I
حلب - بيروت 1969
لم يكن اسم بيروت سوى اسم غامض لمكان يسافر إليه أصدقاء أخي الأكبر، أو أبناء جيراننا في آخر المراهقة، هرباً من أهاليهم، أو من حب خائب، ليتطوعوا في "الفدائية" – مثلما كنت أسمعهم يقولونها – ولا يعودون إلّا بعد دموع تسفحها الأمهات اللواتي يرسلن أزواجهن إلى بيروت ليعودوا بهؤلاء الأبناء قبل أن تغويهم المدينة وتبتلعهم مثلما ابتلعت كثيرين قبلهم.
زهير أيضاً هرب من والده وذهب ليتطوع. الشيوعي ذو الستة عشر عاماً، رفض أن يشتغل في ورشة النسيج التي يملكها والده في حلب (كان يقول عنها معمل نسيج، ولم تكن أكثر من ورشة خياطة)، ولم يقبل أن يجبره والده على العمل فيها بعد أن فشل في الدراسة. ذهب مع "رفيق شيوعي" يكبره بعامَين في باص "السكانيا" عبر حمص إلى بيروت، محطة التطوع في إحدى المنظمات الفلسطينية، قبل التوجه جنوباً للمشاركة في إحدى العمليات ضد "العدو".
لم يصل الصديقان إلى العدو، فزهير لم يقبلوه فدائياً، لكن بيروت قبلته، ودللته، ودلّته إلى باراتها ومقاهيها وسينماتها ومكتباتها، وحين عاد بعد أشهر طويلة، خائباً من النضال، كانت صورة رأس الديك الأزرق التي حملَتها قصاصات الجرائد التي عاد بها من بيروت، والتي استعارها أخي، هي الأثر الأول الذي عرفت به أن بيروت حقيقة وليست حكاية.
II
حلب - بيروت 1972
كان شرط فداء، أختي، أن يكون شهر عسلها في بيروت. لم أكن غادرت الطفولة بعد، ولم أكن أفهم تماماً كيف يمكن أن تكون المدينة التي يسعى أخي ورفاقه لأن يذهبوا إليها للتطوع والحرب، هي نفسها التي يمكن أن يذهب إليها أيضاً الذين يحبون الحياة، لا اليائسون منها فقط. المدينة نفسها التي جعلت أختي لا تنام من الفرح لأيام حين وافق عريسها على الشرط، هي أيضاً التي كانت في الصور التي عادت بها من هناك ووضعتها أمامنا وصرنا نتداولها بلهفة: صورة على الكورنيش في مواجهة الروشة، وأُخرى داخل السان جورج، وثالثة أمام ساعة من الزهور في ساحة الشهداء.
"ساعة من الزهور؟ هل هذه ساعة حقيقية؟ هل تتكّ مثلما تفعل ساعة أبي؟ هل فعلاً ينظر إليها هؤلاء الناس العابرون في الصورة ليعرفوا الوقت؟" – لم تكن تلك مجرد أسئلة فضولية عبرت ذهني الطفولي، كانت شيئاً يشبه دهشة اكتشاف أن قصص الجنيات وعوالم المجلات المصورة التي كانت تملأ غرفتي، هي حقيقة، فأختي زارتها، وربما أزورها أنا يوماً ما.
كانت بيروت بالنسبة إلى ذلك الطفل على أعتاب المراهقة هي ساعة زهور.
III
حلب - بيروت 1990
جثث القتلى من الجنود السوريين الذين تكدسوا في إحدى غرف المستشفى العسكري القديم في حلب في أواخر سنة 1990 في أثناء المواجهات مع العماد المتمرد – في ذلك الوقت – ميشال عون، كانت عيّنة من عدد أكبر من قتلى وجرحى وصل إلى مدن وبلدات سورية أُخرى، على امتداد الأعوام التي احتل فيها الجيش السوري لبنان.
مواجهات متعددة وتحالفات متغيرة، ومجازر وانتهاكات، لم تعد بيروت مدينة الخيالات والمجلات المصورة، بيروت صارت خبراً دائماً في نشرات الأخبار، وعنواناً أساسياً في الصحف التي لا تزال تصل ولو تقتيراً من بيروت: محور السوديكو – المتحف؛ محور الشياح - عين الرمانة؛ تل الزعتر؛ حرب المئة يوم؛ الاجتياح الإسرائيلي؛ صبرا وشاتيلا؛ حرب الجبل؛ حروب وحروب، ومناورات سياسية، واغتيالات وراءها مصالح شتى، ومعظمها يقف وراءها النظام السوري. لكن بيروت، على الرغم من ذلك، وبسبب هذا، بقيت مطمعاً لكثير من العناصر وجنود الجيش السوري الذين يتوسطون ليتم فرزهم إلى لبنان، حيث الفرصة المؤكدة لتحسين وضعهم المادي.
كنت في ذلك الوقت أؤدي خدمتي العسكرية الإلزامية كطبيب جراح في المستشفى العسكري في حلب، لكن زملاء لي طلبوا نقلهم إلى شتورا، أو عنجر، أو أي قطعة عسكرية قرب بيروت أو فيها.
هل تتخيل ما معنى أن تكون طبيباً برتبة ملازم، لا خطر حقيقياً عليك وتتمتع بما يتمتع به جميع الضباط السوريين في لبنان: عز وجاه، وإدخال ما تشاء من البضائع المهربة، فضلاً عن الاحترام (أو ربما هو الخوف) الذي ستزرعه في قلوب أصحاب المحلات والمقاهي وأنت تتجول في بدلتك العسكرية ذات النجوم في شوارع بيروت؟
بقيت بيروت على الرغم من أعوام الحرب التي امتدت خمسة عشر عاماً، مصدر الترفيه والحصول على المواد التي لا وجود لها في سورية. الباص الذاهب من حلب إلى دمشق، لا بد من أن يمر في استراحة حمص، وعندها سيصعد إليه عشرات الباعة الصغار والمراهقين الذين سيعرضون عليك بضاعة مهربة قادمة من حدود العريضة أو العبودية: محارم ميموزا؛ خبز أبيض في أكياس نايلون مغلفة؛ علب معدنية لبسكويت غندور؛ فناجين قهوة!
الهدية الثمينة التي يجلبها العائد من لبنان إلى أهله، أو العابر في كراجات التهريب بحمص، هي كيلو من الموز، أو عدة علب من محارم الكلينكس، والثري منهم مَن يحمل جهاز فيديو. الضابط السوري له امتياز أنه لا يفتَّش. أمّا المثقف، فيحمل بين طيات ملابسه أعداداً من ملحق النهار الثقافي، أو ربما بضعة كتب لم تسمح بها الشركة السورية لتوزيع المطبوعات في دمشق المسؤولة عن رقابة الكتب والصحف، ربما لأن هذه الكتب توهن نفسية المواطن السوري، أو ربما هي من النوع الذي يُضعف شعوره القومي.
IV
حلب - بيروت 1997
مع عباس بيضون الذي تعرفت إليه في حلب في صيف سنة 1996، ضمن نشاط ثقافي رعاه المركز الثقافي الفرنسي، وبلال خبيز الذي التقيته للتو مع عباس، كنا نعبر بين مجموعة مبانٍ من زمن الحرب، قرب المتحف: أحدها كان مبنى متداعياً، وكثير من واجهات شققه مهدمة ومستترة عن المارة بقطعة قماشية باهتة اللون من الشمس؛ شقق متداعية الأدراج، يُصعد إليها بسلم خشبي من النوع الذين يستعمله البناؤون؛ مبانٍ يسكنها العمال السوريون الذين جاؤوا بعد انتهاء الحرب بمئات الألوف طامعين بالدخل المتواضع الذي تقدمه شركات إعادة الإعمار في لبنان؛ فهم سوريون من الأرياف، يقتّرون على أنفسهم كي يستطيعوا توفير مئتي دولار في آخر الشهر يرسلونها إلى عوائلهم في جبل الحص وريف الرقة ودير الزور وشرقي حلب، خزان الفقر البشري؛ لهؤلاء عوائل من نساء وأمهات عجائز يرونهن مرة أو مرتين في العام، وأولاد يكبرون بعيداً عن آبائهم.
أشار بلال خبيز إلى مجموعة من هؤلاء العمال يتكئون على حائط:
أترى هؤلاء؟! هم أول مَن سيدفع الثمن عند خروج السوريين من لبنان، هؤلاء سيُشحطون شحطاً ويُرمون خارج البلد. الأمر مؤلم، لكن الذي عاناه اللبنانيون من السوريين ولّد حقداً كبيراً لن يمّحي بسهولة.
كلمة "السوريين"، مثلما كان يسميهم عباس وبلال وكثير من الأصدقاء الذين التقيتهم في بيروت، المقصود بها ضمناً عناصر الجيش السوري، أو الاستخبارات، أو "أبو جمال" خدام، أو "أبو يعرب" كنعان، وكثيرون من سكان البوريفاج. لكن كلمة "السوريين" كانت تؤلمني. فأنا أيضاً من "السوريين" الذين عانوا من "السوريين" أنفسهم الذين قصدهم بلال وعباس وربما أكثر. أنا من هؤلاء السوريين الذين كان عليهم أن يدفعوا ثمن سوريتهم المزمنة، تهميشاً واعتقالاً وقمعاً واستبعاداً، ولاحقاً قتلاً وتهجيراً. السوريون هم أنا أيضاً، وليس فقط هذا الضابط المسترخي على كرسيه أمام الحاجز السوري في "البداوي" وهو يشير بطرف قدمه إلى السيارات كي تعبر.
"تقصد النظام السوري، ما هيك؟" هذا كل ما استطعت أن أعترض به على كلام بلال. ولا أظن أنه سمعني.
V
حلب - بيروت آب / أغسطس 2012
"نذهب إلى بيروت"، هذا ما قالته ربيعة اعتراضاً على فكرتي الذهاب إلى مصر: "بيروت أقرب".
كان قصف الطيران الحربي السوري لشرقي حلب قد اشتد في الأسابيع الأخيرة: اعتقالات تنتهي بجثث تُرمى أمام منازل الأهالي، وأطباء تحت التعذيب إن قدموا أي مساعدة طبية للمحتجّين المصابين في التظاهرات التي وُوجهت بالنار، كما أن الخطف في مقابل الفدية الذي مارسه الشبيحة أصبح أكثر من مجرد حادثة أو اثنتين، بل صار ظاهرة يومية مقلقة. لا بد من الخروج.
بيروت / الناس أليفة وحنونة. فتح لنا الأصدقاء بيوتهم من اليوم الأول. أسبوعان لدى سامر، ومثلهما لدى روهام. محمد أعطاني مفاتيح منزل أخيه الغائب ولم يقبل أن يتقاضى أي مبلغ لقاء ذلك. يوسف أراد فوراً أن يساعدني في الحصول على عمل.
بيروت / الناس داعمة ومرحبة. السوريون الشباب في كل مكان في بيروت، الطبقة الوسطى من جميع المدن السورية ملأت شوارعها. في الحمرا وبدارو، في الجعيتاوي والأشرفية. فقراؤهم في الكرنتينا وأغنياؤهم في تلة الخياط. يكتشف اللبنانيون سورية أُخرى، وسوريين آخرين غير الذين جثموا على صدورهم ثلاثين عاماً. يسمعون لهجات مختلفة عن لهجة "باب الحارة" أو لهجة الحواجز العسكرية، يرون بشراً يحملون أملاً كبيراً أضاف كثيراً من الحياة إلى مقاهي بيروت وباراتها ومسارحها وأمكنتها.
لم يطل الأمر سوى عامَين أو ثلاثة.
بيروت / الحكّام؛ بيروت / النظام الطائفي؛ بيروت / لوردات الحرب المالية؛ بدأت تتململ من هذا الوجود. صار السوريون أدوات لابتزاز، وبطاقات مساومات سياسية. تصاعدُ الخطاب العنصري ترافق مع خطاب يريد أن يحمّل السوريين جميع مشكلات لبنان المزمنة: الأزمات الاقتصادية؛ فرص العمل؛ الاستقطاب الجهوي والطائفي؛ الفساد المالي والسياسي.
لم يعد يُسمح للسوريين بالعمل. تم الضغط على شبابهم لترك البلد، فتركوا. أعداد كبيرة من شباب الطبقة الوسطى ومثقفيها ومهنييها الذين فتحت لهم أوروبا أبوابها، وخصوصاً ألمانيا والسويد في سنتَي 2015 و2016، قررت مغادرة بيروت. فالذين كانوا يحملون على أكتافهم عبء مساعدة كثير من اللاجئين في البقاع والشمال وأطراف المدن الفقيرة، تركوا لأنهم لم يعودوا قادرين على العيش، ليس فقط في الكفاف المادي، بل أيضاً في مواجهة خطاب عنصري صار الآن أوضح وأكثر وقاحة. ومع مغادرة هذه الأعداد الكبيرة من الفاعلين الاقتصاديين والثقافيين والاجتماعيين، انتصر الخطاب الذي لم ينفك يردد: السوريون عبء، فليعودوا إلى بلادهم.
VI
بيروت - بيروت نيسان / أبريل 2020
حزينة شوارع بيروت، لا تشبهها في شيء. "اللي ما عاجبو يفل"، شيء ما يذكّر بـ "الأسد أو نحرق البلد". الناس الذين خرجوا في ثورتهم في 17 تشرين الأول / أكتوبر 2019 لا بد من أن "يدفعوا الثمن".
"اللي ما عاجبو يفل". يقول الساسة، ويُهرّبون أموالهم، لكن يتشبثون بامتيازاتهم وطوائفهم وزعرانهم. ينهار الاقتصاد ويجوع الناس. خمسون في المئة دون خط الفقر، وآلاف المحلات أغلقت أبوابها، وطردت عمالها. طوابير لا تجد إلّا واقفين على أبواب المصارف يتوسلون أموالهم التي سُرقت جهاراً نهاراً، ورجالاً يقايضون حذاء بلتر من الحليب، وسطواً على صيدليات للحصول على الدواء. كأن هذا لا يكفي، ليأتي فيروس كورونا متحالفاً مع السلطة. الفرصة الذهبية لإغلاق أفواه الناس حرفياً وليس مجازاً. اِذهبوا إلى بيوتكم، وأغلقوا الأبواب عليكم واكتموا أفواهكم، فكورونا كانت "نوعاً من حل".
شوارع بيروت كئيبة وموحشة. ليست بيروت التي كانت في حلم طفولتك، ليست شهر عسل أختك، ليست ملجأك وصحبة الخميس في دار المصور، وربما لم تعد مستقبلك.
VII
بيروت - بيروت 4 آب / أغسطس 2020
الغبار الذي تصاعد كثيفاً في غرفة مكتبي في الجامعة الأميركية عقب صوت انفجار رهيب لم أسمعه حتى في حلب، وانطلاق أجهزة الإنذار مدوية في أرجاء الجامعة كلها، أقنعني بأن الانفجار ربما حدث داخل الجامعة، أو ربما أن طيراناً يدكّ الآن المبنى فوق رأسي، أنا الذي بقيت وحدي في المبنى في الساعة السادسة مساء في ذلك اليوم الأسود.
الشوارع من الحمرا إلى بيتي في مار الياس، كانت ملأى بالزجاج المطحون. زجاج بيروت هو صوتها المتكسر إلى مليارات الشظايا التي أغرقت الشوارع والأرواح والأجساد. هي مزق العيون الزجاجية التي رأيتها في وجوه الناس الذاهلة أمام محلاتهم. الناس الواقفون مدمَّون بلا اكتراثِ المصدوم، وباستسلام القتيل للطعنة الأخيرة.
بيروت / الناس مهشمة كهذه الواجهات. بيروت / الناس تُسحل في الشوارع وما أراه الآن هو دمها الزجاجي. بيروت / الناس ملقاة على الأرض كهذه الجثث، وليس مَن يلقي عليها الغطاء.
في الطريق إلى البيت في عشية الرابع من آب / أغسطس 2020، تعثرت بأكوام الحديد والحجارة وقمت، ثم تعثرت مرة أُخرى وقمت، مرات وقمت.
ثم لم أعد أقوى على القيام.