* شكر خاص: تنوه المؤلفة بالجهد الخاص والاستثنائي الذي قام به رئيس تحرير الدليل، منير فخر الدين، في قراءة هذا الفصل وإغنائه بملاحظاته القيمة.
استند جهاز التربية والتعليم الإسرائيلي، في سنوات قيامه الأولى، شأنه شأن سائر الأجهزة في إسرائيل، إلى وثيقة إعلان قيام دولة إسرائيل، في 14 أيار/مايو 1948. وتؤكد هذه الوثيقة أن دولة إسرائيل هي دولة «الشعب اليهودي» الذي «عاد» إلى «أرضه التاريخية»، وأنها ستتبع القيم والعادات والتقاليد اليهودية، في سياستها وأسلوب إدارتها مؤسساتها، كما تتضمن بعض القيم المُشتَقَّة من الفكر الديمقراطي. فنصت، مثلاً، على أن هدف الدولة هو المحافظة على حقوق الإنسان وحريته. وترى الباحثة نوريت بيلد – إلحنان، المتخصصة بحقل الدراسات التربوية ومناهج التعليم، أن غياب اللغة والثقافة والتاريخ المشترك للمهاجرين اليهود، الوافدين من بلاد متعددة، تَطلَّب صناعة ملامح قومية مشتركة لليهود الإسرائيليين وبناءها، من خلال نظام التعليم والأدب والإعلام، من أجل بناء ذاكرة وهوية جمعيَّتين متجانستين. وكانت إحدى الوظائف المهمة، التي أُنيطت بجهاز التعليم، وفق هذا المنطلق، بناءَ رواية مشتركة وإنتاجها، على نحو تستطيع من خلاله ربط الطلاب اليهود في جميع أنحاء العالم بـ «الأصول التاريخية» لليهود في «أرض إسرائيل». وتدّعي الرواية الإسرائيلية الرسمية، منذ قيامها حتى يومنا هذا، أن اليهود الإسرائيليين هم السكان الأصليون، الذين عادوا إلى أرض وطنهم، وأنهم من نسل العبرانيين التوراتيين، أبناء إسرائيل.1
ربما يكون بديهياً للقارئ العربي النقدي بصور عامة، وللفلسطيني بصورة خاصة، مدى تشويه التاريخ في هذه الرواية. لكنْ، من المهم الإشارة إلى أن هذا الموضوع يشغل حيّزاً من النقاش النقدي من جانب باحثين إسرائيليين. وتضيف بيلد – إلحنان أن نظام التعليم الإسرائيلي ينشر الفكرة التي تدّعي أن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. لكن القوانين والأحكام الإسرائيلية وطرائق التعامل مع المواطنين غير اليهود، تقوم كلها، في الوقت نفسه، على ترسيخ النظام «الإثنوقراطي اليهودي»، أو «الديمقراطية الإثنية»، التي تتعارض مع مبدأ الديمقراطية لجميع المواطنين. وبالتالي، فإن الباحثة لا ترى أي توافق بين التربية الديمقراطية المستندة إلى الفكر الحرّ والناقد، وبين التربية القومية التي تُدرَّس في نظام التعليم، وتهدف إلى بث أيديولوجيات مغايرة تسعى لبلورة وعي الطلاب على نحو يتلاءم مع أهداف الصهيونية.2
يقوم أساس الأنظمة الإثنوقراطية، بحسب أورن يفتاحئيل، على مبدأ الإثنية – الإقليمية، الذي يتجلى في سيطرة الجماعة الإثنية المهيمنة على الأرض والمستعمرات، وعلى القوات المسلحة، وتدفق رأس المال، والدستور، والثقافة العامة. لكن الأنظمة الإثنوقراطية تنطوي على ملامح ديمقراطية، مثل الانتخابات الدورية، والحرية الدينية، والتشريع، والحرية النسبية في ميدانَي الإعلام والاتصالات. كما أنها تمنح أبناء الأقليات مقداراً معيناً من حقوق الإنسان.3 ويرى آخرون أن الاختلافات القائمة بين الجماعات اليهودية نفسها تبرر نشوء الحاجة إلى أيديولوجيا فكرية واحدة، أو قومية – إثنية محدَّدة، تؤمن بأن اليهود يمثّلون شعباً واحداً، عليه أن يتقاسم أصولاً ولغة وثقافة مشتركة بمجرد «رجوعه» إلى أرض يعتبرها وطنه الحصري، الذي يجب ألاّ ينازعه فيه أحد.4 هذا الجدل المستمر بين الباحثين بشأن طبيعة الدولة والمبادئ التي تشكّلها، يعكس قضايا مركزية في جميع مراحل جهاز التربية والتعليم في إسرائيل، وأيضاً في أجندات البحث العلمي المرتبطة بمفهوم الأمن القومي. وتمحور هذا الحقل الواسع، أي نظام التعليم، حول صناعة الهوية الواحدة والمسيطرة، وأفردَ، في الوقت ذاته، قطاعات وأدوات خاصة بمختلف الفئات السكانية، وأفرز خطاباً نقدياً داخلياً، ووضع معاييره الخاصة لمناقشة توتراته الداخلية. والهدف، في هذا المقال، إعطاء لمحة عامة عن هذه الموضوعات.
نعرض في القسم الأول نشأة هيكلية جهاز التعليم في إسرائيل وتطوره، وأبرزَ قضاياه المرتبطة بمسألة الفجوات الطبقية والإثنية داخل المجتمع الإسرائيلي. ونسلط الضوء أيضاً على النقاشات التاريخية الجارية بشأن أهداف التعليم ومضامينه، وأوضاع الفلسطينيين والحالة الخاصة التي يعيشها أهالي النقب وأهالي القدس الشرقية المحتلة. ونعرض، في القسم الثاني، نظرة عامة عن هيكليات التعليم العالي والبحث العلمي والتطوير، وأبرز خصائصها.
أولاً: نظام التعليم: البنية الهيكلية، التيارات، الفجوات الاجتماعية
أ – نشأة التعليم العبري في فلسطين وتطوره قبل سنة 1948
تعود جذور التعليم العبري في فلسطين إلى أواسط القرن التاسع عشر وبداية اهتمام الجمعيات اليهودية العالمية (ما قبل الصهيونية)، وخصوصاً جمعية الاتحاد الإسرائيلي العالمي في باريس، بخطاب «مهمة التحضير» (civilizing mission) الاستعماري السائد في ذلك العصر. وأدى نشاط هذه الجمعيات إلى خلخلة نظام التعليم الديني التقليدي، وظهور طيف من المدارس التي تجمعها أفكار علمانية حداثية بشأن التعليم والتنوير والوجود اليهودي في العالم. وسادت في تلك الحقبة، بصورة عامة، فكرة فحواها أن اليهود مجتمعات ذات هوية دينية – ثقافية خاصة، يجب أن تسعى للاستنارة والحداثة والأخوّة اليهودية العالمية، ضمن الأطر القومية أو الوطنية التي وُجدت فيها. ولم يتطور محتوىً صهيوني واضح في مناهج تلك المدارس؛ أي محتوىً يقدّم اليهود أمّةً سياسيةً تسعى للاستقلال القومي في فلسطين، إلاّ مع ما يُعرف بالهجرة الثانية (1904 – 1914). وبدأ، في تلك الحقبة، نوع جديد من المهاجرين – المستوطنين، المُشبَعين بالفكرة الصهيونية، بالقدوم من شرق أوروبا من أجل الاستيطان في فلسطين. وبرز آنذاك دور جمعيات «محبّي صهيون» الصهيونية الروسية، والتي تركت أثراً بالغاً وبنيويّاً في تكوين المشروع الاستعماري – الاستيطاني الصهيوني ومؤسساته وأيديولوجيته المهيمنة حتى بعد قيام الدولة العبرية ونكبة فلسطين.
كان لمناحم أوسيشكين، وهو أحد قادة جمعية «محبّي صهيون» في أوديسا، دورٌ بارز، في مجال التعليم بصورة خاصة، في تأسيس «اتحاد المعلّمين العبرانيين» في فلسطين سنة 1903.5 ودفع هذا الاتحاد نحو توحيد محتوى التعليم في المدارس اليهودية في فلسطين، وتبنّي اللغة العبرية والقيم الصهيونية. لكن، لم ينشأ، على نحو فعّال، إطار مؤسساتي موحَّد، إدارياً وتمويلياً، أو ما يمكن أن يُسَمّى نظام تعليم عبري مُتكاملاً، إلاّ في إبان الانتداب البريطاني، الذي اعترف بالحركة الصهيونية، ومنح مؤسساتها درجة عالية من الاستقلالية في رعاية شؤون المستوطنين الحياتية والمدنية وتنظيمها. وبرز، في ظل هذا الإطار الجديد، ما يُعرف بنظام التيارات في التعليم (زراميم)، والذي عكس حالة التعدّد والتنافس بين التيارات الحزبية والأيديولوجية لدى المستوطنين. وشمل ذلك حتى سنة 1948 ثلاثة تيارات، ثم أضيف إليها تيار رابع. وتوزَّعت كما يلي:
1. التيار المركزي: هو التيار الأكبر، وساد في المدن والبلدات والمستعمرات الزراعية غير الاشتراكية (الموشافوت)، وانضوى فيها ما يقارب نصف المستوطنين في فلسطين، واتسم بتبنّيه قيماً صهيونية ليبرالية حداثية ضمن الإطار العام للتراث والقيم اليهودية؛
2. التيار العمالي: هو التيار الخاص بمختلف الفئات والأحزاب المنضوية في الصهيونية العمالية، وتميّز بنزعة علمانية قوية وقيم اشتراكية (ضمن إطار إثني استعماري)، وبرفع مفاهيم وشعارات ثورية، مثل «اليهودي الجديد» المتحرر من التراث والماضي. واحتل هذا التيار المرتبة الثانية من حيث حجمه، واتسم بنزعة محارِبة لتوسيع نفوذه وإحلال هيمنة سياسية على مجمل مجتمع المستوطنين (الييشوف). ويُرمى التيار العمالي، أكثر من غيره، بسهام النقد بسبب نظرته الاستشراقية والعنصرية تجاه اليهود القادمين من الدول العربية؛
3. التيار المزراحي: يعود إلى التيار الديني القومي، أو الصهيونية الدينية، التي جمعت الفكرة القومية والحداثة، من جهة، والفكرةَ الدينية المحافظة، من جهة أُخرى، على عكس التيارات الحريدية التي نبذت الصهيونية والحداثة وتمسكت بالتقاليد. واحتل هذا التيار المرتبة الثالثة من حيث حجمه، لكن أثره في السياسة الإسرائيلية فاق نسبته العددية، وازداد ذلك مع مرور الوقت؛
4. أمّا التيار الرابع، والذي يُضاف إلى هذه التيارات، فهو:
أغودات يسرائيل: يلبي هذا التيار حاجات الجماعات اليهودية الأرثوذكسية (الحريديم وناطوري كارتا)، التي رفضت الفكرة القومية بصفتها مناقضة للإيمان الديني بالخلاص، ورفضت الهيمنة الصهيونية وقيمها وثقافتها العلمانية. وحافظ هذا التيار على نظامه التعليمي التقليدي، منفصلاً ومنعزلاً عن التأثير الصهيوني والحداثة الغربية. واعترف بن – غوريون بهذا التيار، وأعطاه ضمانات بالاستقلالية بعد إعلان قيام دولة إسرائيل سنة 1948، ورمى، من وراء ذلك، إلى إظهار وحدة اليهود بشأن مسألة قيام دولة يهودية. وما زال هذا الاعتراف يشكّل أساساً للوضع القائم (status quo) في تعامل الدولة مع الحريديم في مجال تعليمهم الديني الخاص.6
ما زال نظام التعليم الحكومي في إسرائيل مشرَّعاً على تغيرات قانونية وتنظيمية وتربوية، تشكّل مؤشرات إلى تحوّلات سياسية واجتماعية واقتصادية يمر بها المجتمع. ونعرض، فيما يلي، أبرز جوانب النظام وهيكليته، في ست نقاط تغطي البنية القانونية والإدارية والتربوية، وبعض المفاهيم والنقاشات والتطورات الأخيرة التي شهدها هذا الحقل.
يمكن الإشارة، بصورة عامة، قبل الخوض في التفصيلات، إلى ميزتين عامتين لنظام التعليم الإسرائيلي بعد سنة 1948: أولاً، بدأت أدبيات نظام التعليم الإسرائيلية تتحدث عن تعليم عبري وتعليم عربي، ضمن إطار التعليم الحكومي الرسمي، مع وقوع التعليم العربي الرسمي للفلسطينيين داخل الخط الأخضر تحت ولاية الحكومة الإسرائيلية بعد سنة 1948. ويُشار إلى أن بعض صُناع السياسة التعليمية في خمسينيات القرن الماضي، وأبرزهم مفتش المدارس العربية في وزارة التربية، عارضَ اعتماد اللغة العربية في التعليم والمحافظةَ على الحضارة العربية، ودعا إلى عبرنة التعليم العربي للفلسطينيين بحُجة فصل المواطنين العرب عن العالم العربي، وغرسِ قيم الانتماء إلى الدولة الإسرائيلية في أذهانهم، إلاّ إن هذا الخيار سقط نتيجة اعتبارات صهيونية رأت أن دمج العرب ما هو إلاّ مقدمة لمطالبتهم بالمساواة التامة باليهود، ونظراً أيضاً إلى المعارضة التي واجهت هذه الفكرة من جانب أبناء الشعب الفلسطيني في الداخل.7 وشهد التعليم العربي، بدلاً من ذلك، كما سنرى، إعادة هيكلة، من ناحية المضمون والأهداف والإدارة، كي يلائم السياسات الصهيونية؛ أي ضمن تصوّر بشأن المجتمع الفلسطيني للتعامل معه كمجرد فسيفساء من ثقافات وأديان وجماعات إثنية، لا روابط معنوية أو سياسية بينها. وقُدّمت هذه السياسة جزءاً من الصورة الليبرالية لإسرائيل، دليلاً على احترامها التعددية الثقافية داخل تركيبة سكانها.
ثانياً، شهد النظام الإسرائيلي، بعد سنة 1948، إعادة هيكلة لنظام التيارات في التعليم العبري، نتيجة أسباب سياسية واجتماعية عميقة. ففي سنة 1953، استُبدل نظام تعليم رسمي بنظام التيارات، لكن هذا النظام أيضاً انقسم إلى قطاعين: رسمي علماني، ورسمي – ديني. وظل التيار الأرثوذكسي محافظاً على استقلاليته وسيره بموجب التقاليد من دون التأثر بالحداثة الغربية أو بالفكر الصهيوني. وتثير هذه الخاصية لنظام التعليم الإسرائيلي، كما في التعليم العربي، إشكاليات ونقاشات مستمرة بشأن حدود سلطة الدولة والتعدد الثقافي.
1. قانون التعليم الإلزامي سنة 1949: الاستمرارية والانقطاع
كان بين القوانين الأبرز، التي شرّعتها حكومة إسرائيل الأولى بقيادة بن – غوريون، قانون التعليم الإلزامي سنة 1949 (جرت بعد ذلك عدة تعديلات عليه). وأكد هذا القانون استمرار التيارات التعليمية منذ زمن الانتداب، بما فيها، كما ذكرنا، التيار الديني غير الصهيوني. أمّا الجديد فيه فكان تشريع إلزامية التعليم من عمر خمسة أعوام إلى سِن الخامسة عشر، ومجانيته حتى نهاية المرحلة الثانوية (وشمل لاحقاً، مع تعديل سنة 1984، الأعمار 3 – 4 و15 – 17). كما أتاح القانون للمواطنين أن يختاروا لأبنائهم وبناتهم التيار التعليمي الذي يرغبون فيه، من مختلف التيارات الرسمية. لكن، كما في كل قانون، لا بد من النظر في الأثر غير المتجانس في شرائح المجتمع ومختلف قطاعاته. ولا بد من أن نبحث في موضوعَي الأثر والتفاوت، أو غير التجانس، في اتجاهين: أولاً، دور التعليم في تمكين مختلف الفئات الاجتماعية، اقتصادياً واجتماعياً، وسياسياً أيضاً، إذ إن نظام التعليم يشكّل، كما سنرى، إحدى أهم الآليات البنيوية التي تساهم في إعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية؛ ثانياً، دور التعليم في الضبط والسيطرة، فقد يؤدي مهمة ضبط حدود الإجماع القومي و«حراسة» الرواية السياسية المهيمنة، وإعادة إنتاجها، وهي الرواية الصهيونية الأشكنازية. وإن خطاب التعليم الرسمي، في شقَّيه السياسي والمهني، كما سنرى، لم يتجاهل تماماً هذه التوترات في النظام، لكن كيفية التعامل مع الإجماع القومي والرواية السياسية المهيمنة هذين، والأهميةَ التي منحها لكل منهما، ما زالتا مثار جدل وصراع.
يمكن الإشارة، مثلاً، في مسألة التمكين غير المتكافئ، إلى تأثير تنافس مختلف القوى والتيارات الأيديولوجية في الإجماع الصهيوني في السنوات الأولى لإعلان الدولة. لقد أدى هذا التنافس إلى انبثاق مزيد من التيارات الفرعية، فسعت الحركة العمالية لإقامة تيار تعليم ديني تحت مظلتها، بديل من المزراحي. ونشأ أيضاً تيار ديني من حركة «حباد»، وأسس تياراً تعليمياً خاصاً منافساً للتيار المزراحي. وسُنّ قانون التعليم الحكومي لسنة 1953، نظراً إلى مصلحة الدولة في الحدّ من هذا التنوع، وفي تأكيد نوع من العَقد الاجتماعي الصهيوني المشترك. وأدى ذلك إلى ضبط التنوع وقنوات التمكين السياسي والتمكين الاجتماعي، وإن لم يرتقِ إلى توحيد النظام بصورة تامة، بحيث حافظت التيارات الدينية على استقلاليتها.
أمّا فيما يتعلق بالجانب الضبطي و«حراسة» المشروع القومي اليهودي، فثمة توتران مهمان يجب ذكرهما. يتعلق أولهما بالفلسطينيين المستمرين في البقاء في وطنهم، إذ عكس نظام التعليم الجو العام للقمع والتخويف السياسيين، اللذين عاشهما الفلسطينيون، وعانوا بسببهما، في حقبة الحكم العسكري (1966 – 1948). وتم صوغ مضامين نظام التعليم هذا أداةً لإلغاء الذاكرة القومية الفلسطينية وحجبها، وزرع قيم الولاء للدولة الإسرائيلية، واحترام كل رموزها ومضامينها الصهيونية، وإدراج ذلك باللغة العربية.8 وتعامل الخطاب التعليمي الرسمي مع هذا الموضوع عبر تطوير آليات احتواء ضمن خطاب المواطَنة الإسرائيلية، من دون المساس بالتمييز القومي الجوهري في المشروع الصهيوني. أمّا التوتر الثاني، فيتعلق باليهود الشرقيين والسفارديم، أي القادمين الجدد من البلاد العربية والإسلامية، أو ذوي الأصول اليهودية التاريخية في تلك البلاد، والذين دُفعوا، بطرائق مباشرة وغير مباشرة، نحو هجرة أوطانهم والقدوم إلى الكيان العبري الجديد في فلسطين المحتلة، ليحلّوا مشكلة النقص الديموغرافي في الاستيطان الصهيوني. وزُجّ بهؤلاء المهاجرين، في بداية الأمر، في مخيمات خاصة، واعتُبروا «حالة استثنائية». لم يُطبق عليهم القانون بصورة كاملة، كما طُبق على سائر المواطنين اليهود. فسُلبت منهم، من ناحية، حريةُ الأهالي في اختيار التيار التعليمي التي ينص عليها القانون، وتم إلزامهم جميعاً، من ناحية ثانية، بنظام «تعليم موحَّد» عكس قيم الحركة الصهيونية العمالية. ووُضع نظام التعليم في المخيمات، من ناحية أُخرى، تحت وصاية «دائرة الاستيعاب الثقافي» في الصندوق القومي اليهودي، بدلاً من وزارة التربية والتعليم، الأمر الذي جعل التيار العمالي المتنفذ يتفرد بالتوظيف ووضع سياسة التعليم. واحتدم الصراع بشأن حالة المهاجرين من يهود اليمن، الذين احتجوا بشدة على منع أبنائهم من العمل معلمين في المدارس، وعلى قيام معلمي دائرة الاستيعاب الثقافي (وأغلبيتهم من التيار العمالي الأشكنازي) بممارسات وصفوها بالإكراه الديني، مثل منع تعليم التوراة وقَصّ حكايات الأطفال المتدينين في المدارس. واغتنم حلفاء بن – غوريون المتدينون الصهيونيون، وكذلك خصومه الأيديولوجيون من اليمين العلماني، هذه الاحتجاجات، وتأجّجت أزمة حكومية، تلاها دخول تيار التعليم المزراحي (الديني القومي) المخيمات. ثم تغيرت تسمية هذه المخيمات، ليدخل مصطلح «معبروت» (أي نقاط انتقال) للاستخدام في سنة 1950 لتبرير إعطائها صفة مناطق سكن عادية، وشمولها بقانون التعليم تحت ولاية وزارة التربية والتعليم.9
2. قانون التعليم الحكومي سنة 1953: نظام القطاعات التعليمية (مجزاريم) والمنهاج الأساسي
سُنّ قانون التعليم الحكومي الرسمي سنة 1953، في إثر أزمة «التعليم الموحّد» التي عانتها مخيمات الاستيعاب، بين معاناتها أموراً أُخرى. وبدا القانون الجديد كأنه يشكّل توجهاً أو مسعى نحو التأكيد أن الدور المركزي للتعليم هو غرس قيم المواطنة المشتركة والانتماء القومي إلى جميع أبناء الشعب، على حساب حالة التنافس بين التيارات التي برز فيها التعليم أداةً لتمكين التوجهات السياسية والثقافية للتيارات السياسية المتنافسة. وتبرز هنا، مرة أُخرى، قوة التيار الديني، من جهة، وتتعزز السيطرة وسياسة نفي النزعة القومية عن الفلسطينيين، من جهة أُخرى. فلقد اعتُرف، ضمن التعليم العبري، بثلاثة قطاعات (مجزاريم) تعكس التوجهات السياسية – الأيديولوجية والثقافية داخل المجتمع اليهودي:
- التعليم الرسمي (العلماني)، الذي دمج عملياً التيار المركزي في التيار العمالي، وجعلهما إطاراً واحداً.
- التيار الرسمي – الديني (الصهيونية الدينية)، الذي عبّر عن استمرارية التيار المزراحي.
- التعليم الديني الأورثذكسي المستقل (الذي حافظ على الوضع القائم منذ وثيقة بن – غوريون سنة 1948).
أمّا على صعيد التعليم العربي، فتطورت منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي سياسات تعليم طائفية – إثنية الطابع، بحيث أُقِرّ منهاج تعليم خاص بالمدارس الدرزية والشركسية، ووُظّفت هذه المدارس في عملية تجنيد أبناء هذه الأقليات لخدمة الجيش الإسرائيلي منذ منتصف الخمسينيات، وبات الفلسطينيون يُصنَّفون فئات «إثنية» و«قومية» مختلَقة: فالدروز والشركس والبدو يُفصَلون عن «العرب»، الذين يُقصَد بهم المسلمون والمسيحيون العرب. ويُترجَم هذا مناهجَ وأطراً إدارية منفصلة.
حدّد القانون، بصورة عامة، أن جميع القطاعات (باستثناء اليهودية الأورثذكسية) تقع ضمن إطار منهاج أساس (core curriculum) يضع الخطوط العريضة، ويبيّن الموضوعات الإلزامية والاختيارية العامة المطلوبة، والتي يتم الانتقاء منها وصوغ مناهج محدَّدة على مستوى القطاع الفرعي الذي تنتمي إليه المدرسة.
موضوعات إلزامية، وتشمل:
- موضوعات تراثية في العلوم الاجتماعية والإنسانية: الدين والتراث؛ المواطنة أو «مدنيات»؛ علم الاجتماع؛ الجغرافيا؛ التاريخ.
- اللغة والأدب: قواعد اللغة العبرية وآدابها؛ قواعد اللغة العربية وآدابها؛ قواعد اللغة الإنكليزية وآدابها.
- الرياضيات والعلوم: الرياضيات؛ الكومبيوتر؛ الفيزياء؛ الكيمياء؛ البيولوجيا.
- المهارات البدنية: التربية البدنية/الرياضة.
موضوعات غير إلزامية، وتشمل:
- الفنون: الموسيقى؛ الفنون التشكيلية؛ المسرح؛ الرقص.
- الثقافة المدرسية: أسلوب الحياة في مدينة يهودية وديمقراطية؛ جودة الحياة والمحافظة على البيئة؛ مهارات حياتية؛ الأمن والصحة.
3. البنية الإدارية: وزارة التربية وأدوار وزارية أُخرى
يشير الباحثون، بصورة عامة، إلى أنه على الرغم من وجود قوانين ناظمة ومركزية في نظام التعليم الخاضع لوصاية وزارة التربية، فإن ذلك لم يُلغِ تماماً دور مختلف التيارات الفعالة في المجتمع، في تنفيذ التعليم ورسم مضامينه على أرض الواقع، وخصوصاً فيما يتعلق بالفئات والمؤسسات الأقوى وصاحبة النفوذ والتأثير. ويبرز هنا مثال التعليم في الكيبوتسات واليشيفوت (المدارس الدينية).10 كما أن أدوار وزارة التربية وصلاحياتها تغيّرت مع مرور الوقت، بفعل التأثير السياسي والنفوذ المتزايد للأحزاب الدينية. وأبرز تحول في هذا الاتجاه تحديدُ صلاحيات وزارة التربية في عملية التمويل والضبط لعمل جهاز التعليم ومضامينه، فانتُزعت منها المسؤولية عن الثقافة والرياضة وحماية الآثار، من خلال تشريع خاص سُن سنة 1993، نتيجة اعتبارات ائتلافية حكومية. وتم الرجوع عن هذا القانون في سنة 1996، وعُهِدت الثقافة والرياضة، مرة أُخرى، إلى صلاحيات وزارة التربية، لكن وزارة جديدة شُكلت، بعد ذلك بثلاثة أعوام، شملت مهماتها الإشراف على الثقافة والرياضة، وأيضاً على نشاط وحدة تُعرف باسم «هيلا» (وحدة استعداد إسرائيل لعصر المعلوماتية)، كانت تعمل تحت سلطة ديوان رئيس الحكومة. وتم، في سنة 2009، فصل هذه الوزارة إلى وزارتين: وزارة العلوم والتكنولوجيا، ووزارة الثقافة والرياضة.
تأخذ الحكومة على عاتقها، على العموم، من خلال وزارة التربية، المهمات التالية:
- تطبيق القوانين والسياسات والتوصيات المتعلقة بالتعليم.
- إدارة مخصَّصات التعليم المُقرة في ميزانية الحكومة.
- وضع مناهج التعليم وإدارة جهاز تفتيش مركزي في نطاق التعليم ومضامينه، سواء في التعليم الحكومي أو المدارس الخاصة (وأبرزها المدارس التابعة للكنائس المسيحية العاملة في المجتمع الفلسطيني).
- تمويل البنية التحتية، من مبانٍ وتجهيزات.
- تعيين الكادر التعليمي في المدارس الحكومية، بصفته كادر موظفين حكوميين.
تؤدي وزارات أُخرى، إلى جانب وزارة التربية، أدواراً محددة، في عمل جهاز التعليم، مرتبطة بمجالات تخصّص كل منها، وهي: وزارة العمل والرفاه الاجتماعي؛ وزارة الثقافة والرياضة؛ وزارة العلوم والتكنولوجيا؛ وزارة الصحة؛ وزارة الاستيعاب؛ وزارة الدفاع. كما تؤدي مؤسسات الحكم المحلي ومؤسسات صهيونية مستقلة عن الحكومة أدواراً مهمة في العملية التربوية. وهذه المؤسسات هي:
- مؤسسات الحكم المحلي: تؤدي البلديات والمجالس القروية المحلية والإقليمية دوراً مسانداً في التمويل، أو الإشراف على بعض جوانب عمل الجهاز التعليمي. لكن، بالإضافة إلى ذلك، فإن لبعض البلديات أدواراً مهمة في رسم سياسات جهاز التعليم. ونذكر، في هذا الصدد، دور بلدية مستعمرة تل أبيب قبل سنة 1948، ودور بلدية القدس اليوم، التي لها ولاية على القدس الشرقية المحتلة، وتؤدي دوراً خطراً في دمج جهاز التعليم الفلسطيني في المدينة المحتلة، وتغيير المناهج فيها (كما سنبين أدناه).
- الوكالة اليهودية: تؤدي الوكالة اليهودية دوراً مهماً في إنشاء مؤسسات التعليم العبرية أو تمويلها، بالإضافة إلى برامج التعليم خارج المنهاج، كجزء من مشروعها الصهيوني التاريخي في دعم الاستيطان اليهودي وتمكينه.
- الهستدروت (الاتحاد العام للعمال اليهود): تدعم الهستدروت، عبر مختلف مؤسساتها، الحضانات للأعمار المبكرة (بإشراف جمعية «نعمات» – منظمة النساء العاملات والمتطوعات – التابعة لها)، وتدير شبكة مدارس ثانوية مهنية (للعمال)، وتدعم مدارس داخلية لأبناء المهاجرين الجدد.
4. المراحل التعليمية والنشاطات المساندة
تنقسم مراحل التعليم الرسمية، التي تشرف وزارة التربية عليها، إلى المراحل التالية:
- المرحلة ما قبل الابتدائية (رياض الأطفال لجيل 3 – 4 أعوام): أُقِرَّت إلزامية التعليم في المرحلة ما قبل الابتدائية بعد تعديل قانون التعليم الإلزامي سنة 1984، لكنها لم تطبَّق إلاّ في العقد الأخير بصورة منتظمة. أمّا حضانات الأطفال المبكّرة (من عمر عام حتى عامين)، فلا يشملها التعليم الإلزامي، ولا تُمولها الوزارة. وهي تعمل باعتبارها مؤسسات خاصة ربحية، أو أهلية غير ربحية. وبعضها يتلقى الدعم من جهات حكومية، أو من مؤسسات الحكم المحلي.
- المرحلة الابتدائية: شملت هذه المرحلة، حتى سنة 1968، الصفوف من الأول حتى الثامن، ثم تقلصت إلى الصف السادس. واستُحدثت المرحلة الإعدادية، في إثر إصلاح سنة 1968، كجزء من محاولة الدمج وتقليص الفوارق الاجتماعية والجغرافية.
- المرحلة الإعدادية: تشمل هذه المرحلة الصفوف، بدءاً من الصف السابع حتى الصف التاسع. واستُحدثت، كما ورد أعلاه، بهدف دمج الطلاب الذين يأتون من خلفيات اجتماعية وجغرافية متباينة، من أجل زيادة دمجهم، بعضهم في بعض، وتقليص الفوارق الاجتماعية بينهم. لكن الباحثين يُجمعون على أن هذه الأهداف لم تتحقق نتيجة أسباب متعددة، واستطاعت الكيبوتسات والمدارس الدينية الحصول على استثناءات.
- المرحلة الثانوية: تشمل هذه المرحلة أكثر من نوع من المدارس:
(أ) المدارس ذات التوجُّه الأكاديمي النظري، والتي تُعِدُّ الطلبة للشهادة التوجيهية «البغروت»، الضرورية للالتحاق بالجامعات، أو لشهادات إنهاء المرحلة الثانوية يُستفاد منها للالتحاق بالمعاهد المهنية غير الجامعية؛
(ب) المدارس المهنية – التكنولوجية، التي تخرّج مهنيين مباشرة إلى سوق العمل والصناعة، أو مؤسسات الدولة، وأهمها الجيش؛ (ج) المدارس الزراعية، التي تؤهّل الطلبة في مجال العمل الزراعي؛ (د) المدارس الشاملة، التي تدمج التعليم النظري في التعليم المهني، وأُنشئت، بصورة خاصة، في البلدات والتجمعات السكنية التي يتركز فيها أبناء اليهود الشرقيين.11
ثمة جوانب أُخرى من العملية التعليمية، يُشار إليها هنا:
- التربية اللامنهجية: يُقصَد بالتعليم اللامنهجي كل النشاطات والفعاليات التربوية المنظَّمة، والتي تتوفر للطلبة خارج الدوام الدراسي، من أجل تطوير مهاراتهم وقيمهم الاجتماعية. وتوفّر عدة جهات غير حكومية، ومنظمات أهلية صهيونية، الدعم لهذا الجانب من العملية التربوية.12
- التعليم ما بعد الثانوي: يشمل التحضير للجامعات، ويتضمن أيضاً خدمات توفر لمُسرَّحي الخدمة العسكرية، وخدمات تعليمية أُخرى تسعى لتقليص الفجوات بين شرائح وقطاعات اجتماعية متعددة، وتوسيع الفرص التعليمية أمامها.
- معاهد إعداد المعلمين: يَتْبع معظمها وزارة التربية مباشرة، ويَتْبع بعضها الحركة الكيبوتسية، أو تيار التعليم الديني المستقل، أو جهات خاصة برزت في العقود الأخيرة.
5. الإنفاق على التعليم
منذ انضمام إسرائيل إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (The (Organization for Economic Co–operation and Development (OECD)، في سنة 2010،13 يتوفر، في العقد الأخير، عدد من المقارنات الإحصائية بينها وبين سائر دول المنظمة (التي تضم 37 عضواً)، والتي يمكن أن تفيد في أخذ صورة عامة لوضع التعليم والإنفاق الحكومي.
- بلغ الإنفاق على التعليم في إسرائيل، في سنة 2017، ما يُقدَّر بـ 102,8 مليار شيكل جديد، أي 8,1 في المئة من إجمالي الدخل القومي. وبلغ الإنفاق الحكومي 77,5 في المئة من مجمل هذا الإنفاق، بينما تحمَّل الأهالي مع التبرعات الخارجية (كجزء من النشاط الصهيوني العالمي) ما يقارب 22,5 في المئة منه.
- لو قارنا الإنفاق على التعليم في إسرائيل بالإنفاق على التعليم في الدول الأعضاء في منظمة OECD، لوجدنا أن نسبته الإجمالية من الدخل القومي في إسرائيل كانت 6,8 في المئة، سنة 2015، وهي أعلى من معدل الإنفاق في دول المنظمة، البالغ 5,6 في المئة، في الفترة نفسها.
- نظراً إلى أن نسبة الزيادة السكانية في إسرائيل من الأعلى في العالم، مقارنة بدول منظمة OECD، فإن حصة الطالب من الإنفاق العام على التعليم في إسرائيل، في جميع المراحل التعليمية، هي أقل من المعدل في دول المنظمة (يزداد الفارق في التعليم العالي). وإن دققنا في حساب الأرقام، نجد أن الوضع هو كالتالي: يُنفَق على الطالب في إسرائيل 6 آلاف دولار، في مقابل 8,5 آلاف دولار معدل إنفاق على الطالب في مجموعة دول OECD. ويُنفَق على الطالب في إسرائيل، في التعليم الابتدائي، 8 آلاف دولار، في مقابل 8,6 آلاف دولار معدل إنفاق على الطالب في مجموعة دول OECD. كما أنه يُنفَق على الطالب في إسرائيل، في مرحلتي الإعدادي والثانوي، 8 آلاف دولار، في مقابل 10 آلاف دولار معدل إنفاق على الطالب في مجموعة دول OECD. أمّا في مرحلتي الثانوي والتعليم العالي، فمعدل الإنفاق على الطالب الإسرائيلي يبلغ 11 ألف دولار، بينما يُنفَق 15,7 ألف دولار على الطالب في مجموعة دول OECD.14
- طبقت إسرائيل، في السنتين 2008 و2012، سياسات إصلاحية تتعلق بأجور المعلمين في المراحل ما قبل الابتدائية والابتدائية والإعدادية، ثم في المرحلة الثانوية، بحيث تحسنت أجورهم، بصورة ملحوظة. وتم، في المقابل، توسيع الوصف الوظيفي. كما سُجل منذ سنة 1996 حتى سنة 2018 ارتفاع في عدد المدرسين مقارنة بعدد الطلاب، وبات لكل أستاذ 10,8 طلاب كمعدل في سنة 2018، بدلاً من 12,4 تلميذاً في سنة 1996.15
6. الخصخصة واللامساواة الاجتماعية
برزت، في العقود الأخيرة، دعوات إلى توفير إمكان خصخصة قطاع التعليم، جرّاء التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي أصابت المجتمع الإسرائيلي منذ ثمانينيات القرن الماضي، وفي إثر ازدياد القناعة لدى قطاعات نخبوية مؤثرة، بأن نظام التعليم الرسمي لا يُفلح في توفير الخدمة التربوية المنشودة. وتُلاحَظ هذه الظاهرة وتثير الجدل في كل من التعليم العبري الرسمي والتيار الديني – الرسمي، ولدى المجتمع الفلسطيني في إسرائيل (أو التعليم العربي). ويشير الباحثون إلى عدة نماذج للخصخصة، مثل أن تتعاقد الجهة الرسمية مع جهات خاصة لإدارة المدارس العمومية، وتشجيع قيام مدارس خاصة انتقائية ضمن التعليم الرسمي، أو أن تهتم بطرائق تعليم خاصة (كالفنون والعلوم... إلخ).
يُشار في هذا الصدد، بصورة عامة، إلى أربعة نماذج:16
- مدارس الحريديم: تتلقى المُخصَّصات المالية، مثل مدارس القطاع العام، كونها ذات وضع خاص من ناحية إدارتها واختيارها منهاجها، لكنها لا تخضع لإدارة حكومية، ولمراقبة مباشرة على منهاجها وسير عملها من جانب الحكومة، أو وزارة التربية.
- مدارس نخبوية يهودية وعربية قديمة: ثمة عدد من المدارس النخبوية اليهودية في حيفا وتل أبيب والقدس، ويوجد عدد من المدارس الكنسية العربية، توفّر التعليم للتلاميذ على أساس انتقائي، وتتميز بمستويات أداء عالية. وتعود هذه المدارس إلى الحقبة العثمانية، أو الانتدابية، وحافظت على طابعها وأسلوب قبولها الطلبة، على الرغم من أنها تحصل على مخصصات التعليم بصورة عادية من الحكومة، وتنضوي في إطار قوانين التعليم والوزارة.
- مدارس دينية خاصة (يشيفوت، أولبانيم): يشهد التعليم الديني – الرسمي ارتفاعاً في عدد المدارس الخاصة التي توفر مستوى تعليمياً متميزاً من المدارس العامة في هذا القطاع.
- مدارس تقام بمبادرة من الأهالي أو من جمعيات خاصة: يلاحَظ أيضاً ازدياد هذه المدارس، ويشمل ذلك قطاع التعليم العربي. ويؤكد خالد أبو عصبة أنه لا تكاد تخلو أي بلدة عربية من مبادرة من هذا النوع.17
- يُضاف إلى ذلك مبادرة وزارة التربية في التشجيع على اختيار الأهالي للمدارس، كي تحد من انتشار المدارس الخاصة التي يُنشئها الأهالي بوتيرة متزايدة.18
يتخوف الباحثون، على العموم، من أن هذه الظاهرة ستزيد في الفجوات الطبقية والفصل الاجتماعي داخل كل القطاعات التعليمية والاجتماعية القائمة، ويحدث ذلك في التعليم الرسمي العبري، بحيث تبرز مدارس النخبة المتميزة في مقابل الأداء المتدني لمدارس الأطراف (التي تحوي، غالباً، يهوداً شرقيين). ويحدث في التعليم العربي أيضاً. ويبرز أيضاً، على نحو حاد، التمايز الطبقي داخل التعليم الديني – الرسمي.19 ويشير أبو عصبة إلى أن المدارس الانتقائية تساهم في تقليص الفجوة بين التعليم العبري والتعليم العربي، لكن المدارس الخاصة العمومية لا تتميز في أدائها من المدارس الحكومية، كما تفيد الدراسة المنهجية لهذه الظاهرة.20 وبالتالي، فإن ظاهرة الخصخصة لا تحقق الفكرة، أو الافتراض القائم من ورائها، وهو أن خصخصة التعليم، كما أي خدمة أُخرى، تصبّ في مصلحة المستهلكين، بل إن المهنيين يتخوفون، على العكس من ذلك، من ثقافة التحصيل الفردي والريادة وانخفاض مستوى التضامن الاجتماعي، كقيم محركة لعملية التعليم، الأمر الذي يصب في تعزيز الفوارق الاجتماعية القائمة.
7. إعادة إنتاج الفجوات الاجتماعية – الاقتصادية والإثنية في التعليم
أصدر معهد تاوب الإسرائيلي، الذي يُعنى بالسياسات الاجتماعية، تقريراً أعده، أساساً، للاستفادة من الخبرة البحثية المتراكمة في مجال التطبيق والسياسات، وصف فيه الوضع التعليمي بأنه يتضمن «لامساواة عنيدة».21 فعلى الرغم من انتشار التعليم في المرحلتين الثانوية والعُليا، فإن الفوارق في التحصيل العلمي، بين مختلف الفئات الاقتصادية والاجتماعية والإثنية، آخذة في الاتساع أيضاً.22 ونجد هذه الفوارق، كما تقدم، داخل كل فئة أو قطاع من قطاعات التعليم الرسمية وغير الرسمية. ويُرجع أسبابها الباحثون إلى عدة أمور: الأوضاع الاجتماعية – الاقتصادية (الطبقية)، والجغرافية والإثنية والقومية. فاليهود الشرقيون تم استقدامهم وتوطينهم في فلسطين، في سياق سياسات تمييزية بنيوية، وضعتهم في أماكن سكن حدودية، كجزء من الانتشار الأمني لمواجهة الفلسطينيين والدول العربية، وبهدف استيطان الصحراء وغيرها، وحرمتهم المقومات الاقتصادية التي يحظى بها المستوطنون الأشكناز (الأوروبيون في الأساس، ومعهم الأميركيون). ولّدت هذه التجربة حالة من عدم المساواة المركّبة، إثنياً – طبقياً – مكانياً. وحدثت ظاهرة معروفة في مجتمعات هجرة أُخرى، تمثلت في توريث مكانة المهاجر الاجتماعية المتدنية للأجيال المقبلة (على نحو يشمل التأخر في التعليم الأساسي والتعليم الجامعي). وتوصل الباحثون، في إحدى الدراسات الحديثة، التي قارنت بين الجيل الثالث من المهاجرين الأشكناز والجيل الثالث من المهاجرين اليهود من البلاد العربية والإسلامية (وخصوصاً بلاد المغرب العربي)، إلى أن الجيل الثالث من الأشكناز اندمج في مجتمع المستوطنين الأقدم، وتجاوز حالة اللامساواة أو المعوقات الخاصة بالمهاجرين. أمّا الجيل الثالث من فئة اليهود الشرقيين فلم يتجاوز مستوى تحصيل الجيل الثاني من هذه الفئة، وسيحتاج اليهود الشرقيون، بصورة عامة، إلى أربعة أو خمسة أجيال من أجل تجاوز خصوصيتهم (أي تدني وضعهم) في السلّمين الاجتماعي – الاقتصادي والتعليمي.23
ويُرجع الباحثون أسباب ذلك إلى التعليم المتدني في بلدات الأطراف، وإلى التأثير الكبير لدرجة تعلُّم الأُم ووضعها الاجتماعي – الاقتصادي في مستوى التحصيل العلمي لأبنائها وبناتها مستقبلاً.24
على الرغم من أن الفوارق في كيفية استيعاب اليهود الشرقيين وكيفية استيعاب المهاجرين الروس والإثيوبيين واضحة، فإن بعض الباحثين يطرح مقاربات متعددة، ويتوصل إلى صورة مغايرة للواقع. إذ يقترح أوري كوهن ونيسيم ليون، على سبيل المثال، الخروج من نموذجَي التحليل الكلاسيكيين والسائدين في علم الاجتماع الإسرائيلي، ويدعوان إلى تبنّي نموذج جديد، يعتبرانه أكثر ديناميكية وقدرة على فهم التحوّلات الطبقية داخل المجتمع الشرقي. يمثّل النموذج الأول الذي ينتقده كوهن وليون، عالِمُ الاجتماع الصهيوني الشهير شموئيل أيزنشتات، الذي يُرجع تراجع أوضاع الشرقيين في إسرائيل إلى موروثيهم الثقافي والاجتماعي، اللذين حملوهما من بلدهم الأم. أمّا النموذج الثاني فيمثّله عالِم الاجتماع النقدي شلومو سفيرسكي، الذي يؤكد، مثله مثل سائر علماء الاجتماع النقديين، نظرية الصراع، ووجود آلية منهجية أو بنية مسؤولة عن إنتاج الفوارق الاجتماعية والتمييز الثقافي (اعتبار ثقافة الشرقيين وتاريخهم أدنى درجة وأقل أهمية، وطمسهما، تالياً، تماماً من المنهاج التعليمي وكتب التدريس) والفوارق السكنية والجغرافية.25 ويعتبر كوهن وليون أن التركيز على نشأة طبقة وسطى شرقية وتطورها يغير هذه النماذج التحليلية. فهذه الفئة الجديدة اخترقت موضوعي التمييز الثقافي وهيمنة الثقافة الأشكنازية، وتغلبت على الإقصاء الجغرافي، عبر تطوير أحياء سكنية جديدة تقطن فيها، قريبة من المركز، أو في المدن. وهذان النموذجان الكلاسيكيان، بموجب هذه النظرة، لا يصلحان تماماً لفهم مسألة التفاوت في التعليم، وخصوصاً في مجال التعليم العالي. فحقل التعليم العالي، الذي كان محتكَراً من الأشكناز في السابق، شُرّعت أبوابه واسعةً منذ تسعينيات القرن الماضي، وبات يستقبل الشرقيين، بصورة أكبر (بفضل انتشار المعاهد الخاصة أو الناشئة في الأطراف، والتي كسرت احتكار الجامعات البحثية الرئيسية المرموقة في إسرائيل. وهذا موضوع سنتناوله أدناه). ويجد الشرقيون طرائق لدخول الطبقة الوسطى من خلال ممارستهم التجارة والأعمال الحرة الصغيرة، من دون الاستفادة من التعليم العالي.26 إلاّ إن هذه التحولات لا تخفف قلق المتخصصين بالتربية والتعليم إزاء ازدياد الفوارق الاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمع الإسرائيلي، والتي ستستمر وتتفاقم، بحسب التقديرات، كما نجد، على سبيل المثال، في التقرير الأحدث لمعهد تاوب.
ثانياً: المنهاج الأساسي والكتب المدرسية: الهيمنة الخطابية أم التعددية الثقافية؟
أ – الأهداف التربوية في المنهاج الأساسي العام (Core Curriculum) والتعليم العربي
يشير قانون التعليم الحكومي لسنة 1953 إلى أن «التربية والتعليم، كركيزة أساسية، يجب أن يقوما على قيم الثقافة الإسرائيلية والإنجازات العلمية، وعلى حب الوطن والولاء لدولة إسرائيل وشعبها، وعلى التدريب على الأعمال الزراعية والحِرَفية، وعلى التدريب الريادي، والتطلع إلى مجتمع مبني على أسس الحرية، والمساواة، والتسامح، والتعاون، وحب الناس.» ويوجد التعليم العربي، في سياق هذا الإطار للتعليم الحكومي، من دون أن يتضمن ذلك أي ذكر للمواطنين العرب الفلسطينيين، أو قيمهم وحضارتهم. وقررت الدولة، بصورة خاصة بعد حرب سنة 1967، ومع ارتفاع نضالات المواطنين العرب وإبراز هويتهم القومية، إدخال تغييرات في قانون التعليم الرسمي، بهدف معلن قوامه «الانفتاح على الحضارات» المتعددة واحترامها. وشُكّلت لجنتان، في سنة 1971، لوضع توصياتهما بهذا الشأن. ومن المفيد عرض هذه التوصيات ومصيرها.
1. توصيات لجنة أهارون يدلين
نشرت لجنة يدلين (وزير التربية والتعليم آنذاك) اقتراحاتها للتعليم العربي في سنة 1972. ويرد في تلك الاقتراحات أن القيم التي يجب أن يرتكز عليها التعليم العربي هي: قيم السلام؛ الولاء للدولة؛ تأكيد العامل المشترك لجميع مواطني إسرائيل؛ التشجيع على دمج العرب فيها. وتحدثت اللجنة عن قيم ثقافية عربية وإسرائيلية وعالمية، وصوغ مناهج تسهّل اندماج العرب في إسرائيل، اجتماعياً واقتصادياً. وعلى الرغم من تقبُّل الحكومة اقتراحات اللجنة، فإنه لم يتم إدخالها نَص قانون التعليم الحكومي.
2. توصيات لجنة بيلد
أُنشئت لجنة ثانية، في سنة 1975، دُعيت باسم لجنة بيلد، وهدفت إلى تغيير مبادئ التعليم التي نص عليها قانون سنة 1953. واقترحت هذه اللجنة تقسيم أجهزة التعليم إلى ثلاثة: جهاز التعليم اليهودي؛ جهاز التعليم العربي؛ جهاز التعليم الدرزي. وقدّمت، بناءً على هذا التقسيم، اقتراحات متعددة بشأن أهداف التربية والتعليم، في كل من هذه الأجهزة الثلاثة. ونورد هذه التوصيات أدناه، مع مزيد من التفصيل بشأنها، بسبب أهميتها في فهم العقلية التربوية الإسرائيلية:
● أهداف جهاز التعليم العبري، بحسب لجنة بيلد
– مساعدة الشاب على بناء شخصية مكتملة له، كيهودي ينسجم مع تراث شعبه ومصيره، وواعٍ بالعلاقة بين شعب إسرائيل وأرض إسرائيل، وبالروابط بين الشعب اليهودي في أرضه والشعب اليهودي في الشتات، ويحمل شعور الشراكة في القدَر والمسؤولية مع شعبه.
– غرس قيم الثقافة اليهودية، من خلال دراسة التراث اليهودي، نظرياً وعملياً، كما صاغته شهادات اليهود، حتى أجيالهم الأخيرة، في وطنهم والشتات، والتلاقي مع أفضل تراث من ثقافات الشعوب الأُخرى، والاعتراف بثقافة الأقلية العربية.
● أهداف جهاز التعليم العربي، بحسب لجنة بيلد
– تأسيس التربية والتعليم على أسس الثقافة العربية، وإنجازات العلم، والرغبة في السلام بين إسرائيل وجيرانها، ومحبة الوطن المشترك لجميع مواطني الدولة، والولاء لدولة إسرائيل، وتأكيد المصالح المشتركة بين جميع مواطني الدولة، وتعزيز تفرّد العرب الإسرائيليين، والاعتراف بالثقافة اليهودية.
● أهداف جهاز التعليم الدرزي
– تأسيس التربية والتعليم على أسس الثقافة العربية، وإنجازات العلم، والرغبة في السلام بين إسرائيل وجيرانها، ومحبة الوطن المشترك لجميع مواطني الدولة، والولاء لدولة إسرائيل، والشراكة في بناء إسرائيل وحمايتها، وتأكيد المصالح المشتركة بين جميع مواطني الدولة، وتعزيز العلاقات الخاصة بين اليهود والدروز، ومعرفة الثقافة اليهودية، وتقوية الكيان الدرزي الإسرائيلي، وتعزيز وعي الشباب بالتراث الدرزي، وشراكة القدر بين أبناء المجتمع الدرزي في جميع مناطق وجوده.
تظهر التوترات في هذه «التعددية» جلية: فبينما ورد ذِكر إسرائيل «الوطن المشترك لجميع مواطني الدولة» في أهداف كل من التعليم العربي والتعليم الدرزي، لم يرد ذكرها في أهداف التعليم اليهودي. وفي حين ذُكر أيضاً أن على العرب والدروز محبة الوطن المشترك وتقديم الولاء إلى الدولة، لا يوجد أي ذِكر للخلفية الثقافية والحضارية والسياسية للمواطنين الفلسطينيين. كما أن هدف جهاز التعليم الدرزي، بالإضافة إلى ذلك، هو تكوين هوية منفصلة للدروز عن سائر الفلسطينيين في البلاد، وإعدادهم لخدمة الجيش الإسرائيلي، وتغذية قيم طائفية لديهم تنافي مفاهيم المواطَنة المتساوية والانتماء القومي.
3. تعديل قانون التعليم الحكومي لسنة 2000
لم تلقَ توصيات بيلد مصيراً أفضل من توصيات يدلين، فرحبت بها الحكومة بلاغياً من دون أن تطبقـها. وجاء تعديـل قانون التعليم الحكومي لسنة 2000، ليكمل هذا المسعى. أراد المشرّع هنا، عملياً، تجاوز الصمت المطبق عن وجود مواطنين غير يهود، لكنه أعاد، عملياً أيضاً، إنتاج بنية التمييز وعلاقات الهيمنة ذاتها، بحيث نصت البنود الأربعة الأولى في القانون المعدَّل، على أن هدف التربية والتعليم في إسرائيل هو:
- تربية الإنسان على محبة الإنسان، ومحبة شعبه وأرضه، وعلى أن يكون مواطناً مخلصاً لدولة إسرائيل، يحترم والديه وعائلته، وتراثه، وهويته الثقافية، ولغته.
- غرس الأُسس المذكورة في وثيقة إعلان قيام دولة إسرائيل وقيامها، كدولة يهودية وديمقراطية، وخلق احترام حقوق الإنسان، وحرياته الأساسية، والقيم الديمقراطية، والمحافظة على القانون، واحترام ثقافة الآخرين وآرائهم، والتربية على السعي من أجل السلام والتسامح في العلاقات بين الناس والشعوب.
- تدريس تاريخ أرض إسرائيل ودولة إسرائيل.
- تدريس موروث إسرائيل؛ تاريخ الشعب اليهودي؛ تراث إسرائيل والتقاليد اليهودية، وغرس الوعي بذكرى «الكارثة والبطولة» (الاسم الإسرائيلي المؤدلج لذكرى الإبادة النازية بحق يهود أوروبا)، والتربية على احترام ضحاياهما.
وذُكِر في البند 11 من القانون أيضاً:
- معرفة اللغة والثقافة والتاريخ والتراث والتقاليد المميزة للسكان العرب والسكان الآخرين في دولة إسرائيل، والاعتراف بحق المساواة بين كل مواطنيها.
يفسر بعض الباحثين بأن سبب التوتر القائم بين بنود القانون المعدل، بشأن تعريف دولة إسرائيل ودمج الدين في القومية، هو أن الديانة اليهودية تُعتبر لدى الشعب اليهودي ديانة قومية؛ فالدين هو العامل الذي ساهم في المحافظة على وجوده. كما عززت الديانة اليهودية الهوية القومية لدى اليهود في إسرائيل. بمعنى آخر، يُبرز الباحثون التوتر بين الدين والدولة في إسرائيل، والجدل الدائم بشأن كون اليهودية ديناً فقط، أم أنها دين وقومية في آنٍ واحد. لكن آخرين يشيرون إلى توتر أكثر جذرية في وجود الصهيونية، كحركة استعمار استيطاني، تقوم على ادعاء الأصلانية وإنكار وجود الشعب الفلسطيني. ويذهب إيلان بابه إلى أن المشكلة تبدأ عند المعتقد القائم على أن «للشعب اليهودي الحق في أرض إسرائيل.» فكي تعطي الحركة الصهيونية صدقية لهذا المبدأ أمام العالم، وأمام اليهود أنفسهم، وتحثهم على مغادرة أوطانهم والهجرة إلى «أرض إسرائيل»، رفعت شعار «شعب بلا أرض أتى إلى أرض بلا شعب»، متنكرة تنكراً تاماً لوجود الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه منذ قرون طويلة. وأصبح هذا النهج هو الهدف الذي تسعى دولة إسرائيل لتمريره وغرسه في القوانين والمناهج والكتب المدرسية، على نحو صريح وواضح.27
ب – الكتب المدرسية وصور الشرقيين، والروس، والإثيوبيين، والآخر الفلسطيني/العربي
تؤدي المناهج العينية والكتب المدرسية، بصورة عامة، دوراً بارزاً ومهماً جداً في تكوين ثقافة الطلبة وتحديدها، بحيث إن لها تأثيراً كبيراً داخل الصفوف الدراسية وخارجها، لا لأنها تنقل معرفة واقعية فقط، بل لكونها تتضمن أيضاً تلك الصور التاريخية، ومفاهيم السرعة والوقت، والقيم السياسية والاجتماعية، التي يريد المجتمع أن ينقلها إلى الجيل الجديد.28 أمّا الدول التي تختبر وتعيش صراعات وحروباً، مثل إسرائيل، فيقول أحد الباحثين إن الكتب المدرسية، المعتمَدة فيها وفي مدارسها، لا تسعى لمجرد نقل الحقائق فحسب، بل تنشر أيضاً الأيديولوجيات، وتَتتبَّع النزاعات السياسية وتحاول تبريرها من خلال إضفاء الشرعية التاريخية عليها. وكانت تؤدي، في الغالب، أداة للحرب، وتعمل من أجل التحريض على الخصم، وتبرير وجهات نظر الفرد الوطنية.29
يُضاف إلى ذلك طبعاً، أن مناهج التعليم لا تعكس الصراع القومي فقط، بل أيضاً موازين القوى الداخلية والعلاقات فيما بينها؛ أي بين مركّبات المجتمع المفترض أنه يملك هوية قومية واحدة ووحدة مصير. وتشير الباحثة بيلد – إلحنان إلى أن المناهج الإسرائيلية والكتب المدرسية هي الآلية التي استطاعت إسرائيل، من خلالها، إنتاج رواية تاريخية في إمكانها أن تربط الطلاب اليهود بـ «الأصول التاريخية» لليهود في أرض إسرائيل. وهذه الرواية كانت، وما زالت، تقول إن اليهود الإسرائيليين هم «السكان الأصليون»، الذين عادوا إلى «أرض وطنهم». لكن، إلى جانب ذلك، فإن الكتب المدرسية غير عادلة في طرحها فيما يتعلق بمختلف الفئات الإثنية داخل المجتمع اليهودي، فهي تُظهر اليهود الأشكناز في صورة مغايرة (وتفضيلية) عن اليهود الشرقيين. والأمر نفسه عندما تتطرق هذه الكتب إلى الهجرات الروسية والإثيوبية، فهي تتضمن صوراً ونصوصاً تشوبها العنصرية، إذ تُظهر المهاجر الإثيوبي في صورة الإنسان غير الحضاري، في مقابل المهاجر الروسي الذي يَظهر في صورة فوقية، قادماً مع حضارة وثقافة غربيتين متطورتين. أمّا صورة «الآخر»، الفلسطيني، فهي صورة العدو أو «الإرهابي»، والرجعي وغير المتطور أيضاً، والذي يمثّل مشكلة وجودية لدولة إسرائيل.30
يؤكد الباحث شلومو فيشر هذه القراءة. فاليهود الشرقيون يوصَفون بأنهم يفتقدون الإبداع، حضارياً واجتماعياً، حين يتم عرض ثقافتهم ورواياتهم، كما أنهم يُصورون تائبين بعد أن كانوا في ضلال. ويحظى اليهود الشرقيون بمكانة أقل أهمية من النخبة الأشكنازية. وبالتالي، لا مكانة فعلاً للمساواة المدنية وتعدُّد الثقافات. فالكتب المدرسية تهدف إلى طرح موحد يسيطر على جميع فئات المجتمعات الإسرائيلية، بدلاً من مناداتها بالمساواة المدنية والتعددية الثقافية الحقيقية. وعلى جميع الفئات تقبُّل طرحها واستيعابه.31 أمّا الباحث أريه كيزل، فيؤكد أن الكتب الإسرائيلية، وخصوصاً ما يتعلق بموضوع التاريخ، تساهم في تشكيل الذاكرة الجماعية، وبصورة خاصة في الصفوف المتقدمة في المرحلة الثانوية. ويقول إن سياسة الدولة هي الهيمنة والسيطرة على عقول الطلاب من أجل فرض الأيديولوجيا الصهيونية وإدخالها في الكم الأكبر من موضوعات التاريخ.32
ج – المدّ اليميني وأثره في الكتب المدرسية
بما أن جهاز التربية والتعليم يتأثر بالحكومات وسياساتها، مثله مثل سائر الأجهزة، فلقد شهد في سنوات صعود المد القومي الديني الأخيرة، تغيرات ملحوظة، وخصوصاً في فترة وزير التربية والتعليم نفتالي بينيت (2015–2019)، المنتمي إلى اليمين الجديد. وتظهر هذه التغيرات في المناهج والكتب المدرسية، في مواد الآداب والاجتماعيات، إذ باتت تتضمن، في صورة مطردة، قيماً ومضامين دينية، أو تلميحات وإشارات ذات صبغة دينية. وأثارت هذه التحولات جدلاً داخل أوساط قطاعات واسعة في إسرائيل، تمحور حول مخاوف قطاعات واسعة من العلمانيين من جرّ جهاز التربية نحو التدين، وفرض أجندات أيديولوجية بعيدة كل البُعد عن تفكيرهم وأسلوبهم في العيش. وترى هذه القطاعات أن ثمة هجوماً على القيم العامة المُوجهة لمختلف القطاعات الحكومية التابعة لجهاز التعليم في إسرائيل، منذ نشأته، والتي تعتبر الهوية اليهودية إطاراً ثقافياً قومياً، لا دينياً محضاً، وتتعامل مع الدين اليهودي مادةً تدريسية، لا مَسلكَ حياة ومنظومةً معيارية يجب أن يتبنّاهما الطالب والمجتمع، كما هي الحال في قطاع التعليم لدى المتدينين (الحريديم).33
من الواضح، مما تقدم، أن هناك تعددية داخل الإجماع الصهيوني بين تيارات أيديولوجية، أو بين توجهات ثقافية حياتية (دينية) داخل المجتمع اليهودي. والعلاقات بينها ليست وردية كل الوقت، بل تقوم على التنافس وجذب التمويل ورسم السياسات. لكن ثمة تعددية أو فوارق من نوع آخر، خارج هذا الإجماع، هي أدوات تصنيف وإبراز للاختلاف بهدف الاحتواء والهيمنة، لا الدمج والمساواة. ولا تشكل هذه «التعددية» قاعدة للتنافس، بل تعكس خللاً كبيراً في موازين القوى وإمكان التأثير في السياسات العامة. فالتعليم العربي لا يحوي أي محتوى فلسطيني، أمّا مضمون التعليم العبري فيُقصي الفلسطينيين، والهوية الشرقية، وهوية المهاجرين من إثيوبيا، في سياق اعتماده نظرة معيارية صهيونية أشكنازية – أوروبية. ويشير عدد من الناشطين اليساريين غير الصهيونيين، أو المناهضين للصهيونية من اليهود الشرقيين، إلى أن قانون القومية الأخير، والذي ألغى الاعتراف باللغة العربية لغةً رسمية، يأتي في سلسلة السياسات العميقة والظاهرة، والتي تميّز ضدهم كيهود – عرب.34 ولا يعني وجود هذه الفوارق طبعاً، عدم حدوث تغيّر أو حراك اجتماعي في موضوع التعليم. لكن، لا شك في أن ليس ممكناً الفصل تماماً بين التعليم، كرافعة اجتماعية، والأيديولوجيا ونظام توزيع/احتكار القوة السياسية والتأثير في عمل السلطة؛ أي بين قضايا المساواة الاجتماعية وقضايا التعددية الثقافية. وهذا الأمر يثير جدلاً عميقاً داخل المجتمع الفلسطيني.35
ثالثاً: الفلسطينيون ونظام التعليم في إسرائيل
يلاحظ المراقبون عدداً من التغيرات الداخلية في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل، وازدياداً في الرغبة في التعليم والتقدم فيه، لكن ذلك لم يغير حقيقة فحواها أن إنجازات العرب الفلسطينيين التعليمية أقل من تلك التي ينجزها اليهود. ولا يتمثل التمييز، في جهاز التربية والتعليم، بموضوع الميزانيات فقط، بل يُجمع عدد من الباحثين أيضاً على وجود نقاط إشكالية، يواجهها الفلسطينيون في جهاز التعليم الإسرائيلي، هي التالية:
1. الإهمال والسيطرة الإداريان: يواجه جهاز التعليم العربي، على مر السنوات، إهمالاً وتمييزاً تمارسهما وزارة التربية والتعليم. إذ هناك رفض حكومي للاعتراف بأهمية الهوية القومية لجهاز التعليم العربي، الذي يتعامل مع أقلية ذات قومية مغايرة. وهذا يظهر في نواحٍ متعددة. كما أن جهاز التعليم العربي ليس جهازاً مستقلاً يتمتع بالإدارة الذاتية، بل هو خاضع لقرارات وزارة التربية والتعليم. وليس لمديري المدارس والمعلمين العرب صلاحية حقيقية في اتخاذ القرارات، أو تحديد سياسة التعليم في مدارسهم. وتحدّد السلطة قيادات المجتمع السياسية في جميع نواحي الشأن التعليمي، وتتدخل في الميزانيات المخصصة لدوائر الجهاز العربي.36
2. الموروث التسلطي والاستخباراتي: يُضاف إلى ذلك ما حمله الجهاز تاريخياً من موروث تسلطي وتدخل استخباراتي في تعيين المعلمين وإقالتهم، ليس بحسب الكفاءة، وإنما وفقاً لمعايير أمنية واستخباراتية.37 ولا شك في أن هذا الأمر أنتج حالة سلبية ما زالت مفاعليها وتداعياتها قائمة.
3. الحق في التعليم في مقابل الضغط لإخلاء الأرض في النقب: يشير الباحثون إلى أن البنية التحتية للتعليم في النقب ما زالت وسيلة ابتزاز للضغط على الأهالي، وإجبارهم على ترك قراهم ومناطقهم والانتقال إلى بلدات تركيز؛ أي كجزء من نزع الهوية العربية عن المنطقة وإخلاء الأرض للاستيطان والجيش. وقد رُحّل الفلسطينيون، في معظمهم، من أراضيهم في النقب في إثر النكبة، إمّا عبر التهجير إلى خارج حدود فلسطين، وإمّا عبر نقل الأهالي وتجميعهم القسري في مناطق محصورة، ودفعهم إلى التجمع في سبع بلدات أُنشئت خصيصاً لهذا الغرض. وما زالت أغلبية الأهالي تقطن إمّا في قرى غير معترف بها، وإما في قرى اعتُرف بها مؤخراً، لكن نسبة المدارس قياساً بعدد السكان فيها أقل كثيراً من نسبتها إلى عدد السكان في القرى السبع. والهدف، كما يُجمع عليه المراقبون، واضح: الامتناع من توفير الخدمات، كوسيلة ضغط على السكان لإجبارهم على الانتقال إلى قرى التركيز. وتُعَدُّ نسبة المتسرّبين من التعليم بين أبناء المجتمعات البدوية من أعلى النسب بين الشرائح الاجتماعية كافة.38
4. التعليم كوسيلة لتعزيز الاحتلال في القدس الشرقية: يشكل ملف التعليم جزءاً من عدة ملفات خطرة تمس هوية القدس ومستقبلها. ويخضع ملف التعليم في المدينة المحتلة لسلطة بلدية القدس الغربية، كمدينة استعمارية تقوم على الاحتواء والإقصاء معاً. ويُستخدم وسيلةً لطمس الانتماء الفلسطيني إلى المدينة المحتلة. وارتفعت، في العقد الأخير، وتيرة سياسة الأسرلة، عبر الضغط في الميزانيات وإغراءات التوظيف من أجل دفع المدارس والمعلّمين والأهالي إلى تبنّي المنهاج الإسرائيلي بدلاً من المنهاج الفلسطيني، والانتقال من نظام التوجيهي الفلسطيني إلى نظام البغروت الإسرائيلي.39 ومن المعروف أن لهذا التحول نتائج سلبية على التواصل الفلسطيني، فالانتقال إلى نظام البغروت يعني، بين أمور أُخرى، تقلُّص عدد الطلبة المقدسيين في الجامعة الفلسطينية في الأرض المحتلة، وازدياد عددهم في الجامعات الإسرائيلية. في العموم، إلى جانب الآثار الخطرة للهجوم السياسي – الأمني المنهجي على المجتمع والطفل الفلسطينيين، وعلى كيان هذا الطفل، نفسياً ومعنوياً، في البيت والشارع والمدرسة، يعاني التعليم في المدينة المحتلة إهمالاً في البنية التحتية، ونقصاً في الميزانيات. وتسجّل المدينة أعلى نسب التسرب بين التلاميذ، وخصوصاً بين الذكور، كما يحدث تماماً في التعليم لدى المجتمعات البدوية، الأمر الذي يصب في إعادة إنتاج أيد عاملة رخيصة يطلبها اقتصاد المدينة الاستعمارية.
للتدليل على تأثير هذه العوامل، نعرض فيما يلي المؤشرين التاليين: نتائج التلاميذ في امتحانات البغروت، والالتحاق بالجامعات.
ب – نتائج الطلبة العرب في امتحانات البغروت الإسرائيلية
يواجه الطلاب العرب الفلسطينيون تحدياً مصيرياً، هو امتحانات إنهاء المرحلة الثانوية، المعروفة بامتحانات البغروت (التي يقابلها امتحان التوجيهي الفلسطيني). ولوحظ، في العقدين الأخيرين، ارتفاع في نِسَب الناجحين في البغروت بين العرب واليهود، لكن الفوارق بين القطاعين ما زالت كبيرة. إذ نجح نحو 64 في المئة من الطلبة اليهود المتقدمين إلى البغروت في سنة 2000، بينما نجح 45 في المئة فقط من العرب. وتحسنت هذه النسب في سنة 2017، لكن مع بقاء الفوارق، إذ نجح بين اليهود نحو 80 في المئة، أمّا نسبة الناجحين لدى الطلاب العرب فكانت نحو 64 في المئة. أمّا بالمقارنة مع مختلف قطاعات التعليم العبري، فنجد أن الفوارق بين التعليم العربي والتعليم العبري الرسمي والرسمي الديني أكبر من النسبة بين التعليم العربي والتعليم لدى الحريديم، بحيث توزعت النسَب بين القطاعات العبرية إلى: 36,3 في المئة ناجحين في المدارس الحريدية، و83,1 في المئة في المدارس العبرية الرسمية، و83,7 في المئة في المدارس العبرية الدينية – الرسمية.40
يُرجع الباحثون هذا الفارق في جودة التعليم إلى عدة أسباب، منها محتوى التعليم وتشديده على الهويتين اليهودية والصهيونية للدولة ومجتمعها، وغياب أي محتوى قد يدعم القومية العربية أو الفلسطينية.41
ج – التعليم العالي: مؤشرات من العقد الأخير
على الرغم من الصعوبات التعليمية في المرحلتين الابتدائية والثانوية، فإن الدراسات أثبتت أن هناك ازدياداً في عدد الطلاب الذين يُقبَلون في مؤسسات التعليم العالي، بحيث إن عدد الطلاب الفلسطينيين الجامعيين في جامعات إسرائيل وصل، بحلول العام الأكاديمي 2011/2012، إلى 30,530، في حين أن 9260 طالباً فلسطينياً كانوا يدرسون في مؤسسات للتعليم العالي خارج البلد.42
تدل معطيات مقارنة، في سنة 1999 والسنتين 2017/2018، على ارتفاع ملحوظ وتحول في الموضوعات التي يختارها الطلاب العرب، أو ينجحون في الحصول على قبول فيها في الجامعات الإسرائيلية. ويبيّن الجدول التالي النسَب بحسب الموضوع، مع ملاحظة مفادها بأن ثمة طلاباً يتجهون إلى الجامعات الفلسطينية وجامعات في الأردن ودول أوروبية من أجل متابعة التعليم الجامعي، وهؤلاء غير مشمولين في الجدول.
نسبة الطلاب العرب في الجامعات الإسرائيلية
بحسب الموضوع، بالمقارنة بين الفترة 1999 2018/201743
الموضوع |
نسبة الطلاب العرب في الموضوع في العام الدراسي 1999 |
نسبة الطلاب العرب في الموضوع في العام الدراسي 2017/2018 |
ملاحظات |
مهن طبية مساعدة |
11 |
25 |
فاقت نسبتهم الأخيرة في هذا الحقل نسبتهم إلى مجمل السكان |
تربية وإعداد معلّمين |
17 |
24 |
فاقت نسبتهم الأخيرة في هذا الحقل نسبتهم إلى مجمل السكان |
اقتصاد وإدارة أعمال |
2 |
17 |
زيادة كبيرة جداً، أكثر من 8 أضعاف |
طب |
7 |
15 |
زيادة كبيرة، لكن أقل من نسبتهم إلى مجمل السكان |
علوم اجتماعية |
6 |
15 |
= |
علوم إنسانية |
10 |
14 |
= |
قانون |
8 |
12 |
= |
علوم طبيعية ورياضيات |
5 |
12 |
= |
هندسة مدنية ومعمارية |
5 |
10 |
= |
إلاّ إن الفوارق ما زالت بارزة بين العرب واليهود في مجال التعليم العالي. وأُجري إحصاء رسمي، في سنة 2017، عن نسبة الطلبة الملتحقين بالتعليم العالي خلال ثمانية أعوام بعد إنهائهم المرحلة الثانوية، أثبت بوضوح هذا الأمر. وتُظهر معطيات آخر سنة مشمولة في الإحصاء، أي شريحة الطلاب الذين أنهوا المرحلة الثانوية عام 1999، أن 70 في المئة تقريباً من الطلبة اليهود التحقوا بالجامعة حتى سنة 2017، بينما بلغت نسبة الطلبة العرب في الفئة نفسها 52,4 في المئة.44
وجبت الإشارة أيضاً إلى أن انتشار التعليم العالي لم يرتبط طردياً بالضرورة بتحسن أوضاع العمل والتوظيف، ليس فقط لدى المجتمع الفلسطيني، بل بصورة عامة لدى كل سكان إسرائيل.45 وهذا يعود إلى طبيعة سوق العمل الإسرائيلية وزيادة العرض على الطلب في عدد محدود من الاختصاصات، عدا منطق التمييز المؤثّر في كل مجالات الاقتصاد والمجتمع. ويشير أبو عصبة إلى أن النساء الفلسطينيات المتعلّمات يعانين، في الغالب، عدم التوظيف أكثر من نظيراتهن اليهوديات، بنسب كبيرة.46 أمّا إسماعيل أبو سعد فيذهب إلى أن ازدياد عدد الخريجين في المجتمع البدوي، على الرغم من العوائق البنيوية المؤسساتية الكبيرة التي تعوّق الالتحاق بالجامعات، لم يُترجم تحسناً مماثلاً في أوضاعهم الاقتصادية – الاجتماعية، إذ إن إمكان دخولهم مراكز مؤثرة في البنية الاجتماعية – الاقتصادية العامة يبقى محدوداً جداً، كحال سائر المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل.47
القسم الثاني: التعليم العالي والبحث العلمي
يعمل في إسرائيل اليوم سبع جامعات ومعاهد بحثية رئيسية، وعدد كبير من المعاهد التخصصية والإقليمية، تحظى بمكانة ثانوية من حيث الحضور والإنتاج العلميان. وتعود نشأة الجامعات والنشاط البحثي العلمي إلى مراحل الاستيطان الصهيوني المبكّر في فلسطين. ونشأت فكرة الجامعة العبرية في القدس في سنة 1918، وتمأسست رسمياً في سنة 1925، وكان سبقها إنشاء معهد تِخنيون التكنولوجي في حيفا، في بداياته، في سنة 1924. وأسس حاييم وايزمن معهد الأبحاث العلمي على اسم دانيال زيف في مستعمرة رحوفوت في سنة 1934، وأُعيدت تسميته لاحقاً باسم معهد وايزمن، وتحوّل إلى جامعة بحثية في سنة 1949، بالإضافة إلى إنشاء معهد خضوري، في ثلاثينيات القرن الماضي، وتم تقسيمه فرعين، عبرياً وعربياً، وخُصص لغايات التدريب الزراعي (من دون أن يتحول إلى جامعة). ونشأت هذه المؤسسات ضمن المشروع الصهيوني، وانخرطت في دعمه، وتركز نشاطها البحثي، بصورة خاصة، في مجالات متعلقة بالزراعة والاستيطان والصحة. وكُسر احتكار هذه المؤسسات، في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، وأُنشئت جامعة تل أبيب (1953)، وجامعة بار – إيلان (1955)، ذات الصبغة الدينية، وبهدف مد جسور بين المعارف اليهودية والمعارف العلمية الحديثة. وأُسست جامعة حيفا (1963)، وتخصّصت بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، كما أُنشئت جامعة بن – غوريون في النقب (1969)، وأيضاً الجامعة المفتوحة الإسرائيلية في سنة 1974.48
عُرفت هذه المؤسسات بنخبويتها وشروط القبول الدقيقة فيها، والتي صعّبت دخول طلبة من الشرائح الأقل حظوة من سكان الأطراف والشرقيين والفلسطينيين. وشكّل شرط القبول بنتائج امتحانات البغروت، وبنتائج امتحانات تصنيف ذكاء (بيسخومتري) أيضاً، إحدى حلقات دائرة إعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية، مكملاً بذلك سياسات التعليم الابتدائي والتعليم الثانوي. واعتمد نظام التعليم الثانوي، كما ذُكر أعلاه، مسارات نظرية وعملية، وكان التلاميذ يُفرَزون بموجب امتحانات، تعتمد أسئلة من مستوى الصف الثامن، الأمر الذي أدى إلى توجيه عدد كبير نسبياً من الشرقيين إلى المسار العملي الذي لم يؤهلهم لشهادة البغروت ولدخول الجامعة (انظر النقاشات أعلاه بشأن أوضاع الشرقيين والفلسطينيين في مجال التعليم).
لكن هذه الحواجز بدأت تنكسر مع تحوّلات العولمة والخصخصة في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته.49 وناقش مجلس التعليم العالي مسألة توسيع الدراسات الجامعية، في أوائل التسعينيات، مع وصول موجات من المهاجرين المتعلمين من الاتحاد السوفياتي. وكان نمو عدد الطلاب غير مسبوق في تاريخ إسرائيل، بحيث وصل إلى أكثر من ضعفي عدد الطلاب قبل الهجرة. ونشأ، منذ ذلك الحين، عدد كبير من المعاهد التخصصية والإقليمية، ومن المعاهد الخاصة في المجالات المطلوبة في السوق أيضاً (المحاماة، إدارة الحسابات، الفنون... إلخ)، والتي تتّسم بشروط قبول أقل تشدداً. ورافق ذلك ارتفاع في انتشار التعليم العالي بين الشرقيين والفلسطينيين على الرغم من أن الفجوات مع الأشكناز لم تُجسَر كلياً.
تُعتبر مؤسسات التعليم العالي في إسرائيل هيئات رسمية، لكنها تحظى بالاستقلالية المؤسساتية عن النظام السياسي، بحيث سُنَّ قانون نظام التعليم العالي سنة 1958، والذي ينصّ على استقلالية التعليم العالي وحرية التعليم والبحث العلمي. ومنح القانون مجلس التعليم العالي (MALAG)، المتشكّل بموجبه، سلطة تحديد المعايير الأكاديمية والقضايا الجوهرية المتعلقة بالتعليم العالي والبحث العلمي وضمان جودتهما. ويهتم المجلس أيضاً بضمان حرية التعليم الأكاديمي والبحث وخصوصية المؤسسات التعليمية، وخصوصية الشرائح الطلابية في إسرائيل أيضاً، ويقدّم الاستشارة والمقترحات إلى السياسات الحكومية المتعلقة بهذا المجال.50 وينسب مجلس التعليم العالي، على سبيل المثال، ارتفاع عدد الطلاب العرب في الجامعات الإسرائيلية، بصورة ملحوظة في السنوات الأخيرة، إلى السياسات التي تبنّاها في هذا الصدد (انظر أدناه).51 وينظّم قانون التعليم العالي أيضاً حدود مشاركة وزير التعليم في مجلس التعليم العالي. على سبيل المثال، لدى المجلس سلطة منح اعتماد للمؤسسات والبرامج الأكاديمية العالية في إسرائيل، والإشراف على منح الشهادات وتقويم جودة التدريس.52 وعُيِّنت لهذا الغرض لجنة مؤلّفة من 19 – 25 عضواً، على رأسهم وزير التربية والتعليم، لكن يُفترض أن يكون ما لا يقل عن ثلثي أعضائها عاملين في مجال التعليم العالي، ويتم تعيينهم بناءً على توصية وزير التربية، بعد التشاور مع مؤسسات التعليم العالي المعترف بها. وأعضاء الثلث المتبقّي هم ممثّلو القطاع العام ورئيس الاتحاد الوطني للطلاب. ووفقاً لمركز أدفا، فإن الهدف من جعل الأغلبية للأكاديميين هو ضمان استقلالية القرار المهني لمجلس التعليم العالي عن التدخلات السياسية والحكومية.53
قررت الحكومة الإسرائيلية، في سنة 1977، تسليم مهمة تقسيم ميزانيات التعليم العالي إلى لجنة التخطيط والميزانيات داخل مجلس التعليم العالي. وكانت الفكرة مفادها بأن لجنة التخطيط والميزانيات ستقف في مسافة وسط بين الحكومة والمؤسسات ذات العلاقة، من جهة، ومؤسسات التعليم العالي، من جهة أُخرى. ومنحت الحكومة لجنة التخطيط والميزانيات مسؤولية التخطيط الشامل لنظام التعليم العالي وتخصيص الموارد، لكنها احتفظت لنفسها بمسؤولية تحديد الميزانية الإجمالية للتعليم العالي. لذا، فإن الدور التنظيمي للدولة في نظام التعليم العالي تضاءل على مر السنين. وكانت الميزانية الخاصة بجهاز التعليم العالي، حتى الفترة 1986 – 1987، تُناقَش في الكنيست واللجان الحكومية، وتوضَع مرة في السنة، لكن هذه السياسة تغيّرت منذ ذلك الحين، وباتت الميزانية تُناقَش مرة كل أربعة أعوام. وحققت هذه التغيرات درجة أكبر من استقلالية المؤسسات، في تحديد معاييرها الأكاديمية، وتخطيط أهدافها وميزانياتها، وتحديد معدل الطلبة وطبيعة عملية قبولهم.
تزامنت سياسة توسيع التعليم العالي وكسر احتكار الجامعات الكبرى مع الاتجاه السائد، منذ تسعينيات القرن الماضي، إلى فتح التنافس واقتصاد السوق، وخفض الدورين المباشرين للدولة، تنظيماً وإشرافاً، على نحو يشمل الميزانيات.54 ونشأ تالياً وضع معقّد؛ فالتوسُّع في النظام أدى إلى ظهور مزيد من المؤسسات التي تسعى للحصول على جزء من الميزانية العامة المحدودة، في سياق النزعة الحكومية إلى تقليل الإنفاق العام على التعليم العالي. ويتضح هذا في إحصاءات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، بحيث إن الإنفاق على التعليم العالي في إسرائيل هو أقل من معدل الإنفاق في دول المنظمة.55 وهذا الأمر دفع مختلف المؤسسات إلى البحث عن مصادر تمويل إضافية من أجل البحث العلمي. وفي حين زادت الميزانيات العامة للتعليم العالي بالتدريج، بين الفترة 2000 – 2001 والفترة 2012 – 2013، من 5,4 مليارات شيكل إلى 8,9 مليارات شيكل، تطورت قدرة المؤسسات على تحصيل ميزانيات من مؤسسات متعددة، الأمر الذي أدى إلى أن تكون نسبة مدخولها من الدولة أقل، بحيث حدث انخفاض في حصة الدعم الحكومي للأبحاث من نسبة 66,2 في المئة في الفترة 2008 – 2009 إلى نسبة 65,5 في المئة في الفترة 2012 – 2013.56
د – التصنيف العالمي للجامعات الإسرائيلية البحثية
على الرغم من التحديات الهيكلية والأكاديمية المتعلقة بالميزانية المفروضة على نظام التعليم العالي في إسرائيل، فإن بعض الجامعات في إسرائيل، تمكَّن، على مر السنين، من الوصول إلى مكانة أكاديمية دولية مرموقة في عدة مجالات. وعلى الرغم من نسبة الأكاديميين الإسرائيليين الضئيلة، إلى مجمل عدد الأكاديميين في العالم، فإن تمثيلهم بين فائزي جائزة نوبل في العقد الماضي كان كبيراً نسبياً. ونجد أداء بارزاً للجامعات الإسرائيلية، فيما يتعلق بالمؤشرات والتصنيفات الدولية للجامعات (من حيث عدد الاقتباسات الكمية لكل منشور، وعدد المنشورات لكل جامعة). ووفقاً للبيانات المقدمة في قواعد بيانات طومسون رويترز (Thomson Reuters)، صُنِّفت إسرائيل، في عدد من المجالات، في الفترة 2003 – 2013، بين أفضل عشرين دولة، من حيث عدد المنشورات، وبين أفضل عشر دول في العالم وفقاً لمؤشر اقتباس المنشورات. ويشمل تصنيف معهد التعليم العالي في شنغهاي (The Institute of Higher Education Shanghai)، بالإضافة إلى ذلك، ثلاث جامعات إسرائيلية في قائمة أفضل مئة جامعة في العالم لسنة 2013. وشمل مركز التصنيف العالمي للجامعات، سنة 2020، جامعتين إسرائيليتين إضافيتين بين أفضل مئة جامعة في العالم، ليصبح العدد خمساً (بين سبع جامعات بحثية إسرائيلية).
سُنَّت عدة قوانين لتنظم حقل البحث العلمي وتعكس تطوره التاريخي، كما حدث في موضوع مؤسسات التعليم والتعليم العالي، لكن من الصعب تتبُّع كل زوايا هيكلية البحث العلمي والتطوير، من حيث أدوارها التنظيمية والتمويلية والإنتاجية، بسبب تشعب هذه الهيكلية بين الحكومة والجامعات والشركات. فهناك عدد من المراكز البحثية التابعة لوزارات معينة، كالدفاع والزراعة والصناعة وغيرها. وتعمل الجامعات البحثية، إلى جانب ذلك، كمراكز أساسية في إنتاج البحث العلمي، وتتلقى ثلثي ميزانياتها البحثية من الحكومة. كما أن هناك النشاط الاقتصادي طبعاً، المعتمِد، على نحو مطرد، على البحث المتقدم والابتكار في مجالات متعددة، ويعتمد أيضاً على التنسيق مع الحكومة والجامعات، على الرغم من أن الخبراء يشيرون إلى أن التنسيق ليس كاملاً بين الدور الحكومي وأدوار الفاعلين، على المستوى المدني. في العموم، توجد عدة قوانين تنظم هذه العلاقات المتشعبة، وسوف نذكرها أدناه، في سياق عرض أهم الهيئات الرسمية التي تُشرف على الحقل التعليمي.
ب – المؤسسات والهيئات المشرفة على البحث العلمي
1 – المجمع الإسرائيلي للعلوم والآداب (The Israeli Academy of Science and Humanities): أُنشئت هذه الهيئة سنة 1959، كهيئة رسمية مستقلة، وسُن لاحقاً قانون خاص لتنظيم عملها، سنة 1961. ومن مهماتها: إتاحة العضوية فيها للباحثين الإسرائيليين؛ دعم العلوم والآداب؛ تقديم النصائح إلى الحكومة؛ التواصل مع هيئات مماثلة في العالم؛ تمثيل إسرائيل في المؤتمرات العلمية، بالتنسيق مع الحكومة؛ نشر الأعمال البحثية الريادية. وللمجمع عضوية مراقب في مؤسسة العلوم الأوروبية (European Science Foundation). ويشرف على المركز الثقافي الإسرائيلي في القاهرة، ويعقد علاقات وثيقة واتفاقيات مع نحو ثلاثين مجمعاً علمياً في العالم.
2 – السلطة الإسرائيلية للابتكار (Israel Innovation Authority)/ مكتب الباحث الرئيسي (Office of the Chief Scientist): أُنشئت هذه الهيئة سنة 1969، باسم مكتب الباحث الرئيسي، ثم أُعيدت تسميتها باسم السلطة الإسرائيلية للابتكار، سنة 1984. وتدير هذه السلطة/المكتب مجمل الدعم الحكومي للأبحاث والتطوير، فيما يتعلق بالصناعات المدنية، كما تشرف أيضاً على إدارة العلاقات الدولية المتعلقة بالبحث العلمي. ومن أهدافها الرئيسية توجيه البحث العلمي الإسرائيلي نحو الابتكارات الجديدة، في مجال التقنيات المتطورة والصناعات التقليدية لدى الشركات القديمة والناشئة (startups).57
3 – مجلس التعليم العالي ولجنة التخطيط والميزانيات: أنشئ مجلس التعليم العالي بموجب قانون خاص سُن سنة 1958. وإلى جانب إشرافه على نظام التعليم العالي، كما ورد أعلاه، تشرف لجنة التخطيط والميزانيات، منذ إنشائها بقرار حكومي سنة 1977، على مجمل الميزانية الحكومية المخصَّصة للتعليم العالي، وضمنها ميزانية البحث العلمي. ومن أهداف المجلس ومسؤولياته، عدا الإشراف على القضايا الجوهرية المتعلقة بالتعليم العالي والطلبة وضمان الحرية الأكاديمية التي ينص عليها القانون (كما ورد أعلاه)، تقديم مقترحات بشأن التمويل والتنسيق بين «مصالح الدولة والمجتمع». وتتولى لجنة الميزانيات، عملياً، الدعم الحكومي، وتُشرف على التخطيط له، وتنسّق بين الحكومة ومؤسسات التعليم العالي.58
4 – صندوق العلوم الإسرائيلي (Israeli Science Foundation): تأسس صندوق العلوم الإسرائيلي سنة 1995، ومن مهماته تخطيط نشاطات البحث العلمي والتطوير، وتقديم الدعم إليها، والترويج للمُخرجات العلمية الإسرائيلية، وتقويم الأبحاث والتطوير، وتقديم الاستشارة إلى الحكومة.
5 – المجلس القومي للبحث والتطوير المدني: أُنشئت هذه الهيئة سنة 2004، وتضطلع بدور استشاري تجاه الحكومة بشأن هيكلية البحث والتطوير العلميين وحوكمتهما، على المستوى المدني، وتخصيص الميزانيات الحكومية الداعمة، وأولويات البحث والبنية التحتية للعلوم، وإنشاء معاهد أبحاث حكومية.
6 – هيئات أُخرى: إلى جانب ما تقدم، ثمة عدد من الهيئات الرسمية المتخصصة، والعاملة في الحقل التعليمي، والتي تتبع وزارات معينة، أو تعمل على نحو مستقل، ولها أدوار محددة، مثل تطوير القدرة على التنافس المستقبلي للجيل المقبل، والتعاون بين الصناعة والدراسات الأكاديمية، وتطبيق الاتفاقيات الثنائية مع دول جنوب شرق آسيا والهند، وتطوير شَراكات بين الشركات الإسرائيلية والشركات العالمية الرائدة.
ج – المؤسسة العسكرية والبحث العلمي والاقتصاد
تعود بدايات البحث العلمي لدى المؤسسة العسكرية إلى حقبة الاستيطان قبل سنة 1948. وتأسست، بناءً على هذه الخبرة، سلطة تطوير الأسلحة (رفائيل)، التابعة للجيش الإسرائيلي سنة 1958. ويشمل هذا الأمر البحث العسكري في مجال الطاقة الذرية، التي أُنشئت لها لجنة علمية، لها ميزانياتها الخاصة، كجزء من الاستراتيجيا الأمنية. لكن النشاط البحثي العسكري يُوجَّه أيضاً، بصورة حثيثة، نحو الاقتصاد. ويذكر الباحثون أن وزارة الدفاع الإسرائيلية أدت دوراً مركزياً منذ سبعينيات القرن الماضي، كأهم هيئة فاعلة في البحث العلمي والتطوير. ودخلَ، منذ ثمانينياته، في الصناعاتِ المدنية عدد من الابتكارات ذات الاستخدام المزدوج، المدني والعسكري، كالمستشعرات الإلكترونية والاختراعات الميكرو – إلكترونية والحوسبة والبرمجيات وتقنيات الاتصال والهندسة الطبية. ودخلت هذه المنتوجات الصناعة والسوق، وصبّت في تطور الاقتصاد الإسرائيلي في مجال التقنيات العالية.59
د – الجامعات وإنتاج الموارد البشرية
يحتل نظام التعليم العالي مكانة مركزية ومؤثرة في صعود الاقتصاد الإسرائيلي في السنوات الأخيرة. ويشير مقال، نُشر في سنة 2017، إلى نمو التكنولوجيا الحيوية وصناعة التكنولوجيا الطبية الحيوية، ركيزةً أساسية في صناعة التكنولوجيا العالية الإسرائيلية، مجادلاً في أن «البيئة اللازمة لتعزيز مثل هذا التقدم في هذه المجالات، تشمل التعليم الأكاديمي الممتاز والبحث.»60 وكرست المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية الرئيسية معظم مواردها وطاقتها لتدريب عدد من الباحثين والمهندسين وتثقيفهم في التفكيرين الإبداعي والرائد. وأوجدت، بالإضافة إلى ذلك، مناخاً علمياً أكاديمياً يمنح مكانة متميزة لمجالات، مثل التكنولوجيا والطب والهندسة. ودرّبت عدداً كبيراً من الباحثين والمهندسين، الذين وضعوا إسرائيل في المقدمة، قياساً بنسبة عدد الباحثين في مقابل الأفراد (135 باحثاً وفنياً وراقصاً في مقابل كل 10,000 شخص في إسرائيل، يوازيهم 80 في مقابل كل 10,000 شخص في الولايات المتحدة). وتؤكد الدراسة ذاتها أن هذا الأمر هو أحد الأسباب الرئيسية، التي جعلت إسرائيل تحتل المرتبة الخامسة في مؤشر الابتكار بين 50 دولة مدرَجة فيه. وتناولت الدراسة ستة معايير هي: البحث والتطوير؛ التصنيع؛ شركات التكنولوجيا الفائقة؛ التعليم ما بعد الثانوي؛ الباحثون؛ براءات الاختراع. وقال الباحثون إن نمو صناعة التكنولوجيا العالية الإسرائيلية، مدعومة من الميزانية الحكومية المخصصة للبحث، والعلاقات الوثيقة بين صناعة التكنولوجيا العالية والمؤسسات الأكاديمية ومؤسسات البحث العلمي، هي التي دفعت عجلة تقدم الاقتصاد الإسرائيلي إلى الريادة.
ركزت الدراسة المذكورة على قطاع ضيق ومهم، هو صناعة التكنولوجيا المتقدمة في إسرائيل، إذ إن هذه الصناعة هي واحدة من أكثر الصناعات تطوراً في العالم، بحيث جعلها تقدمها، في دولة شابة وصغيرة مثل إسرائيل، قادرة على أن تستقطب فروعاً كبرى لعدد من الشركات الرائدة في هذا المجال، مثل إنتل (Intel) وغوغل (Google) ومايكروسوفت (Microsoft). ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الأكاديمية الإسرائيلية كان، ولا يزال، لها تأثير واسع في القطاعات الأُخرى التي دفعت إسرائيل إلى خوض التنافس في السوق الدولية: في مجالات الزراعة والصناعة «الثقيلة» والهندسة المدنية وغيرها. ولم يقتصر دور الأكاديمية الإسرائيلية، بحسب ما يدّعيه الباحثون، على إنتاج الباحثين، بل شمل أيضاً تدريب جيل متعلّم وعالي الجودة، من العمال الذين يحتاج إليهم الاقتصاد التقني المتطور.
تحمل الموازنة الحكومية، كما ذكرنا، جزءاً كبيراً من ميزانية مجلس التعليم العالي. وشكّلت الميزانية الحكومية، في العقدين الماضيين، نحو ثلثي عوامل التمويل، بالإضافة إلى صناديق بحث في شراكة مع دول أُخرى. وبلغت ميزانية لجنة التخطيط والميزانيات، للعام الدراسي 2019، 11,8 مليار شيكل. وقُسِّمت الموارد على النحو الآتي: 69 في المئة، تُعتمد تمويلاً مباشراً لمصاريف مجلس التعليم العالي؛ 13,8 في المئة، أي نحو 1,6 مليار شيكل، تُمرَّر إلى الجيش الإسرائيلي. وتهدف المكونات الأُخرى للميزانية إلى تمويل معاشات التقاعد للعاملين في مجال التعليم العالي (6,5 في المئة)، ومساعدة الطلاب (2,2 في المئة)، ومنح محددة لفئات معينة (4,7 في المئة)، مثل الطلاب العرب والمتدينين الحريديم، وغيرهم. وتُوزَّع سائر الميزانيات على تطوير البنية التحتية، مثل الكومبيوترات، وغيرها.
تخصص لجنة التخطيط والميزانيات ما يقارب 1,3 مليار شيكل لصناديق البحث. والحصة الكبرى منها، أي 566 مليون شيكل، تُوزع للمجمع الإسرائيلي للعلوم والآداب. وتُخصص خمسة ملايين شيكل لصندوق بحث مشترك مع وزارة الدفاع، وتوزع 12,5 مليون شيكل لصندوق الأبحاث المشتركة مع لجنة الطاقة الذرية. وتُمنَح 40 مليون شيكل لمختلف صناديق البحث التي تُعقَد بين إسرائيل والولايات المتحدة، وبين إسرائيل وكل من ألمانيا والاتحاد الأوروبي والصين والهند. لكن الخبراء يُجمعون على أن نسبة الإنفاق الحكومي على البحث العلمي أقل مما يجب أن تكون، وثمة اعتماد كبير على مصادر دعم أجنبية للأبحاث، وخصوصاً الأوروبية. وتُسجَّل، في هذا الصدد، نسبة عالية من نجاح المؤسسات والباحثين الإسرائيليين في الحصول على تمويل أجنبي لأبحاثهم.61
1 Nurit Peled–Elhanan, Palestine in Israeli School Books: Ideology and Propaganda in Education (London: I.B. Tauris, 2012).
2 Nurit Peled–Elhanan, «Legitimation of Massacres in Israeli School History Books,» Discourse & Society, vol. 21, no. 4 (2010), pp. 377–404. https://doi.org/10.1177/0957926510366195.
3 أورن يفتاحئيل، «بين الأبارتهايد والسلام: الفقاعة الإسرائيلية والتجربة العالمية»، في «لحظة الحقيقة: انتفاضة الأقصى واليسار الإسرائيلي»، تحرير إدي أوفير (تل أبيب: كيتر، 2001) (بالعبرية).
4 Sami Smooha, «The Model of Ethnic Democracy: Israel as a Jewish and Democratic State,» Nations and Nationalism, vol. 8, no. 4 (2002), pp. 475–503.
5 راحل البويم – درور، «مراكز اتخاذ القرار في نظام التعليم العبري في فلسطين»، مجلة «كاتيدرا»، العدد 23 (1982) [بالعبرية]، ص 135.
6 للمحة عامة بشأن هذا الموضوع، انظر؛ انظر أيضاً فصل «التربية والتعليم والبحث العلمي» لخالد أبو عصبة في النسخة السابقة من هذا الدليل: «دليل إسرائيل العام، 2011». انظر أيضاً: ماجد الحاج، «التعليم لدى العرب في إسرائيل: السيطرة والتغيير الاجتماعي» (القدس: ماغنس، 1996) [بالعبرية].
7 الحاج، مصدر سبق ذكره، ص 98 – 99.
8 المصدر نفسه.
9 بشأن الموضوع، انظر: تسفي تسميريت، «لجنة فرومكين – لجنة تقصي الحقائق في موضوع تعليم أبناء المهاجرين الجدد في السنوات الأولى للدولة»، «عيونيم بتكومات يسرائيل»، العدد 1 (1991)،
ص 405 – 439 [بالعبرية].
10 تم الاستناد هنا، وفي غير مكان من هذا المقال، إلى فصل «التربية والتعليم والبحث العلمي» لخالد أبو عصبة في: «دليل إسرائيل العام، 2011» (بيروت ورام الله: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2011).
11 المصدر نفسه.
12 يُشار هنا إلى بروز إشكاليات عميقة في توفير هذه الخدمة للمجتمع الفلسطيني، تشمل النقص في الميزانيات والبنى التحتية واهتمام الأهالي، وتشمل أيضاً محتوى هذه البرامج، من حيث تجاهلها الرواية الوطنية الفلسطينية، التي من شأنها أن تعزّز دمج العملية التعليمية في الحياة الاجتماعية، وتحد من اغتراب التلاميذ. انظر: نسرين حداد حاج ـ يحيى، وإريك رودنيتسكي، «التربية اللامنهجية في المجتمع العربي: رؤيا وتطبيق، بحث أكاديمي في مجال السياسات 122» (القدس: المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، أيار/مايو 2018)، ص 87.
14 دائرة الإحصاء المركزية، «التربية والتعليم في إسرائيل: نشرة إحصائية 177»، حزيران/يونيو 2019، [بالعبرية]، ص 3.
15 المصدر نفسه، ص 11.
16 انظر التقرير التالي:
حنا أيالون، ناحوم بلاس، ياريف أينيغر، يوسي شاريت، «عدم المساواة في التعليم في إسرائيل: من البحث إلى السياسات» (القدس: مركز تاوب لدراسة السياسات الاجتماعية في إسرئيل، 2015)، ص 55 (بالعبرية). متوفر أيضاً على الإنترنت.
17 خالد أبو عصبة، «خصخصة نظام التعليم العربي وتأثيره على تحصيل التلاميذ: تقرير إجمالي» (بحث ممول من وزارة التربية، 2018).
18 Ayalon, et. al., op. cit., pp. 260–261.
19 Ibid.
20 أبو عصبة، «خصخصة نظام التعليم العربي...»، مصدر سبق ذكره، ص 29.
21 Ayalon, et. al., op. cit., p. 258.
22 Ibid., p. 12.
23 Yinon Cohen, Noah Lewin–Epstein, Amit Lazarus, «Mizrahi–Ashkenazi Educational Gaps in the Third Generation,» Research in Social Stratification and Mobility, vol. 59 (2019), pp. 25–33. https://doi.org/10.1016/j.rssm.2019.01.001.
24 Ayalon, et. al., op. cit., p. 14.
25 Uri Cohen & Nissim Leon, «The New Mizrahi Middle Class: Ethnic Mobility and Class Integration in Israel,» Journal of Israeli History, vol. 27, no. 1 (2008), pp. 58–59. DOI:10.1080/13531040801902823
26 Ibid., p. 56.
27 Ilan Pappé, «Zionism as Colonialism: A Comparative View of Diluted Colonialism in Asia and Africa,» South Atlantic Quarterly, vol. 107, no. 4 (2008), pp. 611–633. https://doi.org/10.1215/00382876–2008–009.
28 Hanna Schissler, «Limitations and Priorities for International Social Studies Textbook Research,» International Journal of Social Education, vol. 4, no. 3 (1990), pp. 81–89.
29 Jason Nicholls, ed., School History Textbooks across Cultures: International Debates and Perspectives (Oxford: Symposium Books, 2006).
30 Peled–Elhanan, Palestine in Israeli School Books: op. cit; Peled–Elhanan, «Legitimation of Massacres...,» op. cit., pp. 377–404.
31 شلومو فيشر، «التحديث ويهود الشرق: حول تمثيل تاريخ يهود شمال أفريقيا والشرق الأوسط في كتب تدريس التاريخ في إسرائيل»، في: «التاريخ والهوية والذاكرة: صور الماضي في التعليم الإسرائيلي»، تحرير أفنر بن – عاموس (تل أبيب: جامعة تل أبيب، 2002)، ص 101 – 120 [بالعبرية].
32 أريه كيزل، «التاريخ المحتكر: تحليل نقدي لمنهاج التعليم وكتب التدريس في مادة التاريخ العام، 1948 – 2006» (تل أبيب: معهد موفيت، 2008) [بالعبرية].
33 جوني منصور، «التدين في مناهج وكتب التعليم في إسرائيل» (رام الله: المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية، مسارات، 2018).
34 Mati Shmoelof, «Mizrahi Appeal Against Israel’s Nation State Law,» Mondoweiss website.
35 عيريت هرفون، خالد أبو عصبة، ومحمد أبو نصرة، «التعليم العربي في إسرائيل: المطالبة بموارد مادية أم صراع على الموارد الأيديولوجية؟» «مجلة علم الاجتماع الإسرائيلي»، العدد 2 (2013)، ص 289 – 311 [بالعبرية].
36 انظر: يوسف جبارين وأيمن أغبارية، «استقلالية التعليم العربي في إسرائيل: الحقوق والإمكانيات»، «جيلوي داعات»، العدد 5 (2014)، ص 13 – 40 [بالعبرية]؛
Ayman Agbaria, «Arab Civil Society and Education in Israel: The Arab Pedagogical Council as a Contentious Performance to Achieve National Recognition,» Race, Ethnicity and Education, vol. 18, no. 5 (2013), pp. 675–695. https://doi.org/10.1080/13613324.2012.759930;
Riad Nasser, «Ethos and Logos in Israeli Citizenship: Discourse Analysis of Civic Studies Textbooks,» British Journal of Middle Eastern Studies, vol. 40, no. 3 (2013), pp. 251–272. https://doi.org/10.1080/13530194.2013.791134;
Amal Jamal, «Strategies of Minority Struggle for Equality in Ethnic States: Arab Politics in Israel,» Citizenship Studies, vol. 11, no. 3, (2007), pp. 263–282. https://doi.org/10.1080/17450100701381821.
37 Ismael Abu–Saad, «Bedouin Arabs in Israel: Education, Political Control, and Social Change,» in The Education of Nomadic People: Current Issues, Future Prospects, edited by Carolyn Dyer (Oxford: Berghahin, 2006), p. 154.
38 Neve Gordon and Michael Rotem, «Bedouin Sumud and the Struggle for Education,» Journal for Palestine Studies, vol. XLVI, no. 4 (2017), pp. 7–27.
39 Samira Alayan, Education in East Jerusalem: Occupation, Political Power and Struggle (London: Routledge, 2019); Rawan Asali Nuseibeh, Political Conflict and Exclusion in Jerusalem: The Provision of Education and Social Services (New York: Routledge, 2016).
40 دائرة الإحصاء المركزية، مصدر سبق ذكره.
41 يُنظر في هذا الصدد في دراسات كلاسيكية في الحقل للباحث ماجد الحاج:
Majid Al–Haj, Education, Empowerment, and Control: The Case of the Arabs in Israel (Albany, New York: State University of New York Press, 1995); Majid Al–Haj, The Arab Teacher in Israel: Status, Questions, Expectations (Haifa: Educational Research Center, University of Haifa, 1995).
42 لدراسة تفصيلية في الموضوع، انظر:
Khalid Arar and Kussai Haj–Yehia, Higher Education and the Palestinian Arab Minority in Israel (New York: Palgrave Macmillan US, 2016).
43 تم تجميع هذا الجدول من النشرة التالية: دائرة الإحصاء المركزية، مصدر سبق ذكره، ص 14.
44 المصدر نفسه.
45 Ayalon, et. al., op. cit., p. 263.
46 خالد أبو عصبة، «الأكاديميات العربيات غير العاملات في إسرائيل: صورة الوضع مع مقترح لنموذج للتدخل» (مسار – معهد أبحاث وتخطيط واستشارة اجتماعية، تشرين الثاني/نوفمبر 2018) [بالعبرية].
47 Ismail Abu–Saad, «Access to Higher Education and its Socio–Economic Impact Among Bedouin Arabs in Southern Israel,» International Journal of Educational Research, vol. 76 (2016), p. 101. https://doi.org/10.1016/j.ijer.2015.06.001
48 UNESCO, Mapping Research and Innovation in the State of Israel: Country Profiles in Science, Technology and Innovation Policy, vol. 5 (Paris: The United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization – UNESCO, 2016), pp. 52–55.
49 لمزيد بشأن هذه التحولات، انظر: أوري كيرش، «نظام التعليم العالي في إسرائيل: قضايا، مميزات وجوانب خاصة» (حيفا: التخنيون، 2014) [بالعبرية].
50 UNESCO, Mapping, 177.
52 https://che.org.il/%d7%aa%d7%a4%d7%a7%d7%99%d7%93%d7%99%d7%9d–%d7%95%d7%a1%d7%9e%d7%9b%d7%95%d7%99%d7%95%d7%aa/
53 نوعا داغن – بوزاغلو، «الحق في التعليم العالي في إسرائيل: نظرة قانونية ومالية» (تل أبيب: مركز أدفا، 2007)، ص 18 [بالعبرية].
54 غيلا مناحم وفردريك كدوش، «تحولات بنيوية في نظام التعليم العالي في إسرائيل في سنوات التسعينيات: العلاقات التبادلية بين القطاع الخاص والقطاع العام»، مجلة «علم الاجتماع الإسرائيلي»، العدد 2ب (2000)، ص 499 – 522 [بالعبرية].
55 دائرة الإحصاء المركزية، مصدر سبق ذكره، ص 3.
56 كيرش، مصدر سبق ذكره.
57 UNESCO, Mapping, op. cit., p. 18.
58 Ibid., p. 177.
59 لمزيد من المعلومات انظر: «دليل إسرائيل العام 2020»، فصل «الاقتصاد» لفضل النقيب. انظر أيضاً:
UNESCO, op. cit., p. 134.
60 Rafael Beyar, Benny Zeevi, and Gideon Rechavi, «Israel: a start–up life Science Nation,» Lancet (London, England), vol. 389, issue 10088 (June 2017), p. 2563. doi:10.1016/S0140–6736(17)30704–3
61 UNESCO, op. cit., p. 59.