من وحي الميلاد ومذاق السجن
النص الكامل: 

إنها النطفة، وبها تستعيد الحياة قدرتها على التجدد. فأولاد النُّطَف أو النطف المهرّبة أو النطف المحررة من الأسير إلى شريكة الحياة لتحمل وتلد مولوداً أو مولودة، يملأون مساحات الأمل ويجسدون حيوية الجمال.

يحدث هذا حتى إذا كان الأسير محكوماً بالسجن المؤبد المضاعف مدى الحياة في سجون الاحتلال، كما تسير شريكة دربه وشريكته في الأَسر وفي فرح السجون الحزين في مسيرة الانتظار نفسها، المرصوفة بالأمل وبالمعاني التي يختارانها.

في تاريخ الإنسانية والديانات السماوية هناك ثلاث حالات للوليد أو الوليدة من دون فعل التزاوج. ففي قصة الخليقة في العهد القديم يُخلق آدم من التراب والروح ومنه خُلقت حواء، ثم هناك بشارة الملاك جبرائيل لِيَليها حمل مريم العذراء من الروح القدس وولادة يسوع المسيح بحسب الديانة المسيحية والكتاب المقدس العهد الجديد، ولاحقاً مثلما ورد في الإسلام والقرآن الكريم، ولادة عيسى بن مريم. وما يميز هذه الأخيرة أنها حدثت في فلسطين، لكن في فلسطين أيضاً حالات ولادة من دون فعل تزاوج، هي ولادات السجن التي لا تدخل ضمن العجائب والمعجزات الربانية، لكنها تلامس المستحيل.

في فيلم الرسوم المتحركة "هورتون يسمع هووو!" (Horton Hears a Who!‏) (2008)، ذُهل الفيل هورتون في أثناء تجواله في الغابة عندما سمع صرخة قادمة من ذرّة تراب، ودار في خياله أن الذرّة تحوي مدينة يعيش عليها سكان من نوع آخر. وتتأكد فرضيته عندما يتحدث إليه عمدة هذه المدينة، والذي يؤكد له أنهم كائنات الـ "هو"، وأن أحجام هذه الكائنات متناهية الصغر، ويطلب منه حماية الذرّة وحفظها في مكان آمن. يجد هورتون مكاناً آمناً للذرّة، ويَعِد العمدةَ بحماية كائنات الـ "هو"، لكن هذا الأمر يزعج الكانغارو "سور" الذي يرى أن هورتون جنّ، وبات يقول أشياء غير قابلة للتصديق، ويجب إيقافه، فيحشد سكان الغابة ليحكموا عليه بالحبس، وبرمي الذرة في قدرٍ من الزيت المغلي أمامه لينسى هذه الفكرة تماماً. وفي اللحظة الفارقة، وبعد أن احتشد سكان المدينة واستخدموا براعاتهم كلها، يصل صوت الكائنات الصغيرة "نحن هنا" لتنقذهم صرختهم ويحظى سكانها بحياتهم الحرة الكريمة، ويُنفى "سور" من وطن الغابة.

حين أمرّ بالسيارة من جانب مجمع سجنَي الجلبوع وشَطَّة المحاذيَين للشارع الرئيسي حيفا - بيسان، أطلق العنان لبوق السيارة المتقطع إلى أن أصل إلى الجانب الآخر للسجن. أقوم بهذا لمعرفتي بأهمية إطلاق الصوت بالنسبة إلى الأسرى الذين يردّون وهم يتجولون في ساحة السجن على السائق الذي يطلق بوق سيارته تحية لهم من دون أن يعرفوا مَن هو هذا السائق.

أنا لا أسمع صخب الزملاء الأسرى في تلك اللحظة، لكنني أتخيلها وأصغي في مخيلتي أيضاً لصخبهم. إنها شيفرة فلسطينية ولغة نسجتها خيالات الناس العنيدة وتكافلهم على الرغم من الجدران التي تفصل بين الطرفين، وهي نداء للأسرى بأن الناس لم ينتظروا هورتون ليعلنوا وفاءهم لهم، ويصغوا إلى صوتهم حتى لو كان في أعماق الأعماق. قد لا يكون هناك عمدة لهذه المدينة، لكن الناس، كما الأسرى، هم العمدة وعليهم الاعتماد، فمسؤولية الصمود والحفاظ على الصوت هي على الأسرى، ومسؤولية التحرر والتحرير هي على الناس.

ثلاثة جدران اثنان منها جدار واحد

تعبت النصوص من ثقل الحِمل، وتعبتُ وأنا أقرأ ما خطّت أيدي وليد وسناء وأسامة ومنار، وعادة ما تكون القراءات مسائية. تساءلت عن منبع هذا الشعور، وتوصلت إلى أن النص الذي ينقل المشهد الأسير بدقة، لا يترك قارئه، بل يلاحقه أو يجاريه أو يصادقه ويشدّه إلى هناك أيضاً. استحوذت عليّ نصوص قصص التحقيق والسجن والحياة الاعتقالية؛ إنها عالم أكثر ممّا هي قصة، عالم قد يذكرني بقصص شاهدَتْها الأعين أو تجمعتْ في القلب والوجدان. وما أكثر متاهات الذاكرة، فكلما قرأت النصوص أعادني منامي إلى السجن وإلى الزنزانات وجدرانها وسكونها القاتل.. أصحو من نومي لأجدني خارجها، أتيقن من ذلك، وأسأل نفسي لماذا هذا الحلم، فأتذكر النص وأحاول أن أواصل نومي.

سأبدأ بحكمة أستعيرها من الأسير السابق يوسف شمس، ابن الجولان السوري المحتل، حين تقاسمنا وستة أسرى من مختلف الفصائل الزنزانة ذاتها. يقول شمس إن "الأسير الذي يمضي عشر سنوات من دون أن يصاب بالجنون، هو مجنون." وللجنون تجليات عديدة على طول المساحة بين "فقدان العقل" حتى النبوغ، أو "فائض العقل".

لا تستطيع حِكَم السجون أن تكتمل ما لم تأتِ من داخل الجدران، وهذا بخلاف الحِكَم عن السجون والأسرى التي تأتي من الخارج، والتي كثيراً ما تفتقد الحكمة، كونها آتية من أسطرة مَن لا يريدون أن يكونوا أسطورة، فأبطال الأساطير يأتون بالخلاص بقدراتهم الذاتية، أو تنتهي حكاياتهم بالتراجيديا. لقد باتت لغة الأسطورة متمثلة في إغداق نياشين البطولة، بينما حكمة الأسير هي أن حياته وعالمه هما عالم من عوالم الإنسان، وأن الحرية هي دور الذين هم خارج السجن، بينما الصمود وحماية الحرية التي فيه هما مسؤوليته هو.

 أنا بشريّة في حجم إنسانٍ

فهل أرتاحُ

والدم الذكي يُسفك!!

أغنّي للحياة

فللحياة وهبتُ كل قصائدي

وقصائدي،

هي كل.. ما أملك!

(من قصيدة "المغنّي" لتوفيق زيّاد)

في المهرجان الاحتفالي الذي أقيم بمناسبة تحرري من السجن في أيار / مايو 2019، دار نقاش ودي جميل حملته كلمات المتحدثين والمتحدثات، وبالذات بين أخوين لي، أخي وشقيقي عصام مخول وأخي محمد بركة، وذلك بشأن مفهومَي الأسير والسجين السياسي. وحين أتى دوري لألقي كلمة حاولت أن أذهب باللغة العربية إلى عالم المعتقل وإلى لغة السجن ومفاهيمه، ورأيت أن اشتقاق المصادر لا يكون فقط في ثنايا اللغة، بل في خبايا الحياة الاعتقالية أيضاً حيث "الدرّ كامن"، ووجدت أن الأسير والأُسرة هما من المصدر الحياتي ذاته. ومع أن هذا لا يستقيم مع اللغة، إلّا إنه يستقيم مع الحياة في ذاك العالم، لأن الأُسرة والأسير يعيشان على جانبَي السجن نفسه. فالأُسرة هي أسيرة هذا الواقع كما الأسير، فهي مَن تعيش الجانب الآخر للوحدة وللوحشة وللفراغ، وهي مَن تعيش أيضاً الجانب الآخر للمعنى. ومن دون الطرفين لا يكتمل مشهد المعاني، ويكفّ الأمل عن أن يكون شاحناً للأمل الذي لا يأتي من دون أطرافه، والذي يعشش هناك بين الطيّات، فالأسير كما الأُسرة يحتاجان إلى أطراف أُخرى شريكة في تكوين الطيّات وولادة الأمل. الجدار الآسر لا يكتمل من دون جانبَيه ولن يُهدَم من دون جانبَيه، وربما يذكّرنا هذا برقصة التانغو التي لا معنى لها إلّا بالطرفَين كي تكتمل جماليات المشهد والحس، بينما في سياقنا كي يكتمل إدراك القهر، وليُبنى الأمل بإنهائه.

الحنين إلى المنزل الأول

كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبداً لأول منزل

(من قصيدة أبو تمّام "البَيْن جرّعني نقيع الحنظل")

كيف يتولد الحنين من دون أي منزل؟ هذه مسألة حقيقية، إذ إن الأسير الأعزل من كل شيء والمتمسك بنفسه، يبني منزلاً في زنزانة يتقاسمها ثمانية أسرى، وبمهارة لا يتقنها إلّا الأسرى؛ يبني عالماً من الحب في علاقة تنسج خيوطاً تدخل السجن وخيوطاً تخرج غير آبهة بالشبك الحديدي المحيط، لينتعش قلبا الحبيبين من جانبَي الجدار الفاصل. وكي يقوم الأسير بهذا البناء، فإنه يحتاج إلى نفسه فقط، وخير مساعدة يمكن أن يقدمها له زملاؤه في البناء، هي أن يتركوه وحده في زاوية سريره في الزنزانة. فالتجلّي بحاجة إلى السكون، وكذلك التحليق في خيال البناء.

يبدأ الأسير عملية البناء من الأساسات، لكن أي أساسات وكيف؟ هناك ظاهرة معروفة وهي أنه في عصر التكنولوجيا المتسارع والمتغير، فإن كثيرين من الأسرى القدامى يتمسكون بالبقاء عند لحظة اعتقالهم لكنهم يكبرون سنّاً وتجربة، ويلمحون مرور الوقت في المرايا الصدئة التي تآكلتها الرطوبة وباتت تعكس تشوهاتها كأنها تجاعيد على نفوس الأسرى، كما يلمحون ذلك في وجوه الأهل المتعَبة خلال الزيارة وكيف ينال منها الزمن الأسير.

تزداد الجدران العالية ارتفاعاً، والأسلاك الشائكة علوّاً، وتتكاثر أجهزة المراقبة، وكلما تبدّل مدير السجن يقوم المدير الجديد بإضافة قفل جديد لبوابات الزنزانات المحكمة الإغلاق أصلاً، لكن الأسرى كما الماء الجاري، يجدون مسرباً في شقّ مهما يكن صغيراً لتبدأ عملية التوسيع. وهذا ما حدث في قضية الهواتف الخليوية التي جرى إدخالها بأساليب أقرب إلى الخيال، أتاحت لهم أن يروا النور وأن يشعروا بنبض الحياة، ليعلنوا انتصارهم، وذلك حين وافقت استخبارات الاحتلال، مضطرة، على إدخال الهواتف العمومية. ومع أن تنفيذ القرار لم يتم بشكل منتظم بعد، إلّا إن مجرى تدفق المياه والإصرار كفيلان بأن يجعلا هذه الفسحة تتسع وتتحول إلى شلال.

سعادة صغيرة

تآكلت الحالة الفلسطينية من جميع جوانبها، بينما بقيت صورة الأسير من الصور المشرقة في الوجدان. يقول ناظم حكمت: "أريد سعادة صغيرة. ‏لتكن صغيرة بهذا القدر، ‏بحيث لا يريد أحد أن يأخذها مني." وفي هذه الحرية الصغيرة يبني الأسير المنازل، ويلتقي قلبه في مساحاتها مع قلب حبيبته التي تجد حريتها في حبيبها وهو في زنزانة الأَسر. السعادة الصغيرة هي المساحة المطلوبة لا أكثر، لأنها إذا كبرت لا تتسع لها زنزانة. فصغر السعادة يسمح للأسير بأن يحميها في أي سجن كان، أو في الحافلة المقفلة حين ينقلونه من سجن إلى سجن ويقتله "المقعد الحديدي الشرس" ببرودة قساوته، مثلما يكتب أسامة الأشقر وهو جالس على هذا المقعد مقيد اليدين والرجلين والسلاسل تغرز في معصميه عند أصغر حركة، وحين الالتفاف عند كل مفترق طرق.

إن شعور السجين بالحنين إلى المنزل الذي يستحيل في مخيلته أرضاً واسعة، يُكثّفه ناظم حكمت في قصيدة "لعلها آخر رسالة إلى ولدي محمد"، من ديوان "أغنيات المنفى":

 لا تحيا على الأرض

كمستأجر بيت

أو زائر ريف وسط الخضرة،

ولتحيا على الأرض

كما لو كان العالم بيت أبيك،

ثقْ في الحب، وفي الأرض، وفي البحر

ولتمنح ثقتك قبل الأشياء الأُخرى للإنسان!

ظاهرة العشق من داخل السجن ليست بجديدة ولا تقع في أطراف المشهد، بل إنها من مقومات العيش هناك. أمّا مسألة تكوين أسرة فانعكاس لحب الحياة، وفعل مقاومة لكل احتلال.

وفق قوانين دولة الاحتلال وقضائها، فإن بعض الأحكام يصل إلى عشرات المؤبدات، ومعظمها لا يكتفي بالسجن المؤبد مدى الحياة والمكرر، بل تضاف إليه عشرات الأعوام. فالأسير أشرف قيسي مثلاً، من قرية عرب المفجر المُقتلعة والواقعة جنوبي جسر الزرقاء، وهو حالياً من سكان باقة الغربية، حكمت عليه المحكمة العسكرية بـ 9 مؤبدات وفوقها 20 عاماً... وماذا أيضاً؟ مصادرة رخصته لقيادة السيارة! قرر أشرف أنه ليس على عجلة من أمره في السجن، وقدم دعوى قضائية لاستعادة رخصته المصادرة، ليس لأن الرخصة تفيده، بل كي يهزأ من سجّانيه. أمّا الأسير أحمد أبو خضر فقد حكمت عليه المحكمة المركزية (المدنية) بـ 11 مؤبداً وفوقها 50 عاماً... و6 أشهر. نال أشرف حكمه من المحكمة العسكرية، وأحمد من المحكمة المركزية (المدنية).

خلافاً للأسرى الفلسطينيين، فإن القانون الإسرائيلي يعطي السجين الجنائي الإسرائيلي (حتى لو كان قاتلاً إرهابياً) الحق في استقدام شريكة حياته إلى السجن والتواصل في حجرة خاصة لممارسة حقوقه الزوجيه وتأسيس أسرة، فضلاً عن الإجازات التي يمضيها خارج السجن والتي يحصل عليها بناء على سلوكه، وهكذا تمكن السفاح عامي بوبر منفذ العملية الإرهابية في عيون قارة في سنة 1990، والمتهم بقتل 7 عمال عرب ومحاولة قتل 10 آخرين، من الزواج 3 مرات وإنشاء عائلة من عدة أبناء وهو في السجن. أمّا يغئال عمير قاتل رئيس حكومتهم يتسحاق رابين، فتزوج وهو في السجن وأنجبت زوجته طفلاً بات اليوم في الرابعة عشرة من عمره.

إنه جدار فصل عنصري يفصل بين القانون وحقوق الإنسان الفلسطيني، ففي خبايا النص القانوني يكمن الاستثناء السلبي المخصص للفلسطيني الذي إن تمكن من تجاوزه، فإنه سيجد نفسه أمام جدار جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) وسطوته على المحاكم، والقاضي بـ "المعلومات الاستخباراتية السرية" النافدة في كل حين، والسارية المفعول في كل ملف، وهي الأساس في السجن الإداري وفي "الملفات الأمنية" كافة.

في منظومة القهر الاحتلالية وحلقاتها كثيراً ما يشعر الأسرى بأن أصحاب الحصة الأكبر في صناعة القهر وروّاده هم القضاة، فهم يقومون بطقوس الوقار مقارنة بالمحققين والسجانين، ذلك بأن قساوة اللغة الليبرالية المنمقة حين تحمل احتلالاً ونكبة وابتسامة سموحة، لا تضاهيها لعبة من ألعاب الخبث والتمثيل بروح الضحية التي يقررون إعدامها برقيّ. ويزداد منسوب هذا الرقي القاتل إذا كان الأسير من فلسطينيي 48، وتكون التهمة "خيانة الدولة".

 أبناء الانتفاضة الثانية

أسرى الانتفاضة الثانية هم جيل ومرحلة وقصة، فهم لم ينتموا إلى الفصائل وإنما إلى الكتائب، وخصوصاً كتائب شهداء الأقصى. هكذا دخل السجون مَن لم يستشهد منهم. إنهم جيل لا يمثل بالضرورة المرحلة الأكثر وعياً، فقد تعثّر الوعي بعد اتفاق اوسلو، لكن جميعهم تساوت عندهم الحياة والمقاومة والاستشهاد. من هنا جاء أسامة، وهو ينتمي إلى قصة مَن حملوا أرواحهم على راحاتهم ومضوا بها، فإمّا الوطن، وإمّا الوطن.

لفت انتباهي حين أقمت في سجن "قسم نابلس" أن قياداته كلها من هذا الرعيل وهذه التجربة، أي رعيل أسامة وكتائب شهداء الأقصى، وحين كان يحضر معتقل جديد كبير السن أو صغيره، فإنه يحظى منهم باحترام وتقدير لافتين. لم يكن ذلك مفهوماً لي أنا القادم من حيفا، وهم في أغلبيتهم من يافا وقراها أصلاً، والذين هُجّر أهلهم في الاحتلال الأول، واستقروا في مخيم بَلَاطة، بينما البعض الآخر من قرى حيفا والكرمل، وقد استقر في مخيمات جنين وطولكرم وبَلَاطة. استفسرت ذات يوم عن هذا الاحتفاء، فقال لي رامي نور (الذي اعتَقَد أنه استشهد حين أصيب برصاصات اخترقت جسده ورأسه وعنقه ولا تزال إحداها مستقرة في منطقة القلب ولا يمكن استئصالها والأُخرى في الجمجمة، وذلك خلال اقتحامه وحيداً مركز قيادة وحدة "حرس الحدود"، وقد شاع خبر استشهاده على المنابر): "هؤلاء (الجدد) كانوا في أغلبيتهم صغار السن في الانتفاضة الثانية، وكانت أم فلان وأم فلان وتلك الجارة تقوم بتوفير الحماية لعناصر الكتائب المطاردين من طرف جيش كامل بعتاده واستخباراته وعملائه وطيرانه. فملاجىء الذود عن الشباب كانت من صنع المرأة، وكم من أسير تآخى مع أسير آخر أو شهيد لأن أم أحدهما وفرت لهما ملجأ." لم تكن الأم ملاذ ابنها فحسب، مثلما حدثني زملاء الأَسر الذين عايشوا تلك الأحداث وساهموا في صنع التاريخ، بل إن كل أم كانت أيضاً ملاذاً لكل محتاج من عناصر كتائب شهداء الأقصى وغيرهم من المطاردين. فالأمومة تجاوزت حدود الأُسرة ونزلت إلى الميدان وأعلنت انتفاضتها. وكم بكى أسرى هذا الجيل أم زميلهم المحكوم مثل أم حاتم الجيوسي التي غادرت قبل أشهر، وجميعهم يطلقون عليها "أمي".

وليس مصادفة أن يكون معظم الأسرى الذين ارتبطوا عاطفياً في السجون مع شابات خارجها، من أسرى تلك المرحلة.

من هذا المكان جاءت تجربة أسامة ومنار، والتي نسجت شباكها الأمهات المتمسكات بتوفير ملجأ الأمان للمقاومين. فالمعركة حُسمت على الأرض، لكنها لم تُحسم على روح الشعب وعلى ملاجىء الأم الفلسطينية، وهي ملاجىء ليست للاختباء من الاحتلال، وإنما فسحة لإعادة الاصطفاف وتأجيل موعد الأَسر أو الشهادة.

في السجن حيث الأحكام تتجاوز أحياناً عشرات أضعاف معدل عمر الإنسان، يتعين على كل أسير أن يبني شعاع نور، وهكذا تخرج رواية وتخرج قصيدة وتخرج محادثة هاتفية مع أهله وتخرج كبسولة إلى تنظيمه. ففي ذهنية الحياة وإرادة البقاء والحفاظ على الحلم من الاندثار، يمرر الأسير جزءاً من روحه ومن جسده كي يخلق حياة جديدة تكون نقطة النور التي تشع منه مهما يطلْ زمن الأَسر. إنه زمن مختلف لا يقاس بمعايير الوقت فحسب، بل بمعايير الفراغ الذي يمنحونك إياه قسراً ويريدون أن يملأوا حياتك به أيضاً، فالسجن فراغ، فإمّا يملؤك الفراغ بالفراغ، وإمّا تملأه بالمعنى، وفي الحالة الأولى يصبح مقبرة وفي الثانية مدرسة.

يروّض الأسير حواسّ جديدة يجعلها ملازمة لإنسانيته، كحاسّة الصبر، وحاسة القدرة على كل شيء في ثنايا القهر، وترقّب نباهة السجّان ومدى إخلاصه لوظيفته. وذلك كله ليكون قادراً على تهريب نطفة كي تلد الحياة، بعد أن مهّد الحب والارتباط طريق الحبيبَين إلى الحرية.

أسامة ومنار

أمرّ على الديار ديار ليلى

أُقبّل ذا الجدارَ وذا الجدارا

وما حبّ الديار شغفنَ قلبي

ولكنْ حبُّ مَن سكن الديارا

(مجنون ليلى)

شتان ما بين جدار وجدار، جدار يتيح لك أن تستند إليه فتستكين وتقبّله وترضى لما فيه من ريح عشق وذاكرة وطن وتجليات حياة، وجدار يريدك أن تقبله إذلالاً، وأن تنصاع لحضوره في أرضك ليفصل بينك.. وبينك.

في السجن يكون المرور على الديار افتراضياً، لكن التقاء القلوب حقيقياً، ويبدو أن للقلب إرادة تتكامل مع إرادة الروح والإدراك، فإرادة القلب مغامرة لا تعرف المستحيل ولن تعترف به. وهكذا التقى قلب منار الخلاوي، ابنة خالة الأسير بهاء الدين عودة، بقلب أسامة الأشقر، زميل ابن خالتها في الأسر. كان بهاء الدين قد اعتُقل في سنة 2016 وهو مصاب بعد تنفيذه عملية طعن. وبسبب إصابته جرى نقله من مراكز التحقيق إلى مستشفى سجن الرملة الذي يسميه الأسرى مقبرة الأحياء، مثلما يقول الأسير راتب الحريبات في كتابه "لماذا لا أرى الأبيض". بعد ذلك نُقل بهاء إلى سجن ريمون شمال النقب حيث اعتنى به أسامة، وفقاً للتقاليد النضالية في سجون الاحتلال، وفي الأحاديث بينهما بدأ يظهر اسم منار لأسامة وظهر اسم أسامة لمنار وأهلها، وهي التي تتابع قضايا الاسرى وقصصهم وتسعى لتقديم كل إسناد لهم، وتشارك في الرسائل المذاعة لهم عبر إذاعة "صوت الأسرى". وكان الفضل في هذا لأجهزة الاتصال التي وفّرها الأسرى بأساليبهم الألمعية، والتي وصلت إلى حد تجرّأ فيه أسامة على طلب رقم هاتف منار بعد إذنها، لتبدأ الحكاية.

تقول منار في إحدى مقابلاتها الصحافية: "بحكم قرب علاقتنا من ابن خالي بهاء الدين كنا نتصل به كثيراً، ولا تخلو محادثة من ذكر اسم أُسامة مراراً وتكراراً على مسامعنا، وكان اسمه لا يفارق لسان بهاء. هنا تملّكني الفضول لأن أعرف مَن هو هذا الأسير، فأنا بطبيعتي أميل كثيراً إلى قضية الأسرى، وما إن أسمع عن أي أسير حتى أقرأ عنه وأعرف تفاصيل اعتقاله، وبالفعل بحثت على محرك جوجل عن الأسير أُسامة الأشقر لأعرف أكثر عنه."[1]

شكّل أسامة بالنسبة إلى منار البطل الأسطوري، فهو في عشرينياته كان قائداً في كتائب شهداء الأقصى، وكان مطارداً لعامَين كاملين وهو بعمر الثمانية عشرة قبل أن يتم اعتقاله، مع أنه لم يتصور يوماً أن يكون معتقلاً، وإنما شهيد.

وتتحدث منار، المتعلقة بأسامة مثلما هو متعلق بها، بثقة وتصالح رائعَين مع الذات، عن أسامة الذي كان عرضة لجميع أشكال التعذيب ومحاولات كسر الروح والجسد معاً، إلّا إنه انتصر لإرادته، وأكمل تعليمه داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، وأتمّ امتحان الثانوية العامة (التوجيهي)، وكتب ولا يزال يكتب المقالات.

يخص أسامة في الإهداء في كتابه "للسجن مذاق آخر" منار خلاوي بالشكر، فيقول: "إلى منار، النجمة التي أضاءت سمائي وأدخلت النور إلى زنزانتي. لا تغيب عن أيامي.. فكانت منارة تشعّ في الآفاق ... فأصبحت سفيرة لنا تنقل صوتنا للعالم أجمع وتدافع بكل عزم وإيمان عن حقنا في التعبير عمّا يجول في نفوسنا وما يختلج في أرواحنا."[2]

ثم تتحول منار إلى بطلة المشهد: "ثقيلة سنوات الأَسر، وجافة حياة السجن، أشتاق لنفسي التي تركتها هناك خلف الأبواب الموصدة، مَن أنا، ما أنا، سرقوا عمري، حكموني ثماني مؤبدات، أُمارس الحياة في السجن، أنهض بواجباتي، لكني لن أسمح لنفسي اعتياد هذه الحياة. شيء ما يشدني إلى ذاتي التي تركتها خلف الجدران، شيء ما يدفعني إليها. فما هي الحياة إذا انتزعنا منها الأمل؟ أدركت الآن ما الذي يمنحني طاقة الاستمرار، إنه الأمل، والأمل ليس كلمة فقط، ولا مجرد إحساس، ولا محطة انتظار، إنه طاقة خلاقة تحملني إلى حيث أتوق، وكلما أظلم ليل السجن، أراكِ هناك في اللاوعي تحملين شمعة وتلوحين من بعيد."[3]

منار من بيت لحم، وربما ما كانت لتلتقي بأسامة ابن طولكرم وأزقة الانتفاضة الثانية، لكن في السجن يجتمع الشعب الفلسطيني الذي لا يستطيع أن يلتقي إلّا في مكانَين غير اعتياديين: فإمّا خارج الوطن، وإمّا داخل الجدران، ليكون في السجن متسع للمّ شمل الشعب وعشق الأحبة.

تتحدث منار عن أصل الحكاية، فتقول: "كنا ملائكة صغاراً وأمام فوهات البنادق نشأنا. لم تكن دلالات الكلمات الثقيلة قد أخذت معانيها داخل ذهني، كنت وأطفال الحي نلهو قرب حواكير البيوت، لم نكن نعلم لماذا تواصل أمهاتنا واحدة تلو أُخرى الإطلال من خلف البوابات، ينظرن إلينا ثم ينظرن يميناً ويساراً ويقلن لنا، العبوا هنا لا تبتعدوا، اِحذرو الجيش، ديروا بالكم هدول احتلال ما بخاف الله"، وتضيف: "يخبرني أسامة أن الأسرى يقولون له إن خطبتنا قد جعلته يبدو أصغر سنّاً، وأن مشاعر الفرح والسعادة لا تغيب عن محياه، وعندما يسألونه عن سر هذا التألق في عينيه، يجيبهم، إنها منار، منارة القلب وطريقي نحو الحرية [....] بعد أن أخذ السجن سنوات عمره كان يشعر أنه داخل قبر، اليوم يشعر أسامة أن الحب انتشله من براثن اليأس والقيد وحمله إلى عالم الأمل والحياة.[4]"

يدور مفهوم التضحية في ذهن منار وينتقل ليدور في قلبها، وبات أسامة نسمات هواء لطيف تُبعد جدراناً ومؤبدات، ومن تلك المسافة تقول منار: "شيء ما تغير داخلي، لم أكن أدرك تماماً ما هو، إحساس بنسمات هواء لطيف، بدأ أسامة البعيد، بسيرته الشجاعة رغم صغر سنه يتجسد أمامي بطل الحكايات على ألسنة الجدّات في حواكير الحي، بطل لم يجد الاحتلال إلّا أن يحكم عليه بالسجن ثماني مؤبدات وخمسين سنة، انتقاماً من بطولته."[5] لقد تمثلت تضحية منار في الاستعداد للسير في اللاطريق، لتقوم بشقّ طريق كي تلتقي وأسامة ويسيران معاً. عارض الأهل بذريعة المستحيل والعُرف والمصير المجهول، لكنها معارضة لانت أمام إصرار منار واتصالات الأسرى من السجن بأبيها.

"للسجن مذاق آخر"، هو شهادة مشفوعة بالألم مقدّمة من جانبَي الأَسر، وهو المولود الأول لأسامة ومنار. إنها القصة بكل ما فيها؛ قصة الذين هم، كالشعب، لا يعرفون المستحيل. لقد بنيا قصة خلاصهما على حبهما الذي حملت أحاسيسه النسمات الخفيفة التي اكتشفتها منار، فأطلقت لها عنان السماء، وحتى إن صدمتها الجدران فإنها تعلو فوقها لتصل إلى خيوط الشمس غير الآبهة بشبك القفص الكبير، ولتنساب إلى قلب طالبها ليطير غبطة وانتصاراً للإنسان الذي فيه.

يحدثنا أسامه عن مذاق السجن، وعن دربَي الآلام والتصالح مع الذات ومع الحب. لقد نبّه منار في بداية الطريق إلى المستحيل وإلى الحكم بالمؤبدات المضاعفة، فقد شَغَله اليقين أشغله كثيراً، ليس يقين القلب وإنما يقين أن الأمر ربما يقود منار إلى العدم أو الندم، فتساءل عمّا إذا كان الموقف الأول المعارض لوالدها هو الأصحّ، وأن الحب ربما يكون هو العالم المستحيل، لكن منار اختارت طريق الحبّ. لقد اتخذت قرارها وتجاوزت جميع المعوقات، ولم تكتفِ بذلك، وإنما أعطت التضحيةَ بعداً جديداً، فليست التضحيةُ شأنَ صاحبها فقط، وإلّا لكان اليأس، بل على المضحين والمضحيات كلهم تجميع تضحياتهم كي تكتمل صورة الحياة.

الخيبات التي زادت الإصرار

في سنة 2013 حضرتْ وبشكل استثنائي موظفة مرموقة في وزارة القضاء الإسرائيلي ودخلت قسم أسرى القدس والداخل، واجتمعت بقدامى الأسرى من فلسطينيي 48، والذين اعتُقلوا قبل توقيع اتفاق أوسلو. فالتمهيد للمحادثات الفلسطينية - الإسرائيلية بوساطة أميركية، له بُعده القانوني الإجرائي. طلبت الموظفة من قدامى الأسرى أن يُعدّ كل منهم رسالة فيها تسويغات تساعد في تحديد حكمه من طرف رئيس الدولة في حينه شمعون بيرس. وإمعاناً في القهر يطلَق على هذا الإجراء رسمياً صفة "استرحام". لكن "كيف يداوي القلب مَن لا قلب له"، إذ ما أبعد المسافة بين الرحمة وشمعون بيرس. كتب الأسرى الرسائل، لكن بلا جدوى، فقد سادت بعد ذلك مماطلة لم تنتهِ.

كانت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما تسعى لتحريك الجمود الذي وصل إليه اتفاق اوسلو، فأوفدت وزير الخارجية جون كيري في جولات إلى المنطقة بدأت في سنة 2013، ومن ضمن المقترحات التي يحملها، تحرير أسرى ما قبل أوسلو على أربع دفعات.

كانت تلك الجولات قبل اختراع تطبيق "ويز" الذي يدل السائقين والسائقات على الطريق في بلدنا، وقد أطلق الأسير ياسين بكري، ابن قرية البعنة التي تتوسط الجليلَين وتقع بالقرب من باب الشمس، والمحكوم مدى الحياة، على هذه العملية اسم "جي. بي. أس." (GPS) الأسرى لمتابعة كيري في الجو وفوق المحيطات. فقد تداول الأسرى في ساحة القسم في سجن جلبوع أن كيري الآن فوق إيطاليا، ثم فوق المتوسط وينقصه ثلاث ساعات كي تهبط طائرته، وتقلع أحلام الحرية.

ترصّده قدامى الأسرى آملين أن يصل على طائره الميمون. ومَن يتمسك بأي خشبة إنقاذ يعوم بها على سطح بحر الأمل، لا يعصَ عليه أن يقود طائرة جون كيري بنفسه وهو يفكر في أمه وزوجته وابنته وأبيه وفي كل مَن بقوا في قيد الحياة يعيشون الأمل من جانبه الآخر.

تتواصل رحلة كيري ويأتي ويعود، وقدامى الأسرى يواصلون الركض الموضعي بوتيرة المشي بعد أن أنهكت السنين أجسادهم. ذات يوم كنت والأسير صالح (رشدي) أبو مخ من باقة الغربية التي يفصلها جدار عن أختها الشرقية وعن طولكرم فناقشته، وأنا أعتدّ بعقلانيتي، بأن المنحى يشير إلى أن لا أمل بأن تشمل صفقات كيري الإفراج عن قدامى أسرى 48، فمجرد تأجيل ملفاتهم إلى نهاية المسار هو دليل على ذلك، وبالتالي يبدو الإفراج عنهم وهماً. أجابني صالح بحكمة الصبور القابض على الجمر: "يا عمي مالو الوهم؟ أعيش عالوهم شهر أحسن مليون مرة ما أعيش شهر وأنا يأسان." ثم أضاف: "اِسمع أمير أنا عندي كل الأمراض الجسدية.. (وبدأ يعددها).. بس ما بديش يصيبني مرض الأسرى"، وكان يقصد الاستعجال على رؤية الفرج والأبراج العالية التي يبنونها في مخيلاتهم وعلى رمال الأمل المتحركة. وها هو يقترب اليوم من نهاية عقده الثالث في الأَسر، ومن المفترض أن يفرَج عنه بعد انقضاء محكوميته.

وهكذا احتفل الأسرى بصالح بعد أن قصّ حلاق القسم شعره، وانطلقت الأهازيج حتى كاد حلم الإفراج عنه يبدو حقيقياً.

يذكّرنا المشهد بقصة رواها الأسير ماهر يونس ابن عرعرة، المسجون منذ كانون الثاني / يناير 1992، والذي حُكم بالإعدام وخُفض إلى المؤبد مدى الحياة، ولاحقاً صدر قرار "عفو" قلّص الحكم إلى 45 عاماً. فقد ورد اسمه خلال تعداد أسماء الأسرى المزمع الإفراج عنهم ضمن صفقة جبريل التي تعود إلى سنة 1985. وهكذا ودّع زملاءه ببسمة تاهت بين الفرح والحزن، وصعد إلى حافلة المحررين وهو يتخيل رؤية النور ولقاء الأحبة، لكن السجانين قطعوا أحلام يقظته، ليبلّغوه أنه أُصعد إلى الحافلة عن طريق الخطأ واقتادوه إلى زنزانته التي لم يخرج منها حتى يومنا هذا، ولا تزال في انتظاره سنوات زنزانة لا توفر الحالة الفلسطينية مفاتيح لها. ومع هذا لم أسمعه يوماً يتذمر، وهذا أكثر ما فاجأني. لماذا لا يتذمر ولماذا لا يلعن الحال التي وصل إليها الوضع؟ لم ألحّ عليه في سماع الجواب لأن كل أسير في وقت الصدمات يخلق توازناته التي لا يستكين لها إلّا هو وحده، وليس من حق أحد أن يرى الأمر بمرآته الخاصة. لقد خلق عالمه، وبالأحرى بنى مانع صواعق وصدمات، ثم شيّد عالمه من حوله ليحتمي به.

كان من المفترض أن تشمل دفعة الإفراجات الرابعة في ربيع سنة 2014 قدامى الأسرى من فلسطينيي 48، إلّا إن حكومة إسرائيل ترفض أن تفرج عمّن تعتبرهم مواطنيها ضمن صفقات مع الفلسطينيين، فهؤلاء – وفق منطقها - قضية إسرائيلية داخلية، فضلاً عن أنها تنسب إليهم تهمة الخيانة لأنهم وقفوا إلى جانب العدو في حربه ضد الدولة. وفي صفقات التبادل يصبح فلسطينيو 48 "إسرائيليين"، فالمواطنة والهوية في نظر المستعمِر هما دَين على الفلسطيني أن يسدده كل يوم، وهو دَين لا ينتهي بل يتجدد.

في حالات القهر المستدام وغياب الأمل، يستحيل صراع البقاء فردياً؛ في صغرنا كنا نلعب لعبة "القط والفأر" ثم تطورنا وبتنا نشاهد "توم وجيري"، وللحقيقة، فإن في إمكان مبدعي اللعبتين أن يتعلموا دروساً من مشهد الأسير والسجان. فحين تُقفَل أبواب الدنيا يحلّق خيال الأسير ليصل إلى السماوات، ويصبح المستحيل قاب قوسين أو أدنى.

وليد وسناء وميلاد

كان وليد رقّة يردد حين كان في العام الثاني والعشرين من الأسر "أكثر ما أفكر فيه هو سناء التي لا ذنب لها سوى أنها وقعت في حبي. ثم إنها أصرّت على الزواج مني على الرغم من إدراكها لوجود احتمال بأن أمضي كل حياتي في السجن. عزاؤنا الوحيد المتبقي هو أن ننجب أبناء للحياة، لنتيح لحبنا أن يكبر ويدوم على الرغم من كل الظروف القاهرة، فليس من الإنصاف معاقبة سناء على خيارها. أنا الذي أُمضي عامي الثاني والعشرين في السجن وليس هي. إن مجرد الفكرة بأن الحكم الصادر بحقي هو أيضاً حكم يتأثر به كل مَن يحبني، يولّد لديّ شعوراً قاهراً، وكما لو أن سلب حريتي الشخصية يحمل في طياته سلب مشاعر الآخر نحوي."

بشكل استثنائي ونتيجة ضغوط فاعلة ومطالبة وإصرار من الأسرى - وللأسرى قوة حين يعزمون - فقد تم في سنة 1999 عقد قران وليد دقّة وسناء سلامة. حضرت العروس إلى السجن وكان حفل الزواج كبيراً بمفهوم السجن، ومتواضعاً إذا ما قورن بطقوس الأعراس خارجه، لكن لا أحد يكترث بالطقوس المرفّهة حين تُتاح فسحة حرية نادرة الحدوث وربما لا تتكرر. قد يقال إن ذلك معجزة بينما مَن هم في السجن يعتبرونه حياة.

فيما بعد توجه وليد إلى مصلحة السجون بطلبات عدة بصدد "الاختلاء"، لكنها رُفضت كلها، فرفع دعوى إلى المحكمة الإسرائيلية المدنية، مطالباً بإلزام مصلحة السجون بالسماح له بذلك، إلّا إنها ردّت طلبه. وهناك ميزة بأن المحاكم المدنية الإسرائيلية، عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، تكون أكثر قسوة من المحاكم العسكرية ومن أجهزة القمع المباشر، أكانت مصلحة السجون أم الشرطة أم الجيش.

ما أشبه جود بميلاد

في حكاية سر الزيت يخترق وليد الجدران، ويعتمد على جود للقيام بمهمة العبور. جود هذا هو أحد أبناء الأسرى الفلسطينيين الذي جاء إلى الحياة نتيجة نطفة محرَّرة من والده. لا يعتبرها مهرّبة بل محررة. حملت قرينة الأسير بها وأنجبت الطفل جود، وهو الطفل الذي منعته دولة الاحتلال من زيارة والده، عقاباً له على ولادته بتلك الطريقة. لكنه وجد طريقه إلى زنزانة أبيه.

حين ذاع خبر حمل سناء بميلاد، ركّز الإعلام الإسرائيلي فترة طويلة عليه، وحين يركز الإعلام الصهيوني على شأن فلسطيني إنساني محدد فإن ذلك يكون للتحريض، إذ لا إنصاف خارج حدود الهوامش الضيقة جداً. لقد قامت دنياهم ولم تقعد، وحين أَطلت ميلاد على الدنيا وجعلتها أجمل، عاقبت مصلحة السجون الوالد الأسير، وعزلته لأشهر ثم عمدت إلى نقله مراراً إلى سجون متنوعة. كما عاقبت سلطات الاحتلال سناء ومنعتها من الزيارة، بل قررت أيضاً أن تعاقب ميلاد الوليدة بحرمانها من زيارة والدها، وحتى "حكاية سرّ الزيت" حاصروا منافذها، فلم يعترفوا به أباً. لقد قرر القوي أن ينتقم لعجزه عن سدّ فسحة الأمل التي أوجدها وليد وسناء.

الفاضح أكثر هو قرار وزارة الداخلية الإسرائيلي رفض تسجيل الأسير وليد دقّة أباً، لكنها في المقابل سمحت بتسجيل الوليدة ميلاد في سجل السكان.

اللافت أن وليد وسناء كانا قد أطلقا الاسم "ميلاد" على الابن أو الابنة الحلم. يقول وليد: "أكتب لطفل لم يولد بعد، أكتب لفكرة أو حلم بات يرهب السجان دون قصد أو علم، وقبل أن يتحقق، أكتب لأي طفل كان أو طفلة، أكتب لابني الذي لم يأتِ إلى الحياة بعد.. أكتب لميلاد المستقبل، فهكذا نريد أن نسميه / نسميها، وهكذا أريد للمستقبل أن يعرفنا." وتساءل: "أيهما الجنون، دولة نووية تحارب طفلاً لم يولد بعد فتحسبه خطراً أمنياً، ويغدو حاضراً في تقاريرها الاستخباراتية ومرافعاتها القضائية، أم أن أحلم بطفل؟.. أيهما الجنون، أن أكتب رسالة لحلم، أم أن يصبح الحلم ملفاً في المخابرات؟.. أنت يا عزيزي تملك الآن ملفاً أمنياً في أرشيف الشاباك الإسرائيلي، فما رأيك؟.. هل أكفّ عن حلمي؟.. سأظل أحلم رغم مرارة الواقع، وسأبحث عن معنى للحياة رغم ما فقدته منها."

حين أطلت ميلاد كتبت سناء: "اليوم حطمتْ ميلاد جدران السجن وحرّرت والدها من قيده مبشّرة بميلاد الحرية، ميلاد التحدي. اليوم جاءت ميلاد إلى الدنيا في مدينة البشارة - الناصرة لتكون ميلاداً للبشارة، حاملة نور المحبة والسلام."

ويبقى الحلم الكبير في انتظار الإرادة كي تأتي به، إنه حلمنا في فلسطين وحلمنا في الوطن العربي الكبير بأن "أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باقٍ" (الفيتوري).

 

المصادر:

[1] "منار اختارت الاقتران بالأسير أُسامة المحكوم 8 مؤبدات: لم أره إلّا بالصُّوَر.. وأنتظر زيارته"، موقع "القدس" الإلكتروني (1 / 10 / 2020)، في الرابط الإلكتروني

[2] أسامة الأشقر، "للسجن مذاق آخر" (رام الله: الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين، 2020).

[3] المصدر نفسه.

[4] " المصدر نفسه، ص 113.

[5] المصدر نفسه، ص 115.

السيرة الشخصية: 

أمير مخول: أسير محرر من فلسطينيي 48، أمضى 9 أعوام في سجون الاحتلال.