نقطة الانطلاق الإسرائيلية بين الوهم والواقع
Keywords: 
مفاوضات السلام
مؤتمر مدريد 1991
النزاع العربي - الإسرائيلي
Full text: 

قبل أن أشرع في الكتابة، أود أن أعترف بأن المعلومات المتوفرة لدي بشأن ما يدور في أروقة وزارة الخارجية الأميركية، أو داخل غرفة الاجتماعية بين الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي، لا تختلف كثيراً عن تلك المتوفرة لدى أي مواطن فلسطيني آخر يتابع ما يُنشر عن تلك المحادثات، وإن لم يكن، ربما، باقصى مقدار من الرصد والمتابعة. وبالتالي، فإن ما أسجله هنا أقرب إلى التعبير عن المشاعر والانطباعات منه إلى التحليل العلمي لوثائق ومستندات ومعطيات رسمية محققة.

لقد شاع في الآونة الأخيرة مصطلح "عام بعد مدريد"، وكثرت المقالات والأحاديث الإذاعية والتلفازية التي تتناول هذه المناسبة، لتحلل مسار المفاوضات السياسية الشرق الأوسطية. وأجمع معظم الكتاب والمراقبين على أن هذه المفاوضات لم تحقق حتى الآن أي تقدم جوهري أو ملموس. وأنها ما زالت تراوح مكانها.

ولعلي لا أريد أن أقفز إلى النتيجة قبل أن "أفضفض" بعض ما بي من أفكار متزاحمة، فأسمح لنفسي بأن أعرض مرحلة ما بعد مدريد، محاولاً استشفاف ما يدور على جانبي الحاجز، متوصلاً في النهاية إلى رأي سبق أن قلت بشأنه إنني "لا أعدو كوني مواطناً فلسطينياً عادياً غير متفرغ للرصد والمتابعة الكاملة لكل ما يتعلق بالعملية التفاوضية. وبالتالي فإن اجتهادي قد يخطئ وقد يصيب.. ومع ذلك، سأحاول."

إن فهم ما يجري في العملية التفاوضية لا يمكن أن يتحقق إلا إذا فهمنا نقطة الانطلاق لكل من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، والأسباب التي حدتهما على المشاركة في هذه العملية، ومن ثم التغيرات التي وقعت على الجانبين وأثرها في "استمرار" أو "عدم استمرار" الرغبة لدى أحدهما أو لدى كليهما في مواصلة هذه العملية.

وقبل الخوض في ذلك، فإنني أود أن أقرر أن قياس مدى الاستفادة التي حققها الشعب الفلسطيني من المشاركة في العملية السياسية لا يتم فقط من خلال ما حققته أو ما تحققه تلك العملية من تقدم جوهري على المسار التفاوضي. بل يجب أيضاً أن نسأل أنفسنا عن مدى الخسارة والضرر اللذين كانا سيلحقان بنا لو لم نقبل المشاركة في المفاوضات.

من قبيل المثال لا الحصر، شكل مؤتمر مدريد نقطة تحول في الإعلام الفلسطيني، الذي استطاع تحطيم الصورة المشوهة التي خلفتها الأجهزة المعادية، وطرح وجهاً حضارياً إنسانياً لائقاً. كما استطاعت المشاركة الفلسطينية في مسيرة السلام وقف تقديم الضمانات الأميركية لإسرائيل، وإبراز خطر الاستيطان على مسيرة السلام، وهو ما أدى بصورة غير مباشرة إلى تخفيض حدة الهجرة السوفياتية إلى إسرائيل على نحو ملحوظ، مع الحد من النشاط العمراني الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

نقطة الانطلاق الفلسطينية: لا يجوز، في أية حال من الأحوال، القول إن المفاوضات كانت الطريق الوحيد أمام الشعب الفلسطيني، ولم يكن لديه خيار آخر. فهذا القول يعني الاستسلام للمفاوضات وقبول الحد الأدنى الذي يمكن أن "تجود" به بعيداً عن تطلعاتنا الوطنية وخطوطنا الحمر؛ فالخيارات التي أمامنا، ولو على الصعيد النظري، كانت متعددة، تبدأ بتصعيد الانتفاضة وتطوير وسائلها، وقد تنتهي بالعودة إلى خيار الكفاح المسلح الذي لم يتم التنازل عنه رسمياً من قبل أي من الفصائل الفلسطينية، سواء تلك التي تشارك في عملية السلام، أو تلك التي تعارضها.

وعلى الرغم من الإقرار، ولو من حيث المبدأ، بأن الخيارات الأُخرى كانت ممكنة نظرياً، فإن نظرة واقعية موضوعية إلى المرحلة التي اتُّخذ فيها قرار المشاركة في العملية السياسية تضعنا أمام صورة ليست مشرقة بمقدار كاف.

لقد جاءت زيارات بيكر للمنطقة على خلفية حرب الخليج وانتصار المحور الأميركي، وإلصاق صفة "حليف العراق المهزوم" بمنظمة التحرير الفلسطينية، وبصورة تؤكد أن سكاكين كثيرة شُهرت للإجهاز على م. ت. ف.، بوصفها إحدى طلائع حركة التحرر العربي. وكان المبادرون إلى ذلك مصابين بنشوة النصر ويعتقدون أن العراق انتهى، وأن لا بد من استكمال "الفرحة" بالإجهاز على م. ت. ف.

أمام هذا الوضع، ومن أجل كسر طوق الحصار من حول الشعب الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة، ومن حول م. ت. ف.، وعدم تحمل مسؤولية فشل مساعي بيكر الذي كانت دولته تصول في المنطقة كالثور الهائج، كان قرار المشاركة في العملية السياسية في تلك المرحلة هو القرار الأصوب والأقرب إلى مصالح الشعب الفلسطيني.

وتمت فعلاً إزالة الطوق، وقام الداخل بدور طلائعي استطاع من خلاله الأخذ بيد الخارج. وانفتحت أبواب القاهرة ودمشق أمام القيادة الفلسطينية، بعد أن كانت حتى هاتان العاصمتان قد أغلقتا أبوابهما أمام قيادة م. ت. ف.، وامتثلتا لأوامر واشنطن التي كانت تسعى لمحاصرة م. ت. ف. حتى الاختناق.

وعلى الرغم من نجاح الداخل في كسر الحصار، والتلاحم مع الخارج بصورة رائعة من صور الوحدة الوطنية التي أكدت وحدة الشعب في المحتل من الأرض وفي الشتات، ووحدانية قيادة م. ت. ف. وانعدام وجود البديل أو المنافس الفلسطيني لها، فإن بعض المحاولات لا يزال يجري من وقت إلى آخر، سعياًً وراء إعطاء الانطباع بأن أمر خلق البديل من م. ت. ف. ما زال ممكناً.

وقد تزايدت هذه المحاولات مع استمرار العملية السياسية وبروز دور الوفد الفلسطيني إلى المفاوضاـت، سواء كوفد أو كشخصيات فيه برزت وتحولت إلى وجوه سياسية أو إعلامية.

ومن أبرز ملامح هذه المحاولات إحجام بعض الشخصيات السياسية الرسمية أو غير الرسمية من مختلف الدول عن إجراء اتصالات مباشرة بمكاتب م. ت. ف في المناطق التي تقيم فيها، ومحاولة إجراء اتصالات بشخصيات من الوفد، سواء من خلال استضافتها في بلادها أو من خلال المجيء إلى المناطق المحتلة للاجتماع إليها، الأمر الذي يؤكد أن هناك مساعي ما زالت مستمرة لإبراز دور شخصيات معينة داخل الأراضي المحتلة، وتسليط الأضواء عليها، ومحاولة سلب هذه الأضواء من القيادة في تونس والتعتيم عليها.

أين نحن اليوم؟

أمام هذه المحاولات، ومع استمرار العملية السياسية، ومع الأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الجارية في الساحة الدولية، فقد بدأت نظرة م. ت. ف. إلى المفاوضات تتغير، وبدأت تلوح في الأفق مؤشرات تؤكد أن ثمة تيارين داخل م. ت. ف، أحدهما يدعو إلى الاستمرار في العملية السياسية، والآخر يرى أنها عقيمة، وأن دخول سراديب الحكم الذاتي المرحلي قد يدخلنا متاهات جديدة. وبالتالي، فمن الضروري البحث عن منفذ للخروج من هذه العملية.

وفي تقديري أن التيار الأول يستند إلى اعتبارات براغماتية واقعية تشجعه على المضي في طريق المفاوضات، مقتنعاً بأن الأوضاع المحيطة بهذه المفاوضات تحتم انتهاءها بالصورة التي تخدم القضية الفلسطينية وتؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق الأماني الوطنية الفلسطينية.

ويرى مؤيدو هذا التيار أن الاقتصاد الإسرائيلي منهار، وأن خير وسيلة أمام إسرائيل لإنقاذه التوصل إلى حل الصراع مع العرب حلاً سياسياً يفتح أمام إسرائيل أسواق العالم العربي، كما يفتح أمامها خزائن أوروبا واليابان اللتين ستشاركان في برامج تطوير إقليمية في المنطقة، وأن الإسرائيليين تعبوا، وهم يبحثون عن سلم الهبوط عن الشجرة العالية التي تسلقوها.. وبالتالي، فإن مشاركتهم في العملية السياسية لم تكن عبثاً، وإن من الضروري أخذها بعين من الجدية، ولا سيما بعد الانتخابات الأخيرة، التي جاءت بحزب العمل إلى السلطة بالائتلاف مع حزب "ميرتس" المعروف بمواقفه المعتدلة وبتأييده للحل القائم على أساس "دولتين للشعبين".

أما التيار الآخر، فيرى أننا اضطررنا، تحت ضغط الأوضاع التي سادت عقب حرب الخليج، إلى قبول شروط مجحفة هي أقرب إلى شروط عقود الإذعان، وأن قبولنا الشروط كان لتيسير بدء العملية التفاوضية وعدم إعطاء حكومة الليكود فرصة للتهرب وتحميلنا المسؤولية في الوقت نفسه.

ويرى هؤلاء أن الأوضاع التي سادت آنذام لم تعد قائمة، وأن حكومة العمل التي كان يفترض أن تقدم تغييراً جوهرياً على مائدة المفاوضات ما زالت تنتهج سياسة قريبة جداً من سياسة كتلة الليكود، الأمر الذي لا يشجع على الاستمرار في التفاوض معها.

وأكثر من ذلك، فإن المعطيات كلها تفيد بأن هناك محاولة مكشوفة لتفريغ المرحلة الانتقالية من مضمونها، وجعلها أقرب إلى مفهوم الحكم الإداري منها إلى الحكم الذاتي السياسي، وبالتالي، فإن علينا أن نخرج من هذه اللعبة قبل أن يضيق الخناق حولنا.

ويرى البعض أن هناك في تونس من بدأ يدرك حجم مؤامرة الحكم الذاتي من خلال تصور ماذا يمكن أن يحدث إذا ما تم التوصل إلى اتفاق بشأن المرحلة الانتقالية، وتم فعلاً تطبيق هذا الاتفاق.

ويضيف هؤلاء، وضمن هذا التصور، أن مرحلة انتقالية يحكمها أشخاص من داخل الأراضي المحتلة ستؤدي بالتدريج إلى الإقلال من أهمية الدور الذي تقوم م. ت. ف به. ومن يدري كيف سيكون الوضع بعد خمسة أعوام، حين يكون الناس قد ألِفوا الكراسي داخل الأراضي المحتلة وتكون القيادة في الخارج قد تحولت إلى "مجلس أمناء"....

وفي الحقيقة، فإن هذا التخوف لم يأت من فراغ؛ فهناك نية واضحة من جانب أميركا وإسرائيل لتجاهل م. ت. ف وإحداث عملية سياسية ذات دينامية ذاتية معينة تولد في نهاية المطاف قيادة سياسية داخل الأراضي المحتلة يمكن أن تحتوي الدور الذي تقوم م. ت. ف به.

لقد طُرح هذا المخطط الأميركي بلباس وطني فلسطيني في مرحلة من المراحل، وعلى نطاق ضيق جداً، وسرعان ما تم التعتيم عليه. وأعني أنه تم الحديث، ولفترة وجيزة جداً، عن نقل م. ت. ف من الخارج إلى الداخل. وكان أصحاب هذا الطرح يرون في علنية العمل السياسي الفلسطيني في الداخل، والإصرار على أنه امتداد لـ م. ت. ف، محاولة لخلق واقع جديد يأخذ الطابع المؤسساتي، مدعين أن هذه المؤسسات هي في الواقع مؤسسات م. ت. ف، سعياً بعد ذلك للادعاء أنها هي في حد ذاتها م. ت. ف، أقول إن هذا الطرح اختفى عن الساحة بالسرعة والغرابة اللتين بدأ بهما. والحقيقة أنني لا أدري ما إذا كان غيابه حدث تجنباً للمواجهة مع إسرائيل، أم أنه اختفى مرحلياً، انتظاراً لحلول الفرصة المناسبة فيعود ويطرح نفسه من جديد. وفي الحقيقة، فإن مثل هذا الطرح أخطر طرح عملي على دور م. ت. ف، وهو الذي يجعل عدم تغييب م. ت. ف عن أي دور سياسي أمراً ضرورياً، سواء خلال العملية التفاوضية أو خلال المرحلة الانتقالية؛ ذلك بأن م. ت. ف هي في حد ذاتها إنجاز نضالي للشعب الفلسطيني، والاعتراف العربي والدولي بها اعتراف بوحدة الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات، واعتراف بهويته الوطنية، وبحقه كشعب في أن يمارس حقه في تقرير المصير، بما في ذلك إقامة دولته الفلسطينية المستقلة، وهي أيضاً الطرف الوحيد المخول التحدث نيابة عن لاجئي نكبة 1948. وغيابها أو تقزيم دورها وجعله مقتصراً على الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967 هنا بمثابة تهميش لقضية اللاجئين، وتنازل عن الحقوق الوطنية لشعبنا الفلسطيني في فلسطين الجغرافية من البحر إلى النهر، حتى قبل دخول مفاوضات بشأن هذه الحقوق، التي ما زالت مطلباً جماهيرياً شعبياً فلسطينياً يلتف حوله كل فلسطيني شُرد من وطنه إلى مخيمات، من مخيم اليرموك إلى مخيمات عين الحلوة وشنِلَّر (حطين) والأمعري والمغازي وسواها من مخيمات التشرد الفلسطيني في الداخل وفي الشتات.

وفي ضوء هذه الخلفية، يجب فهم تردد الفلسطيني في هذه المرحلة، والذي بدأ يشعر بـ"الخازوق" الذي يمكن أن تشكله العملية التفاوضية إذا ما استمرت من دون ضوابط وتُركت تسير على منزلق "الأُتونوميا" لتبتعد عن الهدف شيئاً فشيئاً مخلفة وراءها الأب الشرعي، م. ت. ف، والطفل الشرعي، "الدولة الفلسطينية"، وتضيع في متاهات أروقة الخارجية الأميركية.

نقطة الانطلاق الإسرائيلية: لم يعد سراً أن شمير لم يكن ينوي دخول عملية تفاوضية جدية، بل كان يسعى لتضييع الوقت، ويراهن على أن الفلسطينيين سيرفضون. وكان يأمل بأن يخرج رابحاً عطف العالم ودعمه المالي لأنه أراد السلام لكن الفلسطينيين قالوا: لا!

غير أن الأداء الفلسطيني ضيع الفرصة، فلم يحدث الرفض الفلسطيني، ولم يقل الفلسطينيون: لا.. بل طلعوا على العالم بوجه حضاري، فاستدرُّوا عطفه وكسبوا تفهمه. وعندئذ، لم يبق أمام شمير سوى المماطلة، وجر المفاوضات، ومحاولة إدخالها متاهات جانبية. ولقد كشف شمير نفسه "سر مخططه"، حين صرح بعد أُسبوع من فشله في المعركة الانتخابية أنه كان ينوي جرجرة المفاوضات لتستغرق أكثر من عشرة أعوام... ويتم خلالها توطين أكثر من مليون مهاجر يهودي في الضفة والقطاع ليصبح اليهود فيهما أكثرية!!

فشل هذا المخطط بابتعاد شمير عن السلطة من جهة، ومن جهة أُخرى، بفضل الذكاء الفلسطيني الذي دخل لعبة المفاوضات وأصر على ضرورة وقف الاستيطان في الأراضي المحتلة من خلال وقف النشاطات الاستيطانية كافة، بما في ذلك البناء. وقد أثمر هذا الإصرار فأدى إلى إحراج واشنطن وحملها على وقف تقديم الضمانات المالية لإسرائيل، الأمر الذي أثقل على الاقتصاد الإسرائيلي من جهة، وحدَّ من تدفق الهجرة إليها وإلى الأراضي المحتلة من جهة أُخرى.

وحين تولى رابين الحكم، حاول القيام بخطة خاطفة تبهر أعين الأميركيين والأوروبيين، وترفع عنهم الحرج إذا ما أرادوا تقديم الدعم المالي والاقتصادي لإسرائيل. فقد أعلن رابين وقفه أعمال البناء في المستوطنات، باستثناء بناء البيوت التي كان قد "شُرع" في بنائها. وأدى هذا القرار إلى انبهار الموقف الأوروبي، الذي رحب بخطة رابين ورآها تطوراً إيجابياً من المرتبة الأولى، في حين أن الأمر الواقع يفيد بأن البناء الاستيطاني ما زال مستمراً في أكثر من أحد عشر ألف وحدة سكنية في الضفة الغربية، إضافة إلى السماح بالبناء الفردي في المستوطنات من دون قيد أو شرط، واستمرار البناء في منطقة القدس.

وعلى الرغم من أن بعض الإجراءات قد اتخذ في أميركا لبدء عملية تقديم ضمانات الـ 10 مليارات دولار لإسرائيل، فإن الاقتصاد الإسرائيلي يواجه وضعاً صعباً يثقل على كاهل الحكومة الإسرائيلية الحالية، ويذكّرها دائماً بأن استمرار حزب العمل في الحكم يتوقف على مدى نجاحه في حل المشكلات الاقتصادية الداخلية في إسرائيل.

ولا شك في أن رابين يطمع في البقاء رئيساً للحكومة حتى نهاية السنة الرابعة لحكمه، ويطمع أيضاً في أن يستمر حزبه في البقاء في مقاعد الحكم. ولا يزال هذان المطمعان يتطلعان من رابين السعي لتحقيق تقدم في العملية السياسية يفتح الباب أمام تدفق المال إلى إسرائيل ويتيح الفرص والأسواق التي تستطيع تحقيق حلم الازدهار. وهذا هو الدافع الذي يرسم خطى رابين في تعامله مع العملية التفاوضية. ومع ذلك، فإن أداء رابين منذ تسلمه السلطة يثبت أن هذا الرجل يميني رجعي لا يفهم سوى الحديث عن الأمن وعدم التفريط فيه. وهو يتحدث في الوقت نفسه عن القرار رقم 242 وعن التسوية الإقليمية وقبول مبدأ الانسحاب في إطار التسوية، مع الحرص على عدم التزام حجم الانسحاب الذي قد تقبله إسرائيل.

هل يريد رابين الحل حقاً؟ إن الأدلة كلها تشير إلى أن رابين يريد الحل، ومع ذلك، فإن السؤال الذي يجب أن يتبادر إلى الذهن هو: ما هو الحل الذي يريده رابين؟

إن الفارق بين موقفي اليمين واليسار الصهيونيين هو أن اليمين يعتبر الصراع مع الفلسطينيين صراعاً بين قوميتين، وأن لا مكان إلا لإحداهما، وبالتالي، فإن من حقه – أي اليمين – عمل كل شيء من أجل الحفاظ على بقائه، وهو بهذا يبرر دينياً وخلقياً كل ما يمارسه ضد الشعب الآخر – الشعب الفلسطيني – من اضطهاد وقمع وبطش وعنف، تمشياً مع القول اليهودي المأثور: "من جاء لقتلك، فاسرِ مع الفجر لقتله."

أما اليسار الصهيوني، فقد انتهج خطاً مغايراً؛ إذ أنكر دائماً وجود الشعب الفلسطيني كشعب، وأقنع نفسه بأن الفلسطينيين معنيون بأوضاعهم المعيشية، من أكل وشرب ورفاهية ولهو. وإذا ما قام بتحسين أوضاع معيشتهم، فإنهم سيخلدون إلى الهدوء. وانتهج حيالهم أسلوب "العصا والجزرة"، وقلل دائماً من أهمية التطلعات الوطنية والسياسية للشعب الفلسطيني، وعزا سلوكياته النضالية كلها إلى الرغبة في حياة مادية أفضل. ونجح في مرحلة ما من الثمانينات في إقناع بعض الأميركيين والأوروبيين بأن القيام بمشاريع اقتصادية وتطويرية في الضفة والقطاع سيخفف العنف الفلسطيني أو سيضع حداً له. وفعلاً، بدأ الأميركيون وبعض الأوروبيين يتحركون بهذا الاتجاه، إلى أن جاءت الانتفاضة لتنسف، من الأساس، أي وهم من هذا القبيل.

ونعود إلى رابين...

كان رابين دائماً من رموز حزب العمل وقادته على مدى العقود الثلاثة الماضية، سواء كقائد عسكري رفيع المستوى أو كرجل الحزب الذي يتزعمه أو الذي يصارع من أجل الوصول إلى زعامته. ومع ذلك، فقد كان رابين يتأرجح بين الليبرالية واليمينية؛ فبعد أن قال في أوائل السبعينات: "ماذا يوجد لي لأبحث عنه في رام الله. وليس لدي مانع من السفر إلى كفار عتسيون (قرب بيت لحم) بواسطة جواز سفر إسرائيلي"، أخذ منذ تسلم رئاسة الحكومة عقب حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 ينحو نحو اليمين حتى أصبح في الثمانينات من قادة حزب العمل رسمياً، ومن رموز اليمين المتشدد شعبياً، وأصبح رجل الأمن الأول، الذي يرفض الاعتراف بالفلسطينيين طرفاً في الصراع، ويتوجه بأنظاره نحو الأردن، على أساس أن "الحل الأردني" هو الحل المطلوب إسرائيلياً.

وحين بدأت الانتفاضة وقف رابين على منصة الكنيست وخاطب الفلسطينيين قائلاً: "بالعنف لن تحصلوا على شيء، وإذا أردتم شيئاً فاذهبوا إلى الملك حسين واطلبوا منه أن يتحدث إلينا." ومضت الأشهر، وفشلت سياسة تكسير العظام، وبدأ رابين يدرك شيئاً فشيئاً أن لا مناص من التعامل مع العنصر الفلسطيني الذي أكد له، بالقوة، أنه الطرف الذي يجب التحدث إليه.

ووجد رابين نفسه يتخبط بين شخصيتين: شخصية تؤمن بالقوة العسكرية والبطش والحل الأردني، وشخصية أدركت أن الفلسطينيين حقيقة لا يمكن تجاهلها، ولا مفر من التحدث إليها.

ومع ذلك، فإن رابين لا يزال، على الرغم من هذا التغيير الكبير في موقفه، عاجزاً عن فهم طبيعة وحدة الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، ولا يزال يعتقد أنه إذا اضطر إلى التحدث إلى الفلسطينيين، فإنه سيتحدث إلى فلسطينيي الداخل فقط، لا إلى ما يسميه "آشف تونس"، أي منظمة تونس؛ فهو  يريد الحل، لكن الحل الذي يريده ليس هو الحل الذي يمكن أن نقبله. فقد أعلن حين تسلَّم السلطة أنه سيتوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين بشأن الحكم الذاتي خلال 6 – 8 أشهر. وحين بدأت العملية تتعثر ولم يحدث أي تقدم، حاول تغيير الاتجاه نحو السوريين. وقد فسر لي هذا الموقف عضو كنيست مقرب جداً من رابين قائلاً: إن رابين كان يعتقد أن الفلسطينيين سيقبلون "الأُتونوميا"، وحين وجد أنهم يتحدثون عن شيء هو أقرب إلى الدولة منه إلى "الحكم الذاتي"، قرر البحث عن سبيل للتوصل إلى اتفاق مع سوريا.

إن مشكلة رابين هي أنه يعتقد أن الفلسطينيين غير جادين في تطلعاتهم السياسية، أو أنهم سيقبلون الحكم الإداري بحسب المفهوم الإسرائيلي. وكان يتصور أنه سيكون من السهل عليه أن يبيع من الرأي العام الإسرائيلي "الحكم الإداري للسكان من دون الأرض" كتنازل لا يتعارض مع مفهوم أرض إسرائيل، وحين اكتشف أن ما يريده الفلسطينيون أمر يصعب بيعه من الرأي العام الإسرائيلي، تصور أن في الإمكان التوصل مع سوريا إلى شيء يمكن بيعه للرأي العام الإسرائيلي. فهل سيظل الرأي العام هذا هو الذي يحكم خطى رابين، وهل سيظل رابين أسيراً عاجزاً عن المبادرة؟ إن الأشهر المقبلة سترد على هذا التساؤل، ولا سيما بعد أن يدخل الرئيس كلنتون البيت الأبيض ويتضح مدى الجدية التي سيتعامل بها مع العملية السياسية في الشرق الأوسط.

والآن إلى أين؟ إن اتخاذ القرار بشأن ما إذا كان من المجدي الاستمرار في العملية السياسية أم لا، يتطلب قراءة موضوعية لا لما يفكر رابين فيه فحسب، بل أيضاً للكيفية التي يفكر بها الكثيرون من الإسرائيليين ممن يحتلون مواقع لها في النهاية القدرة على التأثير في القرار الإسرائيلي.

ومجمل الحديث مع الكثيرين من الإسرائيليين، ومعظمهم في مواقع شعبية قريبة من السلطة صانعة القرار، أو قريبة من مراكز صنع الرأي العام الإسرائيلي، يصل إلى النتيجة التالية:

لقد عاش الإسرائيليون طوال ربع القرن الماضي مع وهم إمكان الاحتفاظ بالأراضي الفلسطينية المحتلة، باعتبارها جزءاً من أرض إسرائيل. وتعزز هذا الوهم بقوة مع استمرار سيطرة حزب المفدال مدة طويلة على وزارة المعارف والثقافة من جهة، ومع صعود الليكود من جهة أُخرى إلى سدة الحكم منذ سنة 1977 وبقائه فيها حتى سنة 1992، وتعاظم قوة اليمين المتطرف داخل حكومات الليكود المتعاقبة حتى بلغ ذروته بإشراك حزب "موليدت" في الحكم، وهو الحزب الذي يدعو إلى الترانسفير، أي إلى ترحيل العرب عن الضفة والقطاع على أساس أن ذلك هو الحل الأمثل للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني.

هذا الوهم يصطدم الآن بحقيقة جديدة لم تترك مجالاً للشك، وهي أن الشعب الفلسطيني حقيقة لا يمكن تجاهلها، وأن استمرار السيطرة على الضفة والقطاع سيؤدي إلى تدمير الاقتصاد الإسرائيلي من جهة، وإلى تهديد أمن الإسرائيليين من جهة أُخرى، لا على الحدود أو في الأراضي المحتلة، بل داخل بيوتهم في قلب تل أبيب. ويكفي أن نتذكر تظاهرات الهلع وأعمال الشغب التي تقع في تل أبيب عقب كل حادثة طعن أو انفجار لنتفهَّم حقيقة انعدام الأمن التي بدأ الإسرائيلي يحس بها في عقر داره.

إن الواقع الجديد يتطلب ممن يمسكون بزمام السلطة في إسرائيل أن يصنعوا "السلَّم العالي"، الذي يمكن بواسطته إنزال شعبهم من "شجرة" الوهم إلى ارض الواقع. وهذا "الإنزال" لا يمكن ان يتم بقرار فوري، وإنما من خلال عملية متدرجة تحتاج إلى بعض الوقت.

وتمشياً مع هذا المنطق، فإن هناك حاجة إلى تهيئة الإسرائيليين نفسياً للتنازل المتدرج، من دون أن يدركوا أو أن يفهموا مسبقاً المكان الذي سيقودهم هذا التنازل إليه. وقد عبَّر لي عن هذا المفهوم مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى وذو صلة مباشرة بالوفد الإسرائيلي المفاوض. وقد التقيته قبل أسابيع، وتجادلت معه بشأن جدوى الاستمرار في العملية التفاوضية، في الوقت الذي ما زال إلياكيم روبنشتاين على رأس الوفد الإسرائيلي، وما زالت طروحات هذا الوفد قريبة جداً مما كانت عليه في إبان حكومة شمير.

كنت في الجدال الذي دار بيننا أتبنى الموقف الفلسطيني القائل إن شيئاً لم يتغير في الجانب الإسرائيلي منذ تسلم رابين زمام السلطة، وكنت أطالب بتغيير جوهري في الطرح الإسرائيلي على مائدة المفاوضات، وفي الممارسة الإسرائيلية على أرض الواقع داخل الأراضي المحتلة، وكان هو يحاول جاهداً الإشارة إلى الفوارق الدقيقة بين مواقف العمل ومواقف الليكود، والفوارق بين طروحات العمل وطروحات الليكود، ويحاول إقناعي بضرورة تفهم المأزق الذي يحيط بحكومة رابين، والصعوبات التي تواجهها على صعيد الرأي العام والتركة التي خلّفها الليكود، والحاجة إلى تهيئة الرأي العام الإسرائيلي للمرحلة المقبلة...

لم يجد هذا المسؤول الإسرائيلي أمامه وسيلة لإقناعي سوى القول: "حين تخرج مع سيدة لتمضية أمسية ممتعة، فإنك لا تقول لها منذ البداية أنك تريد في نهاية المساء أن تنتهي بها إلى غرفة النوم، لأنك إذا قلت لها ذلك فإنها لن تخرج معك. لكنك حين تخرج معها لتتناول العشاء ولتحتسي من ثم مشروباً، ثم لمشاهدة فيلم سينمائي، فإنك على الأرجح ستصل إلى ما تسعى له من دون أن تقول لها ذلك منذ البداية..."

كان يريد بذلك إقناعي بأن علينا ألاَّ نقول للإسرائيليين منذ بداية المفاوضات أننا نريد دولة، وألاّ نصر في كل لقاء وعند كل وثيقة على التأكيد أننا نضع الأسس لإقامة الدولة... "إفعلوا ما تشاؤون ولا تتحدثوا كثيراً..."

إن هذا الحوار مع هذا المسؤول الإسرائيلي، يشكل نموذجاً لحوارات كثيرة مع صحافيين، وسياسيين، وأعضاء كنيست، وأساتذة جامعات، ومفكرين في الجانب الإسرائيلي... يدركون أن الشعب الفلسطيني حقيقة، وأن الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة أمر لا مفر منه، وأن الدولة الفلسطينية آتية لا محالة، ومع ذلك، فإنهم يدركون أيضاً أن شعبهم بحاجة إلى وقت كاف ليبتلع هذه "البرشامة" المرة...!

خلاصة

              1)  في الواقع، إن م. ت. ف مستهدفة لا بأشخاصها، بل بوصفها إطاراً وهوية ورمزاً للتطلعات الوطنية للشعب الفلسطيني. ولقد أحسنت قيادة م. ت. ف صنعاً بانتهاجها سياسة "تطبيع وعلنية" اللقاءات بينها وبين أعضاء الوفد، بدءاً بلقاء الرئيس عرفات في عمان، ومروراً بمشاركة أخوة من الداخل في الاجتماع الأخير للمجلس المركزي، وفي المشاورات التي تلتها على مستوى القيادة. ومع ذلك، فإن من الواجب أن تجري عملية تقويم عميقة لدور م. ت. ف في المرحلة الحالية والمرحلة المقبلة، ووضع مخطط قومي استراتيجي يهدف باستمرار إلى تعميق دورها وإبرازه في مراحل المفاوضات كافة، وكذلك في تنفيذ جميع خطوات المرحلة الانتقالية. ومثل هذا المخطط يحتاج إلى آلية تنفيذ جيدة تضمن إفشال المحاولات والمؤامرات الساعية لتذويب م. ت. ف أو لإفصاحها عملياً عن ساحة الحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

              2)  وفي الحقيقة، فإن العملية السياسية قد حققت بعض التقدم، سواء من حيث الآلية أو من حيث الأسلوب والعلاقة الإنسانية، لكنها لم تحقق حتى الآن "الاقتحام" الذي نريده، والذي سيجعل كل واحد منا يقول بصوت عال: "لقد حققت تقدماً جوهرياً."

3) إن استمرار المشاركة الفلسطينية في العملية السياسية أمر في غاية الأهمية، ولا يجوز لأحد أن يسمح لنفسه بمجرد التفكير في الخروج منها. ومع ذلك، فإن على الجميع، سواء المشاركين فيها أو المعارضين لها، التذكّر دائماً أن التفاوض يحتاج إلى عوامل ضاغطة، وأن في غياب هذه العوامل يتحول التفاوض إلى استجداء. ومن أجل ألاّ يتحول المفاوض الفلسطيني إلى مستجد يلتقط الفتات المتساقط من أيدي الآخرين، فإن علينا جميعاً أن نعزز دوره بمواصلة الضغط على الطرف الآخر بجميع الوسائل الأُخرى المتاحة لحمله على تقديم التنازلات، وبسرعة.

4) إن المجتمع الإسرائيلي يمر فعلاً بمرحلة تغيير، وعلينا أن نساعده في الانتقال من مرحلة الوهم إلى مرحلة الواقع، لأن وصوله إلى مرحلة الواقع هو في حد ذاته إقرار منه بنا وبحقوقنا وبدولتنا المستقلة.

الطريق طويلة، والزاد هو العمل الدؤوب، مع بقاء القدم على الكوابح، تحسباً لأي منزلق.