موجات في أواسط ثمانينيات القرن العشرين.
[11] وخصوصاً قبائل السلامات التي توجد في مناطق تشاد ودارفور في غرب السودان.
[12] تُعتبر الأحياء الألمانية واليونانية من الأحياء المهمة في القدس الغربية.
[13] لعل أشهرها طائفة المورمون الموجودة في سفح جبل الزيتون، وعائلة سبافورد التي أسست مجمع الكولونيالية الأميركية في الشيخ جرّاح.
[14] عصام نصار، "الحياة اليومية كمصدر لدراسة التاريخ: مشروع الجوهرية كوثيقة تاريخية"، "حوليات القدس"، العدد 2 (شتاء 2004)، ص 49 - 55، في الرابط الإلكتروني.
[15] بيان نويهض الحوت، "صفحات أرمنية في تاريخ القدس"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 43 (صيف 2000) ص 63 – 73، في الرابط الإلكتروني.
[16] عارف العارف، "المفصل في تاريخ القدس" (القدس: دار الأندلس، ط 3، 1992).
[17] حيدر لطف الله، "الصهيونية وفلسطين: دراسة تاريخية" (دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 2002)، ص 27.
[18] عزمي بشارة، "مائة عام من الصهيونية: من جدلية الوجود إلى جدلية الجوهر"، "الكرمل"، العدد 53 (خريف 1997)، ص 11 - 20.
[19] باولو فيريري، "نظرات في تربية المعذبين في الأرض"، ترجمة مازن الحسيني (رام الله: دار التنوير للنشر والترجمة، 2003) ص 38.
[20] عبدالرحمن بن خلدون، "مقدمة ابن خلدون"، تحقيق حامد أحمد الطاهر (القاهرة: دار الفجر للتراث، ط 1، 2004)، ص 192.
[21] Joseph Massad, The Persistence of the Palestinian Question: Essays on Zionism and the Palestinians (New York: Routledge, 2007), pp.114 – 128.