On Corona and the Guardians of the Israeli Media
Date: 
June 01 2020
Author: 

لا غرابة في أن تتعامل إسرائيل، بجميع مؤسساتها، مع أزمة كورونا بعقلية عسكرية خالصة. وهذه صيغة ثابتة ومتكاملة تنظّم خطاب إسرائيل وعملها في المواقف الأمنية والسياسية كافة. وتجسّدت العقلية بشكل تلقائيّ خلال هذه الأزمة أيضاً: تأجيج الهلع تمهيداً لمنح السياسات الأمنية صلاحية مطلقة في انتهاك جميع المعايير والقوانين التي يمكن تخيلها، وإخراج السلطة من دائرة المساءلة، وطرح الحلول الأمنية القمعية باعتبارها الخيار الأول. وكانت إسرائيل من أول الدول التي فرضت قوانين الطوارئ وحظر التجوّل وسمحت للاستخبارات بتتبع الناس، وتولّى الجيش مسؤوليات مدنية داخل التجمعات الإسرائيلية، علاوة على العزل الفوريّ التام للضفة الغربية وقطاع غزة.

نسخ الإعلام الإسرائيلي المقاربة الأمنية ذاتها، وتغيرت بسرعة شديدة التوجهات الصحافية المعتادة في قضايا الصحة كافة. فلطالما كانت هذه قضايا ثانوية، ولطالما وقعت ضمن المنطقة النقدية المتاحة في إسرائيل، مثلها مثل قضايا التعليم والرفاه الاجتماعي مثلاً. أمّا الخطاب الذي هيمن إعلامياً في مثل هذه القضايا سابقاً، فكانت تمليه نقابة الأطباء وتجمّع مدراء المستشفيات وغيرهم من العاملين في جهاز الصحة، ممن خاضوا على مدار سنوات صراعاً حاداً ضد وزارة الصحة؛ منها صراعات بشأن ساعات عمل الأطباء الطويلة، وعدد الأسرّة في المستشفيات، وخصخصة الطبابة وكثير غيرها.

بلغ هذا كله نهايته تحت أزمة الكورونا. موظفو وزارة الصحة الذين كانوا أشبه بكيس الملاكمة في نشرات الأخبار، باتوا أبطال الساعة، بينما وُبِّخَ مدراء المستشفيات الذين احتجوا على قرارات الوزارة بشأن الوباء. وباتت الحكومة مصدر المعلومات الأساسي وشبه الحصري، وصار نشر المعطيات والآراء النقدية متبوعاً بتحفّظٍ متطرف من المحلّلين ومقدمي الأخبار. وبلغ هذا، مثلاً، حد توظيف طبيب يدعى غابي بربش ضيفاً ثابتاً في القناة الإخبارية الأكبر في إسرائيل ("قناة 12")، على الرغم من أنه شغل في السابق منصب المدير العام لوزارة الصحة، وصار يشارك يومياً في صوغ القرار الحكومي بشأن مكافحة الوباء. وقد مثّل من دون اعتذار مواقف الحكومة الإسرائيلية، وأدى دوراً "صحافياً" في تسخيف أي موقف طبي وصحي لا يتّفق مع الوزارة.

أدت الصحافة أيضاً دوراً محورياً داخل المجتمع الإسرائيلي وفي مواجهة الفلسطينيين. فداخل المجتمع الإسرائيلي، كرّر الإعلام دوره كما في كل "معركة": توصيف درجات "خطورة" الشرائح الاجتماعية بحسب قربها أو بعدها الإثني والأيديولوجي عن السائد في المؤسسة الصهيونية، وعن النموذج الاجتماعي "المثالي" في إسرائيل – ذلك الأشكنازي العلماني الذي يؤدي واجباته العسكرية تجاه الدولة. فاليهودي الشرقي هو نجم أخبار التجاوزات الفردية والاعتداء على الشرطة "البريئة" التي تحاول ضبط الحجر الصحي، بتصويره النمطي، والحديث عن أسباب "ثقافية" تجعلهم أكثر خطورة. مثل القول أن اليهود الشرقيين "اجتماعيون ويكثرون من الملامسة الجسدية"، وأنهم عنيفون كلامياً وجسدياً أمام سلطات تطبيق القانون. أمّا اليهود المتدينون (الحريديم)، الأبعد من الشرقيين عن المؤسسة، والذين يرفضون الخدمة العسكرية، فهم شريحة كاملة عُرِّفت بـ"خطرة" منذ بداية الأزمة، ويؤصّل عدم خضوعها لتعليمات الحكومة كخللٍ ثقافي وتخلّف ديني. وواظب الإعلام يؤكد أن الاحتفالات الدينية بعيد المساخر هي سبب أساسي في تصاعد الوباء. وتحوّل إصرار مجموعات متدينة على الصلاة في الكُنُس إلى شبحٍ يومي يرعِب إسرائيل.

أمّا بالنسبة إلى الفلسطينيين، فقد تعامل الإعلام مع إغلاق بيت لحم أولاً، ثم الضفة وغزة، على أنه المفهوم ضمناً. وكذلك مع تشجيع السلطات الإسرائيلية الحظر المتطرّف الذي فرضته السلطة داخل الضفة (وقد تكون ضغطت لتطبيقه من خلال منظومة التنسيق الأمني) على أنه أمر مسلّم به. كما لم يتعامل مع تشغيل العمال الفلسطينيين على الرغم من الحظر، وما شهدناه لاحقاً من تنكيل بحقهم. ومثّل الإعلام بوضوح تعامل إسرائيل مع فلسطينيي الأراضي المحتلة سنة 1967 على أنهم قنبلة موقوتة لا مفرّ منها إلاّ بإحكام العزل.

وبالنسبة إلى فلسطينيي الداخل فقد انتهج الإعلام مسارين: من جهة، تعتيم وتهميش تام على قضايا الصحة في القرى والمدن الفلسطينية، وتجاهل مطلق للفجوات الهائلة وانعدام المستشفيات والإسعافات وعموم الخدمات الصحية فيها. والتجاهل التام لضائقة السكن وصعوبة تطبيق الحجر في ظل الضائقة، وتعتيم كما العادة على الحالة الخطرة في القرى غير المعترف بها، المحرومة من أية خدمات وبنى تحتية، ولم تُذكر إلاّ في سياق المقترحات الأمنية لعزلها.

ومن جهة أُخرى، التزمت الأخبار التغريد خلف نتنياهو الذي اعتبر "عرب إسرائيل" الشريحة الأخطر لعدم انضباطهم في الحجر، وعدم التزامهم بتعليمات الحكومة، علماً بأنه منذ بداية الأزمة لم تشهد القرى والمدن الفلسطينية في الداخل أي أداء مختلفٍ عن أي تجمّع يهودي، كما كانت القرى والمدن الفلسطينية في الداخل ولا تزال من التجمعات الأقل إصابة بالوباء نسبة إلى التجمعات الإسرائيلية. كما برزت بقوة الأصوات الصحافية التي دعت إلى فرض منع التجوّل الشامل في رمضان على القرى والمدن الفلسطينية، على الرغم من نُدرة الإصابات فيها، وعلى الرغم من أن الحكومة بصورة عامة بدأت بتخفيف إجراءات الحجر.

أدى الإعلام الإسرائيلي دوره الثابت والجوهري في المنظومة الاستعمارية، فبمجرد أن انضوت الأزمة الصحية تحت الغطاء الأمني، رصّ الإعلام تشكيله العنصري وأصبح مرآة صافية للأيديولوجيا الصهيونية وممارساتها. ليس في هذا، في الحقيقةِ، أي نبأ جديد. لكن الملفت من جهة أُخرى شكل الخطاب الفلسطيني في هذا الإعلام، وكيف تعاملت القيادة السياسية، من أعضاء الكنيست عن القائمة المشتركة ورؤساء بلديات وشخصيات اجتماعية بارزة، مع هذا الخطاب الإعلامي الإسرائيلي الذي تتعامل معه وتنطق أمامه باسم فلسطينيي الداخل.

 بشبه كبير من تصرّف السلطة الفلسطينية في الضفة، أصيبت القيادة الفلسطينية بالداخل بهوس إثبات جدارتها بالقيادة. بات الوباء غطاءً شرعياً للهروب من المسؤوليات السياسية الجذرية (والتي تخص صحة الناس وحياتهم أولاً!) نحو ظهورٍ شعبويّ لم يتعدَ كونهم ناطقين بالعربية بلسان وزارة الصحة.

في الإعلام الإسرائيلي، حاولت الوجوه الفلسطينية أن تثبت براءة فلسطينيي الداخل من تهمة "الخطورة". وأرادت أن تؤكد التزامنا بتعليمات الحكومة. وتفاخرت مرةً تلو الأُخرى بمساهمة الأطباء العرب في جهاز الصحة الإسرائيلي. وحوّلت "افتتاح" نقاط فحص الكورونا في المدن الفلسطينية (وكنا آخر من وصلته الفحوصات) مناسبة إعلامية تحجّ إليها القيادات السياسية والمحلية من دون أيّ سبب أو أي حاجة صحية. ولا ننسى التأكيد أننا والإسرائيليين في قاربٍ إنساني واحد في مواجهة الوباء.

Read more