Civil Society Under the Intifada: Popular Resistance and the Palestinian National Movement
Keywords: 
المقاومة الشعبية
أزمة الخليج
الانتفاضة 2000
المجتمع المدني
Full text: 

أولاً: مقدمة

حين يُكتب التاريخ الحديث للقضية الفلسطينية، سوف يعرض المؤرخون، من دون شك، الانتفاضة باعتبارها حدثاً مهماً وفاصلاً في الصراع الطويل لشعب فلسطين من أجل العودة وتقرير المصير.

فعلى المستوى السياسي، في فلسطين ذاتها وفي المجال الدولي، فإن وقع الانتفاضى بارز بما فيه الكفاية. إذ أنها ساهمت في تغيير العلاقة وإحيائها، وعلى العديد من المستويات، بين الفلسطينيين داخل المناطق المحتلة وبين الجسم السياسي الفلسطيني في الخارج، بما في ذلك القيادة السياسية الفلسطينية. كما ساهمت الانتفاضة في إعادة ترتيب جدول الأعمال السياسي للحركة الوطنية الفلسطينية، وجعلت من الممكن إعادة صوغ المطالب الفلسطينية على شكل واقعي وقابل للتحقيق.

وعلى المستوى الدولي، أكدت الانتفاضة الأهمية المركزية لموضوع الحقوق الوطنية الفلسطينية، وكشفت الكبيعة الإجرامية القمعية لسياسات وممارسات الاحتلال الإسرائيلي، وأعادت موطن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي إلى جذوره التاريخية في فلسطين.

ومن حيث تأثير الانتفاضة في إسرائيل، فإنها نجحت في تحييد الآلة العسكرية الضخمة للدولة الصهيونية، وأجبرتها على التعامل مع ثورة مدنية شعبيةغير مسلحة، بأشمال حددها هذه المرة المضطَّهدون أنفسهم. إن استمرارية المقاومة الفلسطينية، بل تصاعدها أيضاً، قد دفعا السياسة الإسرائيلية إلى اللجوء إلى أساليب قمع كشفت بها المكونات العنصرية الكامنة في كبيعة الصهيونية السياسية في إسرائيل. كما كشفت الانتفاضة أيضاً، وبكل وضوح، العجز الصارخ للأنظمة العربية في المنطقة، وأبرزت النفاق الصريح في سياسات ومواقف الولايات المتحدة، كما في العديد من دول الغرب، حيال انتهاك إسرائيل للحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني في فلسطين.

هذه هي بعض أهم التأثيرات السياسية للانتفاضة، والتي كانت وما زالت موضع نقاش واسع في الكتابات بشأن هذا الموضوع.

أما الأمر الذي لم يحظ بالقدر ذاته من الاهتمام، فهو الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية لهذه الانتفاضة الشعبية التي تكاد تكون فريدة في نوعها، وكذلك التاثيرات الناجمة عنها في هذه المجالات. هذا، ولا شك في أن الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية للانتفاضة قد تأثرت، من حيث المضمون والشكل، بالمستجدات التي أتت بها الأزمة الطاغية في الخليج والتي اندلعت، في كل حال، في فترة كانت فيها الانتفاضة، والحركة الوطنية الفلسطينية عامة، قد بلغتا منعطفاً حرجاً في مسيرتهما التاريخية. فقد جاءت الأحداث الجديدة مملوءة بالتحديات وبالفرص. غير أن قدرة الانتفاضة على الثبات وعلى الاستمرار ستتحدد، في نهاية المطاف، بمدى متانة الأسس الاجتماعية والاقتصادية للانتفاضة، وكذلك بانسجامها مع آمال وتطلعات الشعب الفلسطيني والشعوب العربية على نطاق واسع. 

ثانياً: الأبعاد

الاجتماعية والاقتصادية للمقاومة

منذ بداية الغزو الصهيوني لفلسطين، أدرك الصهيونيون الأوائل إدراكاً تاماً حقيقة جوهرية أغفلها الفلسطينيون عامة، وهي أن الصراع بشأن فلسطين هو، في الأساس، صراع بشأن الموارد الطبيعية وبناء المؤسسات وتعزيز الوجود المكثف على الأرض ذاتها. لكن الجيل الفلسطيني في ظل الاحتلال، أدرك هذه الحقيقة تماماً؛ فهو وحده، وبحكم علاقته الجدلية وممارساته النضالية ضد المحتل، فهم طبيعة التحدي الذي يواجهه وضخامة المهمة التي عليه أن ينجزها في صراعه من أجل البقاء والنمو.

ففي غياب سلطة وطنية ذات سيادة على الأرض، اعتاد الفلسطينيون ومنذ زمن طويل على ابتكار الحلول الذاتية لمشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية الناشئة. وحتى خلال الانتداب البريطاني، كان الفلسطينيون يسعون لإقامة مؤسسات أهلية من أجل معالجة شؤونهم الاجتماعية والثقافية والتربوية. غير أن هذه التنظيمات البدائية لم تتخطَّ، إلا في النادر، حدود الوظائف الاجتماعية المتواضعة التي أُنشئت من أجلها. كما أن تصاعد الثورة السياسية في فلسطين، في الفترات السابقة، طغى على وجود هذه التنظيمات وحدّ من تأثيرها في نهاية الأمر.

وخلال الحكم الأردني للضفة الغربية، ازداد عدد المؤسسات غير الحكومية ازدياداً كبيراً في لاضفة، وإنْ لم يحدث الشيء نفسه في قطاع غزة ولأسباب متعددة لا ضرورة لذكرها الآن. لكن هذه المؤسسات بقيت تعمل تحت هيمنة السلطات، بل تحت سيطرتها إلى حد كبير. لذا، فقد بقيت تأثيراتها ومجالاتها محدودة، بل هامشية، في الكثير من الحالات.

وجاء احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة سنة 1967 ليضع المناطق المحتلة في حالة صدمة زعزعت بنيها المؤسسية الضعيفة أصلاً. ولم يتمكن المجتمع الفلسطيني من التحرك للردّ على صدمة الاحتلال في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، إلا أواخر السبعينات حين تصاعد التحدي الصهيوني للوجود الفلسطيني إلى درجة التهديد بالاقتلاع والتشريد. وجاء رد الفلسطينيين على شكل يعزز قدرتهم الجماعية على الصمود أمام الضغوط المتصاعدة والمدمرة التي فرضها الاحتلال طويل الأمد. ففي سنة 1976، جرت الانتخابات البلدية في المناطق المحتلة، وأفرزت قيادة وطنية موضع ثقة، ومهّدت السبيل لفترة زمنية قصيرة ترعرع فيها النشاط الاجتماعي السياسي المنظّم. فقد تألفت لجنة التوجيه الوطني كمجموعة تحظى بصفة تمثيلية اجتماعية سياسية واسعة النطاق، بينهما شهدت النقابات المهنية واتحادات العمال والجمعيات الخيرية والتعاونية توسعاً سريعاً في عضويتها ونطاق خدماتها.

لكن هذه الفترة القصيرة من الحيوية الاجتماعية ما لبثت أن انتهت في المحاولات الإجرامية التي قام بها عدد من المستوطنين الإسرائيليين للاعتداء على حياة ثلاثة من رؤساء البلديات الكبار في الضفة، وفي حل لجنة التوجيه الوطني من قبل سلطات الاحتلال. كما هدفت السياسة العدوانية الواضحة، التي انتهجتها حكومة الليكود الجديدة، إلى تعطيل المؤسسات الوطنية عامة وشلّها عن العمل.

وفي خضمّ هذا الصراع الاجتماعي السياسي، بدأ المجتمع الفلسطيني يكوّن آليات الدفاع عن النفس بشكل أكثر دقة ومرونة. فإلى جانب الشبكة القائمة من المنظمات والمؤسسات الأهلية التقليدية، بدأ جيل جديد من القادة الشبان الراديكاليين بتنظيم شبكة من اللجتن ذات طابع غير مركزي وغير معلن في الغالب. وقد أُلّفت أولى هذه اللجان على يد جماعة من النساء التقدميات النشيطات سنة 1987، والتي سرعان ما أفرزت عدداً من اللجان المماثلة في أرجاء الضفة كافة، وخصوصاً في الريف ومخيمات اللاجئين.

وتبع ذلك توسع في أنشطة الجماعات النسائية التي تمثل اتجاهات سياسية مختلفة، فقامت بتنظيم وتطوير خدماتها الطوعية الجماهيرية في أنحاء الضفة والقطاع كلها. وعلى الرغم من أن هذه الجماعات ركّزت اهتمامها في البداية على القضايا الاجتماعية، وخصوصاً ما يتصل منها بالمرأة، كعيادات الأمومة والطفولة ورياض الأطفال والتربية الصحية وبرامج محو الأمية، فإن إنجازها الأهم كان في تنظيم وتجنيد عدة آلاف من العناصر النسائية النشيطة في جميع أرجاء المناطق المحتلة، ضمن إطار تنظيمي ديمقراطي تحرري هادف.

وفي سنة 1979، تم تأليف أولى لجان الخدمات الطبية الطوعية على يد أطباء تقدميين شباب، واختصاصيين في مجال الصحة. كان الهدف المعلن لهذه الجماعة تقديم الخدمات الطبية المجانية، أو الزهيدة الثمن، إلى سكان المناطق المحرومة في القرى ومخيمات اللاجئين. لكن التأثير الاجتماعي السياسي كان في تجنيد عدة مئات من العاملين في المجالات الصحية، وتنظيمهم حول برنامج متكامل للعون الصحي التطوعي. وقد جاءت هذه المبادرة، في أصالبتها ودقة تجاوبها مع الحاجات المحلية، لتكوّن بدايات لنظام صحي بديل من البرامج التي تشرف السلطات عليها. ومع أن العمل التطوعي تنامى ببطء في البداية، لكنها تسارع في النمو خلال أواسط الثمانينات وأواخرها، فأصبحت الشبكات المؤسسية للعمل الصحي المدني تعم مختلف مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة.

وقد تبع ذلك تأليف لجان طوعية مشابهة في مجال الزراعة، بدأت تعمل من أجل سد الحاجة الناجمة عن تخفيض الخدمات الرسمية في هذا القطاع الحيوي. فنشطت هذه اللجان في تقديم المشورة والمساعدات الفنية للمزارعين، وفي حشد المتطوعين من طلبة الجامعة وغيرهم في أوج المواسم الزراعية، وفي إجراء التجارب لتطوير المحاصيل وأصناف الثروة الحيوانية الجديدة وتدجينها. ومن خلال هذه النشاطات، تركز العمل على تشجيع الإنتاج الغذائي، ولو على نطاق محدود في البداية، مع التشديد على ضرورة تغطية الحاجات الأساسية بالدرجة الأولى.

ومع النمو المتسارع للمنظمات الطوعية غير الرسمية تحت قيادات راديكالية شابة ومهنية، طرأت تحولات مهمة كذلك في الجمعيات الخيرية التقليدية، من حيث بنيتها وتوجهاتها. فقد طوّرت هذه الجمعيات عملها خارج نطاقه التقليدي ليشمل برامج التعليم والتوعية والتدريب والتشغيل للنساء، كما شمل فيما بعد المشاريع التي تدر الدخل والمرتكزة على إنتاج الغذاء والأعمال اليدوية. وفي أواسط الثمانينات، كانت هذه البرامج تستخدم بضعة آلاف من النساء في جمعيات ولجان محلية منتشرة في قرى الضفة والقطاع.

والجدير بالذكر أن فترة أواسط الثمانينات شهدت أزمة اقتصادية حادّة في إسرائيل أدّت إلى تسريح أعداد كبيرة من العمال الفلسطينيين الذين عادوا إلى سوق العمل المحلية. ومع الإفراج عن أكثر من ألف سجين سياسية سنة 1985، وتزايد أعداد المسرّحين من المعتقلات عامة، والذين لم تسمح لهم بالعمل في القدس وإسرائيل، أضحت الحاجة ملحة إلى إيجاد فرص للعمل في المناطق المحتلة. ومما زاد الحاجة إلحاحاً، التأثيرات الناجمة عن تباطؤ النشاط الاقتصادي في الأردن، وفي منطقة الخليج التي كانت قد استوعبت أعداداً كبيرة من العمال الفلسطينيين من المناطق المحتلة.

وعاد إلى الأرض بالتدريج، في تلك الفترة، الألوف من العاملين سابقاً في إسرائيل، ومن الذين كانوا على وشك الهجرة. غير أن تشغيل هذه الأيدي العاملة في القطاعات الإنتاجية لم يكن أمراً سهلاً في غياب تسهيلات للإقراض الزراعي والصناعي، وانعدام أطر التسويق المنتظمة. ولهذا، ومن أجل تلبية هذه الحاجة، تم إنشاء مؤسسات أهلية للإقراض الزراعي والصناعي، وذلك بدعم من مؤسسة إنمائية فلسطينية في الخارج. وكان الهدف توفير رأس المال بمبالغ متواضعة للمزارعين والصناعيين، من خلال قروض ميسّرة لمشاريع زراعية وصناعية صغيرة الحجم. ومع تنامي برنامج الإقراض هذا، تم تنظيم خدمات للتدريب والمساعدة التقنية، في حين ضاعفت المنظمات التسويقية جهودها لإيجاد أسواق جديدة، لا في الدول العربية المجاورة فحسب بل أيضاً في دول المجموعة الأوروبية.

كما نشأت في تلك الفترة، ومع تنامي العمل النسائي، مبادرات تنظيمية بدائية نوعاً ما، تهدف إلى تكوين رأس المالي المحلي، وذلك من خلال إنشاء جمعيات تعاونية إنتاجية تابعة لمجموعات نسائية. وقد سعت هذه المبادرات لا لتلبية الحاجات الأساسية فحسب، بل أيضاً لطرح نموذج حيّ ومُجدٍ للديمقراطية الصناعية.

وإلى جانب هذه التطورات الاجتماعية والاقتصادية، كادت التطورات السياسية تتجه باطراد نحو تنمية الوعي السياسي والتعبية الشعبية. وقد قامت الجامعات المحلية في هذا المجال بدور أساسي وبارز، إذ أضحت الجامعات مراكز نشيطة للعمل السياسي والتنظيم الثوري اللذين انتشرا بصورة خاصة نحو المناطق الريفية ومخيمات اللاجئين، من خلال الخريجين الذين عادوا إلى قراهم ومخيماتهم بسبب غياب فرص العمل في المدن الرئيسية.

وفي الوقت ذاته، ومع خروج منظمة التحرير من بيروت، وخلال الفترة التالية التي تضاءل فيها النشاط الدبلوماسي والسياسي نسبياً، بدأت القيادة السياسية الفلسطينية تركز قدراً متزايداً من اهتمامها نحو المناطق المحتلة. ومن هذا المنطلق، فقد عزّز هذا التقارب التوجه نحو التعبئة السياسية والاجتماعية القائمة محلياً، من خلال توطي الروابط بالحركة الوطنية الفلسطينية خارج المناطق المحتلة. غير أن من الضروري الإشارة إلى أنه على الرغم من نمو هذه الروابط وانتشارها، فإن هذه العلاقة المتجددة حملت معها أيضاً بذور التوتر، وربما المخاطر المحتملة.

ففي المكان الأول، لم تتحدد هذه العلاقة بين فلسطينيي "الداخل" وفلسطينيي "الخارج" بالدقة المطلوبة منذ مطلع السبعيناتـ وبقيت عرضة للغموض، وكثيراً ما أثارت الحيرة لدى الفلسطينيين في الداخل. فما دام تحرير فلسطين يأتي من خلال الكفاح المسلح، المستند إلى الدعم العربي والتضامن الدولي، يبقى دور الفلسطينيين في الداخل ثانوياً بالضرورة. كما أن إمكان تطور مقاومة مسلحة في المناطق المحتلة منذ سنة 1967، وهو إمكان تحقق بقدر ملموس في الفترة حتى خريف سنة 1970، تلاشى فيما بعد بسبب الإجراءات القمعية الحادة من قبل الإسرائيليين، وبسبب ابتعاد القيادة الوطنية الفلسطينية عن ساحة النضال في الداخل بعد أحداث أيلول الأسود.

وفي ظل هذه التطورات الفلسطينية والعربية، في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، أُعيدت الحياة، ولو بصورة محدودة، إلى العلاقة بين الداخل والخارج في إطار عمل اللجنة الأردنية – الفلسطينية المشتركة. غير أن الشعور السائد لدى الفلسطينيين في الداخل، كان أن القيادة الوطنية بدت من خلال برنامج المساعدات الاقتصادية والاجتماعية للجنة المشتركة في الفترة 1979 – 1985، أنها تتنافس مع السلطات الأردنية في كسب الولاءات في الضفة الغربية وقطاع غزة، وليس بالضرورة في تعزيز الأسس الاجتماعية والاقتصادية لحركة مقاومة مستمرة. فمن وجهة نظر "جيل الاحتلال"، الذي اكتسب  وعيه السياسي وخبرته الثورية من خلال الكفاح اليومي ضد احتلال شرس يبغي اقتلاعه وتشريده، فإن السياسات والممارسات المعلنة للقيادة الوطنية في الخارج، باستثناء بعض الحالات، لم توحِ بالثقة الكافية لدى قيادات هذا الجيل بقدرة القيادة في الخارج على تفهم الأوضاع في المناطق المحتلة تفهماً دقيقاً، بما تمليه متطلبات الواقع وخطورته. كما أن أولئك القادة المحليين الذين طردتهم سلطات الاحتلال لم يتمكنوا من اختراق حواجز السلطة المهيمنة داخل منظمة التحرير، وبلوغهم المستوى الذي خوّلتهم الوصول إليه تجاربهم الميدانية وخبراتهم النضالية المميزة.

من هنا، ليس من البعيد الافتراض أن هذا التباعد الظاهري بين المجتمع الفلسطيني في المناطق المحتلة والقيادة في الخارج، والذي اعترى العلاقة بينهما منذ بدايات السبعينات، كان أيضاً بين العوامل التي ساهمت في بلورة توجه لدى الفلسطينيين في الداخل يُشدّد على أولوية الصمود، ويستند إلى الاعتماد على الذات، ويستوجب التهيئة لمعركة ضارة ومستمرة في إطار كفاح طويل الأمد على الأرض.

كانت تلك هي الحال، إذاً، في المناطق المحتلة عشية الانتفاضة؛ حال استياء شامل وبدايات غليان داخلي عام بين صفوف جيل شاب مسيّس إلى حد بعيد، يعي بعمق الخطر المتعاظم على كيانه بالذات، والمتمثل في سياسة إسرائيلية استيطانية تزداد حدة وشراسة. وقد ساهمت الأوضاع الفلسطينية والعربية عامة (الوطن العرب، والانشغال بحرب الخليج، وتضاؤل الدعم المادي والسياسي للمقاومة الفلسطينية) في تعزيز الافتراض الذي ترسخ لدى الفلسطينيين في الداخل، أن الكفاح في المناطق المحتلة إنما هو نضال متواصل للبقاء وللحفاظ على الوجود وعلى الهوية. ومن هذا المنطلق، أخذ المجتمع الفلسطيني المقيم في أرض الوطن يصوغ استراتيجيته لمقاومة ضغوطات حصار طويل، من خلال تدعيم قدراته الذاتية على التكافل الشامل والتعبئة الاجتماعية والاعتماد على الذات. 

ثالثاً: المجتمع المدني والانتفاضة

إن المجتمع المدني الذي نما في المناطق المحتلة كان، في الأساس، وليد الحاجة؛ إذ كان في جوهره أداة للدفاع عن النفس من جانب الفلسطينيين، وتعبيراً عن عزمهم على عدم الاستسلام لنظام قمعي فرضته إدارة احتلال أجنبي عدائي.

وكان هذا المجتمع المدني هو الذي وفّر للشعب الفلسطيني في الداخل شبكة الأمان الاجتماعية خلال الانتفاضة، الأمر الذي أتاح للفلسطينيين في المناطق المحتلة إمكان تقليص اعتمادهم على الواردات الإسرائيلية بنسبة نحو خمسين في المائة، وتلقى صدمة الفصل الجماعي لعشرات الآلاف من العمال في إسرائيل، ومقاومة التقييدات الصارمة على نقل الأموال إلى المناطق المحتلة، والاستمرار في مواجهة العقوبات الجماعية الإجرامية التي مارسها الاحتلال، ناهيك بالثمن الباهظ الذي دفعه ويدفعه الشعب الفلسطيني في خسارات الأرواح والإصابات الفادحة.

إن الأسئلة التي تثيرها هذه التحولات داخل المجتمع الفلسطيني، ولا سيما في ضوء ما تبعها من تطورات هي الآتية: كيف يمكن تشخيص أداء المجتمع المدني في ظل الأوضاع المرهقة التي واكبت الانتفاضة الشعبية؟ كيف عالجت المؤسسات الأهلية، العاملة في مجالات الصحة والتربية والخدمات الاجتماعية، الضغوط الهائلة على مواردها؟ كيف كان أداء النظام التربوي؟ وفوق كل هذا وذاك، كيف صمدت استراتيجية الاعتماد على الذات أمام مثل هذه التحديات؟ لسنا هنا في صدد تقويم شامل لنتائج هذه التجربة التي قد تكون فريدة في نوعها. غير أنه يمكننا أن نشير إلى الملامح الرئيسية لمثل هذه المراجعة وهذا التقويم.

لم يبدأ النظام الصحي الأهلي في المناطق المحتلة بالنمو نمواً فعّالاً سوى في أواسط تطوّر المبادرات الذاتية في هذا المجال، لم يكن هذا النظام مهيَّأً لمعالجة الزيادة المفاجئة في الحاجات الطارئة التي أوجدتها الانتفاضة. وعلى الرغم من ذلك، فقد استطاع هذا النظام أن يواجد بقدر من النجاح لا الازدياد الكبير في الحالات الناتجة من تكاثر الوفيات والإصابات فحسب، بل أيضاً مع الحاجة الإضافية التي نتجت من عدم رغبة المصابين في اللجوء إلى المرافق الصحية الحكومية بسبب تعرضهم للأخطار الأمنية الإضافية، وبسبب الازدياد الهائل في التكلفة الذي فرضته سلطات الاحتلال مع انطلاق الانتفاضة. ومن مجموع الستين ألف إصابة وأكثر، التي حدثت خلال أعوام الانتفاضة الثلاثة الأولى، تمت معالجة الأكثرية العظمى في المستشفيات والعيادات الأهلية، التي تشرف عليها مؤسسات وجمعيات ولجان فلسطينية محلية.

ومن أجل التعامل مع هذا العبء المتزايد، حدث نمو ملموس في عدد وقدرة العيادات الصحية التي تديرها الجمعيات الطوعية والمنظمات الصحية والطبية الأهلية. فازداد عدد العيادات بنسبة ستين في المائة ليبلغ نحو 200 عيادة، وازدياد عدد المهنيين الصحيين إلى أكثر من الضعف، بينما تضاعف عدد سيارات الإسعاف على الرغم من العقبات الإدارية الصارمة التي فرضتها السلطات الإسرائيلية على ترخيص هذه السيارات وتشغيلها. كما تم فتح مركز كبير للعلاج الطبيعي ولإعادة تأهيل المصابين، بالإضافة إلى عدد مراكز أخرى أصغر حجماً والتي ما زالت كلها تعمل بصورة فعّالة.

كذلك تزايد إنتاج الأدوية والعقاقير تلبية للحاجة التي عززتها المقاطعة الفعّالة للمنتوجات الإسرائيلية. وتم تطوير مختبرات طوعية لضبط الجودة ولتأمين سلامة العلاج، وهي تعمل من دون أيةمراقبة رسمية على الإطلاق.

أما النظام التربوي الذي كان يشتمل على ست جامعات والعديد من المعاهد والكليات فوق الثانوية، وأكثر من خمسين مدرسة أهلية ومركزاً للتدريب المهني، فإنه لم ينجح بقدر مماثل في مواجهة هذه الأوضاع. فقد استمرت النشاطات التربوية غير الرسمية في السر لتفادي العقوبات الإسرائيلية، في حين ركز بعض برامج التدريب المهني اهتمامه على إعادة تأهيل وتدريب المصابين وضحايا عمليات البطش والتنكيل الإسرائيلية. كما تم افتتاح عدد من مراكز البحث التكبيقي التي هي أقرب إلى الحاجات الماسّة للمجتمع الفلسطيني، والتي عوّضت بعض الشيء من إغلاق الجامعات. وفي المقابل، فإن نظام التعليم المبكّر، وهو نظام أهلي تشرف مؤسسات فلسطينية محلية عليه، استمر في العمل على الرغم من القيود الصارمة والإعاقة من طرف السلطات. ويشتمل هذا النظام على مركزين للتطوير التربوي في الضفة والقطاع، وعلى أكثر من 250 روضة للأطفال في المنطقتين. لكن تأثير الانتفاضة كان بصورة عامة سلبياً على النظام التربوي، إذ سبب ضياع وقت ثمين من المراحل التعليمية، بالإضافة إلى اندثار المنشآت التربوية، وفوق كل هذا وذاك أدّى إلى تدهور خطر في الانضباط وفي الرقابة على مستويات التعليم.

كما أنه، وبالإضافة إلى الصحة والتربية، تم تطوير وترشيد البرامج المتعلقة بالحاجات الاجتماعية والاقتصادية للسجناء السياسيين وعائلاتهم، وهي من صميم مشكلات الحياة في المناطق المحتلة.

لكن التحدي الحقيقي لفعالية المجتمع المدني ومرونته، أمام التحديات المستجدة، كان في المجال الاقتصادي. وتجدر الإشارة إلى أن اقتصاد المناطق المحتلة حتى عشية الانتفاضة، كان قد تضاءل ليصبح مجرد هامش لم يتجاوز 6 في المائة في حجمه قياساً بالاقتصاد الإسرائيلي الذي استوعب ما نسبته 45 في المائة من اليد العاملة في المناطق المحتلة، وسيطر على نحو 90 في المائة مما تحتاج هذه المناطق إليه من واردات. ومع أنه جرت محاولات متواضعة في أواسط الثمانينات لإيجاد فرص عملي محلي، ولزيادة الإنتاج، على الرغم من صرامة القيود والحظر الصريح الذي فرضته السلطات الإسرائيلية، فإن هذه المحاولات بقيت متواضعة الحجم ومحدودة الأثر.

وعلى الرغ من تلك القيود، فإن مؤسسات الإقراض ولجان الزراعة الطوعية والتعاونيات الصناعية الصغيرة، وكذلك مؤسسات التسويق والبرامج المتنامية لتدريب وتشغيل النساء، والتي تديرها جمعيات طوعية، كانت كلها تمثل بدايات ذات عبرة بارزة في مجال النمو الاجتماعي والاقتصادي الذاتي، وإنْ بقيت في مجملها متواضعة الحجم. ولتأكيد أهمية التطورات في هذا المجال، فإن مؤسسات الإقراض التي تمول الزراعة والصناعة الصغيرة الحجم، والتي تديرها مجالس أهلية من المتطوعين، قد وفّرت أكثر من ثمانية ملايين دولار على شكل قروض للمزارعين والصناعيين، وموّلت أكثر من 500 مشروع إنتاجي صغير الحجم. كذلك تجدر الإشارة إلى أن سجلات استرداد هذه القروض لدى تلك المؤسسات التي تعمل من دون أي عون رسمي على الإطلاق، تقارن إيجابية مع مثيلاتها من المؤسسات في الدول الأخرى التي تتمتع بأنواع  الدعم الحكومي كافة.

وعلى الرغم من أن هذه البنية المؤسسة الأهلية كانت تمثل خط الدفاع الأول في معركة البقاء عند انطلاق الانتفاضة، فإن مسار المعركة ذاتها لم يتبع وتيرة ثابتة. ويجدر بنا أن نعيد إلى الأذهان أن العام الأول من الانتفاضة كان يتميز بمواجهات واسعة متكررة مع الجيش الإسرائيلي، وبفترات طويلة وشاملة من الإضرابات، والتي تزامنت مع مطالبة بفك الارتباط السريع مع الاقتصاد الإسرائيلي. وقد أدّت هذه المبادرات إلى أنماط غير مستقرة من العمل في الاقتصاد المحلي، وكذلك لدى العمال الفلسطينيين في إسرائيل.

ولدى مراجعة هذه الأمور، يمكن التشديد على أن الاعتبارات السياسية طغت على مسيرة الانتفاضة في عامها الأول، إلى درجة أن القرارات الاقتصادية التي صدرت عن القيادة الموحدة كثيراً ما كانت اعتباطية، وربما ضارّة اقتصادياً على الرغم من صدورها دوماً عن نيات صادقة. وقد تميزت المرحلة الأولى هذه، إذاً، بأن استند النمو الاقتصادي إلى الأسس الاجتماعية والاقتصادية السائدة في الفترات السابقة، والتي لم تكن مهيأة لمواجهة هذه الأوضاع المستجدة، الأمر الذي جعل التكور الاقتصادي يسير متأرجحاً خلال تلك الفترة المبكّرة من الانتفاضة. فعلى سبيل المثال، وفي إطار السعي للوصول إلى الاكتفاء الذاتي في الحاجات الأساسية، توجه المجتمع الفلسطيني إلى زيادة إنتاجه الغذائي من خلال ما سُمِّي "الاقتصاد المنزلي"، أي الوحدات صغيرة الحجم التي تتألف من واحد إلى ثلاثة أشخاص، تعمل على زرع المحاصيل والخضروات، وتنمية الثروة الحيوانية، وتستخدم تقنيات بدائية نسبياً وأيدي عاملة متوفرة زهيدة التكلفة.

لكن، على الرغم من أن هذا التوجه الشعبي نحو النمو الاقتصادي والاجتماعي، خلال العام الأول من الانتفاضة، كان من شأنه أن يساهم في استيعاب بعض العاطلين عن العمل، وفي إثراء التجربة المحلية، وفي توطيد نهج للاعتماد على الذات، فإنه لم يحقق قدراً عالياً من أهدافه من الوجهة الاقتصادية البحتة. وتعود الأسباب الرئيسية لهذا التقصير إلى انعدام التنسيق بين المتطلبات السياسية والاقتصادية للانتفاضة، بالإضافة إلى عدم توفر الخبرة حيال المتطلبات التقنية للإنتاج والتسويق. والأهم من هذا وذاك، إحجام رأس المالي المحلي، عن المشاركة في هذه العملية، في ضوء المخاطر المحيطة بعمليات الاستثمار والإنتاج.

ولم يتحقق سدّ الفجوة بين الأهداف السياسية للانتفاضة ومتطلبات العمل الاقتصادي، إلا بعد أن عولجت المشكلات التنظيمية بنجاح، من خلال تحسين التنسيق بين القيادة السياسية المحلية من جهة والقطاع الاقتصادي والتجاري من جهة أخرى. حينئذ، أصبحت المواجهة مع السلطات تختار بعناية أدق، وأيام الإضراب تُعلن مسبقاً، كما أقرت القيادة الموحدة سياسة أكثر مرونة بالنسبة إلى إغلاق الأسواق وإلى تطبيق ساعات العمل، وخصوصاً فيما يتعلق بالصناعات والخدمات الحيوية. وساهم هذا الانتظام الجديد في تحديد وتيرة النشاك الاقتصادي في المناطق المحتلة ليلائم متطلبات التضامن والصمود في المدى الطويل.

ومن هذا المنطلق، ساهمت القرارات الاقتصادية التي اتخذتها القيادة الموحدة، بعد مشاورات مكثفة مع شرائح عديدة في المجتمع الفلسطيني، في خلق أجواء تساعد لا فينمو الإنتاج فحسب بل أيضاً في تعزيز عملية انتقال القيادة الموحدة إلى ما يشبه السلطة الفعلية في المناطق المحتلة. (في قطاع غزة كان من الضروري اقتسام هذه السلطة مع الحركات الإسلامية، وخصوصاً "حماس"). وهذا الاندماج بين القوة السياسية والإدارة الاقتصادية، في ظل أوضاع ثورة شعبية عارمة، هو الذي ميزّ التنظيم السياسي والاجتماعي للمناطق المحتلة في ظل الانتفاضة من غيرها من الثورات أو حركات المقاومة الفلسطينية في فترات سابقة.

أما التأثير الأعظم لهذا الاتجاه الجديد نحو الاعتماد على الذات وفك الارتباط مع الاقتصاد الإسرائيلي، فكان يتمثل في التحوّل الجذري في نمط الاستهلاك، وفي النمو السريع للإنتاج في قطاعي الزراعة والصناعة الحيويين.

وقد أدى تضاؤل الدخل الناجم عن النقص في العمل في إسرائيل، وعن تعطيل الإنتاج والتجارة، إلى انخفاض مستويات الدخل بنسبة تقارب 35 في المائة مع نهاية العام الثاني من الانتفاضة. كما توقف الإنتاج والاستهلاك المحليان للكماليات، وانصرف معظم القدرة الإنتاجية المتاحة نحو تلبية الحاجات المحلية.

وقد أُعطيت الأولوية بصورة خاصة لإنتاج الغذاء الأساسي. فارتفع إنتاج الحبوب ثلاثة أضعاف بين سنتي 1987 و1989 (علماً بأن بعض الزيادة يعود إلى أن سنة 1989 كانت موسماً استثنائياً)، في حين ازداد أيضاً وبوتيرة متسارعة زرع شجر الزيتون على الرغم من القيود المفروضة على زرعه، الأمر الذي ازداد معه إنتاج الزيتون ازدياداً كبيراً (ومن المنتظر أن يزداد هذا الإنتاج زيادة ملحوظة في السنوات القليلة المقبلة). لكن التوسع الأكبر كان ذلك الذي سجّله قطاع الإنتاج الحيواني والألبان. إذ أضحت المناطق المحتلة وللمرة الأولى مكتفية ذاتياً في اللحوم البيضاء (مع وجود فائض صغير) التي ارتفع إنتاجها بنسبة 250 في المائة، في حين ارتفع إنتاج البيض بنسبة 70 في المائة. كما ارتفعت نسبة تغطية إنتاج اللحم الأحمر المحلي في المناطق المحتلة إلى نحو 80 في المائة من الحاجات المحلية، وإنتاج الحليب والألبان إلى نحو 70 في المائة من مجمل الطلب المحلي.

كذلك تطوّر الإنتاج الصناعي بدرجة تثير الدهشة، إذ مع ازدياد توظيف رأس المالي المحلي في الفترات الأخيرة توسّعت عمليات الإنتاج القائمة لتلبية الحاجات المحلية، أو لقيام أنواع جديدة تماماً من الإنتاج، وبموافقة القيادة الموحدة، سًمح للصناعات التي تنتج للسوق المحلية بأن تمدّد ساعات العمل، وحتى بأن تدفع الضرائب كي تتفادة توقف الإنتاج للسلع الحيوية. وفي البدء، حدث تراجع كبير في المنتوجات التي كانت تشحن في الماضي للتسويق في إسرائيل أو في الخارج، عبر قنوات إسرائيلية. ويجري الآن تحويل معظم هذه القدرة الإنتاجية المتركزة أساساً في قطاع النسيج، إلى تلبية حاجات السوق المحلية، بينما استمرت المساعي للوصول إلى قنوات للتصدير المباشر بنجاح متفاوت.

أما المنتوجات المصنّعة التي شهدت نمواً سريعاً، فهي تشكل جميع الأغذية المعالجة، كعصير الفاكهة والخضروات والفاكهة المعلّبة واللحوم المعلّبة ومنتوجات الألبان والمشروبات غير الكحولية والوجبات السريعة والزيوت النباتية. كما تشمل أيضاً الأثاث والمنتوجات الجلدية (وهذه للتصدير) ومواد البناء والبلاستيك، على أنواعه، وعلف الحيوان والدجاج، وطبعاً النسيج والملابس والتبغ والأدوية الطبية وبرامج الكمبيوتر (computer softeware) باللغة العربية (وهذا أمر مثير للانتباه). وعلى الرغم من أن العديد من الصناعات التي تعتمد على التصدير قد تراجع، وخصوصاً منذ اندلاع أزمة الخليج فإن القطاع الصناعي قد شهد ولا ريب عملية تحوّل بنيوي ونمو كبيرين. وعلى الرغم من غياب الإحصاءات الدقيقة، فإن المؤشرات العامة تدل على أن النمو الصناعي في السنتين الأخيرتين قد فاق نسبة 30 في المائة.

وفي أواخر سنة 1990، جاءت الأحداث التي شاءت سخرية الأقدار أن تؤدي إلى تعزيز سعي المجتمع الفلسطيني في المناطق المحتلة للاعتماد على الذات. فقد أدّى اندلاع أزمة الخليج إلى إثارة ردة فعل شعبية بين الفلسطينيين، كان من شأنها أن تقنع معظم الإسرائيليين بعدم جدوى سياسة "التقارب" في ظل الأوضاع القائمة. بل على العكس، إذ إن الأحداث في المناطق المحتلة لم تترك مجالاً للشك في أذهان صانعي السياسة في إسرائيل، ولدى الجمهور أيضاً، حيال الفجوة السياسية والأيديولوجية الهائلة التي تفصل بين الشعبين في فلسطين، على الرغم من التقارب الجغرافي بينهما. وتزامنت هذه الأحداث مع تدفق المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي اختبر إلى الحد الأقصى قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على استيعابهم، وعلى خلق فرص العمل لهم. لذا، أخذ المهاجرون السوفيات يحلّون محل العمال العرب في إسرائيل. وعلى صعيد آخر، جاء تصاعد الانتفاضة، وتشديد ممارسات السلطات الإسرائيلية إلى مستويات جديدة من العنف، وخصوصاً داخل إسرائيل، ليحفّزا وتيرة هذا الاتجاه نحو الانفصال.

في ظل هذه التطورات، اتخذت سلطات الاحتلال بعض الإجراءات في أواخر سنة 1990 وأوائل سنة 1991، من شأنها – ولسخرية الأقدار – أن تعزز النزعة في المناطق المحتلة نحو الحكم الذاتي والمزيد من الاعتماد على الذات، على الرغم من أن الدافع من وراء هذه الإجراءات كان في الأساس استباق إمكان قيام وضع أكثر تفجراً حتى مما هو عليه الآن في المناطق المحتلة نتيجة الازدياد الخطر في نسبة البطالة. من هذا المنطلق أعربت السلطات عن موقف إيجابي تحاه تأسيس مصرف تجاري جديد في الضفة، كما أقرّت مرة واحدة جميع الطلبات المقدّمة في سنة 1990 والخاصة بأذونات إنشاء مشاريع صناعية، وعددها 52 مشروعاً، بالإضافة إلى الطلبات الجديدة وعددها 22 مشروعاً.

وعلى الرغم من أن من الصعب جداً التنبؤ بمدى التزام السلطات تنفيذ هذه الإجراءات، ناهيك بتقويم آثارها، فمما لا شك فيه أن المجتمع الفلسطيني في المناطق المحتلة سيغتنم الفرصة التي أتاحتها الأوضاع الجديدة ليمضي قدماً في تجنيد رؤوس الأموال المحلية والخارجية من أجل زيادة الاستثمار في مجالات الإنتاج المحلي، الأمر الذي من شأنه أن يعوّض ولو جزئياً من تدني الدخل وتصاعد المعاناة المعيشية التي يقاسي جراءها الشعب الفلسطيني نتيجة الأزمات المتكررة، وذلك من خلال تحسين فرص العمل وتلبية قدر أوفر من الحاجات الأساسية.

وهذا التطور الذي نشأ لاعتبارات عرضية، يفتح الباب أيضاً أمام فرصة جديدة على المستوى السياسي؛ إذ مع التدهور المستمر في نفوذ السلطة الإسرائيلية في المناطق المحتلة، حقيقة وإنْ لم يكن قانوناً، فإن الفرصة تصبح سانحة لتثبيت دعائم السلطة الفلسطينية في هذه المناطق. كما أن تضافر عدد من العوامل في المنطقة وعلى المستوى الدولي، وعلى الرغم من الصعوبات والعقبات الكثيرة، قد خلق أوضاعاً لم يعد معها التشديد على ضرورة إحلال السلطة الفلسطينية في المناطق المحتلة أمراً يثير الكثير من المعارضة في المجتمع الدولي.

في كل حال، ليس الغرض من هذه المراجعة للأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للانتفاضة الخروج بالانطباع أن كل شيء على ما يرام في شأن متانة هيكلية الانتفاضة الشعبية. ولا ريب أن المنجزات المشار إليها أعلاه مشجعة، وهي تضفي قدراً من المصداقية لمدى فعّالية الاعتماد على الذات كاستراتيجية دفاعية من أجل البقاء والصمود في ظل هذه الأوضاع. غير أنه يجب عدم تجاهل المخاطر والعقبات، وهي عديدة وواضحة.

إذ لا بد من أن ندرك أن الضفة والقطاع منطقتان محتلتان على الرغم من كل شيء، ويقعان تحت سيطرة سلطة احتلال متطوّرة تكنولوجيا وذات أهداف سياسية واضحة. وهذا الأمر يزيد كل الأمور صعوبة، ويجعل بعضها مستحيلاً. فالسيطرة على القنوات المؤدية إلى الأسواق الخارجية ما زالت، إلى حد كبير، في يد السلطات الإسرائيلية. كما أن استيراد معظم مكوّنات الإنتاج، وكذلك المواد الخام، ما زال يتم من خلال موانىء إسرائيل. فالإجراءات الأمنية قادرة على تعطيل، بل على تحطيم أي نشاط إنتاجي مهما يكن قابلاً للحياة اقتصادياً في أحوال "عادية". كما أن تقنية الإنتاج، وبحكم الأوضاع القائمة، تبقى بدائية بالضرورة، كما يظل مدى الاستفادة من اقتصاد الحجم الواسع هدفاً لا يمكن الوصول إليه. وما هو أهم من هذا وذاك، ان استراتيجية الاعتماد على الذات، بصفتها استراتيجية للصمود لا استراتيجية للنمون في الجوهر بسبب الوضع الأسير الذي تعيش المناطق المحتلة في ظله، وبسبب ندرة الموارد الطبيعية، وحجم السوق الصغير، ووهن البنية التحتية الاقتصادية. 

رابعاً: المخاطر والفرص

إن السؤال الذي قد يطرح عند هذا المفترق هو: هل في استطاعة هذا التنظيم الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع الفلسطيني في المناطق المحتلة أن يؤمّن استمرارية الانتفاضة؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فإلى متى؟

استناداً إلى الحقائق التي تم عرضها، يمكن أن نخلص إلى أن الجواب عن القسم الأول من السؤال هو، على الأرجح، "نعم". لكن يجب أن نضيف أن استراتيجية فك الارتباط مع الاقتصاد الإسرائيلي، والتوجه من جديد نحو الاعتماد  على الذات، تبقى كما أشرنا أعلاه نهجاً محدوداُ إلى حد كبير، واستراتيجية اقتصادية دون الأمثل (sub-optimal). غير أنه يجب التشديد على أن قسوة الأوضاع الاقتصادية ليست هي التي تمثل المخاطر العظمى لاستمرارية الانتفاضة، إذ أن الشعب الفلسطيني، في فلسطين وخارجها، قد أثبت في أكثر من حالة قدرة مثيرة للدهشة حقاً على الصمود في وجه الحرمان الاقتصادي ما دامت هذه التضحيات مرتبطة باستراتيجية عليا ذات جدارة وأهداف واضحة.

لذا، فإن المخاطر المحتملة والتي قد تهدّد الانتفاضة، وكذلك الفرص المتاحة لتطوير مسارها، تخص المجال السياسي للانتفاضة بالدرجة الأولى. ولا شك في أن محصّلة هذه الاعتبارات السياسية هي التي ستحدد، في نهاية المطاف، مصير الانتفاضة. وتجدر الإشارة على الأخص إلى ثلاثة من هذه الاعتبارات الأساسية، وهي: أولاً، الأهداف المرحلية للانتفاضة وخصوصاً فيما يتعلق بارتباطها بأهداف الحركة الوطنية الفلسطينية الأعم؛ ثانياً، استراتيجية الانتفاضة؛ وأخيراً، بنيتها السياسية الداخلية؟

وفيما يختص بالأهداف، كان واضحاً منذ البدء أن رسالة الانتفاضة تمثلت في التأكيد القاطع أن المناطق الفلسطينية التي احتلتها إسرئايل سنة 1967 كانت وستبقة فلسطينية، وأنه على الرغم من كل الجهود الحثيثة التي بذلتها إسرائيل لتغيير هذا الواقع على امتداد عقدين من السنين، فإن الاحتلال يبقى أجنبياً، وغير شرعي، وغير مقبول. فأهداف الانتفاضة، بالإضافة إلى إثبات وتجسيد هذه الحقيقة التي كثيراً ما تجاهلها المجتمع الدولي، تتمثل في تحفيز العمل على إيجاد الأوضاع السياسية العربية والدولية المؤاتية لإنهاء الاحتلال. لكن هذا الأمر لا يمكن الوصول إليه، إذا أمكن الوصول  إليه أصلاً، إلا من خلال الربط بين الانتفاضة والعمل السياسية المنتظم والدؤوب على المستويات الفلسطينية والعربية والدولية كافة.

ويمكن القول إن شيئاً من هذا قد تم فعلاً، ولو لفترة من الزمن على الأقل، بعد صوغ البرنامج السياسي في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في تشرين الثاني/نوفمبر 1988. لكن، بعد أن وصل هذا البرنامج ذاته إلى الطريق المسدود في أواسط سنة 1990، وبعد أن تضاءلت فرص بعض الحياة فيه من جديد، وبأي شكل بعد اندلاع أزمة الخليج، أصبحت الحاجة ملحة إلى مراجعة دقيقة للأهداف المرحلية للانتفاضة، وبلورة هدف أو أهداف جديدة تتلاءم مع المرحلة الحاضرة. إن الفشل في ذلك من شأنه أن يعمق شعور الارتباك والبلبلة السائد والذي أخذ يعتري مسيرة الانتفاضة في الفترة الأخيرة، ولعله يهيمن أيضاً على مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية عامة.

وترتبط بمشكلة الأهداف مشكلة الاستراتيجية والتكتيك في الفترة الحالية. وتشمل هاتان المشكلتان التحديد الواضح لعلاقات الانتفاضة استراتيجياً وعملاً بالقيادة السياسية الوطنية، وصوغ استراتيجيات ملائمة تتصدى للسياسات والمخططات الإسرائيلية التي تتبلور حالياً إزاء المناطق المحتلة، بالإضافة إلى ضرورة تحديد مجموعة من قواعد العمل على الساحة لضمان حد أدنى من التناسق الداخلي على المستوى التكتي، وإلى فرض التزام هذه القواعد من قبل الأطراف المعنية كافة.

ومما يؤسف له أن انعدام الوضوح بالنسبة إلى هذه الأمور الحيوية، وما هو أشد إيلاماً من ذلك انعدام الاهتمام من جانب القيادة السياسية الوطنية حتى بالدخول في نقاش هادىء ورشيد بشأن هذه الموضوعات، يشكلان خطراً جسيماً على إمكان ثبات مسيرة الانتفاضة في المدى الطويل.

وخلال الأعوام الثلاثة الماضية، شهدت البنية السياسية الداخلية للانتفاضة تغييرات كبيرة؛ فالقيادة الموحدة، خلال الفترة المبكرة (ولربما خلال الأشهر الستة الأولى)، كانت لربما أكثر تلاحماً، وبرهنت عن قدر أكبر من القيادة الحقيقية، كما أنها مارست قدراً أكبر من السيطرة على الأحداث من أية قيادة لاحقة.

وقد نشير هنا بإيجاز، على الرغم من المجازفة بتبسيط الأمور، إلى أسباب هذه الظاهرة. ففي المكان الأول، كانت موادر القيادة التي أطلقت الانتفاضة وقادتها في الأشهر القلائل الأولى هي، في الغالب، القيادات الفعلية لمختلف الفصائل السياسية في المناطق المحتلة. كما أن القائمين على هذه القيادات هم الذين وصلوا إلى مراكزهم تلك من خلال تجاربهم، وبحكم صفاتهم القيادية الحقيقية. وبعد اعتقال هؤلاء أو طردهم، حلّت مكانهم كوادر أصغر سناً وأقل خبرة، إنْ لم تكن أقل كفاءة. كذلك، فإن الفترة المبكّرة كانت تتميز بحيّز أوسع من المناورة في التصدي للسلطات الإسرائيلية (التي أُخذت، في البدء، على حين غرة(، وحيال القيادة السياسية الوطنية في الخارج (والتي هي الأخرى، كما يبدو من المعلومات المتوفرة كافة، أُخذت أيضاً على حين غرّة من جراء تطور الأحداث). وكذلك، فإن البنية التحتية السياسية والاجتماعية التي نمت خلال تلك الفترة المبكّرة، والدعم الشامل لحملة المقاومة، عززا أيضاً من قدرة الانتفاضة على التحرك بمرونة في تلك الآونة.

ومن نافل القول إن العديد من هذه العوامل قد تغيّر، وإن التماسك الداخلي في البنية السياسية التحتية للانتفاضة هو الآن أضعف من أي وقت مضى منذ بدء الانتفاضة. ومن المسببات المهمة لهذا التكور، نمو الحركات الإسلامية كبنية قيادية موازية، وتنامي التشرذم بين الفصائل الذي يعكس، في جزء منه، التشرذم الأوسع في صفوف الحركة الوطنية السياسية في الخارج. ويجب ألا نستهين بالتأثير الموهن الناتج من اتساع الشعور بالإنهاك في حد ذاته، ومن الإحباط في ظل أوضاع قاهرة. كما يجب عدم الاستهانة طبعاً بقدرة السلطات الإسرائيلية، وخصوصاُ مؤسساتها المخابراتية، على قمع المقاومة وزرع بذور التشرذم والتخاصم في صفوف الحركة الوطنية في الداخل، والتي بحكم وضعها تبقى إلى حد كبير أسيرة للواقع الذي تفرضه السلطات الإسرائيلية. 

خامساً: طريق المستقبل:

آفاق ومقترحات

ولا يمكن طبعاً الوصول إلى أية استنتاجات ذات جدارة في أي تحليل للانتفاضة، أو للقضية الفلسطينية عامة، من دون الإشارة إلى أزمة الخليج التي، ومن دون الحاجة إلى تأكيد هذا الأمر، قد طغت على جميع مشكلات المنطقة وأعادت تشكيل الإطار الذي يمكن من خلاله النظر إلى القضية الفلسطينية ذاتها.

ولا ريب أن لأزمة الخليج تأثيرات عميقة، ولعلها مزمنة، في النظام السياسي العربي والعالمي. وليس هذا هو المقام الملائم لطرح منظور من أجل حل هذه الأزمة، والتي تبدو أنها ستتطور إلى حرب مدمرة في أية لحظة. غير أن جوهر الأمر كان وما زال أن الحل النهائي لهذه الأزمة يجب أن يكون حلاً عربياً يعيد للكويت سيادتها ووحدة أراضيها، ويحمي العراق من الاعتداء الخارجي، ويسوّي المشكلات الحدودية بين العراق والكويت بإشراف وساطة عربية أو دولية، ويستوجب على القوات الأجنبية كافة مغادرة المنطقة. وعندئذ يستطيع العرب البدء بالتعامل مع التحدي الأكبر، وهو إعادة تكوين نظام سياسي واقتصادي جديد يستند إلى قيم عصرية، وإلى مبادىء الديمقراطية والانفتاح والتسامح والتعاون المجدي.

كما أن أزمة الخليج تحمل في طياتها مضامين خطرة بالنسبة إلى القضية الفلسطينية. وعلى الرغم من أن الأسابيع الأولى للأحداث في أزمة الخليج طغت تماماً على الانتفاضة، فإن بروز موضوع "الربط" فيما بعد ساهم في تأكيد مركزية القضية الفلسطينية في مجموعة قضايا المنطقة. كما كان من شأن المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال في ساحة الحرم الشريف في القدس، في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وما تبعها من تصاعد للعنف، أن يدفعا بالصراع في فلسطين مجدداً إلى حلبة النقاش في المجتمع الدولي.

غير أن الأهم من هذا، أن أزمة الخليج جاءت في وقت كانت فيه مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية ذاتها قد وصلت إلى منعطف تاريخي خطر. فمبادرة السلام التي أطلقها المجلس الوطني الفلسطيني في تشرين الثاني/نوفمبر 1988، وطورها الرئيس عرفات في خطابه وفي تصريحاته في إطار الاجتماع الخاص للجمعية العامة في جنيف في كانون الأول/ديسمبر من السنة نفسها، تبددت أمام صلابة المعارضة الإسرائيلية والتراجع الأميركي. غير أن القيادة السياسية الفلسطينية لم تطرح أية استراتيجية بديلة، للتعامل مع هذا المأزق المتفاقم.

أما الانتفاضة التي جعلت مبادرة السلام هذه أمراً ممكناً، والتي بدأت مسيرتها كفرصة نادرة لإعادة صوغ المطالب الفلسطينية المرحلية على شكل واقعي قابل للتحقيق، فقد كانت هي الأخرى تعاني صعوبة الحفاظ على قوة دفعها واتزانها. وكانت الوحدة الوطنية التي ساهمت في الحفاظ على تماسكها قد بدأت تتصدّع تحت الضغوط التي ولَّدتها مطالب المتطرفين المتنامية للتصعيد نحو المقاومة المسلحة من جهة، وتنام إغراءات العودة إلى الحياة الطبيعية كمخرج من الأوضاع المعيشية المتدهورة من جهة أخرى. والبديهي في الأمر أن قوة الانتفاضة المميزة في كونها ثورة مدنية غير مسلحة ضد احتلال غاشم، كما أن قدرتها على الاستمرار في ظل أوضاع صعبة ودقيقة للغاية تستوجب، في المقام الأول، قدراً غير بسيط من الانضباط. لكن، وبعد اثنين وثلاثين شهراً من تعاظم التضحيات البشرية والمادية، بدا أن الانتفاضة أضحت في خطر الانفلات أو الاندثار.

من هنا، فإن الشعور بالإحباط المتنامي بدأ يستفحل في مختلف أطراف الجسم الفلسطيني، وبدا أن القيادة السياسية كانت مرتبكة حيال هذا الطريق المسدود، وأن القضية الفلسطينية مركب يمخر بلا دفّة بحراً مجهولاً. وعند هذه النقطة اندلعت أزمة الخليج، وكادت تطمس الاهتمام العربي والدولي بقضية الفلسطينيين. وأغرب ما في الأمر، أن اهتمامات القيادة السياسية الفلسطينية بدت هي الأخرى أنها ولفترة من الزمن، قد انجرفت أيضاً أمام هذه العاصفة نحو الأحداث المذهلة في منطقة الخليج.

ومن الممكن أن تؤدي هذه الأزمة، وبطريقة لم نستبينها بعد، إلى مساعدة الشعب الفلسطيني في تحقيق أهدافه الوطنية، من خلال مفهوم الربط بين القضيتين في فلسطين وفي الخليج. غير أن هناك ضرورة لإبداء بعض التحفظ، حتى في مثل هذه الحالة، وذلك بسبب مرارة التجارب السابقة مع التصلب الإسرائيلي والمراوغة الأميركية، حتى في ظل أوضاع كانت مؤاتية، إلى حد ما، لتسوية القضية الفلسطينية على نحو مرض للفلسطينيين وللعرب، الأمر الذي يستبعد حدوثه في ظل التطورات الجارية والمحتملة لأزمة الخليج.

ومن الملاحظ أن أزمة الخليج، بالإضافة إلى أبعادها السلبية في المجال السياسي، قد كان لها أيضاً أثر سلبي كبير في الوضع المادي والاقتصادي للفلسطينيين في الكويت بوجه خاص، وفي الأردن وغيره من الدول أيضاً، ناهيك بالآثار الاقتصادية المباشرة في المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع، والتي تتمثل في تراجع الدعم الخارجي وتدهور الوضع الاقتصادي عامة، وفي تصعيد ممارسات التمييز والعنف من قبل إسرائيل تجاه الفلسطينيين كافة. لكن لا شك في أن المجتمع المدني في فلسطين قادر على تحمل المعاناة، بل قد تكون هذه الأزمة فرصة للتشديد على ضرورة تنمية قدرات هذا المجتمع على مواجهة الصعوبات الاقتصادية من خلال تحصين نفسه ضد خطر الاعتماد المفرط على الدعم الخارجي.

لكن، حتى لو نجح المجتمع المدني في الصمود أمام هذه التأثيرات السلبية الناجمة عن صدمات خارجية، فإن مستقبل الحركة الوطنية الفلسطينية بصورة عامة يبقى معرضاً للخطر. ولا يكم هذا الخطر في المجال الاقتصادي أو فيما يخص صمود الشعب الفلسطيني في الداخل، لكن في المجال السياسي وفي شأن مستقبل العمل الفلسطيني في هذا المجال.

من الواضح أن الأولوية القصوى يجب أن تعطى للانتفاضة، لكونها المحور الأساسي الذي يمكن أن يرتبط به أي تحرك على الصعيد السياسي، عربياً أو دولياً. فالمطلوب إنقاذ الانتفاضة من خطر التمزق الداهم ومن التصعيد العشوائي، والعودة إلى أصالة هدف هذه الثورة الشعبية. كما يجب إعادة الزخك إليها من خلال حشد الدعم العربي والدولي لها. فالانتفاضة ليست معيناً لا ينضب من التضحيات والعطاء المستمر؛ لذا يجب الحذر من الإفراط في استغلالها بسبب انعدام الإنجازات على الجبهات الأخرى. كما أن علينا، نحن الفلسطينيين، أن نبادر إلى عملية مراجعة وتقويم شاملين لجميع الاستراتيجيات والمبادرات السابقة، وخصوصاً مبادرة السلام التي وصلت إلى طريق مسدود، وأن نسعى لتطوير سبل جديدة لصوغ قضيتنا وعرضها أمام مجتمع دولي يصرف جل اهتمامه الآن نحو قضايا أخرى.

لكن، وكي تضمن القيادة السياسية الفلسطينية تماسك الانتفاضة واستمراريتها، عليها أن تصوغ في البدء أهدافاً محددة لها. وفي سبيل ذلك، عليها أن تسعة لبلورة خطة للمقاومة ذات أطوار متعددة في المناطق المحتلة، تهدف إلى تعطيل آليات الاحتلال وإلى زيادة مطردة في تكاليفه بالنسبة إلى الإسرائيليين، وذلك من أجل انتزاع القرار بإنهائه، ثم التمهيد لتسوية عادية. ويجب أن يتم ذلك في إطار تحديد أهداف متوسطة المدى للحركة الوطنية الفلسطينية؛ إذ مهما كانت جدارة هذه الأهداف في الماضي، وهي حقاً تغيّرت في نواح جوهرية على مدى السنين، فإنه يجب عدم إسقاط إمكان أنها قد لا تكون ملائمة ليومنا الحاضر، وأمام هذا المنعطف الخطر الراهن. وبعد تحديد الأهداف، يصبح من الضروري بلورة الاستراتيجية والعوامل المتعلقة الوسائل التي يجب استخدامها لتحقيق هذه الأهداف.

وعملية المراجعة والتقويم هذه، قد يتم إنجازها على الوجه الأفضل من خلال تشكيل هيئة مستقلة عالية المستوى بإشراف المجلس الوطني الفلسطيني، ويكون قوامها شخصيات بارزة متمرّسة سياسياً وتحظى بمصداقية واسعة يدعمها أكفأ العناصر من ذوي الفكر والاقتصاد في صفوف المجتمع الفلسطيني. ومن الضروري إعطاء وزن أكثر مما جرت عليه العادة، في تشكيل هذه الهيئة وفي أعمالها، لكوادر قيادية من المناطق المحتلة. ومن الممكن أن تطرح النتائج والتوصيات التي تتوصل هذه الهيئة إليها أمام جلسة خاصة للمجلس الوطني، وأن تعمّم بهدف إجراء نقاش ديمقراطي في شأن هذه القضايا المصيرية على أوسع نطاق ممكن ضمن المجتمع الفلسطيني.

أما الحاجة الأخرى، وقد أصبحت ملحة، وخصوصاً بعد التشرذم الذي حل بالصف العربي في الأشهر الأخيرة، فهي ضرورة قيام القيادة الفلسطينية بإعادة تقويم استراتيجيتها للعمل العربي. إن شبكة العلاقات التي حدّدت معالم النشاط الفلسطيني السياسي والدبلوماسي في إطاره العربي الأوسع، وخصوصاً تلك العلاقات التي أتاحت قيام تعزيز متبادل للعلاقات بين الحركة الوطينة الفلسطينية والنظام العربي السياسي الرسمي، فإنها بحاجة ماسّة إلى تقويم دقيق وشامل، ولربما إلى إعادة تشكيلها بصورة جذرية في ضوء المعطيات الجديدة. فالسؤال الجدير بالطرح هو الآتي: هل في استطاعة حركة ثورية تحررية أن تأتمن حقاً على دعم من جانب أنظمة هي، بحكم تكوينها وموقعها، مناهضة للثورة (counter – revolutionary)؟ إن على الحركة الوطنية الفلسطينية أن تدرس بدقة وعمق إمكان إنشاء تحالفات جديدة، وعلى أسس غير تقليدية، مع الحركات القومية ذات المضامين الديمقراطية في الدول العربية، وكذلك النظر في إمكانات حشد القوى المؤيدة لحقوق الإنسان ولحق الشعوب في تقرير مصيرها في العالم العربي.

ثالثاً، وفي ضوء الأحداث الأخيرة داخل إسرائيل والمناطق المحتلة، ونظراً إلى انعدام الوضوح في بعض نواحي العلاقة بين القيادة الوطنية الفلسطينية والمجتمع الفلسطيني في المناطق المحتلة، فقد آن الأوان لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، أن تبدأ العمل استناداً إلى هذا المفهوم، وخصوصتً فيما يتعلق بممارسة سلطتها، وكذلك بواجباتها تجاه الفلسطينيين في المناطق المحتلة. وفي الوقت الذي تعمل المنظمة علانية ومن دون قيود، بصفتها السلطة الحقيقية للشعب الفلسطيني في الكثير من المناطق والدول في العالم، إلا أنها كثيراً ما تتصرف تجاه إسرائيل والفلسطينيين الذين هم تحت السيطرة الصهيونية، وكأنها ترضى بالوصف الذي صاغه أعداؤها لها.

لذا، أصبح من الضروري أن تشرع المنظمة، بمبادرة منها ومن دون انتظار أي قرار من أية جهة، في العمل العلني التام بالنسبة إلى علاقاتها بالشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة، وبالنسبة إلى علاقاتها العدائية بإسرائيل. فعلى سبيل المثال، يمكن للمنظمة أن تحتضن جميع المؤسسات الفلسطينية المكوّنة للمجتمع المدني في المناطق المحتلة، وأن تقوم بتحويل الأموال علناً، وأن تتشاور مع القيادة المحلية علناً وتكراراً. وبهذا، فإن المنظمة تؤكد وحدانية شرعيتها فيما يخص مصير الشعب والأرض الفلسطينيين، وبهذا يمكنها أن تنجز جميع المهمات الضرورية المطلوبة من قيادة وطنية تجاه شعبها، وكذلك تلك المهمات النضالية المطلوبة من حركة وطنية تجاه الطرف الذي يمارس القمع عليها.

إن الدعم الذي تحظى القضية الفلسطينية به لدى المجتمع الدولي، وكذلك المطالب التي ازدادت في الآونة الأخيرة في الأمم المتحدة، والقرارات التي اتخذت بشأن ضرورة حماية الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة، إن هذه التطورات تمثل بداية مفيدة، ويجب متابعة هذا التوجه وتوسيع آفاقخ بنشاط. إذ أن على منظمة التحرير ألاّ تقع في شرك اعتبار المناطق المحتلة أراضي متنازعاً في شأنها. ففي ضوء اعتراف المجتمع الدولي بشرعية منظمة التحرير في تمثيلها للشعب الفلسطيني، وفي مطالبها المشروعة تجاه المناطق المحتلة، يجب في هذه الحال إذا نقل العبء إلى إسرائيل وتحميلها وزر تحدي المنظمة في ممارستها لسلطتها الشرعية وفقاً للقوانين والأعراف الدولية.

رابعاً، على القيادة الفلسطينية أن تباشر تنظيم حملة دبلوماسية وسياسية مبرمجة، تهدف إلى نزع الصفة "شبه الشرعية" التي انتحلها لنفسه الاحتلال الإسرائيلي للمناطق المحتلة. وفي هذا المجال، لا مفر من أن تأخذ المنظمة المبادرة بنفسها. فالاحتلال الإسرائيلي، في استمراره وفي أساليبه، قد تجاوز التعريف التقليدي المبسّط لاحتلال نجم عن أوضاع الحرب وبصورة عرضية وموقتة، وهذا هو التعريف الضمني السائد في معاهدات جنيف وغيرها من الاتفاقيات والقوانين الدولية المماثلة. فالاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، وكما أشرنا إليه أعلاه، هو حملة استيطانية مبرمجة بدراية وخبث ينظّمها المحتل بهدف تغيير ملامح الأرض التي يحتلها تغييراً جوهرياً، وقهر سكانها ونزع أراضيهم وحرمانهم من إمكان اللجوء إلى الوسائل السلمية الكفيلة باسترجاع حقوقهم.

وفي هذا المجال، يمكن الاستشهاد برأي البروفسور ريتشارد فالك من جامعة برنستون، وهو من أكبر علماء القانون الدولي الخاص بالحروب والأوضاع الناجمة عنها، إذ يقول:

في هذه المرحلة من الزمن، ونظراً إلى التطورات التي حدثت في الأشهر الأخيرة، فالسؤال الحقيقي الوحيد الذي يبقى في نظري جديراً بالطرح هو ما إذا كانت طبيعة هذه الانتهاكات لقوانين الاحتلال الناجم عن الحرب من جانب إسرائيل، هي ذات طابع تعمدي ومنظم وصارم بحيث يصبح معها مجرد اللجوء إلى الحديث عن انعدام الشرعية غير وارد، كما يصبح تكديس البراهيم المتعلقة بالانتهاكات الإسرائيلية غير كاف لتشخيص خطورة نمط الممارسات الإسرائيلية التي تلغي عن سابق تعمد وإصرار دور القيّم (custodian) الذي يؤول إلى المحتل المحارب. وفي رأيي، إن رفض إسرائيل التزام أحكام اتفاقية جنيف الرابعة قد أصبح الآن على درجة من التوثيق والشمولية والثبات، بحيث يصبح من الملائم أن نضيف إلى لغة عدم الشرعية لغة أخرى هي الإجرام. إذ، فيما يختص بمفهوم عدم الشرعية، فالاتهام الموجه هو الخرق المتعمد للأحكام القانونية والذي يولّد بذلك مسؤولية حكومية. أما بالنسبة إلى مفهوم الإجرام، فهناك – وبالإضافة – اتهام بخرق متعمد على المستويات العليا للسلطات المدنية والعسكرية، وهذا يولّد مسؤولية شخصية لدى أولئك الذين يمارسون أعمالهم باسم السلطة ويعلمون، أو هم في أوضاع عليهم فيها أن يعلموا أن هذه الممارسات هي، وبوضوح، غير شرعية.[1] 

من هنا، يجب أن تتحرك القيادة الفلسطينية بنشاط وبسرعة لحشد كل الموارد القانونية والدبلوماسية المتاحة لها، وأن تحدد المنبر الملائم لمتابعة قضية الاتهامات الإجرامية الموجهة إلى إسرائيل استناداً إلى التقاليد والسوابق القانونية التي وضعها الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الثانية في نورمبرغ، وسواها من محاكمات ما بعد الحرب.

لكن المنظمة، وكي تنجز هذه المهمات على أحسن وجه، تحتاج أيضاً إلى إعادة تشكيل بنيتها المخضرمة وبعث الحياة فيها من جديد، وإلى ضخ دم جديد في عروقها، وإلى فتح أبواب مؤسساتها بصورة أفضل للممارسات الديمقراطية، وإلى حشد المهارات الكفيلة بإنجاز تلك المهمات. إذ إنه من دون استعادة الرؤية السلمية والحيوية الثورية بصورة كاملة، ستبقى المنظمة غير قادرة على تحقيق أهدافها المرحلية الرامية إلى حشد الدعم الفلسطيني والعربي الدولي لحملة مقاومة تصاعدية تؤدي، في نهايتها، إلى التحرير والعودة وتقرير المصير؛ من دون ذلك، فإن الطاقات الهائلة التي تكمن في القوة المعنوية للانتفاضة، وفي القضية الفلسطينية بصورة عامة، قد تتبدّد من دون استغلال، ثم يتحول هذا الوضع التاريخي الفاصل إلى فرصة ضائعة أخرى بين الفرص التي ضاعت في الماضي.

 

* أعدت هذه الورقة بناء على النص باللغة الإنكليزية لمحاضرة ألقاها المؤلف في 11 كانون الأول/ ديسمبر 1990، في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، بإشراف النادي العربي الثقافي في لندن، وذلك بمناسبة الذكرى الثالثة للانتفاضة الشعبية الفلسطينية.

 

[1]   “Some Legal Reflections on Prolonged Israeli Occupation of Gaza and the West Bank,” Journal of Refugee Studies, Oxford, U. K., Vol. 2, No. 1, 1989, 42-43.

Author biography: 

جورج العبد: اقتصادي فلسطيني، يشغل حالياً منصب المدير العام لمؤسسة التعاون الفلسطينية، مؤسسة خيرية إنمائية في جنيف، سويسرا.