Arab Regional Security after the Gulf War
Keywords: 
الأمن الإقليمي
حرب الخليج العربي 1991
الأمن القومي العربي
Full text: 

الأمن الإقليمي العرب

        نحن عرضة للتلاعب من قبل الحكومات العربية من أجل مصالحها الخاصة، وعرضة لسوء الفهم من قبل شعوبها...

        مع بداية الحرب الباردة وتزايد حدّتها، تزايد الاعتماد على القواعد العسكرية التي تستطيع الولايات المتحدة وحلفاؤها نشرها في أنحاء العالم.

ولما كانت الجغرافيا والنفط يضفيان على الشرق الأوسط أهمية استراتيجية، فقد انساقت الولايات المتحدة إلى الإفراد في خطب ودّ الحكومات العربية للحفاظ على الامتيازات النفطية، ولعقد تحالفات عسكرية معها، مؤخراً.

وقد باركنا، في أثناء ذلك، إهمال الشعوب العربية.

 

                                                                                                مقترحات قدمتها لجنة مستقلة

                                                                                    من رجال الكنيسة والعلمانيين الأميركيين

                                                                                إلى الرئيس الأميركي، نيسان/أبريل 1954.(1)

 

("بنية أمنية إقليمية")

إنه لمن المهم ... أن نؤسس بنية أمنية إقليمية قادرة على احتواء النزعات العدوانية لقائد مثل [صدّام حسين]... وبالتأكيد يترتب علينا [الولايات المتحدة] أن نؤدي دوراً ما، وبالتالي لا بد من أن يكون لنا... وجود [عسكريٍ] مستمر هناك.

 

وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر،

أيلول/سبتمبر 1990.(2)

 

سبعة وثلاثون عاماً تقريباً تفصل ما بين هذين الاقتباسين، ومع ذلك لم يتغير شيء يذكر فيما يكشفانه من التوجه الأساسي لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وقد شهدت الفترة الفاصلة تشديداً متصلاً على الوجه العسكري للأمن، مع صرف النظر عملياً عما سواه من العناصر، وذلك على الرغم من الإيماءات الرمزية إلى الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتنمية، وغيرها من القضايا السياسية والاقتصادية الملحّة. ومن شأن هذه المقاربة أن تتعزّز، وخصوصاً بسبب صدمة الغزو العراقي للكويت في آب/أغسطس 1990، والتركيز على إنشاء وإدارة تحالف يخوض الحرب، والنجاح اللاحق في اللجوء إلى القوة لتحرير الإمارة.

لكن إلى أي مدى كان التوجه العسكري للفكر الأمني ناجحاً في الماضي، أو ما هي حظوظه من النجاح في المستقبل، آخذاً في الاعتبار عمق وقوة الأسباب الكامنة للصراع في المنطقة، ولا سيما بعد أن ظهرت البيِّنة عليها في الغزو العراقي للكويت، وفي تفاوت ردات فعل الحكومات والشعوب العربية عليها؟ أو ما هي، على العكس، محددات الأمن الإقليمي التي لا بد من أخذها في الاعتبار إذا كان لا بد من إيجاد آليات ملائمة، ولا بد حقاً من تحقيق استقرار دائم.

 

نحو أولوية السياسة

الحجة الأساسية هنا هي أن لا بد من أن تكون قاعدة الأمن العربي الإقليمي سياسية بدلاً من أن يغلب عليها الطابع العسكري. والحق يقال إن الحاجة إلى تثبيت الاستقرار في الوقت الحاضر، وإلى الحؤول دون المزيد من الصراعات المسلحة، إنما هي حاجة مباشرة ولا سبيل إلى إنكارها. ومع ذلك، سيكون من العسير أيضاً تحقيق الاستقرار، وإنْ بصورة موقتة ـ كما يتبين من الاضطرابات المستمرة في العراق ـ إلا إذا أُرسيت قواعد التدابير الأمنية المرحلية المعتمدة على تفهم أصول النزاع، وأدت إلى حلها. وبعبارة أدق، يجب الإسراع في اقتناص الفرصة التي قد يتيحها أي تعليق للصراع الظاهر من أجل تطوير حلول سياسية (والتي تضم وسائل عمل دبلوماسية واجتماعية، واقتصادية أيضاً) للتوترات والمظالم التي تعانيها المنطقة، وذلك كعنصر جوهري لبلوغ الأمن والاستقرار. وإلا، فإن من شأن الخطوات الجزئية، التي تُعتمد من باب الضرورة الملحة، أو من باب حسن التخلص في تصريف الأمور في المرحلة الأولى مما بعد حرب الخليج، أن "تتجمد" في صورة سياسة دائمة (أو "لاسياسة"، بالأحرى)، وأن تقود إلى عودة الوضع الذي كان قائماً قبل الحرب، وتعمل على استمرار أسباب النزاع وعدم الاستقرار مرة أخرى.

والخطر الواضح ـ ويكاد يستحيل تحاشيه، على هدي التجارب السابقة ـ هو أن تقع الحكومات الغربية والعربية عملياً (مهما تكن التسويغات اللفظية) في حبائل التركيز الحصري على "الترتيبات" أو "البنى" الأمنية، لأن هذه تبدو أيسر تحقيقاً وأسهل إدارة من محاولة التصدي للقضايا السياسية المعقدة، أو المسبِّبة للشقاق. وبذلك ربما حل "هندسة" الأمن ـ تصميم أحلاف عسكرية، ونشر القوات، والحد من التسلح، وآليات منع حدوث نزاعات ـ محل "التفكير" في الأمن ـ تحليل حراكيات الصراع والتغير على المستويين القطري والإقليمي، والعمل من أجل مقاربة متكاملة أو متعددة الأوجه لمعالجة المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.(3)      وبالمثل، فإن الوجه الإداري لـ "الميكانيكا الجغرافية" ـ تنظيم التحالفات بين الدول على أساس المصالح الخاصة ـ ربما عرقل معالجة القضايا الجوهرية بين الدول وعواملها المحدِّدة.

وإن ما يطرحه هذا المقال، في تشديده على أولوية السياسة، هو أن الأمن في الشرق الأوسط يتوقف على ترابطات أربعة ـ وكلمة ترابط وإن باتت مرذولة في إبان أزمة الخليج، فما زالت تستحق أن يعاد إليها الاعتبار في أكثر من إطار.

الترابط الأول قد سبقت الإشارة إليه: العوامل الجيوسياسية، أو العلاقات المتبادلة بين سلوك مختلف الدول في منظومة الشرق الأوسط الإقليمية، المنجرة جزئياً عن ضرورات الجغرافيا والمقومات المادية (الموارد الطبيعية والبشرية)، والاعتبارات الاستراتيجية. ويعقد تأثير النظام الدولي والقوى العالمية الرئيسية في سياسات المنطقة ترابطاً ثانياً (نؤجل معالجته إلى آخر المقال).وثمة مكوِّن آخر من مكونات الأمن الإقليمي هو الترابط السياسي ـ العسكري، أي العلاقة السببية بين ظواهر عسكرية عدة، مثل النزاع المسلح، وتعزيز الأسلحة التقليدية، وانتشار أسلحة الدمار الشامل والصواريخ الباليستيكية، وبين العوامل السياسية التي تحركها كالنزاع العربي ـ الإسرائيلي أو التزاحم بين العراق وإيران، والمناقشات بين الدول العربية، والمكانة الإقليمية والسياسية، وتقوية قدرة الأنظمة الحاكمة على البقاء. ويشير البند الأخير إلى الترابط الرابع، أي ذلك القائم بين نماذج السياسات الإقليمية وبنية السلطة الداخلية في كل من دول المنطقة؛ ذلك بأن للحكومات السلطوية أو للحكومات القائمة على قواعد شعبية ضيقة تأثيراً غير متكافىء في شؤون الأمن الإقليمي، نظراً إلى ما تتمتع هذه الأنظمة به من قدرة على احتكار القرار في صوغ السياسات الداخلية والخارجية.

العوامل الجيوسياسية

وأثرها في أوضاع ما بعد الأزمة

قُدِّمت في فترات مختلفة، منذ آب/أغسطس 1990، اقتراحات تتعلق بترتيبات أمنية إقليمية في الشرق الأوسط قد تضم، فيما تضم، دولاً عربية معينة وإما إسرائيل، وإما إيران (أو كلتيهما). غير أن أصحاب الطموحات الكبرى من أنصار هذه الاقتراحات كانوا، وما زالوا، من غير العرب. وفي المقابل، فإن قلة من المعلقين الذين أدركوا استمرار صعوبة التوليف بين العرب وأعدائهم في تحالف رسمي، قد اقترحت أحياناً فكرة ترتيبات أمنية غربية تضم إسرائيل و/أو إيران، وتتجاهل معظم الدول العربية أو جميعها.

خلال الأسابيع القليلة التي عقبت حرب الخليج (الثانية)، بدا أن مبادرة دول مجلس التعاون الخليجي ومصر وسوريا (الستة زائد إثنان ـ "مجموعة الثمانية")، في دمشق في 6 آذار/مارس، إلى تشكيل النواة لإطار أمني عربي مشترك ـ عبر نشر قوات حفظ سلام من مصر وسوريا في الخليج ـ قد غلبت على سائر الاقتراحات الأخرى.(4)   وكان يفترض أن من شأن هذا التحالف أن يؤخر، على الأقل، الجهود الغربية ـ الأميركية بالدرجة الأولى ـ لإنشاء تحالفات عسكرية أوسع نطاقاً. وكان مرجحاً، أيضاً، أن يكون حلف "الثمانية" حجر الأساس الذي قد تسعى القوى الخارجية للارتكاز عليه بإدخال بعض التعديلات أو الشركاء الجدد.

غير أن آفاق استمرار هذا التحالف زالت فجأة، حين أعلنت مصر سحب قواتها من منطقة الخليج، أوائل أيار/مايو 1991، أي بعد شهرين فقط من تشكيل مجموعة "الثمانية" وصوغ فكرة "إطار الدفاع العربي المشترك".(5)   وتبيّن أن اجتماع الوزراء للمتابعة، الذي أُقر أصلاً عند تأسيس مجموعة "الثمانية" لم يتم قط. ويلاحظ أن القرار المصري قد سبقه، ببضعة أيام فقط، اجتماع طارىء لمجلس التعاون الخليجي تقررت فيه صيغة جديدة لحفظ الأمن والدفاع في الخليج؛ وتحديداً، فإن زيارة وزير الدفاع الأميركي ديك تشيني لأعضاء المجلس الستة، وعرضه لتفاصيل العلاقة الأمنية الثنائية بين كل منهم وبين الولايات المتحدة، قد ضمنا تخلي دول المجلس عن صيغة الإطار العربي المشترك لمصلحة الدور الأميركي المنفرد.(6)  

لكن، هل كانت صيغة الستة (مجلس التعاون الخليجي) زائد الاثنان (مصر وسوريا) ستنجح حتى لو أتيحت الفرصة لها؟ يبدو أن ذلك لم يكن أمراً مفروغاً منه. إذ ثمة مشكلتان مباشرتان في بنية مجموعة "الثمانية". الأولى أنها تجتهد في تجاهل الوظيفة الحيوية التي قام الأردن بها خلال حرب الخليج بصفته عازلاً بين إسرائيل والعراق (والخليج)، وهذا موقف قصير النظر تشارك الولايات المتحدة فيه. والأهم من هذا، أن تركيبة مجموعة "الثمانية" تعد استمراراً في سياسة سعودية متقادمة ترمي إلى استبعاد إيران والعراق عن أية ترتيبات رسمية تتعلق بأمن الخليج.(7)  وربما كان هذا الموقف معقولاً في المدى القصير، آخذاً في الاعتبار قرب العهد بحربي الخليج، لكن له دلالات خطرة؛ فاستثناء أي من العراق وإيران، أو كليهما، يتجاهل وقائع استراتيجية وجغرافية، ويحكم على دول مجلس التعاون الخليجي بالاعتماد على دعم دول بعيدة عن حدودها. وينطوي هذا الاستثناء على تردد في تغيير النمط السابق لسياسات ميزان القوى، وفي إقامة أساس جديد للتعاون وللأمن في منطقة الخليج. يضاف إلى ذلك، أن كل ترتيب طويل الأجل لا يضم العراق خطر لأنه يتجاهل موقع هذا البلد المفصلي (على الصعيدين الجغرافي والاستراتيجي) بين مسرح العمليات الخليجي ومسرح العمليات العربي ـ الإسرائيلي، ويوحي بأن إشراك العراق ضروري لنجاح أمن المنطقة على نطاق أوسع.

ومع ذلك، فليست هذه وحدها العيوب الكامنة. إذ على الرغم من التضامن زمن الحرب وتنميق بيانات ما بعد الحرب، فإننا نجد نمط العلاقات فيما بين أعضاء مجموعة "الثمانية"، في العقود المنصرمة، يوحي بأن تحالفهم الحالي ربما كان خاضعاً لسقف محدود جداً. ويظهر ذلك بأجلى صورة في حال سوريا التي لم تكن مساهمتها في الدفاع عن الخليج، بالمفهوم العسكري الحقيقي، أساسية. فقد أدت عوامل، كالافتقار إلى الحدود المشتركة والاعتبارات الداخلية، إلى تدني الدعم السوري والحد من مداه. وكانت السعودية "تدعم" سوريا منذ زمن طويل بمساعدات ضخمة لأهداف سياسية، بحسب تعبير أحد المحللين.(8)  غير أن اعتبارات أخرى (الإدراك أن العراق سيخسر، والرغبة في علاقات أفضل بالغرب) هي التي حملت دمشق، في النهاية، على المشاركة في التحالف الحربي ضد العراق. والأهم من ذلك كله، أن أزمة الخليج قد أكدت لمجموعة الدول الخليجية أن سوريا لم تعد تحتل المكانة نفسها، كحليف أو كعدو على السواء.

وتؤثر الوقائع الجيوسياسية في العلاقات السورية ـ الخليجية على نحو آخر. ويتمثل ذلك في احتمال فك الارتباط، في المدى البعيد، بين دول مجلس التعاون الخليجي ومعظم الدول العربية الواقعة إلى شمالها في فترة ما بعد الحرب.(9)   فقد اعتمدت دول المجلس، الغنية بالنفط والفقيرة بالسكان، لأعوام عديدة على الأردن والفلسطينيين ولبنان وسوريا والعراق (في جملة دول عربية وغير عربية أخرى)، من أجل اليد العاملة وأرباب المهن. كما اعتمدت على الأردن وسوريا والعراق، بأشكال ودرجات متفاوتة، للدعم العسكري أو الحماية الاستراتيجية. وقد نسف غزو العراق للكويت هذه العلاقة، وذلك لأسباب منها أن ردات فعل القيادات والقواعد الشعبية في أنحاء عدة من المنطقة العربية قد أضرت بالعلاقات، ومنها أن الدول العربية في "الحزام الشمالي" كانت عاجزة تماماً عن توفير الحماية الحقيقية، أو أنها كانت هي نفسها مصدر التهديد. وقد حملت هذه التجربة تفكير حكومات مجلس التعاون على خفض المساعدات المالية للدول العربية الأخرى، والتقليل من الاعتماد على اليد العاملة المستقدمة منها ـ وقد حُمل ما يزيد على 800,000 يمني ونحو 200,000 فلسطيني على مغادرة الخليج. وقد يطال ذلك سوريا أيضاً، على الرغم من الدعم الذي تبديه دول مجلس التعاون للروابط الأخوية والمساعدات الرمزية، من جراء فك الارتباط الاستراتيجي والاقتصادي الذي ستقدم دول الجزيرة العربية عليه حيال أخواتها في "الحزام الشمالي". 

وثمة اعتبارات مشابهة، وإنْ بدا الأمر من النقائض، تحكم العلاقة بين دول مجلس التعاون الخليجي ومصر، التي بدت حليفاً أولى بالثقة وأنفع عسكرياً في إبان أزمة الخليج. ومع ذلك، فإن انعدام الحدود البرية المشتركة، والصعوبات اللوجستيكية التي اعترضت نقل قوات مصرية فعالة إلى العربية السعودية، لم تخفَ على ذي عينين. وكان يفترض أن يوحي ذلك بالإبقاء على قوات مصرية كافية مع أسلحة ومؤن تخزن مسبقاً في الخليج العربي، مثلما أكدت مجموعة "الثمانية". غير أن ثمة عاملين حدّا من أهمية هذا الخيار: فثمة، من ناحية، التفاوت الساطع البادي بين التفوق الإداري اللوجستيكي والتكنولوجي الذي أظهرته القوات الأميركية/الغربية في الخليج وبين القدرات المصرية المتواضعة. وثمة، من ناحية أخرى، التفضيل التقليدي للخليجيين لأن يتلقوا الدعم العسكري من قوى بعيدة عن المنطقة، على الحضور المادي لقوات عسكرية من جارات إقليميات.(10)  (ومن اللافت، مثلاً، أن الدول الخليجية قد امتنعت بصورة عامة من شراء منتوجات الصناعة الحربية المصرية).(11)  ومهما تكن آمال القيادة المصرية، فإن توزيع عقود إعادة إعمار الخليج بعد الحرب الأخيرة يبين تواضع وزن مصر في موازين مجلس التعاون. فدول هذا المجلس تدرك إدراكاً جيداً أن الروابط الاقتصادية والتجارية تعزز العلاقات الأمنية، لكنها لا تطلب علاقات قوية إلى هذا الحد مع باقي الدول العربية.

وهذه الوقائع الكامنة تشير إلى دلالات أعمق غوراً؛ إذ لمّا كانت المنطقة المجاورة لمصر ـ التي تضم ليبيا والسودان (وإلى حد ما سائر وادي النيل وساحل البحر الأحمر بما فيه أثيوبيا والصومال) ـ غير ذات قيمة استراتيجية ملموسة، فقد سعت مصر دائماً لتعزيز مكانتها واجتذاب المعونات المالية والاقتصادية عن طريق الانخراط في الصراع العربي ـ الإسرائيلي وفي أمن الخليج. ولقد عبرت الحكومة المصرية عن هذا الميل بإحياء دورها في عملية السلام الفلسطينية ـ الإسرائيلية، فأصلحت علاقاتها بمنظمة التحرير في جملة ما أصلحت، وحرصت على إعادة الاعتبار إلى جامعة الدول العربية، الجهاز الإقليمي الوحيد الذي يتيح مجالاً لمطامعها في الزعامة.(12)  يضاف إلى ذلك أن مصر وسوريا شكلتا، منذ ربيع سنة 1990، محوراً كان أساس تحالفهما في أثناء أزمة الخليج وعضويتهما بعد الحرب في مجموعة "الثمانية". بيد أن المحور المصري ـ السوري مهدّد بعدم الديمومة قياساً بمحاولات مشابهة سابقة في فترتي 1958 ـ 1961 و1971 ـ 1973، إلا إذا صيغت سياسة عربية مشتركة حيال إسرائيل، لأن هذا هو القاسم المشترك الأساسي بين سوريا ومصر.(13)

والمظهر الجيوسياسي الأخير الذي سيؤثر في قدرة بنى الأمن الإقليمي على البقاء، هو نمط العلاقات بالجزيرة العربية نفسها. فالتيار الذي انطلق أواسط السبعينات، والذي تجسد رسمياً في تكوين مجلس التعاون في شباط/فبراير 1981، كان متطلعاً إلى الداخل، ويشير إلى أفق التوتر المستمر بين ما تميل أولويات سياسة "الستة" إليه في مقابل ميول "الاثنين" (مصر وسوريا). غير أن الانعزال في ذاته ليس خياراً عملياً بالنسبة إلى مجلس التعاون. فوضع اليمن المستهجن في شبه الجزيرة جغرافياً من دون أن يكون منها سياسياً واستراتيجياً، حال يستشهد بها؛ بينما نجد حالاً أخرى في استمرار الخلافات الثنائية بين بعض الدول الخليجية. والأهم من ذلك، أن تماسك مجلس التعاون وفعاليته كمرجع إقليمي للأمن ولصنع القرارات السياسية أمران يتوقفان على دور وموقع السعودية داخل شبه الجزيرة العربية، وطبيعة التطورات في المملكة في فترة ما بعد حرب الخليج، وهو ما سيؤثر في طبيعة العلاقات داخل دول المجلس وبينها وبين الدول المجاورة.

 

الترابط السياسي ـ العسكري: القضايا

 

لا شك في أن الحاجة إلى الحؤول دون الصراعات المسلحة، سواء بالتحكم في وسائل شنِّها أو بردع اندلاعها، ضرورة ملحة في الشرق الأوسط. وما يزيدها إلحاحاً الاضطرابات المروعة في العراق التي تلت حرب الخليج، واحتمالات المزيد من الاضطرابات الإقليمية التي يستجرها هذا الصراع، فضلاً عن استمرار غير هذه من المخاطر القديمة العهد. لكن، مرة أخرى، ليست المشكلة وحلولها واضحة المعالم؛ فالمقاربة الميكانيكية التي تعالج البعد العسكري كأنه مجرد مسألة عملية أو تقنية، بمعزل عن الأسباب الأصلية والتوترات السياسية على المستويين الداخلي والإقليمي، تخاطر بوضع العربة أمام الجياد.

ومع التشديد على ما سبق، يبقى القول أن ثمة ثلاثة أصناف من القضايا العسكرية التي تؤثر في سبيل الوصول إلى الأمن الإقليمي: الوقاية ـ نشر قوات حفظ سلام من أجل الإنذار المبكر والقيام بدور "سِلك الإنذار"، وتركيب قنوات الاتصال المباشر بين قادة المنطقة، وإجراءات الإشعار المسبق في شأن المناورات وتحرك القوات (من أجل تجنب النزاعات العرضية)؛ الردع ـ نشر قوات أجنبية أو إبرام معاهدات دفاع ومساندة عسكرية، وحيازة أسلحة غير تقليدية أو امتلاك أنظمة تقليدية متطورة؛ مراقبة التسلح و/أو نزع أسلحة، مما يشمل أسلحة الدمار الشامل والأسلحة التقليدية، وغيرها من حقول التكنولوجيا العسكرية أو عمليات نقل التكنولوجيا الصناعية المتصلة.

يظهر مما تقدم أن لا بد من أن تقوم التدابير الوقائية على الاتفاق بين الفرقاء المتعاقدين، إذا كان يرجى منها أن تكون فعالة، ولذلك تبدو أنها تفاصيل تقنية تزيد في دقة الترتيبات الأمنية القائمة. أما الردع فأكثر عرضة للخلاف والمنازعة، لأنه يفترض استمرار التوتر أو النزاع الكامن بين فريقين إقليميين أو أكثر، ممن استبعدتهم الترتيبات التي أقرها الطرف الآخر. ولذلك، فهو يعزز أهمية القضايا السياسية والاستراتيجية التي تقوم بدور المعضلات والمخاطر بدلاً من دور القواعد المعزِّزة للتعاون.

أما الفئة الثالثة، مراقبة التسلح ونزع السلاح، فتلقي أضواء ساطعة على العلاقة بين الوقاية والردع أو، على نحو أدق، على الترابط بين البعدين العسكري والسياسي للأمن. والحق أن البحث عن الطرق والوسائل لتعليق التسابق على تكديس الأسلحة التقليدية واقتناء أسلحة الدمار الشامل والصواريخ الباليستيكية، أو حتى قلب وجهة هذا التسابق نحو نقيضه (أي النزع)؛ إن البحث عن هذه الطرق مرشح ليتبوّأ مركز الصدارة من حيث هو، في الوقت نفسه، قضية عسكرية وقضية سياسية بالدرجة الأولى.

والمثال الأوضح لتعقيدات الترابط السياسي ـ العسكري هو الساحة العربية ـ الإسرائيلية، على الرغم من التركيز الحالي على الخليج والعراق. فالأمن غير المستقر لا يزال بالنسبة إلى إسرائيل الدافع الأول، لا إلى تكديس الأسلحة التقليدية فحسب بل أيضاً إلى تكديس أسلحتها النووية (وربما البيولوجية والكيماوية) السرية، ومثلها الصواريخ الباليستيكية والبرامج الفضائية. وقد أدى ذلك، بدوره، إلى اضطرام مخاوف العرب من اختلال التوازن الاستراتيجي، والإسراع في بذل جهود مضادة لتطوير أسلحة غير تقليدية ووسائل إيصالها، ولعل أحدث الأمثلة لذلك وأشهرها، ما كان من أمر العراق. لذلك كان تركيز الغرب على تفكيك البنى التحتية العراقية لأسلحة الدمار الشامل والصواريخ يغفل، من ناحية، جزءاً مهماً من المسألة؛ إذ يتجاهل قدرة إسرائيل المتفوقة ودعوات العرب إلى جعل نزع السلاح متبادلاً، والى طرح مسألة أسلحة الدمار الشامل على طاولة المفاوضات.(14)   ومن ناحية أخرى، لن ترضى إسرائيل ولا الدول العربية (ومنها سوريا ومصر) بالحد من تطورها العسكري، ولا بنزع السلاح من جانب واحد. والحق أنها لن ترضى حتى باحتمال مقاربة متعددة الأطراف، مثل "منطقة خالية من الأسلحة النووية"، من دون تسوية كاملة شاملة لمخاوفها ومظالمها الكبيرة؛ ومعنى ذلك، قبل كل شيء، التوصل إلى سلام عبر المفاوضات، يقوم على تنازل إسرائيل عن أراض وحصولها على ضمانات أمنية.

والبعد العربي ـ الإسرائيلي، على أهميته ـ أو حتى مركزيته في فترة ما بعد حرب الخليج ـ ليس العامل الوحيد. ولو كان كذلك لكان من الأيسر أن يُحتج بأن فرض نزع السلاح على العراق(15)   (أو الحد منه لدى الدول العربية الأخرى)، من دون التشدد في ممارسة الرقابة على مساعي إسرائيل في مجال أسلحة الدمار الشامل، لن يكون بالضرورة من عوامل تقويض الاستقرار، لأن في وسع الولايات المتحدة أن تعمل، فيما يزعم، على ضبط السلوك الإسرائيلي. والواقع أن ثمة مساهمين آخرين في حركية التنافس العسكري في المنطقة. ومن الأمثلة الساطعة لذلك، التوازن بين العراق وإيران؛ ففي أواخر حرب الخليج الأولى أحيت إيران برنامج أبحاثها النووية ـ الذي انطلق في حكم الشاه وعلق بنشوب الثورة الإسلامية سنة 1979 ـ وضاعفت مجهودها لتطوير الصواريخ الباليستيكية. وهذا مصدر تهديد محتمل ليس في وسع العراق ولا حتى العربية السعودية وغيرها من دول مجلس التعاون أن تتجاهله. فهي إذا سعت للتسلح من أجل التحصن من هذا الخطر، ستشكل خطراً على إسرائيل وتذكي بذلك التصعيد التسليحي مجدداً.

وليس الحد من الأسلحة التقليدية بأقل تعقيداً من عملية الحد من الأسلحة غير التقليدية. فسيجد كبار مصدري الأسلحة، ولا سيما في الغرب، أن من العسير جداً عليهم تخفيض الشحنات العسكرية إلى حلفائهم في المنطقة، هذا على افتراض أنهم قد ينظرون إلى هذا الأمر بجدية أصلاً. وستظل إسرائيل ومصر والعربية السعودية أهم مستوردي الأسلحة في الشرق الأوسط، نظراً إلى أوضاعها الأمنية وولائها المجرَّب؛ والواقع أن الدول الثلاث قد استفادت من صفات جديدة منذ آب/أغسطس 1990.(16)   ومن الجائز تسويغ ذلك رسمياً على أساس أن واحدة من هذه الدول الثلاث لن تعتدي على جاراتها، لكن حتى هذه الحجة سياسية في جوهرها؛ فهي تقبل بالوضع القائم، وتطرح جانباً مطالب فرقاء آخرين، ويعدُّ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وتنكره لحقوق الفلسطينيين المثال الحي لهذه السياسة. وتتجاهل هذه الحجة أيضاً واقع أن القادة المحليين ربما استهوتهم طموحات إقليمية قد يؤدي اكتسابهم الأسلحة المتطورة إلى تعزيزها، وإنْ لم تستعمل فعلاً. ومهما تكن الحال، فإن تدفق الأسلحة باستمرار سيزيد في حدة انعدام التوازنات العسكرية في المنطقة، مع ما يترتب على ذلك من مخاطر استئناف سباق التسلح.

وهذه المخاطر حقيقية جداً. فمع أن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لم تزل منذ زمن أهم مصدري الأسلحة إلى الشرق الأوسط، ومعها الاتحاد السوفياتي، فثمة مجال لا يستهان به أمام منتجي الأسلحة الأصغر حجماً لتصدير الأسلحة إلى دول تخضع للرقابة مبدئياً؛ والصين مثال مهم، لكن ثمة جمهرة من الدول الأخرى تتعاطى تجارة الأسلحة، بدءاً بكوريا الشمالية وجنوب أفريقيا، مروراً بالبرازيل وسويسرا والنمسا، وصولاً إلى هولندا وألمانيا. والأهم من ذلك، أن الاتحاد السوفياتي وإنْ كان من الجائز اشتراكه في أنظمة الرقابة الجماعية على التسلح، ولا سيما في حقلي أسلحة الدمار الشامل والصواريخ الباليستيكية، فمن المرجح أن يبدي مزيداً من المعاندة في شأن الحد من تصدير الأسلحة التقليدية، إذا ما شعر بأن القيود الغربية تمارس على أحد فريقي النزاع من دون الآخر. وفي هذه الحال، سيسعى الاتحاد السوفياتي لجني المكاسب السياسية والتجارية من إعرابه عن تحسس حاجات الدفاع الأساسية لدى دول عربية، كسوريا والعراق. كما يحسن عدم الاستهانة، في هذا السياق، بحاجة اقتصاد دول أوروبا الشرقية إلى تصدير السلاح؛ ويقدم قيام تشيكوسلوفاكيا مؤخراً ببيع عدة مئات من الدبابات إلى سوريا، وبالتعاقد مع إسرائيل على تحديث طائرة تدريب، خير مثال لذلك. إن ما تقدم يعالج مسألة مراقبة التسلح كأنها مسألة سياسة حكومية واضحة، لكن هذا افتراض لا أساس له. فالواقع أن جداول أعمال بعض الجماعات الضاغطة ذات المصالح تؤثر في صنع القرارات تأثيراً بالغاً، وذلك بيِّن في حالي اللوبي المؤيد لإسرائيل، والجماعات العسكرية الصناعية والتجارية (التي تدعم مبيعات الأسلحة إلى منطقة الخليج) في الولايات المتحدة. ومن الجدير بالاهتمام، أيضاً، أن مدى المكاسب المالية من صفقات الأسلحة سيظل يؤثر في الحكومات الغربية (وغيرها)، وفي اجتذاب الشركات الخاصة الحريصة على جني الأرباح الطائلة. وثمة عامل محفز شديد الفعالية في الجانب المتلقي أيضاً. فصفقات الأسلحة هي أحد أهم مصادر العمولة فائدة في الشرق الأوسط، مثلها في ذلك مثل عقود النفط والإنشاءات، ولذلك فإن الإغراء باستعمال المنصب الحكومي للحصول على المكاسب الخاصة في العديد من الدول سيبقى عظيماً.(17)   ولعل "شفافية" التجارة (أي الإفصاح عن جميع العقود وتفاصيلها) من جانبي المصدّر والمستورد تكون إحدى الطرق الناجعة في خفض مبيعات الأسلحة الناشئة عن دوافع تحقيق الربح الشخصي.

إن الغرض من هذه التعليقات إدخال مسحة من الواقعية على الاقتراحات التنظيرية لمشاريع مراقبة التسلح، وتلطيف الادعاءات الزائفة عن الصدق والخُلُق لدى بعض أصحابها وأنصارها. وحتى مع التسليم بوجود الإرادة السياسية فإنه تظهر مسائل عملية شائكة: هل ينبغي للقيود على المبيعات أن تكون انتقائية أم لا، بحسب الدولة أم بحسب فئة السلاح؟ فالحظر الشامل على جميع مبيعات الأسلحة إلى بلد ما قد يكون عرضة للخرق، لأنه قد لا يتوصل إلى التحكم تحكماً كافياً في الشحنات من بلد ثالث، أو في العقود التي تحصل عليها شركات خاصة، ولا سيما تلك المنخرطة في شحن التكنولوجيا وقطع الغيار للاستعمال من قبل الشركات الصناعية المستوردة. وبالعكس، فقد يكون نظام الحظر الانتقائي أشد فعالية في فئات مثل أسلحة الدمار الشامل والصواريخ الباليستيكية، لأن الشحنات الخاصة بها يمكن التحكم فيها وضبطها في بلد المنشأ، علماً بأن ذلك ربما سيخل بالاستقرار لأنه يحافظ على هيمنة إسرائيل النووية وعلى شعور العرب بالقلق.

مرة أخرى يبدو تداخل المشكلات والتفاعل الحركي بين مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وما يصاحب ذلك من مخاوف أمنية، موحياً بأن لا بد من نظرة شاملة سياسية الأساس من أجل وقف سباق التسلح في المنطقة. وهذا لا يعني أن على مشاريع مراقبة التسلح (وغيرها من التدابير العسكرية المعزِّزة للأمن) أن تنتظر إيجاد الحلول للمعضلات السياسية. لكن نظراً إلى التأثير الضعيف لالتزام مصدّري [الأسلحة] الخارجيين بإجراءات مراقبة حقيقية، وهو تأثير ناشىء عن مصلحة ذاتية ومحاباة قصيرتي النظر، فإن الحجة التي نتقدم بها هنا هي أن التفاعل النشيط بين الأبعاد السياسية والعسكرية للأمن أمر لا بد من أن تلحظه مشاريع الحلول التي تعد للمنطقة. وسواء عولجت مسألة مراقبة التسلح في المجالين التقليدي وغير التقليدي بالتزامن أو بالتوالي، ومهما يكن ترتيبها، فلا بد من ربطها بحل القضايا السياسية الأساسية؛ إذ لا يمكن للأمن إلا أن يكون كلاً موحداً.

الترابط بين المستوى الداخلي للسياسة

والأمن الإقليمي

إن طبيعة النخب الحاكمة في كل بلد، وطبيعة النظام السياسي (الذي يحدد العلاقة بين الحكام والمحكومين)، هما من أهم العوامل المؤثرة في العلاقات بين الدول في المنطقة العربية. ولمّا كانت السلطة الحقيقية في معظم الدول العربية تقع بين أيدي نخب حاكمة ضيقة القاعدة، فإن الأنظمة تتحكم في قسط وافر، وغير متلائم مع ضآلتها، من السيطرة على استقرار منظومة الدول في المنطقة ككل.(18) وأن قدرة الرئيس صدّام حسين على سوق بلده، بقرار شخصي عملياً، إلى حربين مدمرتين في مدى عقد واحد من السنين، لشاهد ساطع على هذا الترابط.

بينما يقدم العراق مثالاً لأعنف نتائج الترابط بين الشأنين الداخلي والإقليمي، فإن تضمينات هذا الترابط في مسألة أمن ما بعد الأزمة لتبدو بوضوح في حالات أخرى. فالدفاع السعودي مثلاً يقوم على تطوير القوات الجوية وجيش نظامي صغير (بسبب ضيق القاعدة السكانية) وحرس وطني. غير أن هذا الوضع غير قابل للبقاء كخيار طويل الأجل في فترة ما بعد حرب الخليج، حتى لو قدّمت القوى الخارجية مساهمة كبرى مرحلية في الدفاع، وحتى لو لم يعد ظاهراً وجود تهديد خارجي ذي شأن لأمن السعودية أو لأمن باقي دول مجلس التعاون، في المستقبل القريب.

لا بد من أن تقوم العربية السعودية، إذا أرادت أن تكون آمنة، بقسط أوفر من مهمة الدفاع عن نفسها. فمجرد الاعتماد على أسلحة أكثر تطوراً، يدعمها جيش حقيقي من الخبراء الأجانب، ليس بالأمر الملائم. وتوسيع الجيش الفعلي، بالتجنيد الإلزامي مثلاً، من البدائل الممكنة.(19)   لكن هذا الخيار سيؤدي، كما دلت تجربة الأردن، إلى تغيير طبيعة الولاء في اتجاه فكرة المواطنية والولاء للدولة.(20) فقد كانت نتيجة ذلك في الأردن اضطرابات نيسان/أبريل 1989، في صفوف القاعدة القبلية التي يستند العرش إليها، والمطالبة بالمشاركة الانتخابية في النظام السياسي. وقد كان من شأن الحاجة إلى تعبئة الجبهة الداخلية، في إبان أزمة الخليج، بالتشديد على الوطنية السعودية أن غيّرت القاعدة الأيديولوجية لشرعية الحكم. فقد كان على العائلة المالكة أن تركز ليس فقط على الإسلام كمصدر للشرعية الحكومية، بل أيضاً على "الاندفاع الوطني"؛ فالمواطنون العاديون أَمْيَل إلى توقع المشاركة في صنع القرارات إذا ما باتوا يدركون أنفسهم كأعضاء في كيان وطني محدد،(21)    للمواطن فيه واجبات وحقوق؛ وبالتالي فإن عملية إذكاء المواطنية سيكون لها ثمن. كذلك، فإن الحفاظ على مستوى عال من الاعتماد على المؤازرة العسكرية الخارجية لن يحل معضلة الأمن السعودي. فقد تكون الدول الغربية قادرة وراغبة في نشر وحدات بحرية وجوية في الخليج بصورة دائمة، وفي الإيداع المسبق لمعدات القوات البرية، ما دامت دول مجلس التعاون تدفع النفقات. لكن الأموال لم تعد متاحة مثلما كانت من قبل؛ فقد اعتمدت الحكومة السعودية سياسة تغطية الإنفاق الحكومي عبر الاستدانة، منذ أواخر السبعينات، بلا انقطاع وربما لم تعد تملك اليوم من الموجودات القابلة للتسييل إلا نحو 30 مليار دولار.(22)  أما الحكومة الكويتية فستضطر إلى استنفاد استثماراتها الخارجية من أجل تغطية ميزانيتها لفترة السنتين المقبلتين على الأقل. وفي ضوء تكاليف حرب الخليج، وإعادة الإعمار، ونيران النفط الكويتية ـ وفي زمن انحطاط إيرادات النفط من حيث قيمتها الفعلية ـ يبدو أن الرياح تميل إلى انخفاض السيولة المالية في أنحاء الخليج كافة (والعالم العربي، تالياً). ومن شأن ذلك، طبعاً، أن يحدّ من الاعتماد على التكنولوجيات الدفاعية المتطورة والباهظة الثمن.

لذلك، قد تبدو المؤازرة العسكرية العربية التي تقدمها مصر وسوريا أشد فعالية قياساً بتكلفتها. فمن المعقول أن تدعم القوات العربية دفاعات السعودية ومجلس التعاون في المراحل الأولى من أزمة مقبلة، إلى حين وصول قوات غربية إضافية. لكن، مع صرف النظر عن الشكوك الممكنة في فعالية القوات العربية وتجهيزاتها، فإن دول مجلس التعاون لن تستطيع أن تضمن لنفسها أن هذه ستكون ترتيبات دائمة وموثوقاً بها حقاً، إلا إذا كانت مستعدة في المقابل لأن تكفل لشركائها العرب بعض المكافآت ثمناً للدعم. فالمشكلة التقليدية التي تعانيها الدول العربية، التي تقدم العمال أو الجنود لدول الخليج الغنية، هي أنها لم تحصل في المقابل على ضمان استمرار المعونة المالية أو الدعم الدبلوماسي القوي.

ومعضلة دول الخليج، بعبارة أخرى، هي كيف تحل التعارض بين البعد الكامن والبعد المُكْتَسَب للأمن.(23)  فعلى الصعيد الداخلي، تصدر القوة الكامنة عن عوامل كالتماسك السياسي والانسجام الاجتماعي، بينما تُعَد القوى العسكرية في هذا السياق مكتسبة. فإذا شئنا التعبير عن ذلك، على الصعيد الإقليمي، وجدنا أن التقابل الموازي هو بين الدفاع المسلح الذي يستطيع بلد من البلاد تأمينه لنفسه وبين القوة التي تنشرها القوى الأجنبية (مثلاً). وثمة مشكلة أساسية أخرى في الخليج، هي مشكلة انتماء العمال والمهنيين العرب، ومدى دمجهم في المجتمعات المحلية. فمن شأن عملية كهذه أن تعزز أمن تلك الدول، وتتيح قاعدة لدفاع عسكري أقوى، وذلك بإزالة الريبة الدائمة من كون هؤلاء العمال يشكلون "طابوراً خامساً"، وبتوسيع القاعدة السكانية العامة والقوى العاملة الماهرة.(24)

 

دور الغرب

إن الدور المحتمل للغرب في الأمن الإقليمي، بعد حرب الخليج، يلقي أضواء كاشفة على الترابط بين النظام العالمي والقوى العظمى الرئيسية وبين السياسة الإقليمية العربية. والأهم في هذا السياق هو أن لا بد من أن يقوَّم هذا الدور بعناية، لما له من أثر حاسم في الترابطات الثلاثة التي تقدم وصفها (الجيوسياسي، السياسي ـ العسكري، الداخلي الإقليمي).

يبدو حالياً أن ليس ثمة من توافق ذي بال، بين الدول الغربية الرئيسية، في شأن مقترحات الأمن. فليس لدى بريطانيا برنامج عمل، ويُختزل موقفها في نقاط أساسية ثلاث: أنّ على دول المنطقة نفسها أن تبادر إلى صوغ أفكارها وتطبيقها؛ أنّ الولايات المتحدة وبريطانيا غير قادرتين أو غير مستعدتين لالتزام حضور عسكري طويل الأجل، لأسباب يعود بعضها إلى تكلفة ذلك، ويعود بعضها الآخر إلى موقف الرأي العام لديهما؛ أنّ أمن الشرق الأوسط يستلزم، في أية حال، معالجة أربع مسائل هي: الخليج، وفلسطين، ومراقبة التسلح، والتنمية الاقتصادية.(25)

أما الولايات المتحدة فقد التزمت، على العكس، مرابطة وحدات جوية وبحرية في الخليج، فضلاً عن مراكز قيادة عملياتية لوجستيكية في البحرين لتنسيق استقبال التعزيزات الإضافية والقوات البرية، عندما تدعو الحاجة.(26)  لكن ليس من دلائل تشير إلى أن التفكير الأميركي قد تخطى التفاصيل التقنية العملية لترتيبات كهذه.(27)  بل إن النمط الذي يبرز هو تشكيل السياسة الأميركية على هذا النحو المرتجل وفيّ لأصولها ـ والشاهد على ذلك المهزلة في لبنان خلال 1982 ـ 1984. والحق أن ثمة ثوابت أخرى: التركيز على العلاقة العسكرية الأميركية ـ السعودية، وعلى مراعاة العلاقات بإسرائيل ومصر. لكن ثمة توتر كامن بين التركيز الضيق الأفق على هذه الثوابت الجزئية وبين الحاجة إلى إدراك أن السياسة الأميركية في مناطق محددة ربما خلّفت، في بعض المجالات، عواقب أوسع مدى وغير متوقعة.

ينطوي التعقيب الأخير على المدخل لتحديد الدور المتوازن الذي يجب أن تقوم به الدول الغربية أو أية قوة أو منظمة خارجية في الشرق الأوسط. فالمطلوب الجوهري هو أولاً تبويب أو تمييز بعض ملامح السياسة الأمنية، وثانياً تقويم الترابطات والاستناد إليها من أجل تحقيق أمن أوسع مدى وأعمق.

وثمة أمثلة عدة شاهدة على التوازن المطلوب؛ فمعظم المقترحات الأمنية المتداولة يركز على منطقة الخليج تحديداً، سواء فيما يتعلق بنشر القوات، أو باتفاقات المؤازرة العسكرية، أو معاهدات الدفاع المشترك الرسمية. لكن أمن الخليج سيظل عرضة للخرق إذا لم يحرز أي تقدم في حل النزاع العربي ـ الإسرائيلي، وإنْ اقتصر السبب على كون ثلاث من القوى العربية المتورطة في تلك المنطقة ـ العراق وسوريا ومصر ـ ضالعة في ذلك النزاع أيضاً. وان العلاقة الاستراتيجية الأميركية الآخذة في التطور تتجه إلى هذه الوجهة أيضاً. مثلما تتوجه رغبة حكام الخليج للتخلص من مصدر عدم الاستقرار بحل القضية الفلسطينية.

يضاف إلى ذلك، أن إسرائيل وسوريا، ومثلهما مصر وإنْ بدرجة أخف، تطوران برامج لإنتاج أسلحة الدمار الشامل والصواريخ، لكن من المستبعد أن تقبلا بأنظمة مراقبة التسلح لمجرد أن الغرب يريد فرض ذلك على العراق. كما أن مراقبة التسلح لن تلقى قبولاً لدى القوى الإقليمية الفعالة إنْ لم ترتبط بحل لباقي الخلاقات السياسية والحدودية. وليس المهم أن يعالج النزاع العربي ـ الإسرائيلي والحد من انتشار الأسلحة بموازاة قضية أمن الخليج فحسب، وهذا أمر لا بد منه، طبعاً، من أجل صون السلام والاستقرار الدائم في الشرق الأوسط، بل يجب الاستفادة القاصدة والفعالة من مختلف الترابطات الإقليمية نفسها لتيسير الحلول لعدد من المشكلات والمخاطر، التي لم يتوقع أحد في الماضي إمكان ربطها أو حلها.

من الطبيعي أن يقود توسيع مدى القضايا التي يجب معالجتها من قبل الفرقاء المحليين والقوى الخارجية إلى طرح تساؤلات عن الطرق والوسائل، وعن المسؤولية. هل ينبغي للدول الغربية أن تقدم برامج عمل جاهزة للمنطقة؟ هل عليها أن تفرض الحلول، وكيف؟ أين يمر الخط الفاصل؟

إن سجل السلوك الغربي غير صالح: الحكم الاستعماري المباشر؛ التدخل السافر أو الخفي في الشؤون الداخلية لدول المنطقة بعد الاستقلال؛ التواطؤ الفعلي أو الضمني في شطط الأنظمة المتسلطة؛ عدم الاكتراث المطلق لانتهاكات حقوق الإنسان في الدول العربية والأراضي الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل. إن السياسة الغربية لم تزل خاضعة لتأثير المصالح الخاصة والمكاسب التجارية. كما أن الدول الغربية ومثلها الفرقاء المحليين لم يصبحوا فجأة أكثر التزاماً عملياً بمبادىء الأخلاق والقانون الدولي، مما كانوا عليه قبل 2 آب/أغسطس 1990، يوم كانت التجارة تجري كالمعتاد مع العراق.

وبعد، فالغرب متورط تورطاً عميقاً في الشرق الأوسط، اقتصادياً، وتجارياً، وسياسياً، وعسكرياً. ولذلك كانت مسؤوليته الخلقية والاستراتيجية متقايسة مع مدى وجوده ونفوذه. وينبغي لهذه المسؤولية أن تتجلى عملياً على صُعد ثلاثة. أولاً، لا بد من أن يميز أي التزام عسكري بالأمن في الشرق الأوسط، أو في ناحية مخصوصة منه، تمييزاً واضحاً بين القوة الدفاعية أو الرادعة وبين القوة القاهرة. فردع العدوان والمؤازرة على دفعه شيء، والسعي للتحكم في بعض الدول عن طريق التهديد الضمني بالقوة شيء آخر. ولهذا أهمية خاصة، لأن الوجود العسكري الغربي في المنطقة ربما شجع الحلفاء المحليين على متابعة تحقيق طموحاتهم الإقليمية، مستندين في ذلك ـ بصورة مباشرة أو غير مباشرة ـ إلى النفوذ الإضافي المستمد من القوى الغريبة عن المنطقة.

وثمة، ثانياً، مسؤولية متعلقة بذلك، وهي مسؤولية ضبط النفس في استعمال الشرق الأوسط وسيلة لإبقاء بعض المؤسسات السياسية والعسكرية الغربية في قيد الحياة. فمن ذلك أن السعي الحثيث لإيجاد دور متجدد لحلف شمال الأطلسي قد ساق بعض المعلقين إلى اقتراح يقضي بتحويل بؤرة تركيز الحلف إلى تركيا. وقد أعرب وزير الدفاع الكندي عن هذا المنحى في التفكير، إذ اقترح أن يطور حلف شمال الأطلسي قدرات العمل خارج المسرح الأوروبي، لأن العالم قد بات أقل استقراراً.(28)   أما الأمين العام لاتحاد دول أوروبا الغربية، فان إيكلن، فكان أصرح إذ ذهب إلى أن على الأسرة الأوروبية أن تكوِّن سياسة خارجية وأمنية، وإلا تعرضت لخطر الاضمحلال.(29)    إن مثل هذه التصريحات لا يكشف العجز الفاضح والمستمر (أو الإحجام المتأصل) عن منازلة المشكلات السياسية والاقتصادية الأساسية فحسب، بل يغفل أيضاً عن العواقب الممكنة التي قد تنجرّ عن زيادة تسليح هذا الجزء من العالم وعن مواجهة الاتحاد السوفياتي وإيران والدول العربية (وحتى اليونان وقبرص) بأمر واقع جديد وخَطِر هو دولة تركيا الكثيفة التسليح والميَّالة إلى السياسة الثأرية.

والحق أن مثال تركيا يستدعي الوجه الثالث من أوجه مسؤولية الغرب، وهو تجنب تعويم الوضع غير العادل القائم في المنطقة، أو تدعيم الأنظمة المتسلطة. فقد تمكن الجيش التركي من إبادة العشرات من القرى الكردية في غفلة من وسائل الإعلام الغربية، يوم كانت القوات المتحالفة تعالج أزمة الخليج: كيف يمكن لمزيد من الالتزام الأطلسي تجاه تركيا أن يؤثر في وضعها الداخلي، وفي سجل انتهاكاتها لحقوق الإنسان؟ فإذا وضعنا التأكيدات الطيبة الثناء جانباً، فكيف يستطيع المساهمون الغربيون في تركيبات الأمن الإقليمي أن يتحققوا من أن وجودهم لن يقوّي الأنظمة العربية على أن تتجاهل لمدة أطول الضغوط الداخلية المطالبة بالإصلاح، أو إسرائيل على مقاومة استقلال الفلسطينيين. والحق أن للغرب مجالاً واسعاً للضغط تأييداً لليبرالية السياسية في الدول العربية وإسرائيل، نظراً إلى مدى اعتماد حكومات هذه الدول عليه.

 

هل "مؤتمر الأمن والتعاون في الشرق الأوسط"

حلم ممتنع التحقيق؟

 

لقد قدِّمت اقتراحات متنوعة لأمن الشرق الأوسط في دوائر عدة؛ فقد انقلبت وجهة السياسة الأميركية منذ حرب الخليج في اتجاه فكرة سلسلة من الاتفاقات الثنائية مع دول المنطقة، بينما اقترح بعض الخبراء المستقلين إعادة فرض وصاية الأمم المتحدة أو إنشاء مؤسسات مترابطة وظيفياً أو متمايزة إقليمياً، تظل "متواضعة ومحدودة من حيث جدول أعمالها وعضويتها بالقدر الذي تسمح به الغاية التي تتوخاها."(30)

الحجة في هذا المقال هي أن المقاربة التي تتشدد في رفض الترابط عند معالجة أمن المنطقة، إنما هي مقاربة غير وافية بالغرض لأنها تترك المشكلات الأساسية بلا حل، ولأنها قد تكون مصدراً لعدم الاستقرار في المدى الطويل. كما أن التشديد على الميكانيكا (الإدارة) والبعد العسكري للأمن القومي يغفل، على نحو لا يقل خطورة، عن العوامل المؤثرة الأخرى، ولا سيما بنية السلطة المحلية في دول المنطقة وما لها من أثر عظيم في الاستقرار الداخلي والسياسة الخارجية لهذه الدول فيما بينها. إن نزوع النخب الحاكمة العربية إلى مساواة الأمن القومي بأمن النظام سيزيد في التعقيدات أمام إقامة منظمات إقليمية مجدية وقابلة للبقاء. كما أن الأزمة الاقتصادية والتململ السياسي في معظم دول المنطقة يوحيان بأن الحاجة إلى التنمية والديمقراطية ستخلف أثراً متزايد الأهمية في الأمن، وتعزِّز الترابطات على الصُعد كافة. إن أمن المنطقة، في نهاية المطاف، كلٌّ ليس أفضل من مجموع أجزائه الفردية المكوِّنة، لكن لا بد من أن تسلّم دول المنطقة، في معظمها، بأن الأجدى في تحقيق أمنها القطري إنما هو تعزيز الأمن الجماعي (الإقليمي) وتقديم التنازلات المطلوبة لذلك.

المطلوب إذاً، مقاربة تسمح بفصل القضايا (عند الحاجة) والربط بينها في الوقت نفسه، وتدفع بمستوى الإقليمي ومستوى الأمن الداخلي قدماً وعلى التوازي. ومن النماذج لذلك مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي (CSCE) الذي يمكن تعديله بما يلائم وقائع الشرق الأوسط.(31)  طبعاً، إن مدى فعالية مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي في دفع التطورات في أوروبا، مسألة تقبل النقاش، وربما لم يكن المؤتمر إلا تتويجاً لما كان قد تقرر على الأرض. لكن في ذلك مدعاة، إذاً، إلى الإفادة من التغييرات الجذرية في التوازنات الإقليمية التي آذنت بها أزمة الخليج، والى طرح مؤتمر للأمن والتعاون في الشرق الأوسط (CSCME) باعتباره الإطار الأوسع الذي يمكن للبنى الثنائية أو المتعددة الأطراف أن تعمل في نطاقه.(32)  وقد يمكن أن تطرح هذه الفكرة بمبادرة من الأمم المتحدة، أو أن تتداخل معها في بعض القضايا، من دون أن تخضع لقواعد العضوية والتصويت نفسها.

ومن المزايا المميزة لمؤتمر الأمن والتعاون في الشرق الأوسط أنه يشتمل على ثلاثة مبادىء: فهو يجمع الفرقاء كلهم ويعترف بهمومهم ومخاوفهم وحاجاتهم، لكن من دون إكراه أي منهم على التنازل عن أي شيء مسبقاً؛ وهو يقبل بعدم التكافؤ في القدرات والمشكلات، لكنه يسعى للتوازن؛ وهو يشجع المعاملة بالمثل. يضاف إلى ذلك، أن إطاراً كهذا المؤتمر سيكون متعدد المستويات ومتعدد الشرائح، ويسمح بمعالجة قضايا عدة، مجتمعة، أو منفصلة، أو في تركيبات متنوعة. إن أمن الخليج مثال لذلك: ففي وسع مجموعة الثمانية أو مجلس التعاون الخليجي أن يَضْمَنا الدفاع العسكري الأساسي عن دول مجلس التعاون، بينما يمكن للجنة أوسع نطاقاً ـ تضم العراق وإيران (وربما اليمن أيضاً) ـ أن تعالج مسائل أمنية أوسع فضلاً عن سبل التعاون في الخليج. ويقدم النزاع العربي ـ الإسرائيلي ومراقبة التسلح مثالاً آخر: فالأسلحة التقليدية وغير التقليدية يمكن أن تعالج منفصلة كل واحدة عن الأخرى، كما يمكن أن تعالج بالترابط مع التحرك نحو السلام الشامل وحقوق الفلسطينيين والأمن الإسرائيلي. وبالمثل، فإن في وسع مؤتمر الأمن والتعاون في الشرق الأوسط أن يقدم منبراً يتيح لحقوق الإنسان وللحريات السياسية والمدنية أن يُعتَرَف بها، وأن تُشَجَّع بفعالية؛ كما يمكن أن يكون أيضاً مظلة لمنظمة متخصصة بحقوق الإنسان، أو لمصرف إقليمي للتنمية وإعادة الإعمار، يرتكز على شيء من اشتراط الترابط بين التجارة الخارجية أو المساعدة المالية وبين تطبيق الديمقراطية وترسيخها.  

إن معالجة أمن الخليج، والصراع العربي ـ الإسرائيلي، ومراقبة التسلح، ونزع السلاح، والتنمية الاقتصادية، وبسط الديمقراطية، أمور قد تبدو أكثر مما تجوز المطالبة به أو يجوز توقعه. ومع هذا فالشدائد والتوترات المتراكمة داخل الأنظمة القطرية والإقليمية في الشرق الأوسط الآن تعادل تلك التي كانت قائمة في أوروبا الشرقية أواخر الثمانينات، إنْ لم تكن أسوأ منها، وتستلزم مقاربة لا تقل عن مقاربة تلك شمولاً. طبعاً، كان في الحالة الأوروبية سجل طويل حافل بالمفاوضات، ولم ينجح المؤتمر الأوروبي للأمن والتعاون إلا بعد تغير التوازن بين الشرق والغرب، وغيرت الأطراف المنخرطة فيه قائمة أولوياتها. لكن هذا سبب أولي كي لا يقود التورُّط الغربي في بنية الأمن الإقليمية في الشرق الأوسط، إلى إعادة فرض الوضع الذي كان قائماً من قبل، مثلما استبقت القوة السوفياتية توازناً مصطنعاً للقوى في أوروبا الوسطى لمدة تنوف على الأربعين عاماً.

ومهما يكن الأمر، وأياً يكن الدور الغربي أو مصير المقترحات الخاصة، فإنه يقع على عاتق العرب أنفسهم واجب تغيير القاعدة التي يبنون عليها سياساتهم الداخلية والإقليمية. فمجتمعاتهم المدنية لا تزال مهمّشة ومقموعة منذ أمد بعيد جداً، لكن لا بديل من تنشيطها وتقويتها ـ من خلال المؤسسات والإصلاحات الملائمة ـ كي تتوصل المنطقة إلى تحقيق السلام والأمن.

 

* باحث في كلية "سانت أنطوني" في جامعة أوكسفورد (بريطانيا)، ويتركز عمله على العلاقات الدولية والأمن في العالم الثالث.

(1)  Security and the Middle East: The Problem and its Solution (New York: n.p., 1954).

(2)   International Herald Tribune, September 6 & 25; December 6, 1990.

(3)  وتجد تفصيل هذه المقاربة للأمن في:

Yezid Sayigh, Confronting the 1990’s: Security in the Developing Countries (London: The International Institute for Strategic Studies, Adelphi No. 251, 1990).              

(4)  البيان الرسمي في صحيفة "الحياة"، 7/3/1991.

(5)  بلغ حجم القوات المصرية ما بين 35 ألفاً و 60 ألفاً، بحسب المصدر. وجاء الإعلان المصري في 8 أيار/مايو. أنظر صحيفتي "القدس العربي" (لندن)، 9/5/1991، و "الحياة"، 9/5/1991.

(6)  تفاصيل زيارة تشيني في: International Herald Tribune, May 9, 1991.

(7) هذه الناحية من السياسة السعودية إزاء إيران تحديداً، يعالجها غسان سلامة في كتابه: "السياسة الخارجية السعودية منذ 1945" (بيروت: معهد الإنماء العربي، 1980)، ص 523-524.

(8)  Giacomo Luciani and Hazem Beblawi, The Rentier State (London: Croom Helm, 1987), pp. 79-80.

(9)  هذه النواحي وغيرها من النواحي الجيوسياسية العربية تجدها مفصلة في:

Yezid Sayigh, “The Gulf Crisis: Why the Arab System Failed,” International Affairs, July 1991.

(10)  سلامة، مصدر سبق ذكره، ص 516.

(11)  أنظر: يزيد صايغ، "الصناعة العسكرية العربية: الواقع والأداء والآفاق" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1991)، الفصل الخاص بمصر.

(12)  وقد بيّن وزير الخارجية بطرس غالي صراحة أهداف السياسة المصرية ومنطلقاتها في مقابلة نشرتها صحيفة "الحياة"، 6/1/1991.

(13)  أكد وزير الخارجية المصري السابق والأمين العام الجديد لجامعة الدول العربية، عصمت عبد المجيد، أهمية حل قضية فلسطين ودور مصر كوسيط بين العرب، في مقابلة أجرتها معه صحيفة "الحياة"، 16/4/1991.

(14)  نجد التفاصيل عن قدرات الشرق الأوسط في:

Frank Barnaby, The Invisible Bomb: The Nuclear Arms Race in the Middle East (London: I.B. Tauris, 1989), Part One.

(15)  عن تفاصيل القيود التي فرضتها الأمم المتحدة على تسليح العراق، وعن "القائمة السوداء" التي أعدتها وزارة التجارة الأميركية ضد الشركات والوكلاء العاملين لمصلحة العراق دولياً، أنظر:

Jane’s Defence Weekly, April 13, 1991.

(16)  أوضح وزير الخارجية الأميركي، جيمس بيكر، حقيقة نظرة إدارته إلى هذا الموضوع، حين قال في شهادته أمام لجنة الشؤون الخارجية للكونغرس: ":تدل هذه الحالة على حقيقة أن هناك ضرورة لهذه الدول كي تتمكن من الدفاع عن نفسها، ومن الدفاع عن نفسها بفضل الأسلحة التي تبيعها لها الولايات المتحدة، وذلك بطريقة لا تتحول تهديداً لإسرائيل، شرط أن ندرك التزامنا وأن نتعهد به [الاستمرار] التفوق النوعي الإسرائيلي" (International Herald Tribune, September 6 & 25; December 6, 1990).  أما الفريق الركن السعودي خالد بن سلطان، فقد أيد فكرة مراقبة التسلح من حيث المبدأ، لكنه ربطها بشرك مراقبة التسلح الإسرائيلي في الوقت ذاته

(International Herald Tribune, April 30, 1991).

(17)  ولا تستثنى من ذلك إسرائيل. فقد كشفت فضيحة تورط رئيس قسم المقتنيات في سلاح الجو فيها، عن اختلاسات طائلة، أنظر:

      Jane’s Defence Weekly, March 23, 1991.

(18)  وقد أعرب الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، محمود رياض، عن ذلك بإيجاز قائلاً: إن المصير العربي لا يقرره الشعب العربي وإنما مصير الأمة في يد أشخاص يصرون على الانفراد بالرأي ("الحياة"، 11/12/1990). وقد كتب الكثير عن طبيعة الأنظمة السياسية في دول عربية عدة، لكن الجهد الأخير لدراسة عدد كبير منها هو:

Berch Berberoglu (ed.), Power and Stability in the Middle East (London: Zed Press,         1989).                                                                                                                  

ويربط هذه العلاقات بعضها ببعض في:

Valerie Yorke, Domestic Politics and Regional Stability: Jordan, Syria and Israel (London: Gower for the IISS, 1988).                                                                                                                                                          

(19)  صرح الفريق الركن خالد بن سلطان، مثلاً، عن رغبته في توسيع الجيش النظامي بنسبة ضعفين أو ثلاثة أضعاف، وفي تكديس مخزون أكبر من العتاد، أنظر: International Herald Tribune, April 22 & 30, 1991.

(20)  Paul Jureidini and R.D. McLaurin, Jordan: The Impact of Social Change on the Role of the Tribes (Washington DC: Praeger for CSIS, Washington Papers No. 108), pp. 6-7 and 63. For example

(21)  Beblawi, Op.cit., pp. 74-75.

(22)  في رأي مدير معهد أوكسفورد لدراسات الطاقة، روبرت مابرو، حديث خاص، 6 نيسان/أبريل 1991.

(23)  المصطلحان مأخوذان من: Sunday Ochoche, “Towards the ‘Habilitation’ of the Concept of Security: Some Preliminary Sketches,” unpublished paper, p. 15. 

(24)  تعالج هذه القضايا في كتاب سعد الدين إبراهيم، "النظام الاجتماعي العربي الجديد: دراسة عن الآثار الاجتماعية للثروة النفطية" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1982)، ص 190 – 191.

(25)  استناداً إلى محادثات خاصة مع بعض المسؤولين في وزارة الخارجية البريطانية، في آذار/مارس ونيسان/أبريل 1991.

(26)  التفاصيل في: International Herald Tribune, March 25, 1991.

(27)  أنظر زيارة وزير الدفاع الأميركي، تشيني، إلى دول مجلس التعاون الخليجي الست، وورود بعض التفاصيل عن الاتفاقات الأمنية ـ العسكرية الثنائية (Ibid., May 9, 1991).

(28)  Jane’s Defence Weekly, October 20, 1990.

(29)  Ibid., October 27, 1990.

(30)  فكرة فرض وصاية الأمم المتحدة تقدم بها عبد المنعم سعيد علي في محادثة خاصة في آذار/مارس 1991. الاقتباس من:

Shahram Chubin, “Post-war Gulf Security,” Survival, March/ April 1991, pp. 154-155.

(31)  في الغرب اقترحت إيطاليا وإسبانيا اعتماد نموذج مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي في الشرق الأوسط. أنظر ملاحظات وزير الخارجية دي ميكاليس في: International Herald Tribune, February 18, 1991.

(32)  أو يمكن توسيع الإطار ليصبح مؤتمر الأمن والتعاون لحوض البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط (CSCMME).