أولاً: الصهيونية: خلفية أيديولوجية
بداية، من الضروري إجراء عرض سريع للبيئة التي نشأ فيها الفكر الصهيوني.1 لقد نشأت الصهيونية وبدأت تتبلور أفكارها الرئيسية في أواسط القرن التاسع عشر في وسط أوروبا، ولاحقاً في شرقها. وامتازت هذه الفترة بحدوث عدة أمور في الوقت نفسه: أولاً: انتشار الأفكار التحررية وقيم المساواة والحرية، مثلما عبّرت عنها الثورة الفرنسية من ناحية، لكن من ناحية أُخرى التيقن من صعوبة تحقيق هذه الأفكار على أرض الواقع الأوروبي، إزاء نمو الفكر القومي؛ ثانياً، ازدهار وتطور المشاريع الكولونيالية التي من خلالها سيطرت أوروبا على معظم أجزاء الكرة الأرضية. ومثلما سنرى لاحقاً، فإن هذه التيارات الثلاثة (الليبرالية، القومية، الكولونيالية) سيكون لها بصمتها على المشروع الصهيوني برمّته.
من الناحية الأولى شهد القرن التاسع عشر انتعاشاً واستقراراً نسبياً (استمرا من سنة 1814 حتى سنة 1914)، وراجت فيه الأفكار الليبرالية والعلمانية، وشهد، مقارنة بالعالم الإقطاعي، عملية انحسار الدين من الحيز العام إلى الحيز الخاص وبناء مفهوم جديد للأمة والدولة. ففي العالم الإقطاعي، كان هناك دين للدولة، والمشاركة السياسية كانت محصورة في فئات اجتماعية / اقتصادية معينة، وبالتالي كان عالم السياسة مقفلاً أمام معظم فئات الشعب، وكانت المكانة الاجتماعية / الاقتصادية تجر وراءها مكانة سياسية. وكذلك الأمر مع الدين، إذ كان لكل فئة دينية قانون يحكمها، وبالتالي لم يكن الدين قضية فردية، وإنما قضية الحيز العام. أمّا الثورة الفرنسية، فكان من نتائجها أنها أرست، على الأقل نظرياً، نظاماً سياسياً جديداً ونظاماً اقتصادياً جديداً، وأجرت عملية «خصخصة» للدين وللملكية.2 فأصبح الانتماء الديني مسألة خاصة، وكذلك الملكية، وبالتالي فإن الولوج الفردي والجمعي إلى عالم السياسة أصبح مفتوحاً أمام الجميع، ولم تعد الملكية حاجزاً أمام المشاركة السياسية، ولم يعد الدين كذلك. وضمن هذا المفهوم الجديد لم يعد الوجود اليهودي على ضفاف المجتمع المسيحي الأوروبي وهوامشه أمراً مفروغاً منه، وأصبح هناك ضرورة لأن يعرّف اليهود عن أنفسهم من جديد. فالانفتاح على اليهود الذي انطوى عليه النظام الجديد، حتى لو كان نظرياً، وضعهم في مشكلة حقيقية، إذ إنه حتى ذلك الوقت لم يكن هناك حاجة إلى أن يعرّف اليهود عن أنفسهم، أمّا وقد اكتشف اليهودي أن في استطاعته أن يخرج من جماعته الأصلية (اليهود) إلى المجتمع الجديد وأن ينخرط فيه،3 فقد طفت إلى السطح مسألة الهوية اليهودية ومعناها في المجتمع الأوروبي.
إلاّ إن العالم الأوروبي الجديد لم يكن يقوم على الفكر الليبرالي وقيم الحرية فقط، بل كان أيضاً عالماً قومياً بامتياز من بسمارك في ألمانيا إلى غاريبالدي في إيطاليا، وبالتالي فإن المجتمع الأوروبي لم يكن يعيد إنتاج مفاهيمه ومجتمعه الجديد من خلال الأفكار الليبرالية فحسب، بل من خلال المفاهيم القومية أيضاً. وفي هذا المجال تأثرت الصهيونية بالفكر القومي الشرق الأوروبي الذي نما وتطور شرقي نهر الراين والذي كان مختلفاً عن الفكر القومي الذي نشأ غربي الراين. ففي غرب أوروبا، وفي فرنسا بالتحديد، جرى بناء فكرة الأمة على الجغرافيا السياسية، وسبقت فيها الدولة وجود الأمة، أي أن الدولة كانت قائمة، وحدودها معرّفة، وفي واقع الأمر هي التي قامت بتعريف الأمة وبتحديدها تحديداً جغرافياً. وكان المشروع الفرنسي – الغربي للأمة مشروعاً تراكمياً اندماجياً يشارك فيه كثير من الفئات الإثنية التي جاءت من أصول متعددة، وهو لا يشترط لبناء الأمة أي انتماء عرقي مسبق، بل إن الاندماج في الأمة هو طوعي وفردي. أمّا في النموذج الشرق الأوروبي (ألمانيا؛ إيطاليا؛ روسيا؛ البلقان)، فإن المشروع القومي هو في الأساس مشروع مبني على أساس عرقي – لغوي – وشائجي تسبق فيه القومية وجود الدولة، فهي التي تقيم الدولة، وهي قائمة – أو هكذا يخيل إليها – قبل الدولة وبعدها. وما الدولة، ضمن هذا المنظور، سوى أداة للمشروع القومي.4 فهي دائماً في خدمة القومية، وخاضعة لتحقيق أهدافها.
جاءت الصهيونية لتجيب عن المسألة اليهودية – مسألة معاناة اليهود وملاحقتهم وصعود اللاسامية – بالأدوات المفاهيمية ذاتها التي كانت سائدة في أوروبا، وخصوصاً في شرقها، وتبنّت عالم المفاهيم القومي (والليبرالي؟) نفسه (وأحياناً تبنّت المقولات اللاسامية ذاتها في خطابها)، القائم أساساً على توحيد اللغة والأرض. فالدولة القومية دولة تقوم على أرض محددة وحدودها واضحة. وإذا أرادت الصهيونية أن تعرّف عن نفسها بصفتها صاحبة مشروع قومي، كان عليها أن تعيد تعريف اليهود واليهودية بالمفاهيم الأوروبية القومية العلمانية السائدة، أي أن تموضع نفسها جغرافياً.
ب) الصهيونية واليهودية - مشروع انقلابي5
من المهم جداً فهم علاقة الصهيونية بالدين اليهودي، أو باليهودية بصورة عامة. هل هي علاقة قطع أم وصل؟ هل الصهيونية نوع من أنواع الثورة، أو الانقلاب داخل اليهودية، أم هي في حالة تواصل واستمرارية مع اليهودية؟ في الواقع، إن أفضل السبل لفهم الصهيونية تفرض علينا ألاّ نغفل أي واحد من هذين البعدين، وأن نراهما ونفهمهما ضمن علاقة تتراوح بين الكراهية والحب، بين القطيعة والاستمرار، بين الإقصاء والتكامل.
قبل عقد المؤتمر الصهيوني الأول في سنة 1897 في بازل بنحو شهرين، أصدرت اللجنة التنفيذية لمجلس الحاخامين الألمان بياناً رسمياً دانت فيه المحاولة الصهيونية لإقامة دولة قومية في فلسطين.6 وبصورة عامة، عارضت الجالية الألمانية اليهودية خلال هذه الفترة المشروع الصهيوني لأسباب عديدة ومتنوعة، وشملت المعارضة الأوساط اليهودية الأرثوذكسية وغير الأرثوذكسية (الليبرالية).
بين أسباب المعارضة في أوساط اليهود غير الأرثوذكس، كانت حقيقة أن الصهيونية كحركة تمسّ موقعهم الاجتماعي / السياسي في ألمانيا وتزيد في مظاهر اللاسامية. كما أنها مثلت في نظرهم تصوراً وفهماً جديدين منافيين لليهودية، مثلما فهموها هم في ذلك الوقت. وبموجب الصهيونية يستطيع المرء أن يكون ملحداً، وأن يكون يهودياً جيداً في الوقت نفسه. وشكل هذا الفهم الجديد لليهودية، باعتبارها قومية وليست ديناً، تهديداً مباشراً للجماعات اليهودية التي اعتقدت أن اليهودية فقط كدين من الممكن أن تكون ظاهرة أصيلة وسرمدية وهي وحدها المؤهلة للحفاظ على الوجود اليهودي عبر التاريخ على الرغم من تبدل الأزمان والأماكن. ونتيجة هذا الرفض، بل العداء للصهيونية، أقامت المجموعات اليهودية في ألمانيا لجاناً لمحاربتها ووصل الأمر بها إلى حد أنها أقالت أحد الربانيم في سنة 1907 لتعبيره عن موقف داعم للمشروع الصهيوني.7
أمّا بالنسبة إلى المجموعات الأرثوذكسية في ألمانيا، فقد كان الصراع على أشده، وكان النقاش بشأن ماهية الصهيونية نقاشاً عن ماهية اليهودية وجوهرها (وهو موضوع سنأتي إلى ذكره لاحقاً). فقد حاولت الصهيونية أن تستأثر بعالم الرموز اليهودية ذاته، وأن توظف المصطلحات الدينية الأصل لتحقيق أهدافها: «أورشليم»، «صهيون»، «أرض إسرائيل»، «الخلاص»، «لـمّ الشتات»، «خلاص الأرض»، إلخ. وبالتالي رأت المجموعات الأرثوذكسية أن الحرب مع الصهيونية هي حرب دفاع عن النفس، بمعنى حرب للدفاع عن أملاكها الرمزية والمعنوية، هذه الحرب التي أفضت، في نهاية المطاف، إلى إقامة حركة أغودات يسرائيل في العقد الأول من القرن العشرين، كردة فعل على الحركة الصهيونية. ومن الأمور التي تسترعي الانتباه تصريح أحد قادة الحركة بأن «الصهيونية هي حركة قومية صرفة، قائمة على العرق، وليس بينها وبين الدين أي رابط.»8 وفي نظر اليهودية الأرثوذكسية إذاً، في تلك الفترة، كانت الصهيونية حركة علمانية قومية بالخالص.
لقد آمنت الحركات اليهودية الدينية بفكرة الخلاص، غير أنها اعتبرتها مهمة سماوية تتم عندما يظهر المسيح المنتظر. ويكمن دور اليهودي المتدين في الابتهال والصلاة وليس أكثر من ذلك. والخلاص بحاجة إلى عناية إلهية، كما أن الخروج من مصر حدث بمشيئة و«مساعدة» إلهية، وبالتالي فإن دور اليهودي المتدين في مشروع الخلاص هو دور سلبي يكتفي بالصلاة والانتظار. والصهيونية بتركيزها على العنصر الذاتي والعمل المبرمج لتقريب الخلاص من خلال جهد دنيوي أرضي، هي أشبه بالكفر وضرب من التدخل في الشؤون الإلهية، ولذلك يجب معارضتها.9
من حيث معارضة الصهيونية، حدث أمر مشابه في شرق أوروبا، إلاّ إنه كان أقل حدة، نظراً إلى أن عملية انفصال الدين عن الدولة فيه لم تكتمل بالقدر الجاري في غرب أوروبا، حيث كانت عملية العلمنة قد بلغت قدراً تطلّب رداً متطرفاً من القوى اليهودية الدينية المهدَّدة. أمّا في شرق أوروبا، فقد كان هناك نوع ما من التعايش ما بين الديني والقومي منذ البداية في توجهات حركة حوففي تسيون (أحباء صهيون)،10 وإن لم يمنع ذلك من قيام حركات يهودية أرثوذكسية تعارض بوضوح هذه الحركة. وقد اتخذت هذه المعارضة أشكالاً متعددة، كان بعضها أكثر راديكالية، وبالتالي انطوائياً وانعزالياً، في مقابل مجموعات حاولت أن تحافظ داخل المشروع الصهيوني، ومن خلال حوار مستمر معه، على نمط حياة ديني محافظ، فنظمت نفسها فيما يُعرف بحركة همزراحي التي ستصبح لاحقاً حركة ذات أهمية قصوى في المجتمع الإسرائيلي، محاولة أن تجمع بين الدين والسياسة، وبين الخلاص الديني والخلاص الدنيوي.
يشدد كثيرون ممن يعرّفون عن أنفسهم كعلمانيين وصهيونيين في آن واحد على الطبيعة الثورية للحركة الصهيونية، وعلى كونها انقلاباً على اليهودية والدين. فالصهيونية من هذا المنظور هي مشروع لإعادة اليهود إلى مسرح التاريخ. وبما أن اللاعبين على هذا المسرح، مثلما تم فهمه في القرن التاسع عشر، هم الذوات القومية، فهذا يتطلب صوغ مشروع يهودي قومي جغرافي يعيد إلى اليهود دورهم كلاعب وكذات تاريخية فاعلة تأخذ مصيرها بيديها وتُخرِج اليهود من الحالة السلبية التي عاشوها في أوروبا إلى حالة عمل سياسي وفعلي. فالخلاص لا يأتي من الابتهال لله، وإنما من العمل السياسي الجماعي القومي. أمّا فكرتا «خلاص الأرض» و«جمع الشتات» فلا تتمان عبر الصلوات، وإنما عبر المبادرة والعمل. والعودة إلى صهيون لن تنتظر المسيح المنتظر، بل يجب القيام بها هنا والآن وبجهد جماعي وبمساعدة القوى العظمى. وبالتالي ليس من المفاجئ أن ترى إصرار كثير من العلمانيين الصهيونيين على أن «الصهيونية ليست استمراراً في الرغبة الدينية اليهودية الخلاصية، بل هي أيديولوجيا حداثية وثورية ترمز إلى إحداث قطع واضح عن الإيمان الديني الخلاصي السلبي.»11 وفي هذا الصدد، يورد أفينيري فكرة «دين العمل» لأهرون دافيد غوردون – أحد آباء الحركة العمالية في الصهيونية – كمثال لرغبة الصهيونية في اقتلاع الدين التقليدي واستبداله بدين حديث أرضي وعلماني.12
تستمد هذه الرؤية العلمانية للصهيونية قوتها من حقيقة أن كثيرين من المنظرين الأساسيين في الصهيونية، أمثال هيرتسل وليو بنسكر، لم يصروا على إقامة الوطن اليهودي في فلسطين بالذات، على أساس أن المشروع لا يمتّ إلى الدين بصلة. وعندما سئل هيرتسل مرة عن عودة «الماشياح» (المسيح)، قال إن هذه الفكرة سائدة ضمن الأوساط الدينية، أمّا في «دوائرنا الأكاديمية المستنيرة فليس لمثل هذه الفكرة من وجود بطبيعة الحال.»13 فضلاً عن ذلك، فإن جميع المصطلحات الدينية أُخرج من سياقه وأعيد صوغه وتفسيره بشكل علماني – قومي.14 لا بل أظهر هيرتسل أكثر من مرة عداءه المباشر للدين ولرجال الدين، محذراً في كتابه «دولة اليهود» من «ميولهم التيوقراطية»، ومؤكداً حرصه على «إبقائهم ضمن حدود معابدهم.»15 إن الرؤية العلمانية للصهيونية تتحدث عن قومية يهودية يستطيع المرء فيها أن يكون ملحداً تماماً وأن يدير ظهره إلى الدين، وأن يبقى في الوقت نفسه يهودياً من الناحية القومية.16
غير أنه ومثلما يشير كثيرون، وخصوصاً من منتقدي الصهيونية، فإن الصهيونية لم تستطع في جوانب عديدة أن تعرّف عن نفسها، وأن تبني مشروعها خارج المنظومة اللغوية الرمزية الدينية، وبالتالي لم تستطع قط قطع «حبل السرة» بينها كحركة علمانية قومية وبين التراث الديني اليهودي.17 ويشير هذا الأمر إلى تواصل بين الديني والقومي لا إلى الانقطاع بينهما، فهيرتسل أدرك، في نهاية المطاف، أنه لن يكون في قدرته تجنيد أوساط واسعة لمشروعه من دون أن يوظف رطانة تاريخية دينية، وبالتالي فإنه ينهي كتابه «البلاد القديمة الجديدة» بالقول إن مَن سيقيم الدولة في نهاية المطاف لن تكون التكنولوجيا ولا الثقة بالنفس ولا الأمم المتحدة، وإنما «الله»!18 وخلال النقاشات في المؤتمر الصهيوني السادس، كان من أهم الادعاءات لتبرير خيار الوطن القومي في فلسطين أن «لا صهيونية من دون صهيون.»19 وكان ماكس نورداو، أحد مؤسسي المنظمة الصهيونية العالمية، قد اعتبر أن من دوافع ومبررات اختيار فلسطين موقعاً للاستيطان هو كون الاسم (صهيون) بحد ذاته يُعتبر أسطورة ذات سطوة وقوة كبيرين «وصرخة عظيمة تجمع اليهود.»20 أمّا نحمان سيركين، الاشتراكي الصهيوني العلماني، فقد قال إن المبادئ التي تقوم عليها الدولة اليهودية الجديدة يجب أن تكون مبادئ العدل والتكافل الاجتماعي بحيث إن «الأمل بقدوم المسيح من الممكن أن يتحول إلى حقيقة سياسية.»21 ولم يتخلف دافيد بن – غوريون نفسه عن توظيف الدين اليهودي وأساطيره كأداة في خدمة المشروع الصهيوني، وكمبرر أيديولوجي وأخلاقي لمشروع الدولة الصهيوني.22
من غير الغريب في هذه الحال أن يرى البعض أن الصهيونية ما هي في الأساس إلاّ محاولة جديدة لتفسير الأسطورة الدينية اليهودية وهي ليست عملية استبدال جذرية للأسطورة، فجلّ ما فعلته الصهيونية أنها أسبغت على الأسطورة الدينية مفاهيم قومية أوروبية.23 وعلى الرغم من حدة القطع والصراع بين اليهودية كدين وبين المشروع القومي الصهيوني، فإنه لم يتم الفصل بين الأمة والدين، أو بين الدين والدولة.24
قد يكون من الصحيح أن نذكر في هذا السياق أن الصهيونية لم تكن الحركة القومية الوحيدة التي تضيف بعداً مقدساً ودينياً إلى مشروعها السياسي، وإنما هذه هي الحال في كثير من الحركات القومية في شرق أوروبا، مثل القوميات السلافية والجرمانية واليونانية، وحتى القومية الإيرلندية.25
وقد يركز البعض على هذه الحقيقة كي يدّعي أن الصهيونية لا تختلف عن غيرها من الحركات القومية الحديثة، وبالتالي أنها حركة قومية عادية وطبيعية.26 إلاّ إنه يجب الانتباه إلى أنه في الحركات المذكورة جرى إصباغ صبغة دينية مطلقة على الرموز القومية من أجل شحن الجمهور وتعبئته وراءها. لكن في الحالة الصهيونية، لم يكن الدين على هامش المشروع القومي، وإنما الصهيونية «استقت رموزها القومية وأفكارها ذاتها من التراث الديني، ثم أفرغت هذه الرموز والأفكار من محتواها الروحي والأخلاقي ونقلتها من مجالها الديني، حيث تجد شرعيتها الوحيدة، إلى المجال السياسي»، وبذلك تمتاز الصهيونية لا بكونها تبنّت مصطلحات دينية مثل شعب الله المختار أو أرض الميعاد وحوّلتها إلى أفكار قومية فحسب، بل بكونها قامت «بتبنّي سمة بنيوية أساسية في التيار الحلولي اليهودي، وهو الاتجاه نحو المزج العضوي بين المقدس والقومي والمطلق والنسبي.»27
بهذا المعنى فإن الصهيونية ليست مجرد حركة قومية وظفت الدين كطريقة للحشد وتأجيج المشاعر، بل هناك ارتباط أكثر عضوية بين الدين والقومية. أولاً لأن الحديث يدور عن قومية موجهة إلى دين، ودين موجه إلى جماعة قومية ليكون هناك تطابق شبه كامل بين الجماعة الدينية والجماعة القومية. إذ إن جمهور الهدف لرجل الدين هو جمهور الهدف نفسه للقائد القومي تماماً. وذلك بفارق عن الإيرلنديين وعلاقتهم بالكاثوليكية، وعلاقة العرب بالإسلام. هناك كاثوليكية من دون الشعب الإيرلندي، وهناك إسلام غير العرب، وهناك عرب غير مسلمين – هذا كله يجعل العلاقة وثيقة جداً في الحالة الصهيونية بحيث يصبح ممكن الحديث عن قومية دينية.28 ونستخلص ممّا سبق أن هناك علاقة معقدة بين اليهودية والصهيونية. فمن ناحية يمكن رؤية العلاقة أنها علاقة قطع وبتر مع الدين اليهودي وبالتالي تبدو الصهيونية أول وهلة حركة علمانية تماماً. ومن ناحية أُخرى يمكن وصف العلاقة بأنها علاقة استمرار (وإن يكن هناك تحول) بحيث يكون من المتعذر فصل السياسي عن الديني، والصهيونية عن اليهودية، والنسبي عن المطلق، والأرضي عن السماوي. فقد خلقت الصهيونية في حالة صراع معين مع اليهودية وتوتر معها على أنها توجه جديد إلى التعامل مع العصر الحديث الذي يجمع التراث الليبرالي والقومي معاً، لكن على الرغم من هذا الصراع، فإنه بقي هناك جذع مشترك. وسنرى في القسم الثاني كيف تطورت هذه العلاقة خلال القرن العشرين. على أي حال، كان هذا المدخل ضرورياً لفهم حقيقتين أساسيتين في تركيب الدولة الإسرائيلية: علمانيتها، وإن كانت محدودة من جهة، وصبغتها الدينية اليهودية، وإن كانت محدودة أيضاً من جهة أُخرى. ولربما تقع إسرائيل في مكان ما بين الولايات المتحدة وإيران، فهي ليست في مكان شبيه بمكان الأولى بكل تأكيد، لكنها حتماً ليست في مكان الثانية أيضاً.
ج) الصهيونية والعلاقة الملتبسة بأوروبا
من أجل فهم طبيعة الصهيونية، لا يكفي مراجعة العلاقة بين الصهيونية كحركة قومية وبين اليهودية كدين، فمن الضروري النظر أيضاً إلى علاقتها بأوروبا. وسنلاحظ أن الالتباس نفسه يعتري هذه العلاقة، إذ ستتضح هنا أيضاً أن علاقات القطع والخروج والاستقلال القومي سرعان ما تتبدل بعلاقات التواصل والتواطؤ والكولونيالية.
تعرض الصهيونية ذاتها عبر دعاتها على أنها حركة تحرر قومي نشأت في أوضاع تزايد العداء لليهود داخل أوروبا. فبحجة استحالة التعايش مع الأغيار في أوروبا وعدم جدوى وعدم إمكان الاندماج في المجتمعات الأوروبية، توجب إيجاد حل جذري للمسألة اليهودية يقوم على إيجاد وطن قومي لليهود خارج أوروبا. والطريقة الوحيدة لتحرير اليهود تكمن في أن يتحولوا إلى شعب كسائر الشعوب، وأن يقيموا دولتهم الخاصة بهم كي يقرروا مصيرهم ويحكموا أنفسهم بأنفسهم. وفقط بهذه الطريقة يستطيع اليهود أن يعودوا كجماعة قومية، وكذات فاعلة في التاريخ.
إلاّ إن «التاريخ» الذي تود الحركة الصهيونية أن تعيد اليهود إليه هو مفهوم التاريخ مثلما جرت علمنته في أوروبا. لقد حل المفهوم العلماني للتاريخ، والذي تشكّل فيه القوميات الذات الفاعلة والناشطة، محل المفهوم السابق للتاريخ والمسمى بالتاريخ المقدس، وهو الفهم المسيحي الذي أبقى اليهود خارجه. إن المفهوم الأوروبي الجديد للتاريخ يقوم على ترسيخ فكرة العقلانية والتنوير والتقدم الحضاري والاجتماعي التي تشكل الدولة القومية لاعباً أساسياً فيه محل فكرة الخلاص الإلهي. وعندما تدّعي الصهيونية أنها تنوي إعادة اليهود إلى التاريخ، فإنها في الواقع تنوي إعادتهم إليه بالطريقة التي تفهمها أوروبا، أي أنها تريد أن «تنجح»، بحسب المفاهيم الأوروبية، في مشروع الدولة القومية مثلما جرت بلورتها في القرن التاسع عشر، بكل ما يعني الأمر من مفاهيم أُخرى تتعلق بالتقدم والحضارة والعقلانية والتنوير، إلخ.29
وبناء عليه، تبدو الحركة الصهيونية أول وهلة كأنها في حالة صدامية مع أوروبا القرن التاسع عشر وأفكارها، إلاّ إنه سرعان ما يتضح لنا أنها أرادت الخروج من أوروبا كي تنضم إليها، أي أنها محاولة للخروج جغرافياً وجسدياً من أوروبا من أجل الانضمام إليها نظرياً وأخلاقياً. وتحاول الصهيونية أو تدّعي «التحرر» من الغرب، لكنها تعيد إنتاج أدواته ومفاهيمه النظرية، وبالتالي فهي لا ترفض أوروبا القرن التاسع عشر وأفكارها، بل ترفضها بقدر ما رفضت هي اليهود. فالصهيونية لا تعارض من حيث المبدأ الفكر القومي الذي بلغ حدوداً عنصرية (الأمر الذي عانى جرّاءه اليهود أنفسهم) ولا تعارض من حيث المبدأ المشروع والفكر الكولونيالي، لا بل إنها تتبنّى هذا الفكر وتؤسس له.
لا يحتاج المرء إلى كثير من العناء كي يلاحظ النغمة الاستعلائية الكولونيالية التي يتسم بها كثير من كتابات الصهيونيين الأوائل. فكتاب هيرتسل «البلاد القديمة الجديدة» مملوء بالتعابير التي تشير إلى بدائية السكان الأصليين وهمجيتهم في مقابل تفوق الأوروبيين وحضارتهم.30 أمّا في كتابه «دولة اليهود» فإنه يتبنّى بوضوح نبرة وخطاب أوروبا القرن التاسع عشر الكولونيالية، والتي تقسم العالم إلى أمم متحضرة وإلى أمم بربرية، ويضع المشروع الصهيوني بوضوح كجزء من المشروع الأوروبي الحضاري الكولونيالي ويكتب: «بالنسبة إلى أوروبا، سنمثل جزءاً من السد أمام آسيا، سنخدم في الخط الأمامي لندافع عن الحضارة ضد البربرية. وسنبقى كدولة مستقلة متحالفين مع أوروبا التي ستضمن في المقابل وجودنا.»31 تحمل هذه الجملة كثيراً من الدلالات التي تفضح علاقات الكراهية – الحب – العداء – الحميمية التي اتسمت بها الحركة الصهيونية، وتفسح المجال لقراءة جديدة للحركة الصهيونية تقوم على تقصي جذور الصهيونية في أوروبا نفسها، وتلفت الانتباه إلى وجود وقيام صهيونية غير يهودية متأصلة في التراث الأوروبي، وهي سابقة للصهيونية اليهودية من ناحية نشوئها.
فإذا وضعنا جانباً الصهيونية المسيحية القائمة على أفكار دينية خلاصية، نلاحظ أن ثمة صهيونية أوروبية أخذت معالمها تتضح بعد نشوء المسألة الشرقية وصعود نجم محمد علي بصفته تهديداً لقدرة أوروبا الاستعمارية على التوغل في الإمبراطورية العثمانية.32 فقد نشأت الحاجة لدى الدول الاستعمارية الأوروبية، وخصوصاً بريطانيا، إلى إيجاد موطئ قدم ثابت في فلسطين باعتبارها رأس حربة في المنطقة. والتقت هذه الحاجة الاستعمارية مع إمكان توظيف أسطورة إحياء دولة يهودية في فلسطين. وبهذا المعنى يكتب إميل توما أن «الكولونيالية البريطانية تصبح صهيونية قبل نشوء الحركة الصهيونية.»33 وهناك كثير من الأدبيات التي تقرأ نشوء الحركة الصهيونية في الأساس كاستمرار للمشروع الاستعماري ومن وجهة نظر المصالح الاقتصادية التي يخدمها المشروع، وتظهر فيه الصهيونية أيضاً أداة في أيدي القوى الاستعمارية الكبرى. ومن ناحية ثانية تبدو الصهيونية كمشروع استثماري للبورجوازية اليهودية الأوروبية نفسها.34
د) الصهيونية من منظور الاستيطان الاستعماري
برز في الأعوام الأخيرة مجدداً، اهتمام كبير بدراسة إسرائيل من منظور الاستعمار الاستيطاني (settler colonialism)، وقد حظي هذا المنظور بحياة جديدة في العقدين الأخيرين على المستوى العالمي، إذ تبناه كثير من المجموعات الأصلانية في العالم، وخصوصاً بعد الإعلان العالمي لحقوق الشعوب الأصلانية في سنة 2007.35 وعلى المستوى النظري فقد كان من دون شك لمجموعة من الكتّاب العالميين دور مهم في إحياء هذا التوجه العلمي.36 ويقوم هذا المنهج على الفصل المنهجي بين الكولونياليزم الكلاسيكي – إذا جاز التعبير – والذي يهدف إلى الحصول على الموارد واستغلال المواد الخام، لكنه لا ينوي الاستيطان والبقاء في الأرض، في مقابل الاستعمار الاستيطاني، والذي بموجب منطقه فإن المستعمر جاء ليبقى ويبني مشروعه في البلد الجديد، وعليه فإن هذا النوع من الاستيطان جاء ليتعمق، وليسيطر على البلد سيطرة كاملة، ويبدل معالمه وأسماءه وأرضه وسماءه. وضمن هذا المنطق، فإن السكان الأصليين يقفون حجر عثرة أمام مشروعه، وعليه فإنه يتبنّى سياسة تقوم على محو السكان الأصليين وإلغاء وجودهم، وإن كان ذلك بدرجات متنوعة، وبأساليب متعددة. إلاّ إنه وإن تعددت الأساليب وحدتها، يبقى الهدف الأساسي هو التخلص من السكان الأصليين، واتّباع سياسات تلغي وجودهم المادي والمعنوي. وقد قدم هؤلاء أبحاثاً حاولوا من خلالها فهم طبيعة المشروع الصهيوني من هذه الزاوية.37 وعندما أشرت بداية إلى «عودة» منظور الاستيطان الاستعماري، فقد كنت أشير بذلك إلى أن هذا المنظور ليس بجديد تماماً، وأن فايز الصايغ كان قد أشار منذ سنة 1965، في مقالته الشهيرة إلى الاستيطان الاستعماري في فلسطين.38
كما أن جزءاً من جمهور الناشطين والمثقفين السياسيين الناشطين في منظمة التحرير في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، تبنّى هذه المنظومة، غير أن هذا لا يعني أن العودة مؤخراً إلى أداة التحليل هذه هي مجرد عودة لا تحمل معها جديداً.
وبين الكتّاب اليهود الإسرائيليين الذين ساروا في هذا النهج يمكن الإشارة إلى كتّاب مثل: أورن يفتاحئيل،39 ونيف غوردون،40 وران غرينشتاين (المقيم بجنوب أفريقيا)،41 ومرسيلو سفيرسكي ورونين بن أريه42 اللذين يركزان في كتابهما على معنى المقاومة للاستيطان الاستعماري، وعلى أنه لا يمكن فهم المنظومة الاستيطانية الاستعمارية كبنية، من دون فهم طبيعة علاقتها مع السكان الأصليين وطبيعة وشكل المقاومة لهذا المشروع الاستيطاني.
أمّا فلسطينياً فيمكننا الإشارة إلى عدد متزايد من الكتّاب الذين يوظفون هذا المنظار التحليلي لفهم إسرائيل على أنها ليست مجرد دولة، وإنما مشروع مستمر أساساً، وعليه فإن هذا التوجه يفهم التسلسل التاريخي منذ بداية القرن الماضي حتى الآن كمشروع استيطاني مستمر، وإن كان في حلقات متعددة. وضمن فهم كهذا يصبح من الممكن إخضاع دراسة وضع الفلسطينيين في إسرائيل والفلسطينيين في الضفة والقطاع للأدوات التحليلية نفسها التي ترى أن جوهر المشروع واحد، ويستهدف الشعب الفلسطيني برمّته. وبين هذه الدراسات يمكن الإشارة إلى مساهمات نديم روحانا في هذا السياق، والتي تناولت فلسطين كوحدة واحدة، وحللت المواطنة الإسرائيلية من هذا المنظور،43 ودراسات هنيدة غانم، والتي ركزت على طبيعة المحو والإنشاء في علاقة الصهيونية بالمجتمع الفلسطيني،44 ونادرة شلهوب – كيفوركيان التي ركزت، في المقابل، في دراساتها على أساليب العنف المباشر وغير المباشر الذي يمارسه الاستيطان الاستعماري، وخصوصاً على الأطفال والنساء، وكذلك على طريقة تحكمه في أسئلة الحياة والموت والجسد الفلسطيني.45 ومن ناحية أُخرى، ركزت كتابات نهلة عبدو على دراسة السجون الإسرائيلية.46
ومؤخراً نشر إسماعيل ناشف كتاباً يعرض فيه من منظور السيطرة الكولونيالية الطريقة التي سيطرت فيها إسرائيل على اللغة العربية في الحيز العام.47 وسبق ذلك دراسات أحمد سعدي بشأن أنظمة السيطرة في ظل نظام كولونيالي.48
من الضروري بمكان الالتفات إلى أنه وإن كان المنظور الاستعماري الاستيطاني قادراً على توفير أدوات تحليلية، فإن ذلك لا يلغي ولا يغني عن أدوات تحليلية أُخرى، مثل الاقتصاد، والتحليل الطبيعي، والمعرفة، والهوية، وعلاقات العمل والتبادل التجاري عند إجراء أي تحليل يعتمد هذا المنظور. يضاف إلى ذلك أن هذا المنظور لا يعالج فقط علاقة المستوطن بالسكان الأصليين، بل ديناميكية العلاقة أيضاً بين المستوطنين أنفسهم والصراعات داخلهم. وفضلاً عن ذلك، فقد عبّر بعض الفلسطينيين، رنا بركات مثلاً، عن نقد معين للتوظيف الزائد لمنظمة الاستيطان الاستعماري كأداة تحليل لمجمل الصراع، لأنها تتركز في عالم المستوطنين أصلاً وليس في ديناميكية وحركة السكان الأصليين، وعليه فإنها تحوّل المستوطنين كي يكونوا مركز الحديث والبحث.49
بناء على ما سبق، يمكن القول إنه لا يمكن فهم الحركة الصهيونية باعتبارها حركة قومية أو مجرد حركة قومية، وإنما يجب النظر إليها في سياقها الكولونيالي. وفي المقابل، ربما يكون من المحدود نظرياً رؤية الحركة الصهيونية كمجرد حركة كولونيالية. إن هذه المراوحة بين الكراهية والحب، بين الانقطاع والتواصل بأوروبا، تستطيع أن تفسر الحالة الملتبسة الدائمة التي تجد إسرائيل نفسها فيها: في مقابل الغرب هي «الآخر»، وفي مقابل الشرق هي الغرب. لقد جمعت الصهيونية في داخلها خطاب المستعمِر وخطاب المستعمَر، خطاب الكولونيالية وخطاب تقرير المصير.
(1) الصهيونية ونفي المنفى ونفي الآخر
يشير كثير من المؤرخين وعلماء السياسة50 إلى أن المقولة الأساسية في الصهيونية تقوم على فكرة نفي المنفى، أي أن المنفى يحضر بصفته صورة دينية وغير طبيعية وموقتة في حياة اليهودي. لذا، فإن حياة اليهودي في المنفى هي حياة غير طبيعية وناقصة، ولا يكتمل الوجود والمعنى الروحي تماماً إلاّ عندما يلتقي يهودي المنفى أرضه الموعودة، أرض إسرائيل، ويقيم بيته القومي. فاللقاء هذا عضوي يحقق لليهودي اكتماله الروحي، ويجعل أرض إسرائيل، الأرض الموعودة، تتنفس الصعداء أخيراً برجوع «الأبناء الضالين» إليها.
تبقى الحقيقة الأساسية أن للأرض الموعودة تفوقاً على المنفى، وأن لليهودي أيضاً في الأرض الموعودة، تفوقاً ما على اليهودي الذي يعيش حالة المنفى. وفي مثل هذه الحالة يتحول المنفى إلى حالة سلبية مشوهة ملأى باللاسامية و«كراهية الأغيار» و«رائحة العبودية» في حين أن الهجرة إلى أرض إسرائيل تصبح هجرة لا إلى مجرد مكان فحسب، بل تشكل الطريق إلى السيادة والحرية والكرامة القومية أيضاً، وهي كلها أمور يتعذر تحقيقها في المنفى. فلا معنى للأرض – أرض إسرائيل – من دون الشعب، ولا معنى للشعب من دون الأرض. وبالتالي، فالآخر يحضر بصفتين: مرة يكون الآخر هو المنفى – وعادة أوروبا – ومرة أُخرى يكون الآخر هو الشعب الآخر الذي يعيش فوق الأرض الموعودة – الشعب الفلسطيني.
إن المعنى المادي لفكرة نفي المنفى يتمثل في فكرة الهجرة ولـمّ الشتات، وبالتالي لا بد لأي مدخل لفهم إسرائيل من أن يأخذ بعين الاعتبار أنها دولة مهاجرين، لكنها دولة مهاجرين من نوع خاص. أولاً، إن هوية المهاجرين الدينية والإثنية محددة سلفاً. اليهودي يهاجر إلى فلسطين لأنه يهودي، أي أن هويته تحدد مكان هجرته، فهو يحضر إلى المكان حاملاً هويته ومشروعه، وذلك بفارق عن الذين يهاجرون إلى أميركا أو كندا أو أستراليا. إذ يصبح المرء أميركياً بعد أن يهاجر إلى أميركا ولا يهاجر إلى أميركا لأنه أميركي. ثانياً، إن الهجرة لا تحدث لأسباب مادية أو فقط لذلك، وإنما لاعتبارات أيديولوجية. فحتى عندما نقول إن الصهيونية حركة كولونيالية استعمارية، فإنها في واقع الحال تعمل ضمن خيارات محددة جداً من ناحية المكان الذي ترغب في الهجرة إليه واستيطانه، لأنها بمعنى من المعاني لم تختر المكان، وإنما هو الذي اختارها، أو قل كانت ملزمة باختياره.51
أمّا الوجه المادي الآخر لفكرة نفي المنفى، فيعني إزاحة أو طرد الفلسطينيين من فلسطين كي تصبح وطناً قومياً فيه أغلبية يهودية، لأن الفلسطينيين يقفون حاجزاً بين الذات والموضوع، بين اليهود وأرض إسرائيل. وهكذا تطور الصهيونية علاقة خاصة من نوعها مع الآخر، العربي الفلسطيني، تقوم على تغييبه عن المكان – فلسطين. ومثلما يشير المسيري،52 فإن ذكر العرب ولو في مجال التشهير بهم هو اعتراف ضمني بهم، غير أن الصهيونيين يحاولون إخفاء العرب بإدخالهم في مفهوم مقولة الأغيار المجردة كأن لا حضور خاصاً متميزاً للفلسطيني في النص الصهيوني. ويشرح بنيامين (بيني) بيت – هلحمي من جهته، أن الفلسطينيين في فلسطين تحولوا في الوعي الصهيوني إلى سكان فائضين عن الحاجة يجب التخلص منهم، وإلى جماعة يجب عدم النظر في حقوقها أبداً، أو الاعتراف بها. وردّاً على أولئك الذين يدّعون أن الحركة الصهيونية قامت فقط بإغفال وجود الفلسطينيين، وأنها لم تكن تقصد أن تستعمرهم أو تطردهم، يعتبر بيت–هلحمي الحديث عن عدم معرفة القيادة الصهيونية بوجود السكان الفلسطينيين الأصليين هو حديث هراء. إن تصفية الفلسطينيين أصبحت ضرورة، لأن الصهيونية أرادت أرضاً بلا سكان.53 ويشير راز – كراكوتسكين أيضاً إلى أن تغييب تاريخ البلد وتاريخ سكانه الأصليين يصبح شرطاً لبناء الهوية، وضمن برامج التعليم يجري تدريس تاريخ الصراع كموضوع منفصل عن موضوع الاستيطان اليهودي. ولا يظهر الفلسطيني إلاّ في لحظات الأزمة، وكعامل معرقل لعملية الاستيطان ولعملية الخلاص الصهيونية.54
وتدّعي شابيرا55 أنه من حيث المبدأ نشأ في الفكر الصهيوني توجّهان متوازيان بكل ما يتعلق بالعرب. ففيما يتعلق بالعرب كجماعة ذات حقوق سياسية، جرى نفي هذا الحق عنهم، أمّا فيما يتعلق بهم كأفراد، فقد رأت تيارات واسعة في الصهيونية أنه من الممكن التعامل مع العربي بشكل محترم ولائق شرط أن يتنازل عن ادعائه أنه سيد الأرض وصاحب البلد الوحيد، وأن له حقوقاً قومية فيه. فالجانب القومي في المشروع الصهيوني يلزمهم بعدم الاعتراف بوجود جماعة قومية أُخرى، لكن ما تبقّى من تأثير الفكر الليبرالي الأوروبي في الحركة يوجب التعامل بمساواة مع الفرد الفلسطيني.
وهكذا تنشأ صناعة فكرية كاملة تقوم على تغييب الآخر. وتنشأ أول وهلة مجموعتان جغرافيتان وتاريخان منفصلان للبلد يتوازيان ولا يتشابكان. ويشكل هذا التغييب عاملاً في الحفاظ على التوازن النفسي الضروري للصهيوني المستوطن الذي يرفض حقيقة أن يرى نفسه كغيره من المجتمعات الكولونيالية في أماكن أُخرى، إيماناً منه بعدالة سؤاله، وأن ما يقوم به ليس سوى عملية تحرير للشعب اليهودي وتقرير مصيره.
(2) الصهيونية كثورة شاملة ومستمرة
لقد ادّعت الصهيونية أنها حركة تحرر قومي غير عادية، واعتبرت نفسها مشروعاً ثورياً يبغي قلب حياة اليهود في الشتات، وإحداث تغيير جذري وراديكالي في حياتهم وفي هويتهم. فبحسب تفسير شموئيل أيزنشتاد،56 إن خاصية الحركة تكمن في تركيزها على قضية الأرض (Territory)، وفي مزج هذا التركيز بالطابع الثوري لنشاط الحركة الذي يهدف إلى خلق وبلورة مجتمع وثقافة جديدين واستقلال سياسي، وأيضاً إلى تغيير مجمل الحياة اليهودية بشكل شمولي. والطابع الثوري لم يكن موجهاً إلى الخارج فقط، بل أيضاً إلى اليهودية نفسها، عبر بلورتها من جديد في جوانب الحياة كافة. فقد رغبت الصهيونية في تغيير لباس اليهودي وعلاقته بالعمل وبالأرض وبسائر الشعوب، وبصورة عامة في تحويله إلى كائن إيجابي نشيط وفعال على مسرح التاريخ.
التقى الطابع الراديكالي الثوري للصهيونية بالمفهوم أعلاه مع الطابع الشمولي للفكر الاشتراكي القومي الذي نشأ في تلك الفترة في أوروبا، والذي ترك بصماته في الفكر الصهيوني، وخصوصاً في الفكر المركزي فيه، أي فكر الحركة العمالية. لقد جاء نشوء الفكر القومي الاشتراكي كتعبير عن حالة تراجع الفكر الليبرالي وتراجع الفكر الماركسي وعلو شأن الفكر القومي. واتسم هذا الفكر برفضه القاطع للصراع الطبقي (الماركسية) وبرفضه للفكر الليبرالي الذي يرى المجتمع ساحة لصراعات المصالح الفردية. ووجد هذا التوجه أن الحل يكمن في العمل الجماعي المنتج والثورة الاجتماعية الشاملة التي يشترك فيها جميع أبناء الشعب لزيادة الثروة الوطنية. وبالتالي رأى هذا التيار أن الأمة هي وحدة عضوية تاريخية ثقافية يشكل الفرد فيها جزءاً عضوياً هو الآخر، ومن حيث المبدأ فإن الجماعة سابقة للفرد من الناحية الأخلاقية.57 وبالإضافة إلى ذلك، وبما أن الشعب اليهودي موجود في المنفى في بقاع الأرض كلها، وأن دور الثورة يكمن في تغيير المبنى الاجتماعي والثقافي لليهود في العالم ونقلهم إلى أرض إسرائيل، فهذا يعني أن مهمات الثورة مستمرة إلى أن تتحقق أهداف المشروع. ولا يشكل قيام الدولة، إذاً، ذروة المشروع، وإنما مجرد حلقة واحدة من حلقاته، و«الثورة الصهيونية» بهذا المعنى هي ثورة مستمرة غير منقطعة ومستمرة لأجيال مقبلة.
وفي هذا السياق، لا بأس من اقتباس أقوال بن – غوريون المثيرة في هذا الصدد: «لقد أصبحت الدولة القوة والرافعة الرئيسية في تجسيد الصهيونية، لكنها ليست الهدف النهائي. فالهدف هو جمع الشتات الذي لا يتم من دون مساهمة متواصلة وأمينة ومنظمة من الشعب اليهودي بأسره. ولم تنتهِ بعد مهمة الحركة الصهيونية قط.... فالاختبار الكبير والحاسم هو اختبار الهجرة والاستيطان، وبهذا الاختبار تمتحن الحركة الصهيونية كلها.»58 وفي مكان آخر، يقول: «إن قيمة الدولة وقوتها وطاقتها الكامنة تشكل الانتصار الأعظم للفكر والرؤية الصهيونيين. وعلى الحركة بكل حرية وعطف أن تقنع نفسها بتقبل أولوية الدولة وصدارتها كوسيلة بين وسائل الخلاص. لكن في هذه الأولوية للدولة بالذات، يكمن مصدر محدوديتها وانكماشها، في أن سلطتها السيادية لا تتعدى حدودها، ونظامها لا يسري إلاّ على مواطنيها. إن أكثر من أربعة أخماس الشعب اليهودي يعيش حتى الآن – ومَن يعلم إلى متى؟ – خارج هذه الحدود.... وهناك [خارج حدود الدولة] بالذات، تمتلك الحركة الصهيونية التي أُنشئت بإرادة حرة جماعية وبجهد تطوعي، الفرصة والقدرة على عمل ما ليس ممكناً ولا مسموحاً للدولة بأن تعمله. هذه هي الميزة التي تتمتع بها المنظمة [الصهيونية العالمية] مقارنة بالدولة، وهذا ما يفسر لماذا لم تضع إقامة الدولة حداً لعهد المنظمة، بل على العكس، زادت في مسؤوليتها ورسالتها بما لا يقاس. إن الدولة والحركة تكمل إحداهما الأُخرى، وتحتاج الواحدة منهما إلى الأُخرى، وبجهدهما المشترك تستطيعان ويتوجب عليهما دفع الشعب اليهودي إلى تحقيق حلمه بالخلاص.»59
تشكل الدولة الإسرائيلية حالة فريدة من ناحية مدى التخطيط المسبق الذي جرى لإقامتها، مع أنه لم يكن هناك أرض مشتركة ولا لغة مشتركة ولا اقتصاد مشترك. وعلى الرغم من ذلك، فإن الحركة الصهيونية، كحركة إرادية تعتمد على الذات من ناحية، وعلى مساعدة الدولة الاستعمارية من ناحية أُخرى، خططت أولاً لإنشاء حركتها القومية، وثانياً لإقامة دولتها، وذلك كله في غياب أي عامل موحد على أرض الواقع تقريباً. وفي ظل غياب المشترك في الواقع تنشأ الحاجة إلى حضور المشترك في الوعي، وإلى مقومات أُخرى مادية تعوض عن غياب الجسم المركزي المنظم. وبعد أن يتسلح الوعي بمقولات وأفكار معينة، يصبح الوعي بحد ذاته جزءاً من الواقع. وعليه، وفي أوضاع تشتت مطلق وغياب الواقع الموحد، فقد احتاجت الحركة الصهيونية إلى خلق خطاب يستطيع أن يوحد اليهود وأن يجعل من اللغة، والحلم، والأسطورة، والدافع، والتاريخ، والمستقبل، عالماً يتسع لجميع اليهود ويشحنهم نحو الأرض الموعودة، الأمر الذي تمثل في لغة، وفي خطاب غزير المعاني والدلالات، خطاب مطلق مشحون عاطفياً ودينياً.
ومثلما سنرى لاحقاً، فإن عدة عوامل ساعدت المشروع الصهيوني، مع أنه لم يكن حركة إرادية تحقق مشيئة إلهية في التاريخ. إلاّ إن ما يهمنا في هذا السياق ليس إرادية الحركة الصهيونية أو عدمها، وإنما حقيقة أن مشروع الدولة بدأ أساساً كفكرة لم يسبقها تراكم مادي على الأرض. بل على العكس، الخريطة سبقت الأرض، والنظرية سبقت الممارسة، والبيت القومي سبق البيت الفردي. وتغري هذه الأوضاع بالتعامل مع فلسطين بصفتها ورقة بيضاء خالية، يمكن أن ترسم عليها الحركة الصهيونية، وأن تخطط لما تشاء، من دون أن تكون واعية تماماً للعنف الذي تسقطه النظرية الرمادية على الواقع الحي المركب الذي لا يقبل المقولات الجاهزة. فضلاً عن ذلك، فإن غياب الوحدة على الأرض والتراكم المادي خلقا ضرورة ملحة لتأسيس منظمات وهيئات تنسيقية تقوم بمهماتها بشكل مركزي وتنسق باستمرار بين الجوالي اليهودية في العالم وبين الاستيطان اليهودي في فلسطين.
هذا المدخل ضروري لفهم أمرين سنأتي إلى ذكرهما لاحقاً: الأول، كون الصهيونية في الواقع أعنف من الصهيونية في النظرية؛ الثاني، كون التخطيط المسبق وصوغ الهدف قبل التأمل في الواقع المعاش جعلا الصدام في لحظة الانتقال من النظرية إلى الواقع، متوقعاً إن لم يكن حتمياً. وذلك بأن بياض الورق الذي خُططت عليه الدولة وغياب الفلسطيني منه أغريا ويغريان كثيراً من الصهيونيين بالادعاء أن النيات كانت بيضاء مثل الورق، وأن ما أرغمهم على العنف هو الواقع المادي ورفض الفلسطينيين لوجودهم ورفض أي حل وسط لتقسيم البلد!
ثانياً: الطريق إلى الدولة - الصهيونية
في الممارسة
كان على الصهيونية أن تنزل من رحاب الفكرة إلى ضيق المكان، ومن بياض الورق إلى تلون الواقع وتعقيداته. وفي هذا القسم سأعالج باختصار بعض الأمور المركزية والمهمة في طريقة عمل الحركة الصهيونية على أرض الواقع داخل الييشوف (جماعة المستوطنين اليهود في فلسطين قبل قيام الدولة في سنة 1948) والتي تركت بصماتها على مؤسسات الدولة وتركيبتها لاحقاً.
هناك كثيرون من علماء الاجتماع والمؤرخين الصهيونيين الذين يقرأون تاريخ الحركة الصهيونية باعتباره في الأساس مسرحاً تتجلى فيه الأفكار الصهيونية، وكأنه أداة طيعة في يدها. ويركز هذا التوجه على الطابع الإرادي للحركة الصهيونية كحركة قومية فكرية بعثية أيقظت الشعب اليهودي من سباته، وسارت بعزم وثقة وإرادة نحو تحقيق الهدف المنشود. وتهمش هذه الرؤية عوامل عديدة أُخرى عند قراءة تاريخ فلسطين، منها تاريخ الشعب الفلسطيني نفسه، والقوى الدولية الفاعلة على الساحة. كذلك يهمش هذا التوجه أهمية بعض العوامل الاقتصادية المادية في تحليل التاريخ ونشوء دولة إسرائيل، مفضلاً عليها اعتبارات أيديولوجية فكرية صرفة، فيبدو تاريخ فلسطين كأنه تاريخان لشعبين منفصلين لا يؤثر أحدهما في الآخر، وكأن تاريخ كل منهما ما هو إلاّ تجليات لجوهر سرمدي ثابت غير متغير تحدده الأفكار والقيم والثقافة.60
في المقابل، هناك ازدياد ملحوظ في عدد الدراسات التي تتوجه إلى الموضوع من وجهة نظر علائقية ومادية في آن واحد، بمعنى أنها تصر على أن ممارسات الحركة الصهيونية لم تكن كلها وليدة مشروع فكري أيديولوجي، وإنما أتى كثير منها نتيجة الواقع المعاش وعلاقات القوى القائمة على الأرض. وبالتالي، ما يبدو اليوم بنظرة رجعية كأنه كان قدراً محتماً، لم يكن في واقع الحال وفي أوضاع وقوع الحدث، إلاّ مجرد مصادفة، أو تقاطع مصالح أو قرار سياسي، أو نتائج تطورت في إثر ردة فعل المقاومة الفلسطينية على المشروع الصهيوني.61
سأقدم، فيما يلي وبإيجاز، تطور الييشوف في فلسط ب) دور الانتدابين ونجاحه منذ سنة 1917 حتى قيام الدولة. وفي هذا السياق، سأركز على تلك الأمور التي أعتقد أنها تركت أثرها فيما بعد في شكل الدولة ومبناها.
بدايةً، يجب الإشارة إلى أهمية وعد بلفور ومركزيته كلحظة حاسمة ومهمة في تاريخ الييشوف، وفي تاريخ الصراع. فبموجب أكثر الاستفتاءات سخاءً مع الصهيونية، كان عدد اليهود في فلسطين في سنة 1922 نحو 83,000 نسمة، أي أنهم شكلوا 11% من سكان فلسطين، إلاّ إن عددهم وصل في سنة 1947 عشية قرار التقسيم إلى ما يقارب 650,000 نسمة، أي ما يعادل ثلث سكان فلسطين. وبالتالي، يتبيّن أن خلال الفترة السابقة كلها لوعد بلفور، هاجر إلى فلسطين بعض عشرات الآلاف فقط (شكلوا مع يهود فلسطين الأصليين قبل بداية الهجرة ما مجموعه 83,000 مثلما ذكرنا أعلاه)، في حين أن عدد المهاجرين اليهود زاد بنحو 600,000 مهاجر خلال العقود الثلاثة من الوجود البريطاني. وهذا بطبيعة الحال يدل على أهمية الدور البريطاني في إنشاء «الوطن القومي اليهودي» تنفيذاً لوعد بلفور الذي لم يكن مجرد تعبير عن تعاطف دولة عظمى مع فكرة الوطن القومي، وإنما تحول، مثلما نعلم، إلى وثيقة رسمية دولية تبنّتها عصبة الأمم عندما أقرّت صك الانتداب على فلسطين.62 ونتيجة توكيل الانتداب إلى بريطانيا، تحول الوعد من وثيقة دولية تتمتع بالإجماع الدولي في تلك الفترة إلى سياسة رسمية تنفذها دولة يسيطر جيشها على فلسطين.
من أهم التغييرات التي أدخلها البريطانيون كي يسهّلوا عملية إنشاء وطن قومي تلك التي تتعلق بقوانين الهجرة وملكية الأراضي،63 فتمكّن المهاجرون اليهود من الوصول إلى فلسطين بدايةً، ثم تمكنوا من اقتناء الأراضي والاستيطان فيها. وقد اختارت بريطانيا لهذا الغرض مندوبها السامي الأول هربرت صامويل، من أصل يهودي وذا ميول صهيونية واضحة.64 فمباشرة بعد توليه المنصب، قام بإجراءات توحي بأن البلد ثنائي القومية، وكان على رأس هذه التغييرات الاعتراف الرسمي بالمؤسسات التمثيلية اليهودية مثل المنظمة الصهيونية العالمية، وما بات يُعرف لاحقاً باسم الوكالة اليهودية، بصفتهما ممثلين شرعيين ووحيدين، لا لليهود في فلسطين فحسب (وذلك ضمن البند 4 لصك الانتداب نفسه)، بل كممثلين لليهود ولمصالحهم أينما يكونوا، أي باعتبارهم ممثلين لأمة كونية فوق الجغرافيا.65 وقد يصح القول في هذه الحالة إن اليهود قبل أن يكونوا شعباً، كان لهم ممثلون معترف بهم على اعتبار أنهم شعب، أي أن التعامل معهم كأنهم شعب، حوّلهم فعلاً إلى شعب.
ممّا لا شك فيه أن المشروع الصهيوني لم يكن من الممكن أن يتحول من مجرد حلم يراود هيرتسل إلى مشروع عمل وبرنامج سياسي لولا تدخّل الدول الكبرى، وأساساً بريطانيا. الحرب الكونية الأولى منحت اليهود وعد بلفور، والحرب الكونية الثانية ستحوّل الوعد إلى حقيقة. وهكذا كانت الصهيونية تتواطأ مع «أعدائها» منذ البداية.
ج) مبنى ثنائي القومية: دور الأيديولوجيا
يتفق كثير من الباحثين على حقيقة كون فترة الانتداب فترة نمو مشروعين قوميين منفصلين داخل أحشاء الانتداب. ويركز البعض على تأثير الأيديولوجيا الصهيونية ومبنى الييشوف نفسه وقدراته التنظيمية كعوامل أولية وأساسية في فهم قدرة الييشوف على الحفاظ على نفسه منفرداً منعزلاً كمشروع قومي تحت مظلة الانتداب.
يشير هذا النمط التحليلي إلى بعض الخصائص البنيوية للييشوف نفسه،66 منها قدرته على وضع قوانين وآليات تنظم اللعبة الداخلية داخله، وتبتّ الصراعات الداخلية داخل أفراد المجموعة من دون الحاجة، أو اللجوء، إلى محاكم الانتداب. وفي الواقع، أسس اليهود في فترة الييشوف محاكم خاصة بهم لحل النزاعات.67 يضاف إلى ذلك المؤسسات التعليمية اليهودية التي بقيت منفردة ومع أهداف مختلفة عن بقية الأهداف التعليمية لسائر المدارس. ويصف تقرير وضعته لجنة تحقيق بريطانية بشأن التعليم اليهودي في فلسطين في سنة 1946، أي السياسة التعليمية والتربوية في الييشوف، بأنها «تطمح إلى التأثير تقريباً في جوانب حياة الطفل كلها، وهي غائية أكثر ممّا هو عليه الأمر في بريطانيا. كما أن لها طابعاً عاطفياً، وتُعتبر إحدى الأدوات الرئيسية لبناء الوطن القومي اليهودي في فلسطين.»68
وكذلك تجدر الإشارة إلى قدرة قيادة الييشوف على تحويل غياب لغة مشتركة من كونه مشكلة إلى جعله رافعة. فعملية إحياء اللغة العبرية القديمة شكلت مساحة يشترك فيها الجميع بشكل متساوٍ من دون أن تطغى أي لغة مهاجر على لغة مهاجر آخر. وبذلك تم إيجاد قاسم مشترك للجميع، واهتمت كذلك بأن يبقى لكل من المجتمعَين لغته الخاصة من دون أن يندمجا.69 ويمكن أيضاً أن نضيف إلى ذلك الآليات الخاصة المتعلقة بملكية الأراضي، فقد كان الييشوف معنياً بأن تدخل الأراضي المملوكة للفلسطينيين في دائرة السوق كي يسهل شراؤها منهم. ولذا، أيد الييشوف فرض حكومة الانتداب الضرائب على الأراضي كي يضطر الفلاح الفلسطيني إلى بيعها من أجل تسديد الديون المتراكمة عليه. لكن إذا ما اشترت المؤسسات اليهودية الأراضي، كانت هذه الأخيرة حريصة على إخراج هذه الأراضي من دورة السوق للحؤول دون انتقالها مجدداً إلى أيادٍ غير يهودية. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، جرى وضع قوانين وأنظمة داخلية تركز على الملكية العامة الجماعية للأراضي وتحصرها في الشعب اليهودي وتمنع عودتها إلى السوق مجدداً. وقد ساهمت الملكية الجماعية للأراضي، وسائر الموارد النادرة، في تشييد «البناء التحتي» لجماعة قومية متماسكة.
من الممكن طبعاً فهم هذه الممارسات الجماعية التي تتعلق بالأرض والاستيطان والعمل على أنها تجليات لمبادئ أيديولوجية من صلب الفكر الصهيوني تتعلق بـ «خلاص الأرض» و«خلاص العمل» و«احتلال العمل» والتكافل الاجتماعي، وغير ذلك من المصطلحات التي أصبحت معروفة، وهي من دون شك فيه ذات تأثير، ويجب أخذها بعين الاعتبار، كما يمكن أن يضاف إليها في المقابل ما يتعلق بطبيعة بنية المجتمع الفلسطيني في مواجهة الييشوف. فقد افتقد هذا المجتمع نسبياً مؤسسات منتخبة وشفافة تمكّن الجمهور العريض من المشاركة في اتخاذ القرارات، وبالتالي تنمي الشعور بالمسؤولية تجاه تنفيذها. ويلاحَظ في هذا الصدد أن درجة التنسيق بين المركز والأطراف لدى المجتمع الفلسطيني لم تكن بالمستوى الذي ساد داخل الييشوف. إلاّ إنه وعلى الرغم من هذا وذلك، فلا بد من عدم الاكتفاء بالتحليل الذي يركز على الفروق الأيديولوجية والثقافية بين المجموعتين، ولا بد من دراسة الواقع المادي العيني المعاش وتأثيره في تطور واقع قومي منقسم تماماً لعدة أعوام قبل قرار التقسيم. وفيما يلي سأعرض بعض هذه الجوانب.
أول هذه الجوانب يتعلق بطبيعة الاستيطان في فلسطين مقارنة بمشاريع كولونيالية أُخرى في التاريخ. ففلسطين لم تكن مكاناً سهلاً ولا مكاناً مغرياً للاستيطان الكولونيالي. فقد كانت مواردها الخام وثرواتها الطبيعية محدودة، وكانت نسبة عدد السكان الفلسطينيين إلى مساحة الأرض التي يعيشون فوقها، عالية جداً إذا ما قارنا مشروع الاستيطان في فلسطين بمشروع الاستيطان في أماكن أُخرى، كأميركا الشمالية أو أستراليا.70 ففي أميركا الشمالية مثلاً، كان هناك فائض من الأرض التي يمكن زراعتها واستصلاحها، وبالتالي فإن عملية توسيع المستعمرات الأولى كانت ممكنة وسهلة. وكانت المستعمرات نفسها مدعومة مادياً وعسكرياً ومعنوياً من الدولة الأم، أكانت بريطانيا أم فرنسا. كذلك، ونظراً إلى التفوق العسكري التكنولوجي الواضح للمستوطن الأميركي، كان من الممكن لهذا المستوطن بمفرده أي يفرض سيطرته على مناطق جديدة، وأن يستغلها، وكان سلاحه الشخصي كافياً لردع السكان الأصليين.
أمّا الحال في فلسطين فكانت مختلفة، إذ كان هناك بدايات لحركة قومية تعي أهداف المشروع الصهيوني، وتحذّر من مخاطره. ولم تكن الأرض، بالإضافة إلى محدوديتها، خالية من السكان مثلما تخيلها، أو مثلما أراد أن يتخيلها الآباء المؤسسون للصهيونية. فقد كانت الأرض عامرة بسكانها، وكان أهلها مستعدين للدفاع عنها. وفي مثل هذه الأوضاع كان على الحركة الصهيونية أن تحقق أمرين: الأول هو إقامة مستعمرات جماعية تتم فيها حماية الأرض بأسلوب جماعي أيضاً في ظل استحالة الاستيلاء على الأرض والحفاظ عليها بشكل فردي؛ الأمر الثاني هو انعدام إمكان الاكتفاء بصك الملكية للأرض المستولى عليها، وإنما وجوب الوجود الجسدي على الأرض والقيام باستثمارها الفعلي.
لقد حدث أمر مشابه في كل ما يتعلق بالاقتصاد وعلاقات العمل.71 فبعكس الدراسات التقليدية التي تقرأ تاريخ الصهيونية الفعلي باعتباره تجلياً للفكر الصهيوني، هناك كثير من الدراسات التي تقرأ تطور الصراع على خلفية علاقات العمل والعلاقات الاقتصادية والسياسية والصراع في مجمله. وبموجب هذه الرؤية، فإن ما هو خاص بالمجتمع الإسرائيلي وفي الممارسة الصهيونية نابع أساساً لا من الأيديولوجيا الصهيونية مثلما جاءت في الكتب، وإنما من تاريخ الصراع نفسه الذي ولّد أشكالاً معينة من التنظيم والتأقلم داخل الييشوف اليهودي.
يميز البعض72 بين الهجرة الأولى (1881 – 1904) والهجرة الثانية (1904 – 1914)، ويقرأ الفارق بين الهجرتين على خلفية نوعين مختلفين من حركات الاستيطان. فهناك حركات استيطانية مستعدة لأن تستخدم سكان البلد الأصليين كقوة عمل في مشروعها، وبالتالي يميل هذا النوع من الاستيطان إلى أن يعمل ضمن منطق سوق رأس المال الصرف، وفي المقابل هناك الاستيطان الذي يسعى للحفاظ على «الصفاء» العرقي لمجموعة المستوطنين من دون أن تتداخل هذه المجموعة بمجموعة السكان الأصليين، فينشأ في النتيجة مجتمعان منفصلان تماماً في جميع أو معظم المجالات. ويشكل الاستيطان في جنوب أفريقيا نموذجاً للاستيطان من النوع الأول، وفي أستراليا نموذجاً للاستيطان من النوع الثاني.73
ويشكل التحول بين الهجرة الأولى والهجرة الثانية، إلى درجة معينة، تحولاً بين نوعين من الاستيطان، واحد مستعد لتشغيل العمال العرب داخل الاقتصاد الاستيطاني، والآخر يدعو إلى إقصائهم. وفي نهاية المطاف انتصر التيار الانعزالي الإقصائي، فشكلت الهجرة الثانية التي فضلت منطق الانغلاق القومي على منطق رأس المال، النواة المؤسساتية لدولة إسرائيل عند قيامها.
لقد وجد العمال اليهود أنفسهم في وضع لا يستطيعون منافسة العمال الفلسطينيين، لأن العامل الفلسطيني كان بصورة عامة أكثر مهارة وأقل تكلفة.74 بالتالي، إذا رغبت الحركة العمالية داخل الاستيطان في أن تدافع عن نفسها وعن العمال اليهود، كان عليها75 أن تقيم سداً محكماً يُبقي العمال الفلسطينيين خارج سوق العمل اليهودية وخارج المنافسة مع العمال اليهود، الأمر الذي من شأنه الحفاظ على امتيازات العامل اليهودي وعلى مستوى المعيشة لديه. وبهذا المعنى فإن ما يميز الاستيطان الصهيوني في فلسطين في جزء منه هو انتصار حركة العمل على المنطق الرأسمالي الصرف.76 فإذا كان منطق حركة رأس المال هو منطق التوسع، كان منطق الحركة العمالية الصهيونية منطقاً انغلاقياً، وكان يلتقي مع الطابع الإثني – القومي للحركة الصهيونية نفسها. وبالتالي، إذا قارنا فلسطين بجنوب أفريقيا مثلاً، لوجدنا أنه في جنوب أفريقيا انتصر منطق رأس المال الذي يبحث عن الربح أولاً، فأدى إلى توظيف السكان الأصليين وتشغيلهم داخل الاقتصاد الكولونيالي للمستوطنين، الأمر الذي أدى، بدوره، لاحقاً إلى حدوث حالة تداخل واندماج السود في النظام القائم حتى إن بقوا على هامشه. وفي المقابل، فإن الحالة الفلسطينية – الصهيونية أدت إلى وضع نشأت فيه مجموعتان منفصلتان في معظم مناحي الحياة تقريباً.
ضمن هذا السياق يمكن فهم دور الهستدروت التي أقيمت مع نهاية الهجرة الثانية، والتي كانت في الأساس مؤسسة قومية من الدرجة الأولى، أي قبل أن تكون مؤسسة نقابية عمالية. وقد تجسّد دفاع الهستدروت عن العمال، أو اهتمامها بمصالحهم، في قدرتها على إجبار رأس المال اليهودي على أن يشغّل عمالاً يهوداً، وأن يقصي العمال العرب عن سوق المنافسة.77 ويعني هذا أن دفاعها عن عمالها كان مرهوناً بمدى دفاعها عن مشروعها القومي، وبمدى قدرتها على إيجاد وخلق الحواجز بين العرب واليهود في فلسطين. وفي كل مرة كان هناك تعارض بين القيم العمالية الاشتراكية والقيم الصهيونية القومية، كانت الحركة تفضل هذه الأخيرة من دون تردد.78 وبالتالي، فإن المشروع القومي الصهيوني كان منذ البداية مشروع الحركة العمالية. وإذا شئنا أن نقلب الرواية الصهيونية العادية لقلنا إن مَن حمل لواء المشروع القومي الانغلاقي الحصري كان الحركة العمالية، وذلك بعكس الاعتقاد الرائج أن الحركة القومية اعتنقت فكراً عمالياً.
لقد شهدت عشرينيات القرن الماضي مرحلة تأسيس كثير من المنشآت والمؤسسات والهيئات التي أدارت عمل الييشوف كأنها دولة داخل دولة. وفي صلب هذه المؤسسات، كانت الهستدروت التي أصبحت لاحقاً في صلب الاقتصاد الإسرائيلي، والتي لا يزال كثير من أذرعها فاعلاً حتى اليوم وذا تأثير مركزي في الاقتصاد الإسرائيلي، منها: تنوفا للتسويق الزراعي ومنتوجات الحليب؛ هامشبير همركزي، للتسويق العام؛ سوليل بونيه للبناء والإعمار؛ بنك العمال؛ صناديق المرضى المتعددة، للتأمين الصحي؛ شركة هسنيه للتأمين؛ كور الشركة التعاونية للصناعة؛ إيغد، للنقل العام.79 وكانت البنية التي شيدتها الهستدروت وأذرعها تهدف إلى تلبية معظم الحاجات المادية المباشرة للمستوطنين اليهود، وفقط لهم من دون غيرهم. وعليه، من غير المفاجئ أنه مع مرور الأعوام أصبح في الواقع داخل فلسطين اقتصادان مختلفان، لا اقتصاد واحد، على الرغم من التأثير المتبادل فيما بينهما، إلى درجة أن حكومة الانتداب كانت تقدم تقارير مختلفة عن اقتصاد كل من المجتمعين.80
لقد أدركت الهستدروت في مرحلة مبكرة من الصراع أهمية الديموغرافيا، وأن النجاح في بناء مشروع قومي «خالص» يتطلب «لجم» أو فلنقل «تأجيل» طابع الصهيونية الكولونيالي الصرف القائم على منطق الربح الفردي الرأسمالي إلى مرحلة أُخرى، وأن عليها حصر نشاطها في بقعة من الأرض تضمن فيها الوجود اليهودي. ففي الواقع، كان تقسيم فلسطين قد جرى قبل أعوام كثيرة قبل أن تُقسَّم في سنة 1948، لأنه كان هناك مجتمعان منفصلان في كل شيء تقريباً، ومع اندلاع ثورة 1936 ازدادت حدة هذا الفصل ليصبح التقسيم حالة شبة حتمية. إلاّ إن ما يلفت النظر ولا يزال تأثيره حاضراً حتى اليوم وبأشكال متعددة، هو أن عملية تقسيم الاقتصاد وسوق العمل على أساس قومي لم يكن من الممكن أن تنجح لولا التدخل الخارجي الذي تمثل في عاملين أساسيين: اقتصادي وسياسي. وتمثل العامل الاقتصادي في اعتماد الييشوف على مصادر مالية خارجية أتته من الصهيونية العالمية التي لولاها لم يكن من الممكن إرضاء العمال اليهود. أمّا العامل الآخر فكان الدعم السياسي الذي حظي به الييشوف من سلطات الانتداب التي مكّنت من تدفق الهجرة واقتناء الأراضي.
هـ) الدين والدولة: تطور العلاقة
شكل القرن المنصرم مسرحاً لعلاقات ديناميكية وأحياناً تحولات درامتيكية في علاقة اليهودية بالصهيونية وعلاقة الدين بالدولة.81 وكنا قد رأينا، مع البدايات الأولى للحركة الصهيونية، كيف وقفت الأرثوذكسية اليهودية في مواجهة الحركة الصهيونية وقاطعتها واتهمتها بالكفر والإلحاد وبتدمير اليهودية كدين. وفي الواقع، وجدت القوى الدينية نفسها في موقف ضعيف تجاه قدرة الحركة الصهيونية على التعامل مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي الجديد، وعلى إدارة شبكة من العلاقات الدولية التي مكّنتها من الحصول على امتيازات اقتصادية وسياسية. ونتيجة ازدياد أهمية موقع الجالية اليهودية في الولايات المتحدة وازدياد نفوذها الاقتصادي في حياة اليهود عامة،82 فقد وجدت قوى يهودية دينية عديدة نفسها في وضع يعتمد كثير من مؤسساتها على مصادر مالية من خارج المجموعات اليهودية المتدينة، الأمر الذي أدى إلى حدوث توتر معين بين معتقدات هذه الجماعات الدينية وبين اعتمادها المتزايد على الأموال والمؤسسات غير الدينية.
من جهة أُخرى، بدأت النجاحات التي تحققها الحركة الصهيونية تبهر أنظار الحركات الدينية اليهودية، وبرز بين هذه الإنجازات وعد بلفور وبناء مؤسسات مهمة في أعقاب الهجرة الثانية ومع بداية العقد الثالث للقرن المنصرم. لقد شكلت هذه الإنجازات إثباتاً في يد الحركة الصهيونية أنها قادرة على العمل والتفاعل مع الواقع العيني المعاش، في حين كانت الحركات الدينية اليهودية في حالة انكفاء وعدم ثقة بالنفس. وفي هذه الفترة بالذات، شكل الدين عاملاً لاجماً في السياسة، وتميزت الحركات الدينية اليهودية باعتدال شديد وبرغبتها في الانطواء والانكفاء على ذاتها، وذلك لإيمانها باستحالة تحقيق تغييرات حقيقية من دون عناية إلهية. كما أن هناك بعض الأحداث المركزية الأُخرى التي غيرت رويداً رويداً من توجه الحركات الأرثوذكسية تجاه الصهيونية.
ويُعتبر من أهم هذه الأحداث الكارثة والملاحقة والإبادة المستمرة لليهود في وسط أوروبا. ومن ناحية معنوية، بدا كأن هناك حدوداً للعناية الإلهية وأن الله لم يسعف يهود أوروبا وتركهم يساقون إلى موتهم من دون أن يتدخل ليحمي شعبه المختار، الأمر الذي عزز الادعاءات الصهيونية أن على اليهود أن يأخذوا مصيرهم في أيديهم. وعدا ذلك، فإن الكارثة تسببت بالإبادة البشرية والمادية لكثير من مصادر قوة الحركات الأرثوذكسية اليهودية، كحركة أغودات يسرائيل.83 ومع ازدياد الحديث عن إمكان فعلي لإقامة دولة يهودية، أصبح من شبه المتعذر على هذه الحركات، مثل أغودات يسرائيل أيضاً، أن تعارض علناً قيام دولة يهودية. حتى إن بعض قادتها صرح بأن قيام دولة إسرائيل هو «ضرورة حيوية» لا لإيواء اليهود الناجين من الكارثة وحمايتهم فحسب، بل هذا ما تتطلبه اليهودية بذاتها أيضاً.84 وعندما مَثُل ممثلو أغودات يسرائيل أمام اللجنة الملكية لفحص مسألة تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية، كان موقفهم مركباً. فمن ناحية رأوا أن إقامة دولة يهودية لا تلتزم التعاليم اليهودية ولا حرمة السبت، ولا الأكل السوي دينياً (كاشير) هي ضرب من التجديف والإلحاد، كذلك فإن معارضة قيام الدولة هي أمر متعذر، وبالتالي تملصت قيادة أغودات يسرائيل من التصريح علناً بأنها تؤيد قيام دولة إسرائيل. وعندما أُقر قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني / نوفمبر1947، صرح أحد قادة الحركة في اجتماع للجنتها التنفيذية بأن «قيام دولة إسرائيل هو ظاهرة تاريخية. فبعد 2000 عام من المنفى والعبودية، ها نحن نُمنح جزءاً من أرض إسرائيل.... لا شك في أن هذا الحدث تعبير عن عناية إلهية.»85
لقد كانت أغودات يسرائيل على دراية تامة بأن الدولة اليهودية التي ستقوم لن تلتزم التعاليم الدينية وهي أقرب إلى الكفر، لكنها مع ذلك لم تستطع أن تجاهر علناً برفضها، وارتأت بدلاً من ذلك أن تقبل بها كواقع (de facto) من دون أن تعترف بها عرفياً أو قانونياً (de jure). وبذلك تحقق التوازن بين التزامها العقائدي الديني والضرورات البراغماتية، حتى إن عضواً من الحركة وقّع وثيقة إعلان الدولة، وأصبح عضواً في مجلس الدولة الموقت. وعندما قامت دولة إسرائيل، لم تطالب أغودات يسرائيل بتحويلها إلى دولة شريعة يهودية، فهي كانت على علم ويقين بأن هذا لن يتحقق، إذ كانت تعي أنها كحركة تقع على هامش مشروع الدولة، وبالتالي فإن جل مطالبها تمثل أساساً في مطالب تضمن لها الحفاظ على نفسها كحركة دينية منعزلة داخل الدولة. وقد تضمنت هذه المطالب ما يلي: معارضة الزواج المدني؛ احترام قدسية السبت؛ سن قوانين تتعلق بالصيام والأكل؛ استقلالية في التربية وفي المدارس الدينية؛ الحرية الدينية وحرية المجتمع الأرثوذكسي في الحفاظ على نفسه.86
لقد تجاوب بن – غوريون إيجابياً في رسالة بعث بها إلى حركة أغودات يسرائيل في 19 حزيران / يونيو 1947 مع بعض المطالب «الانعزالية» للحركة، أي المطلبين الأخيرين، ووافق على موضوع رفض الزواج المدني، لكن تجاوبه كان محدوداً بالنسبة إلى الأمور الأُخرى. وقد شكلت رسالة بن – غوريون المعروفة بـ «اتفاق الوضع الراهن» (status quo) مدخلاً لفهم علاقات الدين بالدولة في إسرائيل لاحقاً، وفي علاقات المجتمع اليهودي الأرثوذكسي مع مؤسسات الدولة.
إن علاقة الدين بالدولة لا تستنفد نفسها بجدل العلاقة بين المجموعات اليهودية الأرثوذكسية في مقابل الصهيونيين العلمانيين (إن جاز التعبير). لقد كان هناك لاعبون آخرون في اللعبة، أهمهم تلك المجموعات الدينية التي حاولت الجمع ما بين الدين اليهودي والصهيونية والتي لم ترَ أن العمل الصهيوني النشيط والفعال يرتبط بالضرورة بالإلحاد والتنكر للدين. وشكل هذا التيار ما بات يُعرف بالتيار الصهيوني الديني الذي كان بين أول الحركات التي تبنّتها حركة همزراحي الدينية. بدايةً، شعر هذا التيار بصعوبة مواقفه لأنه لم يكن لديه برنامج واضح في مقابل الوضوح الذي اتسم به قطبا المعادلة، أي نموذج أغودات يسرائيل والنموذج القومي العلماني الصهيوني. وبرزت هذه الصعوبة في فشل معظم المحاولات لإقامة مدارس دينية صهيونية خلال أعوام الييشوف، باستثناء محاولة87 تمثلت في مدرسة مركاز هراب بقيادة الراب كوك التي حاولت أن تجمع بين الطابع العملي النشيط والفعال للصهيونية وبين التزام العقائد والالتزامات الدينية في الوقت نفسه. وكان هذا الجمع يعني ضرورة إخراج الدين من سلبيته واتكاله على المشيئة الربانية، وتخليص الصهيونية من إلحادها ومن تنكّرها للدين. فركزت هذه المدرسة على تلك الفرائض الدينية ذات الطابع الأرضي (بمعنى territorial وليس بمعنى علماني) والمتعلقة بأرض إسرائيل،88 مثل فريضة استيطان إسرائيل، إلى درجة أنه جرى التمييز بين توراة أرض إسرائيل وتوراة خارج أرض إسرائيل.
لقد ارتأت مجموعة مركاز هراب أن تصدر مشروعها الديني إلى عالم السياسة من خلال تفسير التاريخ والأحداث السياسية من منظور ديني، يتمثل في فهم تاريخ الحركة الصهيونية وإنجازاتها لا على أنهما عمل إلحادي وتدخّل في الشؤون الإلهية، وإنما باعتبارهما فصلاً من فصول الخلاص الديني. ومن هذا المنظور، وعلى الرغم من نيات القادة الصهيونيين الإلحادية غير الدينية، فإنهم إنما ينفذون بنشاطهم مهمة دينية إلهية من دون أن يدروا. وبالتالي، فهم ليسوا بالأشرار ومن غير الضروري مقاطعتهم، فالإرادة الإلهية تستعملهم كي تحقق مشروعها المقدس. وضمن هذه الرؤية تصبح الصهيونية نفسها حلقة مهمة في الرواية الدينية وفصلاً ضرورياً من فصولها، وستكون المحطة النهائية للمشروع محطة دينية حتماً.89 وبالتالي فإن كل المشروع الصهيوني هو مشروع خلاصي ديني، أو هكذا يجب فهمه.
وهكذا، وبعكس المشروع الانعزالي لأغودات يسرائيل التي اعتقدت أنه من الممكن الإبقاء على مشروعها الديني جنباً إلى جنب مع المشروع الصهيوني من دون أن يتداخل أحدهما في الآخر، فإن الثقافة الصهيونية الدينية، مثلما برزت في مركاز هراب، ارتأت مهمة مختلفة تماماً، هي إخضاع المشروع السياسي الصهيوني لمفاهيم خلاصية دينية. إن الأمر الخاص في هذا المجال لا يكمن في مجرد الرؤية الخلاصية للمشروع من حيث أهدافه، فالصهيونية بحد ذاتها تحمل أيضاً بعداً خلاصياً. وما يعطي مركاز هراب مكنوناً راديكالياً هو أنها تضفي صفة الإطلاق والقدسية على الأدوات والوسائل التي ترغب من خلالها في تحقيق أهدافها، الأمر الذي يجعل إمكان الحلول الوسط معها أصعب كثيراً، ويرفع المكنون الأصولي الراديكالي.90
يمكننا، إذاً، القول إن فترة قيام الدولة فيما يتعلق بالمشروع الصهيوني بالدين، شهدت «صهينة» مجموعتين دينيتين، سواء بتراجع قوى دينية أرثوذكسية عن معارضتها لإقامة الدولة، أو بتبنّي قوى دينية يهودية المشروع الصهيوني تحت تبريرات دينية خالصة. أمّا الفترة الممتدة من سنة 1948 حتى سنة 1967، فشهدت عملية أسرلة متزايدة للقوى الدينية بشقّيها الأرثوذكسي والصهيوني على حد سواء، وخصوصاً باعتماد هذه القوى المتزايد على مؤسسات الدولة وأموالها ووظائفها. غير أنه في المقابل زادت رغبة هذه القوى في ترك بصماتها على المجتمع الإسرائيلي نفسه، وقد برز هذا الميل بصورة خاصة بعد حرب 1967 واحتلال الضفة الغربية والأماكن الدينية اليهودية فيها.91 وقد شكل الاحتلال نقطة تحوّل في ثقة الجماعات اليهودية عامة، واليهودية الصهيونية خاصة (نموذج مدرسة مركاز هراب)، بنفسها. فحاولت منذ ذلك الحين التأثير المباشر في صنع القرار الإسرائيلي، ووصل التحول في نفوذها إلى إحدى ذُراه مع إنشاء حركة غوش إيمونيم وانتصار حزب الليكود التاريخي في انتخابات 1977.
ونظراً إلى القدسية الخاصة للأماكن التي جرى احتلالها منذ سنة 1967، مثل القدس الشرقية والخليل، يشير كثيرون من الباحثين إلى أنه لم يجرِ الاكتفاء، مثلما هو مفترض، بطرح الأسئلة السياسية عن مصير المناطق المحتلة بلغة الحسابات العملية، مثل موازين القوى، والميزانيات، والوضع الدولي، والضرورات الأمنية، فقد أصبحت الأسئلة تُصاغ بلغة دينية عمّا إذا كان يحق لأحد من الساسة الإسرائيليين التنازل عن مناطق مقدسة للشعب اليهودي منحها الله لشعبه المختار! فتحول الربانيم من مجرد قيادة روحية دينية إلى قيادة سياسية تبتّ الأمور السياسية المصيرية. كذلك بدأت الصهيونية كحركة علمانية تعتقد أنها تستطيع أن توظف الخطاب الديني من أجل مشروع علماني قومي، لتجد بعد نحو قرن من الزمن أن القوى الدينية القومية توظف إنجازاتها هي ضمن مشروع ديني. الصهيونية بدأت كمشروع دولة تستعمل الدين كوسيلة، وبعد قرن بدأ يبدو أن المؤسسة الدينية تستعمل مؤسسة الدولة نفسها كوسيلة.
ما بين اعتقاد هيرتسل92 أن دولة اليهود ستكون دولة محايدة مع حد أدنى من الجيش المهني، وبين عمليات الطرد والتشريد في سنة 1948 وبعد ذلك، ما يغري الباحث بتقصي التحول الجاري بين النظرية والممارسة. هل كان هيرتسل مؤمناً بما يكتب في الوقت الذي فرضت الأوضاع على القيادة الصهيونية أن تغير من نهجها في أرض الواقع، أم إنه كان يخفي حقيقة مشروعة؟
يميل المؤرخون الفلسطينيون، مثل نور الدين مصالحه، إلى الاعتقاد أن الفكر الترانسفيري القائم على ترحيل الفلسطينيين عن وطنهم هو فكر متأصل في المشروع الصهيوني مثبتين ذلك باقتباسات عديدة من أقوال القيادة الصهيونية في مراحل متعددة ومناسبات متنوعة.93 ويهدف استحضار أقوال الصهيونية بشأن الترانسفير وضرورة اتخاذ إجراءات عنيفة ضد الفلسطينيين بهدف إقامة الدولة اليهودية إلى الإشارة إلى وجود النية المسبقة والمبيّتة لدى القيادة الصهيونية للقيام بفعلتها، بمعنى أن القيادة الصهيونية لا تستطيع، إذا تحدثنا بمفاهيم مستوردة من عالم القانون الجزائي، الادعاء أن ما حدث هو ضرب من الحادث العرضي، أو الإهمال، أو أنه استثناء وخروج عن القاعدة، بل إن القيادة الصهيونية قامت بفعلتها هذه مع سبق الإصرار والترصد، علماً بأن المجرم الذي يصرح قبل القيام بجريمته عن نيته القيام بها، ثم يقوم بها لاحقاً، فإن ذلك يعني التقاء الأفعال والنيات والتعامل معاً، وتصبح الجريمة من نوع «القتل المتعمد».
بعد أن أصبح طرد الفلسطينيين في سنة 1948 حقيقة، ولم يعد في إمكان المؤرخين الإسرائيليين التشكيك فيها نتيجة الكشف عن الأرشيفات الإسرائيلية العسكرية نفسها، أخذ السؤال منحى جديداً، مثل: هل كان الطرد مخططاً له؟ هل وافقت القيادة على الطرد، أم إنه كان وليد اللحظة؟ هل هناك عوامل تستطيع أن تخفف المسؤولية الأخلاقية عن عملية الطرد، إن لم نقل تبررها؟ وينبري بعض المؤرخين الإسرائيليين للدفاع عن النفس بالقول إن الطرد ليس سياسة ولم يكن مُعدّاً سلفاً، وإن العنف لم يكن متأصلاً في المشروع الصهيوني،94 وإن تاريخ الييشوف هو عبارة عن تصاعد إمكان الخيار العسكري وخيار العنف لدى قيادته، في حين أن خيار العنف لم يكن وارداً نظرياً في كتابات المنظرين الصهيونيين الأولى. وتراجع أنيتا شابيرا، مثلاً، كتابات الصهيونيين الأوائل، أمثال هيرتسل ونورداو، لتستدل منهم على أن موضوع العنف والجيش والترانسفير لم يكن موضوعاً رئيسياً لديهم. وللأمانة الفكرية تشير إلى وجود تيارات داخل الحركة الصهيونية كانت رأت منذ فترة مبكرة أن الفلسطينيين لن يتنازلوا عن أرضهم، وأنه لا بد من الوصول إلى نقطة صدامية معهم تُلزم باللجوء إلى العنف.95
غير أن شابيرا ترى أن الخيار العسكري العنيف لم يتبلور إلاّ مع ثورة 1936، وخلال الحرب العالمية الثانية، وضمن حالة من الدفاع عن النفس، باعتبار أنه الملاذ الأخير والاستنتاج الذي لا بد منه من أجل الحصول على الدولة اليهودية. وبالتالي، يبدو المستوطن اليهودي مضطراً إلى حمل السلاح للدفاع عن نفسه وعن مشروعه. ومثلما يشير بعض المؤرخين،96 فإن الاعتماد على السلاح وعلى القوة كطريقة لحل النزاعات أصبح منذ تلك الفترة الخيار المفضل لدى قيادة الييشوف بداية وقيادة الدولة لاحقاً. وبهذا المعنى جرت عسكرة السياسة في إسرائيل، ليس بمعنى أن المؤسسة العسكرية استلمت السلطة بنفسها أو أن هناك اختلاطاً في الصلاحيات بين المؤسسة المدنية البرلمانية–الحكومية وبين مؤسسة الجيش، وإنما بمعنى أن المؤسسة السياسية أصبحت ترى في الخيارات العسكرية طريق الحل الأمثل لكل نزاع وخلاف،97 وأن القيادات العسكرية قبلت ألاّ تسيطر على الحكم مباشرة، في مقابل أن توافق القيادة السياسية على تبنّي مواقف شبيهة بمواقفها ومواقف الجيش التي تقوم على مركزية العنف بصورة عامة، ولا سيما في حل النزاعات.
إن نموذج شابيرا التحليلي فيه ما يفسر، أول وهلة، هذه الثنائية الموجودة في الصهيونية بين النظرية والممارسة. فتبدو النظرية مسالمة نسبياً وتدعو إلى طهارة السلاح، لكن في واقع الأمر نجد أن السلاح أصبح الحَكَم في كل خلاف ويُستعمل من دون كثير من الطهارة، ويمكن اعتبار تاريخ الييشوف والمواجهة بينه وبين الفلسطينيين أنهما مرحلة التحول من اللاعنف إلى العنف، وأن التحول إلى العنف، وفقاً لشابيرا، حدث نتيجة ميل اللاعبين الآخرين إلى استعمال العنف (الفلسطينيون في ثورة 1936، وبريطانيا في إبان الحرب العالمية الثانية). وفي المقابل، فإن المؤرخ الإسرائيلي بني موريس يشير في كتابه الأول عن قضية طرد الفلسطينيين في سنة 1948 إلى أنه لم يكن هناك سياسة طرد موجهة من القيادة الصهيونية، وإنما جرت عمليات العنف والطرد في أثناء المعارك، ومن دون تخطيط مسبق لها. لكن موريس في كتابه الأخير يطور مقولته، ويدعي أنه حتى إن لم يكن هناك تخطيط واضح للطرد، فإن العنف أمر متأصل وبنيوي في الحركة الصهيونية.98
إن المثير في حالة الصهيونية، وإسرائيل لاحقاً، هو قدرتها على المزاوجة بين خطاب يتدثر بأخلاقيتها وممارسة قمعية ووحشية. ومما لا شك فيه أن هذه القدرة على المزاوجة بينهما مهمة جداً في الحفاظ على التوازن النفسي لدى الإسرائيلي المتوسط، إذ لا أحد يريد أن يرى نفسه قاتلاً وقامعاً لشعب آخر، ولذلك يبدو النموذج المركب الذي يفصل بين «القيم» و«الممارسة» نموذجاً جيداً لحفظ التوازن. ويُعتبر هذا العمل الأيديولوجي التبريري الذي يساهم في عملية شرعنة الممارسة القمعية أمراً مهماً لكل مجموعة مسيطرة وقامعة لا تستطيع الاستمرار في قمعها بالاعتماد على قوتها السافرة فقط. فعليها أن تحوّل قوتها في موازين القوى السافرة إلى تفوق أخلاقي أيضاً، وأن تقنع شعبها بأنه يدافع عن قضية عادلة. وضمن هذا الفهم، فإن النموذج المركب، بعكس نموذج نور الدين مصالحه، يستطيع أن يفسر لنا كثيراً من الأمور، مع أنه يهدف إلى تخفيف مسؤولية القيادة الصهيونية الأخلاقية.
إلاّ إنه في اعتقادي يستطيع المرء أن يفهم الطابع المركب لسؤال العنف في المشروع الصهيوني من دون أن يرفع عن المشروع المسؤولية الأخلاقية. فضمن هذا النموذج يمكن فهم الصهيونية كمَن يُدخل نفسه عمداً في وضع يمكن اعتباره دفاعاً عن النفس، فيقوم باستعمال كل قوته لضرب خصومه مدعياً أنه في وضع دفاع عن النفس، وأنه اضطر إلى التصرف بهذه الطريقة العنيفة. إن انعدام الخيارات في مراحل لاحقة لا يعفي من المسؤولية الأخلاقية إذا كان هناك خيارات في بداية الطريق. إن النموذج الذي نقترحه هنا يستطيع أن يفسر الطابع الأيديولوجي الاعتذاري للحركة الصهيونية التي تجمع بين العنف من ناحية، والإيمان بطهارة السلاح والتفوق الأخلاقي من ناحية أُخرى، من دون أن نضطر إلى التنازل عن قدرتنا على تقييم المشروع الصهيوني برمّته من وجهة نظر أخلاقية وسياسية. إن مَن يقرر أن يبني «بيتاً قومياً» ويجمع يهود العالم في رقعة آهلة يبني مشروعه القومي عليها، يجب ألاّ يفاجأ إذا قاوم السكان الأصليون هذا المشروع.99
أ) من قرار التقسيم إلى إعلان الدولة100
عندما اتخذت الجمعية العامة قرارها الذي يوصي بتقسيم فلسطين إلى دولة عربية ودولة يهودية، في 29 تشرين الثاني / نوفمبر 1947، كان اليهود يشكلون 32% من مجموع السكان في فلسطين، غير أن القرار منحهم السيطرة على 56% من أراضي فلسطين.101 وبموجب القرار، كان على الانتداب البريطاني أن ينتهي بتاريخ لا يتجاوز الأول من آب / أغسطس 1948، على أن يتم تشكيل مجلس دولة موقت في كل من الدولتين العربية واليهودية بتاريخ لا يتجاوز الأول من نيسان / أبريل 1948، تكون وظيفته الأساسية تنظيم الانتخابات لهيئة تأسيسية في كل من الدولتين كي يتسنى لها تسلم السلطة الموقتة وإقرار دستور الدولة. وفي واقع الأمر، أعلن الجانب العربي عدم قبوله قرار التقسيم، ولم تساهم بريطانيا في تطبيق القرار واللائحة الزمنية التي تم ترتيبها، وهكذا اندلعت الحرب غير النظامية.102 وفي 29 نيسان / أبريل 1948، شرّع البرلمان الإنكليزي قانوناً عُرف باسم Palestine Act الذي أقر بأنه في 15 أيار / مايو، سينتهي الانتداب على فلسطين، وأن الصلاحية القانونية للتاج البريطاني ستتوقف بذلك التاريخ.
أمّا فيما يتعلق بقيادة الييشوف والحركة الصهيونية، فإن إعلان الدولة لم يكن أمراً مفروغاً منه، إذ سبقته عدة مداولات وخلافات في الرأي لدى هذه القيادة.103 وكانت فكرة الإعلان بشكل أحادي الجانب ومن دون تنسيق دولي واضح، تبدو كأنها تنطوي، بين السطور، على الخروج الجزئي عن الإرادة الدولية وقرارات الأمم المتحدة، وعلى خلق وقائع ناجزة على أرض الواقع. إلاّ إنه مع الانتهاء الرسمي للانتداب البريطاني، نشأت حالة من الفراغ القانوني والسياسي التي كانت تنتظر تعبئتها. وهكذا جاء إعلان الدولة الإسرائيلية بتاريخ 14 أيار / مايو.
ب) إعلان الدولة: قراءة أيديولوجية
تشكل وثيقة إعلان الدولة104 نصاً غزيراً ومكثفاً لكثير من المقولات والأفكار والفرضيات الصهيونية. وتكمن أهميتها القصوى في كونها حظيت بإجماع عام، إذ وافقت عليها التيارات الصهيونية جميعها من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. وتشكل الوثيقة اللحظة الحاسمة والمكثفة للفكر السياسي الذي انبثق منه كل المبنى القانوني الدستوري للدولة، وتشكل نقطة الوصل بين السياسي والقانوني، بين الأخلاقي والمهني. ويسمح فهم الوثيقة بإدراك طبيعة القانون الإسرائيلي وتفسيراته الممكنة وآفاق تطوره، لا لأن للوثيقة موقعاً قانونياً واضحاً باعتبارها جزءاً من دستور الدولة، بل بالعكس لكونها الروح السرمدية التي تعيش قبل القانون (الدستور) وبعده، وتشكل مدخلاً تأويلياً للقانون وللدستور نفسه. وتُعدّ مقولات وثيقة إعلان الدولة بمثابة «اليد الخفية» التي تتحكم في منطق الأمور من دون أن يكون لها دائماً حضور واضح وجلي. وسأورد بعض الأفكار الرئيسية المهمة في الوثيقة فيما يلي.105
أولاً: تشكل الوثيقة موقفاً مكثفاً من فكرة نفي المنفى، وتقيم علاقة استثنائية بين اليهودي وأرض إسرائيل. ويبدأ النص العبري بالإشارة إلى المكان فيقول: «في أرض إسرائيل، نشأ الشعب اليهودي، وفيها تبلورت هويته الروحية والدينية والسياسية.... وفيها أبدع قيماً ثقافية ذات دلالة قومية وعالمية، وأورث للعالم كله سفر الأسفار الأزلي.» بهذا يقيم النص علاقة منفردة بين اليهودي وأرض إسرائيل ويومئ إلى أن الإبداعات اليهودية والإنجازات الفكرية والثقافية محصورة كلها فيها، فيتم بذلك استثناء المنفى وتغييبه على أنه حالة دونية وغير طبيعية ولا تستحق الذكر. وضمن هذه الرؤية تبدو إنجازات اليهود في المنفى، مثل إنجازات الرامبام ابن ميمون وسبينوزا وغيرهما، إنجازات أقل قيمة. وتصف الوثيقة في الفقرتين التاليتين القصيرتين علاقة اليهودي المبعد بأرض إسرائيل بأن سنين المنفى كلها كانت فترة انتظار، وأهم ما فيها هو الغياب، الغياب عن أرض إسرائيل والشوق إليها. وتقفز الفقرة الرابعة من الوثيقة مباشرة للحديث عن المؤتمر الصهيوني الأول الذي عُقد في بازل سنة 1897، والذي أعلن فيه هيرتسل حق الشعب اليهودي في البعث القومي على أرضه، كأن كل ما بين سفر الأسفار والمؤتمر ما هو إلاّ صحراء كاملة كان اليهود فيها غائبين عن التاريخ.106 فهم خرجوا من التاريخ بخروجهم من أرض إسرائيل، وعادوا إليه مع مؤتمر بازل.
إن منطق نفي المنفى الذي تختفي فيه الفوارق بين يهود اليمن ويهود بولندا، بين يهود روسيا ويهود فرنسا، سيتحول لاحقاً إلى الأساس النظري الذي تقوم عليه فكرة «بوتقة الصهر» التي تسعى لإزالة الحدود داخل مختلف فئات الشعب اليهودي، وتسعى في المقابل لرسم حدود مع الآخر الفلسطيني.
ثانياً: تتناول الفقرات من الخامسة حتى العاشرة سرد الأحداث المهمة في التاريخ اليهودي المعاصر، والتي من شأنها أن تشكل المبررات الأخلاقية والسياسية لإقامة الدولة. فتشير الفقرة الخامسة إلى وعد بلفور، وإنه لأمر مثير حقاً أن تحوي وثيقة قيام دولة مثل هذه المرجعية. فالوعد أعطته دولة كولونيالية، ثم حُول إلى وثيقة دولية، وتكون الصهيونية بالتالي حركة تحرر من الغرب اللاسامي، بمساعدة الغرب الكولونيالي، فكأنها تتحرر من الغرب بمساعدة الغرب، تعاديه وتتواطأ معه في الوقت نفسه. أمّا الفقرة السادسة، فتشير إلى هول الجرائم النازية وفظائعها بحق الشعب اليهودي، وإلى الضرورة الناتجة من ذلك لإيجاد حل للمشكلة اليهودية عن طريق «إعادة إحياء الدولة اليهودية في أرض إسرائيل» كي تفتح أبوابها أمام يهود العالم كافة. وفي الفقرة الثامنة تذكّر الوثيقة بمساهمة المستوطنين اليهود في الحرب ضد النازية. وأرادت الدولة الفتية بذلك أن تُظهر نفسها في صف القوى العالمية التي تسعى للسلام وللتحرر، ووجدت أنه من الملائم والضروري إيراد ذلك داخل النص.
وفي الفقرة التاسعة تشير الوثيقة إلى قرار الأمم المتحدة الصادر في 29 تشرين الثاني / نوفمبر، إلاّ إنها تتعامل معه وتقرأه قراءة خاصة بها، إذ تذكر أن الجمعية العامة للأمم المتحدة اتخذت قراراً يلزم بإقامة دولة يهودية في أرض إسرائيل. وهكذا اختزلت الوثيقة القرار القاضي بإقامة دولتين، ليكون قراراً يؤسس لحقها في بناء دولتها اليهودية فقط من خلال تجاهل تام للآخر – الفلسطيني. وفي نهاية الفقرة تؤكد الوثيقة أن هذا الاعتراف من الأمم المتحدة بحق الشعب اليهودي في إقامة دولته «غير قابل للمصادرة»، مع أنه يمكن إثارة التساؤل التالي: إذا كانت الأمم المتحدة هي التي أصدرت القرار، فلماذا لا يكون صاحب القرار هو صاحب السيادة في تغييره أو تأويله أو توضيحه؟ فتبدو الأمم المتحدة في الوثيقة، ووعد بلفور قبل ذلك، أداة ضرورية لتحقيق مشيئة التاريخ، بَيد أنها لا تملك سوى أن تعبّر عن هذا الحق الطبيعي، وعن هذه الإرادة التاريخية التي لم تصنعها هي.
ثالثاً: تعلن الوثيقة في الفقرة الثالثة عشرة أن مهمتها جمع الشتات واستيعاب الهجرة، وتعبّر عن التزامها إحقاق «المساواة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع مواطنيها من دون تمييز على أساس اللون، والعرق، والجنس»، أي أن جوهر الدولة هو جمع الشتات، أمّا المساواة فهي نوع من القيد المفروض على الدولة خلال ممارستها تحقيق الهدف الذي قامت من أجله. فالنص الوارد هنا بصدد الالتزام بالمساواة في الحقوق هو، في واقع الأمر، نقل حرفي تقريباً للنص الوارد في قرار التقسيم. وكان إدراج مثل هذا النص في دستور كلا الدولتين شرطاً أساسياً في قرار التقسيم. وبموجب برتوكولات مجلس الشعب، فإن بن – غوريون صرح خلال النقاش بشأن نص الوثيقة، بأنه أدخل فيه الأمور الأساسية التي طلبتها الأمم المتحدة من القيادة الصهيونية.107 ويلاحَظ في النص غياب الإشارة إلى المساواة القومية التي ثمة مَن يرى أن إغفال إدراجها في النص لم يكن مجرد سهو من أولئك الذين صاغوا الوثيقة.108
رابعاً: إن قراءة متمعنة في نص الوثيقة لا بد من أن تبرز التوتر الدائم في النص بين الكوني والقومي، بين فرادة الشعب اليهودي والرغبة في أن يكون كسائر الشعوب، بين الميل إلى إبراز حالته اللاطبيعية والمتميزة وبين التوق إلى الطبيعي والعادي. فالفقرة السادسة تنتهي بالرغبة في أن يكون الشعب اليهودي شعباً متساوياً في عائلة الشعوب، وفي الفقرة الثامنة مفاخرة بأن اليهود أدوا واجبهم في الحرب، الأمر الذي أعطاهم الحق في الانتماء إلى الشعوب المؤسسة لعصبة الأمم المتحدة. وتتضمن الفقرة الثالثة عشرة الالتزام بميثاق الأمم المتحدة، والفقرة الخامسة عشرة تتوجه إلى الأمم المتحدة كي تقبل إسرائيل كدولة عادية في عائلة الشعوب. وحتى إن إسرائيل تتوجه في الفقرة السابعة عشرة إلى سائر الدول العربية لإقامة علاقات حسن جوار وتعاون. وفي المقابل – ومثلما رأينا – فإن هناك رواية خاصة متفردة تقيم علاقة انتقائية بين اليهودي وأرض إسرائيل تتجاوز المكان والزمان، وتعطيه حقاً طبيعياً فيها. كيف يستوي الأمران؟ وكيف يتعايش النصان؟
من غير الضروري أن يتناقض القومي مع الكوني، والخاص مع العام. فالأفكار الكونية لحقوق الإنسان نشأت أساساً في دول قومية، إلاّ إن الحالة اليهودية، مثلما تشير هي إلى نفسها، لم تكن حالة طبيعية. ومن أجل أن يتمازج القومي بالكوني، وكي تنسجم الحالة اليهودية مع الحالة الإنسانية، كان لا بد من القفز عن الفلسطيني ومن تغييبه، إذ بتغييبه يغيب الجانب الكولونيالي التوسعي الفضائحي للصهيونية ضمن محاولة لإبراز جانبها «التحرري»، فتصبح حركة تحرر بصفتين هما: تحرر من الغرب اللاسامي الذي يرفض وجود اليهودي، وتحرر من الدولة الكولونيالية. وبالتالي، يصبح غياب الوجود الفلسطيني عن النص حالة في منتهى الضرورة. فالنص منشغل بتاريخه – من أين أتى – من التوراة، من المهجر، من الكارثة، من وعد بلفور، وهذا كله يؤسس حقه في تقرير المصير والسيادة. وهو غير مؤهل (عدا حقيقة كونه غير راغب) لأن يرى أمامه الشعب الفلسطيني. إن رؤية هذا الشعب أمامه كان من الممكن أن تحجب عنه تواصله مع الغربي والعالمي، مثلما يريد أن يراه.
ج) إعلان الدولة - والسلسلة القانونية
طوال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، كان المرسوم الملكي لسنة 1922109 يشكل المرجعية العليا والأخيرة لعملية التشريع القانوني في البلد. ويحضر السؤال من أين تستمد دولة إسرائيل وإعلانها مصدرهما وشرعيتهما: هل هناك جذع قانوني معين تستمد منه شرعيتها، أم إن قيامها يشكل حالة قانونية جديدة لا تستمد شرعيتها ومرجعيتها إلاّ من ذاتها؟ بمعنى آخر، تطرح الوثيقة سؤالاً يتعلق بـ «هوية» كاتب النص: مَن يعلن الدولة؟ يلاحظ القارئ أنه حتى الفقرة العاشرة لا يفصح النص عن كاتبه، كما لو أن النص حاضر قبل كاتبه والحقيقة موجودة قبل صاحبها وقبل مكتشفها. وفقط في الفقرة الحادية عشرة، يماط اللثام وتظهر الـ «نحن» للمرة الأولى، إذ يرد في النص:
وبالتالي، فقد اجتمعنا، نحن أعضاء مجلس الشعب، ممثلي الاستيطان اليهودي في أرض إسرائيل والحركة الصهيونية، ويوم انتهاء الانتداب.... ونعلن بهذا إقامة دولة يهودية في أرض إسرائيل، هي دولة إسرائيل.
إن التأمل في هذه الـ «نحن» يقود إلى الملاحظة أن الجسم الذي يعلن الدولة وإقامتها هو يهودي، وهو أمر غير مفاجئ، لكن من المهم الإشارة إليه. وهذا الجسم الذي يعلن الدولة ليس مجرد جسم يهودي، بل هو جسم يهودي يمثل اليهود في «أرض إسرائيل» وفي المهجر أيضاً. ومن الجدير بأن نذكر هنا أنه خلال الشهر الذي سبق إعلان الدولة، كان المجلس القومي (هفاعد هلئومي)، وهو يمثل الييشوف منذ سنة 1920، والوكالة اليهودية وهي تمثل يهود العالم أينما يكونوا منذ سنة 1929 تطبيقاً لصك الانتداب، قررا أن يشكلا معاً هيئة من 37 عضواً تحت اسم مجلس الشعب (موعيتست هعام). إذاً، مجلس الشعب هو الـ «نحن» الذي يعلن الدولة، الأمر الذي يعني أنه منذ البداية تستمد الدولة إعلانها ووجودها من خارجها – من جسم عالمي خارج الدولة، والتزاماته الأولى ليست للدولة ولا لسكانها ولا حتى لسكانها اليهود، وإنما نحو الأمة اليهودية الكونية أينما تكن. إن أحداً لم يخول مجلس الشعب أن يبادر بهذا الإعلان، ولو كان مشكّلاً من هيئتين (المجلس القومي والوكالة اليهودية) كانت سلطات الانتداب تعترف بهما كونهما تحملان صفة تمثيلية لليهود.
يعتبر المنظرون القانونيون في إسرائيل أن قيام الدولة يشكل نقطة قطيعة مع أسس النظام القانوني السابق، وأن إعلانها لا يستمد مشروعيته ومرجعيته القانونية من أي مرجعية أُخرى. إذ يفصح عن صلاحياته ويعلنها، ليخلق شيئاً من العدم. فـ «النحن» في الفقرة الحادية عشرة هي نفسها التي تقوم في الفقرة الثانية عشرة بإعلان كيفية بناء مؤسساتها، فقد ورد فيها ما يلي:
إننا نقر أنه بدءاً من لحظة انتهاء الانتداب، الليلة، صباح السبت الموافق فيه 15 أيار / مايو 1948، حتى موعد إقامة المؤسسات المنتخبة والدائمة للدولة، بموجب الدستور الذي ستضعه الجمعية التأسيسية المنتخبة، وفي موعد أقصاه 1 تشرين الأول / أكتوبر 1948، يقوم مجلس الشعب بوظيفته كمجلس الدولة الموقت، في حين أن الجسم التنفيذي للمجلس – «إدارة الشعب» – سيقوم بدور الحكومة الموقتة للدولة اليهودية التي ستدعى إسرائيل.
هنا تكمن لحظة «الخلق القانوني»،110 وباللغة القانونية هنا تكمن «النورما الأساسية»، أو «المعيار الأساسي» (grundnorm) للدولة وللنظام القضائي، بحسب تعبير هانس كيلسن.111 فهذه «النحن» هي التي تحوي الصلاحيات الأولى كلها وتحملها، وهي مصدر الشرعية، إذ إنه في هذه اللحظة يقوم الجسم الذي أعلن قيام الدولة (مجلس الشعب)، وهو الذي كان شكّل نفسه بنفسه، بإنشاء هيئة اسمها مجلس الدولة الموقت، ويقرر أنه هو ذاته سيكون مجلس الدولة الموقت هذا، وهو الذي يقرر الجهة (الجمعية التأسيسية المنتخبة) التي ستقوم بصوغ دستور الدولة. بكلام آخر: يمنح الصلاحية لنفسه كي يكون «البنية التحتية» التي سيُشيّد عليه النظامان الدستوري والقضائي لاحقاً.
د) إشكالية الدستور في إسرائيل
من أجل فهم إشكالية الدستور في إسرائيل ودوره في الحياة القانونية والسياسية، لا بد من مدخل مقتضب بشأن موضوع الدستور ودستورية الحكم، علماً بأن المفهومَين لا يتطابقان، إذ تشير فكرة دستورية الحكم إلى وجود قيم معينة يجب أن يتضمنها دستور الدولة (وهي قيم مثل حقوق الإنسان ومبدأ سيادة القانون والفصل بين السلطات)، في حين أن الدستور الفعلي للدولة قد يتضمن أحكاماً تتعارض مع هذه القيم وتكون بالتالي «غير دستورية».
من الجدير بالملاحَظة، بدايةً، أن ثمة توتراً دائماً بين الدستور والفكر الليبرالي. إذ تعني الديمقراطية، بمعناها الكلاسيكي على الأقل، حكم الشعب (وهذا يفترض وجود مجموعة من السكان معرفة بأنها شعب)، وبالتالي تعني حكم الأغلبية. فما تقرّه الأغلبية هو القانون الذي يجب أن يسري مفعوله. أمّا الدستور، فيفترض أن هناك أموراً، مثل الحقوق الفردية الأساسية للمواطنين، تقع خارج اللعبة وخارج صلاحيات الأغلبية، أي أنها تصادر مجالاً معيناً، أو نوعاً معيناً من القرارات من يد الأغلبية. لذا يُطرح التساؤل التالي: بأي حق يمكن وضع حدود لصلاحيات الأغلبية؟ وما هي الهيئة التي تستطيع أن تراجع صلاحية البرلمان الذي يمثل هذه الأغلبية – وأن تلغي قوانينه التي تتعارض مع الدستور وبأي منطق؟
وتُعتبر إحدى هذه الإجابات ما بات يُعرف بنظرية «اللحظة الدستورية» بحسب بروس أكيرمان.112 وتفيد هذه النظرية بأن هناك لحظات مهمة وتاريخية ومفصلية، يمارس فيها الشعب نوعاً آخر من العمل السياسي، ويشرّع لا لنفسه فقط، بل لأجيال لاحقة أيضاً. وفي هذه «اللحظات الدستورية» ينسى الناس لحظتهم ولا يتلهون بمصالحهم السياسية المباشرة، بل يكتبون تشريعات للمستقبل البعيد، كأنهم يشرِّعون لغيرهم متعالين عن مصالحهم الآنية المباشرة. وفي هذه اللحظات هم لا «يلعبون» سياسة، لكن يضعون قوانين اللعبة السياسية كي يستطيعوا اللعب لاحقاً. وبالتالي، هناك مستويان للعمل السياسي: هناك مستوى العمل السياسي اليومي العادي في الصراع على المصالح، وهذا يعبّر عن نفسه في تمرير القوانين العادية في البرلمان. لكن هناك نوعاً آخر، أسمى وأرفع، وأكثر تاريخية ويتطلب مسؤولية أكبر، هو لحظة العمل السياسي في «اللحظة الدستورية». وغالباً ما تكون هذه اللحظة ثورة جديدة، أو تأسيساً لدولة جديدة. وهذا ما يبرر حقيقة أن تكون للقوانين والتعليمات التي توضع في مثل هذه اللحظة قيمة خاصة، بحيث تخضع القوانين الأُخرى التي تأتي لاحقاً لمنطق هذه اللحظة وتشريعاتها.
تلتقي هذه النظرية مع نظريات أُخرى تركز على فكرة «النورما الأساسية» لهانس كيلسن السابقة الذكر. وعادة، يمكننا أن نبرر سريان مفعول تشريع ثانوي عن طريق رده إلى أصوله، أي عن طريق الإشارة إلى أنه ارتكز على تشريع رئيسي، أو على قانون سنه البرلمان. وإذا سألنا على ماذا اعتمد القانون نفسه، لأمكننا أن نرد أنه استند إلى الدستور الذي يقر صلاحية البرلمان بتشريع مثل هذا القانون. لكن لو تساءلنا عن المصدر الذي يستمد منه الدستور صلاحيته، نلاحظ أن السلسلة القانونية تقترب من نهايتها وتقترب من الهاوية. وهذا يعني أنه إذا توغلنا أكثر، سنصل إلى نقطة معينة يتعذر فيها إيجاد جواب قانوني عن مصدر الصلاحية، فندخل إذ ذاك في مجالات السياسة والتاريخ. فإذا سألنا، مثلاً، مَن صاغ الدستور، لقلنا مجلس الثورة، أو مجلس الدولة الموقت، أو الهيئة التأسيسية، لكن مَن أعطاها الحق؟ لا جواب قانونياً على هذا السؤال. هناك نقطة معينة مفترضة خيالية أو وهمية، لكنها ضرورية لفهم المبنى الدستوري، وهذه النقطة توصل ما بين التاريخ / السياسة والقانون، بين الثورة والدولة، وهو ما يمكن الإشارة إليه على أنه «النورما الأساسية».
عادة، هناك هيئة معينة تظهر في لحظات الفراغ القانوني (بعد الثورة، بعد الاستقلال، إلخ) تتركز فيها الصلاحيات من دون أن تُمنح إياها، بل إنها تمنحها لنفسها، والامتحان الوحيد للصلاحيات هو التاريخ. أو لنقل الأيام المقبلة هي التي ستبرهن ما إذا كانت هذه الهيئة بحق وحقيقة ذات صلاحيات، وامتحانها الأول والأخير يكمن في قدرتها على فرض القوانين التي تسنّها. ويسمي القانون الدستوري الهيئة التي تضع دستور البلد الهيئة التأسيسية. فهي تخلق النظام القانوني من العدم، ولا ترتكز على أي شيء يسبقها، وإنما ترتكز على ذاتها وعلى شرعيتها التاريخية والأخلاقية، وهي سيدة نفسها ولا سيادة عليها. وعادة، تستعمل الهيئة التأسيسية صلاحيتها مرة واحدة فقط، إذ تضع الدستور وطرق تغييره، أي الإطار العام للعمل السياسي والتشريعي، ثم تختفي عن مسرح التاريخ. وبعد إقرار الدستور، يكون الجميع خاضعاً له، ولن يعود هناك جسم آخر يعمل في فراغ دستوري، فكل جسم سيقوم بأي عملية تشريع لاحقاً، ستجري محاسبته والتعامل معه في ضوء الدستور الذي جرى وضعه.
كيف يؤثر هذا الفرق النوعي بين اللحظة التأسيسية أو اللحظة الدستورية من ناحية، وبين السياسة العادية والتشريع القانوني من ناحية أُخرى، في إشكالية الدستور في إسرائيل، وفي فهمنا لعلاقة الدستور بالسياسة في الحالة الإسرائيلية؟
لم يرد في وثيقة إعلان الدولة ماهية صلاحيات مجلس الدولة الموقت الذي قُررت إقامته. وبالتالي، وعلماً بأن هذا المجلس هو نفسه مجلس الشعب الذي أعلن الوثيقة، فإنه سيد نفسه وهو يحدد صلاحياته بنفسه. فقام فوراً، في 19 أيار / مايو 1948، بإصدار «أمر أصول الحكم والقانون»،113 منح فيه ذاته صلاحيات تشريعية (بما فيها إعلان حالة الطوارئ)، وأقر صلاحيات الحكومة الموقتة التنفيذية، وأعلن استمرار القوانين الانتدابية بما لا يتعارض مع التغيير الناشئ عن إعلان الدولة. وبعد أن منح المجلس نفسه هذه الصلاحيات التشريعية، قام في 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1948 بإصدار «أمر انتخابات الجمعية التأسيسية» أوضح فيه نظام الانتخابات المنويّ إجراؤها وفقاً لوثيقة إعلان الدولة. وفي 13 كانون الثاني / يناير 1949، أي قبل أيام قليلة من الانتخابات التي تحددت في 25 من الشهر نفسه، أصدر مجلس الدولة الموقت «أمر الانتقال إلى الجمعية التأسيسية»، والذي نص فيه على أن الجمعية التأسيسية التي ستقام بعد الانتخابات ستحل محل مجلس الدولة الموقت وستتمتع بصلاحياته، الأمر الذي يعنى أن الجمعية التأسيسية التي ستُنتخب ستكون صاحبة الصلاحيات في كلا المجالين: الصلاحية التشريعية، علماً بأن مجلس الدولة الموقت نقل إليها هذه الصلاحية؛ الصلاحية لكتابة دستور الدولة، علماً بأنها مُنحت هذه الصلاحية مباشرة في وثيقة إعلان الدولة. ومن الجدير بالملاحظة أن هذه الازدواجية في جسم واحد لم تنشأ تماماً وفقاً للوثيقة، إذ كانت هذا الأخيرة قد أقرت من حيث المبدأ إقامة جسمين أو هيئتين، الواحدة تعنى بصوغ الدستور، والأُخرى تكون لها صلاحيات تشريعية عادية، وكان من المفروض أن تكون هاتان الهيئتان منفصلتين من حيث الصلاحية، وطرق العمل، والشخوص الحاضرة في كل منهما.
على كل حال، كان أول عمل قامت به الجمعية التأسيسية سريعاً (16 شباط / فبراير 1949) بعد انتخابها إقرار «قانون الانتقال» الذي بموجبه تحولت إلى ما سمّته الكنيست الأول، مؤكدة بذلك الجمع بين صلاحيتها كهيئة أوكل إليها وضع دستور للدولة، وبين صلاحيتها كهيئة تشريعية عادية. غير أن الكنيست الأول لم يستطع وضع دستور لإسرائيل لعدة أسباب سنعرضها بعد قليل. فأقرّ في 13 حزيران / يونيو 1950 حلاً وسطاً عُرف باسم «اتفاق قرار هراري» (على اسم عضو الكنيست يزهار هراري الذي بادر إليه) نص على أن تُعدّ لجنة الدستور والقانون والقضاء الدستور في فصول منفردة يقرّ الكنيست كل واحد منها تباعاً كقانون أساسي إلى أن تنهي اللجنة عملها، فتجمع كل القوانين الأساسية لتشكل دستور الدولة.114
لم يسنّ الكنيست الأول أي قانون أساسي، وإنما خلال الأعوام اللاحقة، جرى إقرار عدد من القوانين الأساسية أشير إليها بالاسم على أنها كذلك. لكن في كثير من الحالات، لم تحتوِ هذه القوانين على بنود تحصين ولم تُقرّ بأغلبية خاصة، وبالتالي من الممكن من حيث المبدأ تغييرها عن طريق أغلبية عادية. ومن ناحية ثانية لا تشير هذه القوانين إلى أنه في حالة تعارض بينها وبين أي قانون عادي، فإن تعليمات القانون العادي تُصبح لاغية. وعليه، من غير الواضح ما هي الخاصية التي تحظى بها هذه القوانين كي تُعتبر قوانين أساسية؟ فإذا كان الجسم نفسه (الكنيست) يستطيع بالإجراء نفسه وبالأغلبية نفسها أن يقر القوانين الأساسية، فما هي خاصيتها؟115
وفي المقابل، من الجدير بأن نسجل أنه في 5 تموز / يوليو، أي بعد أقل من شهر من تبنّي الكنيست اقتراح هراري بشأن القوانين الأساسية، شرّع أحد أهم القوانين، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، وهو قانون العودة.116 وعلى الرغم من أهميته، فإن الكنيست لم يعتبره قانوناً أساسياً.
على أي حال، وبسبب عجز الكنيست الأول عن إقرار دستور للدولة، كان عليه أن يقوم بتكرار الخطوات المتمثلة في «أمر الانتقال إلى الجمعية التأسيسية» لسنة 1949، وفي «قانون الانتقال» للسنة نفسها السابقي الذكر، سعياً منه للحفاظ على تواصل السلسلة الدستورية التي أنشأتها وثيقة إعلان الدولة. فأقرّ، في 4 نيسان / أبريل 1951، قبيل الدعوة إلى انتخابات الكنيست الثاني، «قانون الانتقال إلى الكنيست الثاني» لسنة 1951 الذي تضمن الآتي:
– استمرار ولاية الكنيست الأول حتى التئام الكنيست الثاني؛
– منح الكنيست الثاني جميع الصلاحيات التي يتمتع بها الكنيست الأول؛
– النص، فور التئام الكنيست الثاني، على أن يقرأ أي قانون ذكر الجمعية التأسيسية أو الكنيست الأول، كما لو أنه ذكر الكنيست الثاني (إلاّ إذا دلت القرينة على غير ذلك)؛
– تأكيد أن قانون الانتقال إلى الكنيست الثاني يسري على الانتقال إلى الكنيست الثالث وإلى كل كنيست يليه، إلاّ إذا صدر قانون لاحق في الموضوع ذاته.
من الضروري الآن العودة إلى الأسباب التي حالت دون أن تقر الجمعية التأسيسية الدستور والتمعن في دلالات هذا الأمر السياسية. ومن المعروف أن معارضة لمثل هذه الخطوة في مداولات الجمعية التأسيسية أتت من القوى الدينية117 التي خشيت من تثبيت الانتصار الذي حظيت به الصهيونية بإقامة الدولة، وتحويله إلى وضع ثابت ونهائي. فمثلما رأينا، كانت لحظة إقامة الدولة واحدة من أكثر اللحظات التي تراجعت فيها القوى الأرثوذكسية اليهودية، وكانت في موقع ضعيف جداً، وبالتالي رأت أن ليس من الحكمة وضع دستور في مثل هذه الأوضاع من شأنه أن يكون دستوراً علمانياً يكتفي بمراعاة القوانين الدينية.
لكن جزءاً آخر من المعارضة كان على أساس مختلف تماماً. إذ إن قيام دولة إسرائيل لم يشكل نهاية المشروع الصهيوني، وإن كان حلقة مهمة في المشروع، ما دام هدفه تجميع أكثر ما يمكن من يهود العالم في فلسطين، استمراراً لفكرة لمّ الشتات ونفي المنفى. فإسرائيل دولة اليهود، كل اليهود؛ لا اليهود في إسرائيل فقط، بل في العالم كافة أيضاً. والمنتفعون من الدولة، أو اليهود الذين قامت الدولة لتخدمهم موجودون في أكثريتهم خارجها. بالتالي، من غير المنطقي أن يجري وضع تصور لشكل الدولة ودستورها وتكبيل يد «مواطني الغد» بدستور لم يكونوا شركاء فيه. إذ إن الجمعية التأسيسية المنتخبة فقط من القاطنين ضمن حدود الدولة لا تعكس الإرادة الشعبية الحقيقية في مجملها. وبمعنى من المعاني فإن الكنيست ما هو إلاّ مؤتمن على «أرض إسرائيل» ومصالح الشعب اليهودي، في حين أن المالك الحقيقي وصاحب الحق موجود خارج البلد.
إن هذا الأمر يعني من حيث الدلالة السياسية أن مشروع إقامة الدولة هو مشروع مستمر أبداً. إذ إن الثورة لم تنتهِ ولم تحقق أهدافها بعد، والدولة لم تقم تماماً ونهائياً، وإنما مشروع إقامتها هو مشروع مستمر: سيكون هناك دائماً لمّ شتات واستيعاب مهاجرين، وسيكون هناك دائماً حاجة إلى بناء مستعمرات جديدة ومصادرة أراضٍ عربية جديدة، وكذلك إلى نفي الفلسطيني وإقصائه. وبالتالي، يمكن فهم ديناميكية العلاقة في إسرائيل بين السياسة والقانون كديناميكية بين جدل الثورة والدولة، بين فوضى القوة وقانونية الدولة، بين الطابع الإثني– الديني الذي أفصح عن نفسه في وثيقة إعلان الدولة وبين المبنى المؤسساتي–المدني الدولاني الذي يحوي بداخله غير اليهود وهو ملزم بالعمل لمصلحتهم. فالثورة تخاف من تسليم أوراقها إلى الدولة، والإثني يرفض أن يسلم رقبته تماماً إلى الدولة المدنية التي تحوي داخلها غير اليهود، أي الفلسطينيين الباقين في وطنهم. ومن غير المعقول أن تحفر الثورة قبورها بأيديها بنقل مركز اتخاذ القرار من المؤسسات القومية اليهودية التي أقامت الدولة وأعلنت استقلالها إلى مؤسسات الدولة التي تحوي غير اليهود.
سياسياً فإن هذا الأمر يعني وجود تزاوج دائم بين منطق الثورة التي ترفض أن تنتهي، وبين المنطق المؤسساتي للدولة التي تفرض قيوداً على الثورة نفسها. وبهذا المعنى يمكن رؤية إقامة دولة إسرائيل في الوقت نفسه كإنجاز كبير للصهيونية وكبداية أزمتها. فحتى تلك اللحظة عمل المشروع القومي – الإثني – الديني اليهودي من دون قيود قانونية، وكان يقرر لنفسه وبنفسه، أمّا عندما أقام الدولة، فإن هذه الأخيرة أصبحت ملزمة تجاه مواطنيها وليس تجاه اليهود فقط. إن ثنائية الدولة / الثورة هذه ورفض القبول بمؤسسات الدولة كمرجعية نهائية تجلت في كثير من المناسبات.
كانت إحدى هذه المناسبات عندما اغتال يغآل عمير رئيس الحكومة الإسرائيلية يتسحاق رابين. ومن الأسباب الرئيسية التي ساقها القاتل، فإنه لم يذكر قرار الانسحاب من الأراضي المحتلة فحسب، بل ذكر هوية الجسم الذي اتخذ القرار أيضاً، وهو الكنيست الإسرائيلي الذي يضم في صفوفه نواباً عرباً. ففي نظره، لا يعقل أن يوكل مصير اليهود إلى أيادٍ غير يهودية، أي ليس من المعقول أن تتنازل الأجسام اليهودية المؤسِسة (الثورية) عن حقها في اتخاذ القرار لمصلحة المؤسسات الدولانية، وضمنها الكنيست. وضمن هذه الرؤية، تصبح دولة إسرائيل إنجازاً للصهيونية من ناحية، وخيانة لطهارة الثورة القومية من ناحية أُخرى.118
وفي هذا السياق، لا يُعدّ منطق يغآل عمير غريباً تماماً، لأنه إلى حد كبير يمثل منطق المؤسسة برمّتها. فقد أخرجت إسرائيل كثيراً من الأمور من صلاحيتها المباشرة وأوكلت إدارتها إلى أجسام «خاصة»، كي لا تخضع هذه الأجسام للمحاسبة القانونية التي من المفروض أن تسري في كل دولة قانون. ومثلما هو معروف، فإن قضايا رئيسية ومهمة وحيوية، مثل قضايا الأراضي والاستيطان والهجرة، يجري ترتيبها وتمويلها والتخطيط لها في مؤسسات «خارج» الدولة، مثل الوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي. إن إبقاء هذه المؤسسات إلى درجة كبيرة خارج القانون، واعتبارها مؤسسات خاصة، يزيحان عن كاهل الدولة مسؤوليات عديدة تجاه مجمل مواطنيها، ويشكلان تعبيراً معيناً عن استمرار «الثورة»، وعن وفاء لليهود كأمة فوق الجغرافيا عبر «خيانة» مؤسسات الدولة.
أمّا من ناحية دستورية قانونية، فإذا شئنا استعمال مصطلحات أكيرمان لقلنا إنه، بمعنى من المعاني، من الصعب جداً العثور على «اللحظة الدستورية» في الحالة الإسرائيلية، ومن الصعب إيجاد الخط الفارق الذي يميز السياسة اليومية العادية الخاضعة للمساومة السياسية والمصالح الآنية من «السياسة العليا» أو السياسة التي تدير صنع القرار في «اللحظات الدستورية»؛ تلك اللحظات المميزة والخاصة والاستثنائية التي يتم فيها رسم حدود الملعب السياسي، وتُقرّ فيها قوانين اللعبة نفسها. فكون الكنيست يقر القوانين العادية والقوانين الأساسية بالإجراء العادي نفسه، يخلق نوعاً من البلبلة ويشجع على اختلاط المستويات، وعلى إمكان حدوث عمليات مقايضة بين مختلف المستويات. فإذا أرادت الأغلبية أن تحصل على إنجاز مادي عيني، فإنه يمكنها أن تبدي استعداداً لدفع ثمن دستوري لفئة معينة داخل الكنيست. و«العملة» المتداولة داخل الكنيست هي العملة نفسها التي بواسطتها يجري «شراء» قوانين أساسية، أو قوانين عادية.
يعني هذا الوضع دستورياً أنه لا يوجد هناك أشياء مفروغ منها تقع خارج المساومة اليومية. إذ لا توجد قوانين للعبة غير خاضعة للتغيير، الأمر الذي يخلق وضعاً من عدم الثبات والاستقرار، ويوحي لكل فريق بأن كل شيء، بما فيه قوانين اللعبة الأساسية، مفتوح للتغيير والمساومة. بمعنى ما: فإن مشروع الدولة لم يكتمل بعد، وحتى الآن لم تعرّف عن حدودها السياسية، ولم تعرّف تماماً مَن هم مواطنوها، والجمعية التأسيسية لم تُنهِ عملها بعد. إذاً، تُعتبر إسرائيل دولة في طور التأسيس المستمر، تعيش كأنها ثورة مستمرة، وكأنها دائماً في لحظة «الخلق» الأولى. ولعلها ليست مجرد مصادفة أن يقود الكنيست الإسرائيلي (بصفته هيئة تأسيسية، أي بصفته مشروعاً للدستور) سنة 2018 ليطل علينا من جديد بقانون أساس: القومية الذي يعيد ويتيح ويعلن تأسيس إسرائيل من جديد، كأننا نعيش زمن الثورة، وكأن الدولة لا تزال في مراحل تأسيسها.119
رابعاً: علاقة إسرائيل اليوم بإسرائيل الأمس
عند دراسة إسرائيل، مثلما هي الحال في دراسة أي دولة، يجب فهم الأسس الأيديولوجية والعوامل التاريخية المحيطة التي أدت إلى نشوئها. إذ لا يمكن فهم الحاضر بجميع مركباته من دون فهم التاريخ الذي قاد إليه، إلاّ إن فهم التاريخ ليس كفيلاً وحده لفهم الحاضر، بل يجب رصد كل الواقع بتفصيلاته المملة أحياناً، والانتباه إلى المصادفات والكوارث والمفاجآت. ومع ذلك، ومن دون أي رغبة في حصر إسرائيل الحالية في تاريخها، ومع ضرورة أخذ منتهى الحذر، يمكننا أن نشير إلى بعض الخطوط العريضة التي تربط إسرائيل اليوم بإسرائيل الأمس، وتُظهر أهمية دراسة الخلفية التاريخية والأيديولوجية لقيام هذه الظاهرة.120
لقد أُنشئت إسرائيل بناء على «خطة» مع «سبق الإصرار»، وفي ظل غياب عوامل موحدة متجانسة تجمع اليهود من مختلف بقاع الأرض. فولدت الحاجة إلى فرض هذه الوحدة من أعلى إلى أسفل، أي أن تفرضها النخب الحاكمة على مجمل الفئات العرقية والإثنية. ولا يزال لهذا التوجه بعض اللمسات على المجتمع والدولة في إسرائيل، نذكر منها طريقة الانتخاب ونظام الحكم، إذ تُعدّ إسرائيل وحدة انتخابية واحدة وطريقة الانتخاب فيها نسبية ومتساوية. ولا توجد انتخابات مناطقية في إسرائيل، والبلد كله يُعتبر منطقة انتخابية واحدة. وفي مقابل هذه المركزية، فإن نسبة الحسم في الانتخابات الإسرائيلية كانت، ولا تزال، منخفضة جداً، وتراوحت في تاريخ إسرائيل بين 1% و2%. وجرى رفعها مؤخراً لتصل لأول مرة إلى 3,5%. إن هذه النسبة المتدنية تعود إلى الرغبة في تمكين الفئات جميعها من أن تعبّر عن ذاتها السياسية والثقافية، وبالتالي فإن النظام السياسي الإسرائيلي هو مزيج من فائض التعددية الحزبية والإثنية من ناحية، ومركزية الحكم من ناحية أُخرى.
فضلاً عن ذلك، فإن الطابع المركزي يظهر أكثر ما يظهر في كل ما يتعلق بسياسة الأراضي في إسرائيل والتي تتم إدارتها عن طريق إدارة أراضي إسرائيل، علماً بأن الأغلبية العظمى من الأراضي في إسرائيل هي أراضٍ عامة (93%)،121 وتدار بشكل مركزي من أجسام وهيئات مركزية مرتبطة مباشرة بجهاز الحكومة والمؤسسات القومية اليهودية، مثل الوكالة اليهودية وهكيرن هكييمت. طبعاً إسرائيل اليوم ليست إسرائيل سنة 1948، وفي مجال الأراضي هناك ميل إلى الخصخصة، وهناك ميل إلى منح السلطات المحلية صلاحيات أكثر وأوسع، ومن المهم، رصد هذه التطورات وتبصّر إمكانات تطورها من أجل معرفة إلى أين وصلت هذه العملية، وما هي آفاق تطورها مستقبلاً.
ب) ماذا تبقّى من الخطاب الاشتراكي
مثلما أشرنا في عدة مواقع، فإن المشروع الصهيوني كان ذا طابع مركزي وشمولي وعضوي، وهو طابع يمتاز فيه الفكر الاشتراكي (عدا العضوي طبعاً). وخلال أعوام الدولة الأولى، سادت أفكار وممارسات ذات طابع اشتراكي برز فيها التكافل والتعاضد الاجتماعي والاقتصادي. لكن ما الذي تبقّى من هذا كله في إسرائيل في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؟
اقتصادياً، من الواضح أن إسرائيل خطت خطوات عديدة بعيداً عن النموذج الاشتراكي، وإن كان لا يزال هناك بعض الجزر المتباعدة من هذا النموذج (التأمين الصحي الإجباري أحدها). فبعد ستة عقود من تأسيس إسرائيل، سارت في اتجاه خصخصة معظم مرافقها الاقتصادية، من البريد وشركات النقل والطيران، وشركة الكهرباء وغيرها، في حين أن الهستدروت التي كانت واحدة من أكبر المشغلين في الدولة والعمود الفقري للاقتصاد الإسرائيلي انهارت انهياراً شبة تام. وسيكون من المفيد لأي بحث مستقبلي تتبّع هذا القول، ورصد علاماته الفارقة، ومحاولة تقييم ما تبقّى من القيم الاشتراكية والتكافل الاقتصادي والاجتماعي.122
ربما يكون من المفيد مقارنة الليبرالية الاقتصادية في إسرائيل بالليبرالية السياسية، لأن ليس من الضروري أن تسير الاثنتان جنباً إلى جنب. فبينما يمكن الإشارة بوضوح إلى حدوث لبرلة اقتصادية بشكل متزايد منذ أواسط الثمانينيات حتى اليوم، يبدو كأن الأمر مركب فيما يتعلق باللبرلة السياسية المتعلقة بقيم الحريات الشخصية والضمانات الدستورية لهذه الحريات. فمن الممكن الحديث عن حدوث تطور في هذا المجال خلال التسعينيات، بينما نلاحظ نكسة معينة مع انهيار ما يسمى العملية السلمية واندلاع الانتفاضة الثانية في سنة 2000. ويبقى من دون شك أن المسار المختلف للبرلة الاقتصاد عن لبرلة السياسة وعلاقتهما بالتطورات الدبلوماسية – الأمنية موضوع مهم للاستفاضة والبحث المقارن. إلاّ إنه ممّا لا شك فيه أن هذه السياسة أدت إلى ازدياد الفجوات الاجتماعية والاقتصادية التي قادت إلى قيام حركة الاحتجاج الواسعة في إسرائيل في سنة 2011، والمطالبة بالعدل الاجتماعي، لكن حركة الاحتجاج هذه سرعان ما اختفت عن الساحة وجرى وأدها،123 إلاّ إن من المبكر تغييب إمكان عودة حراك اجتماعي احتجاجي على خلفية طبقية اجتماعية.
منذ البداية، كان على المشروع الصهيوني في فلسطين، ولأسباب ورد ذكرها، أن يرتكز على قوة خارجية سياسياً واقتصادياً كي يستطيع التنافس مع سكان البلد الأصليين سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. من هنا، ليس من قبيل المصادفة وجود هذا الارتباط الوثيق بكل من الوكالة اليهودية العالمية وبريطانيا والولايات المتحدة والسعي للحصول على شرعية المشروع من خلال إقامة علاقات متعددة مع العديد من الدول.
ماذا تبقّى من هذه العلاقة؟ يمكن الإشارة إلى عاملين عند النظر في هذه المسألة: أولاً، إن إسرائيل بعد سبعة عقود من قيامها، وخصوصاً بعد حرب 1967، ما زال وجودها يُعتبر اعتداء على المنطقة برمّتها. وحالة العداء هذه تزيد في شعورها بالعزلة داخل المنطقة، وترفع منسوب القلق الوجودي لدى سكانها، الأمر الذي يولد ويفاقم الحاجة إلى الاعتماد على قوى خارجية؛ ثانياً، إن إسرائيل بعد سبعة عقود من تأسيسها ليست إسرائيل سنة 1948، فهي الآن دولة قوية عسكرياً واقتصادياً، وتؤدي دوراً مهماً في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، والسياسة الغربية في المنطقة بصورة عامة. ويعني هذا أنه إذا كانت إسرائيل تحتاج إلى أميركا، فإن هذه الأخيرة، وإلى حد معين، بحاجة إلى إسرائيل. وبالتالي، فإن العلاقة مع الدول العظمى أصبحت مركبة أكثر، وبحاجة إلى الأخذ في الاعتبار التطورات الجارية على جانبَي المعادلة.
منذ البداية قام المشروع الصهيوني على علاقة ملتبسة بالدين اليهودي. وحاول من ناحية إقصاءه من أجل صوغ وبلورة اليهود كشعب، وليس كدين فقط. ومن ناحية أُخرى، امتنع من إقصائه حتى النهاية لأنه كان بحاجة إلى تعريف نفسه عن طريق الاستعانة برموز الدين ومصطلحاته. وكانت الحركات الدينية، وخصوصاً الأرثوذكسية، من جهتها، تمارس نشاطها إمّا في مواجهة الصهيونية، وإمّا في حالة توازٍ معها، مثلما هي الحال مع حركة أغودات يسرائيل. فهذه العلاقة الجدلية بين الدين والدولة أنتجت اتفاق «الوضع الراهن» (status quo) قبيل قيام الدولة كما أشرنا إليه سابقاً. فماذا تبقّى من هذا الاتفاق؟ يمكننا الإشارة إلى بعض هذه التطورات.
بعد عقود من وجود القوى الدينية (بشقّيها الأرثوذكسي والديني القومي) على هامش المشروع الصهيوني، استعادت هذه القوى ثقتها بنفسها وأصبحت شريكة أكبر في صوغ وصناعة السياسة في إسرائيل، وخصوصاً بعد سنة 1967، وأصبحت شريكة فعالة في حكومات إسرائيل المتعاقبة. وفي المقابل، فإن دخول القوى الدينية، وعلى رأسها القوى الأرثوذكسية، بداية الأشكنازية، ولاحقاً الشرقية مثل شاس، إلى داخل المياه السياسية، واعتمادها الكبير على ميزانيات الدولة، ولّد ردة فعل تطالب بإخضاع هذه القوى لمراقبة الدولة ومؤسساتها. وعلى سبيل المثال، المحاولات المتكررة من مجموعات علمانية إحداث تغييرات في مجالين في اتفاق «الوضع الراهن»: الأول موضوع تجنيد تلاميذ اليشيفوت في الجيش أسوة بسائر اليهود، والثاني فرض النظام التعليمي الرسمي على جميع المدارس الدينية التي تحظى بميزانيات من الدولة. بهذا المعنى فإن العقود الأخيرة تشهد عودة القوى الدينية إلى الدولة وعودة الدولة إلى محاولة السيطرة على القوى الدينية. وهناك كثير من الأبحاث في الفترة الأخيرة، والتي تشير بوضوح إلى ازدياد تأثير المنظومة الدينية في الحياة العامة في إسرائيل في جوانب عديدة، منها القانون والجيش والتربية والتعليم.124 يُضاف إلى ذلك أن قانون القومية الذي جرى سنّه مؤخراً (راجع أعلاه ص 64) يشير إلى الحق الديني للشعب اليهودي في تقرير مصيره، وهو من دون شك تجديد، لا على مستوى إسرائيل فحسب، بل على الفكر السياسي برمّته أيضاً.
هـ) جمع الشتات - بوتقة الصهر
والمسألة الاجتماعية
لم تلتفت الحركة الصهيونية حتى أواخر الأربعينيات إلى اليهود الشرقيين الذين يعيشون في الدول العربية، ولم تكن ترغب أو تعمل جاهدة لإحضارهم، ذلك بأن مشروعها كان مزيجاً من المشروع الإثني والكولونيالي الغربي الاستعلائي معاً. إلاّ إن أحداث الكارثة والرغبة الواضحة لدى يهود أميركا في عدم الهجرة إلى إسرائيل، حوّل الأنظار إلى يهود المشرق، لأن مكنون الهجرة اليهودية من الغرب استُنفد. والتقت هذه الحاجة مع مقولات الصهيونية عن «نفي المنفى» و«جمع الشتات»، الأمر الذي عنى أن الدولة التي ولدت كانت تتشكل من تنوع هائل في الأصول واللغات والألوان واللهجات. وقد فرض هذا التنوع ضرورة إقامة ما يسمى «بوتقة الصهر» كي تتم صناعة اليهودي الإسرائيلي الصهيوني. وضمن كثير من المعاني، فإن دراسة إسرائيل اجتماعياً وثقافياً تعني دراسة تاريخ محاولة الصهر التي قامت بها المؤسسة، وأساساً تغييب اليهود الشرقيين عن تاريخهم وتراثهم ولغتهم، وفشل هذه المحاولة لاحقاً وعودة الهويات الطائفية، وتكشف التوترات الداخلية، وارتفاع منسوب حركات الاحتجاج التي تتغذى على هذه الانتماءات.125
و) الثورة المستمرة وجدل الدولة والثورة
إن المشروع الصهيوني رأى نفسه مشروع ثورة شاملة مستمرة ومتواصلة، وما قيام الدولة إلاّ حلقة من حلقات المشروع، في حين أن «الثورة» مستمرة بهدف جمع شتات اليهود في فلسطين، وتغيير شخصية اليهودي الجديد وصقلها، نظراً إلى أن أصحاب الحق في هذا المشروع هم الشعب اليهودي برمّته. ويمكننا أن نسأل بعد مرور سبعة عقود وأكثر، هل انتهت الثورة وقامت الدولة فعلاً؟ هل انتهت «اللحظة المؤسسة»؟
لا يمكن الإجابة عن هذا النوع من الأسئلة بنعم أو لا. فإسرائيل اليوم أقرب إلى الدولة منها في سنة 1948، وهناك كثير من المسلمات السياسية والقانونية، وليس كل شيء خاضعاً للبحث فيه من جديد. لا شك في أن هناك مرجعية للعمل السياسي، ولا ريب في أن هناك قوانين أساسية تضبط اللعبة القانونية واللعبة السياسية. كما يبدو أن هناك قناعة بأن اليهود الذين ينوون الهجرة إلى إسرائيل قد هاجروا، وأنه لا يوجد هناك جوالٍ يهودية راغبة في الهجرة، أي أن مشروع لمّ الشتات قارب على الوصول إلى نهايته. أضف إلى ذلك، فإن إسرائيل بعد سبعة عقود من تأسيسها هي على مستوى عالٍ من الثقة بالنفس عسكرياً واقتصادياً، وتبدو كأنها انتهت من مرحلة «تأسيسها».
إذا كان كثير من هذا صحيحاً، فإن إسرائيل لم تقطع حبل السرة مع منطق الثورة. ويتضح ذلك جلياً في لحظات الأزمة العسكرية والسياسية، عندما يطفو إلى السطح المنطق السياسي المؤسس والموجه، فيتبنّى خطاباً وجودياً كأن كل الدولة في خطر، ويدعو إلى إرجاء الحقوق والقوانين والدساتير جميعاً وتعليقها. فضلاً عن ذلك الخطاب الديموغرافي المتزايد الذي يتعامل مع العرب المواطنين كأنهم مواطنون موقتون، وكأن وجودهم خاضع للبحث فيه وللنقاش السياسي اليومي.
إن عدم اختفاء شبح «الثورة» أو شبح «اللحظة المؤسسة» يعني أن كثيراً من الأمور التي يفترض أنها تُعتبر خارج السياسة، وأنها أمور مفروغ منها تماماً، وأنها أُخرجت عن طاولة البحث فيها والتداول السياسيين على أساس أنها «تابو» (taboo)، أو من المحرمات، قد تجد نفسها في الحالة الإسرائيلية تعود إلى الطاولة. وهذا ما نلاحظه في العقد الأخير في حكومة نتنياهو. كما يعني ذلك أن الإثنوس (الجماعة الإثنية) المؤسسة للدولة تعتبر نفسها دائماً وأبداً في حالة تأهب، دفاعاً عن نقاء الجماعة، ولا تقبل بالقيود التي تفرضها عليها سلطة القانون، أو المراجعة القانونية التي تقوم بها المحكمة العليا. ومن هنا يمكن فهم هذا الهجوم على المحكمة العليا باعتبارها ترسخ قيماً ليبرالية، وأن هذه القيم هي قيم نخبوية تتعارض مع الديمقراطية وإرادة الجماعة المؤسسة (الشعب) التي ترى نفسها سابقة إلى قيادة القانون. ومن هذا الباب يمكن فهم الهجوم المستمر في الأعوام الأخيرة على المحكمة العليا، وعلى جميع منظمات حقوق الإنسان في إسرائيل.126
1 اخترت في هذه المقدمة القصيرة عن البيئة السياسية لنشوء الصهيونية ألاّ أتعرض للعلاقة بين الصهيونية والإمبريالية العالمية، وإنما أن أركز على الصهيونية مثلما فهمت نفسها من جانب مؤسسيها، أي كحركة قومية أساساً. وفي هذا الشأن، استفدت من المراجع التالية: عبد الوهاب المسيري، «الأيديولوجية الصهيونية: دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة» (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، عالم المعرفة، ط1، 1981).
Shlomo Avineri, The Making of Modern Zionism: Intellectual Origins of the Jewish State (New York: Basic Books, 1981); Zeev Sternhell, The Founding Myths of Israel: Nationalism, Socialism and the Making of the Jewish State (Princeton, New Jersey: Princeton University Press, 1992); David Vital, The Origins of Zionism (Oxford: Oxford University Press, 1975).
2 مثلما يفسره كارل ماركس في عرضه ماهية الإنجازات التي حققتها الثورة الفرنسية في مقالته عن المسألة اليهودية:
Karl Marx, Early Writings (London: Penguin, 1992), pp. 211-242.
3 بصورة عامة يمكن الإشارة إلى 5 حلول أساسية لكيفية التعامل مع المسألة اليهودية: الأول، الانخراط الفردي لكل يهودي في مجتمعه، وبالتالي لا حاجة إلى إقامة حركات أو أحزاب يهودية في المنفى. الثاني، الانخراط والبقاء داخل المجتمعات الأوروبية، لكن كجماعة لها حق المطالبة بنوع من الأوتونوميا (الحكم الذاتي) الثقافية من دون أي مطالب سيادية على الأرض (هذا مثلاً كان خيار حركة البوند في روسيا). الحلان الثالث والرابع يقومان على فكرة الخروج من أوروبا وإقامة دولة يهودية؛ فالحل الثالث يصر على أن تكون الدولة اليهودية في إسرائيل وهو الحل الصهيوني. أمّا الحل الرابع فيرى إمكان إقامة الدولة اليهودية في أي بقعة أُخرى، وهو الاقتراح الذي عُرض على المؤتمر الصهيوني في سنة 1903 وأيده هيرتسل لكنه خسر. وأمّا الحل الخامس فيقوم على حق اليهود في تقرير مصيرهم لكن ليس بالضرورة ضمن دولة قومية يهودية حصرية، وإنما ضمن ما هو أقل من دولة قومية وذلك ممكن بشكلين مختلفين: الأول ضمن دولة ثنائية القومية، والثاني بضمان نوع من الأوتونوميا اليهودية ضمن دولة عربية داخل فلسطين.
4 بشأن النموذج الفرنسي في مقابل النموذج الألماني لمشروع الدولة القومية، راجع دراسة:
Rogers Brubaker, Citizenship and Nationhood in France and Germany (Cambridge: Harvard University Press, 1992).
وبشأن تأثر الصهيونية بالنموذج الشرق الأوروبي، راجع: Sternhell, op. cit.
هناك أبحاث جديدة تعيد النظر في طبيعة التقسيم بين القومية الشرق الأوروبية في مقابل القومية في غرب أوروبا. انظر مثلاً:
Maria Todorova, «The Trap of Backwardness: Modernity, Temporality, and the Study of East-European Nationalism,» Slavic Review, vol. 64, no. 1 (Spring 2005), pp. 140-164.
5 انظر المقالات التالية وكلها ضمن كتاب «الصهيونية والدين» (تل أبيب: مركز زلمان شازار، 1994) (بالعبرية): شلومو أفينيري، «الصهيونية والتراث الديني اليهودي: ديالكتيك الخلاص والعلمنة»، ص 9 – 21؛ يسرائيل بارطال، «ردات الفعل على الحداثة في شرق أوروبا: هسكيلاه، أرثوذكسية، قومية»، ص 21 – 32؛ إهود لوز، «الصهيونية ومعادتها عند اليهود المحافظين في شرق أوروبا»، ص 33 – 54؛ ميخائيل مئير، «اليهودية الليبرالية والصهيونية في ألمانيا»، ص 111 – 126؛ يعقوف بن تسور، «الأرثوذكسية اليهودية في ألمانيا وعلاقتها بالصهيونية»، ص 127 – 141؛ شوئيل ألموغ، «القيم الدينية في الهجرة الثانية»، ص 285 – 299. انظر أيضاً: إليعيزر دون– يحيى، «الأصولية الدينية والراديكالية السياسية: اليشيفوت القومي في إسرائيل»، في: «استقلال: الأعوام الخمسون الأولى» (بالعبرية) (القدس: مركز زلمان شازار، 1998)، ص 431 – 470؛ عزمي بشارة، «دوامة الدين والدولة في إسرائيل»، «مجلة الدراسات الفلسطينية» العدد 3 (صيف 1990)، ص 24 – 41؛
Lilly Weissbrod, «Religion as National Identity in a Secular Society», Review of Religious Research, vol. 24, no 3 (March 1983), pp. 188-205; Menachem Friedman, «The State of Israel as a Theological Dilemma,» in The Israeli State and Society: Boundaries and Frontiers, edited by Baruch Kimmerling (New York: New York Press, 1989), pp. 165-215.
6 مئير، مصدر سبق ذكره، ص 112؛ Vital, op. cit., p. 4.
7 المصدر نفسه، ص 115.
8 بن تسور، مصدر سبق ذكره، ص 136.
9 Aviezer Ravitsky, Messianism, Zionism and Jewish Religious Radicalism, Trans. by Michael Swirsky and Jonathan Chipman (Chicago and London: University of Chicago Press, 1996).
10 بارطال، مصدر سبق ذكره، ص 131.
11 أفينيري، مصدر سبق ذكره، ص 11.
12 المصدر نفسه، ص 151. إلاّ إن هذا لم يمنع غوردون من الاعتماد على التوراة في تحليله السياسي والأيديولوجي وقول ما يلي:
With this Fact (Bible and its promise). «We gained our Right to the land, a Right that will never be abrogated as long as the Bible and all that follows from it is not abrogated» مقتبس من Sternhell, op. cit., p. 57.
13 المسيري، مصدر سبق ذكره، ص 115.
14 كأمثلة لذلك: جرى النظر إلى إحياء اللغة العبرية كإحياء للغة قومية قديمة وليس إحياء للغة مقدسة؛ وجرى التعامل مع رؤيا الأنبياء كرؤيا تبشر بالعدالة الاجتماعية والمساواة بشكل يتماثل مع القيم الليبرالية السائدة في أوروبا؛ وفكرة الخلاص خرجت عن سياق الانتظار السلبي للمسيح المنتظر ولبست لباس العمل القومي الجماعي، إلخ.
15 Theodor Herzl, The Jewish State (London: H. Pordes, 1967), p. 71.
16 هذه الرغبة في فك الارتباط بين الدين والقومية جامحة لدى المثقفين العلمانيين الصهيونيين (بغضّ النظر عمّا إذا كانت المحاولة ناجحة أم لا). انظر: أفينيري، مصدر سبق ذكره. انظر أيضاً:
David Ohana, Nationalizing Judaism: Zionism as a Theologigal Ideology (Maryland: Lexington Books, 2017).
17 Weissbrod, op. cit.
بشارة، مصدر سبق ذكره؛ المسيري، مصدر سبق ذكره، ص 116 – 130؛ أمنون راز – كراكوتسكين، «العودة إلى تاريخ الخلاص»، في: شموئيل أيزنشتاد وموشيه ليساك (تحرير)، «الصهيونية والعودة إلى التاريخ – تقييم مجدد» (القدس: يد يتسحاق بن – زفي، 1999) (بالعبرية)، ص 249 – 277.
18 Theodor Herzl, Altneuland (Haifa: Haifa Publishing Company, 1960).
19 Weissbrod, op. cit., p. 119.
20 المسيري، مصدر سبق ذكره، ص 117.
21 المصدر نفسه.
22 لمجموعة كاملة من الاقتباسات من أقوال بن – غوريون في هذا السياق راجع: Weissbrod, op. cit., p. 194.
23 راز – كراكوتسكين، مصدر سبق ذكره، ص 261.
24 بشارة، مصدر سبق ذكره.
25 لطبيعة العلاقات الممكنة بين القومية والدين والتأثير المتبادل والنماذج الممكنة، راجع:
Rogers Brubaker, «Religion and Nationalism: Four Approaches», Nation and Nationalism, vol. 18, no. 1 (2012), pp. 2-20.
Uriel Abulof, «The Roles of Religion in National Legitimation: Judaism and Zionism Elusive Quest for Legitimacy,» Journal for the Scientific Study of Religion, vol. 53, no.3 (2014), pp. 515-533.
26 راجع مثلاً: أفينيري الذي يشدد على هذه الحقيقة كي يضع الصهيونية في موقع واحد مع سائر الحركات القومية في العصر الحديث. مصدر سبق ذكره، ص 10. راجع كذلك:
Alexander Yakobson, Amnon Rubinstein, Israel and the Family of the Nations (New York: Routledge, 2009).
27 المسيري، مصدر سبق ذكره، ص 118 – 119.
28 لمزيد عن القومية الدينية كحالة يرتبط فيها الديني بالقومي رباطاً محكماً، راجع:
Mark Juergensmeyer, The New Cold War? (California: University of California Press, 1993).
29 أنا مدين في هذا التحليل لراز – كراكوتسكين، مصدر سبق ذكره. راجع كذلك: موش إييل، «أفكار مسيانية وأفكار صهيونية» في: أيزنشتاد وليساك، مصدر سبق ذكره، ص 73 – 82.
30 Herzl, Altneuland, op. cit., pp. 31-33.
31 Herzl, The Jewish State, op. cit., p. 30.
32 بشأن الأطماع الأوروبية في المنطقة وفكرة توظيف اليهود كي يكونوا رأس حربة في وجه الشرق، هناك كثير من الأدبيات باللغة العربية. راجع مثلاً: عبد الوهاب المسيري، «الصهيونية»، في: «الموسوعة الفلسطينية»، القسم الثاني، الدراسات الخاصة (بيروت: هيئة الموسوعة الفلسطينية، 1990)، المجلد السادس، ص 239 – 246؛ إميل توما، «جذور القضية الفلسطينية» (الناصرة: المكتبة الشعبية، د. ت.)، ص 11 – 22.
33 توما، مصدر سبق ذكره، ص 11.
34 Maxime Rodinson, Israel: A Colonial-Settler State? (New York: Pathfinder Press, 1973); Stephen Halbrook, «The Class Origins of Zionist Ideology», Journal of Palestine Studies, vol. ii, no. 1 (Autumn 1972), pp. 86-110.
35 انظر في هذا السياق الرابط التالي:
The United Nations Declaration on the Rights of Indigenous Peoples (UNDRIP) was adopted by the General Assembly on Thursday, 13 September 2007. www.un.org
36 نذكر منهم كتابات باتريك وولف، لورنزو فيراتشيني ومحمود ممداني. انظر:
Patrick Wolfe, Settler Colonialism and the Transformation of Anthropology (London: Cassell, 1999).
Lorenzo Veracini, Settler Colonialism: A Theoretical Overview (London: Palgrave Macmillan, 2010).
Mahmood Mamdani, «Settler Colonialism: Then and Now», Critical Inquiry, vol. 41, no. 3 (2015), pp. 596-614.
37 راجع مثلاً:
Lorenzo Veracini, «What Can Settler Colonial Studies Offer to an Interpretation of the Conflict Israel - Palestine,» Settler Colonial Studies, vol. 5, issue 3 (2015), p. 268.
38 فايز الصايغ: «الاستعمار الصهيوني في فلسطين» (بيروت: مركز الأبحاث الفلسطيني، منظمة التحرير الفلسطينية، 1965). أعيد نشر هذه المقالة مؤخراً باللغة الإنكليزية.
Fayez Sayegh, «Zionist Colonialism in Palestine,» Settler Colonial Studies, vol. 2, issue 1 (2012), p. 206.
39 أورن يفتاحئيل، «الإثنوقراطية: سياسات الأرض والهوية في إسرائيل / فلسطين»، ترجمة سلافة حجلاوي (رام الله: مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2012). كتابة أورن تصب في تيار دراسات الاستيطان الاستعماري وإن كان من الصعب القول إنه جزء من الموجة الأخيرة لهذه الدراسات، لا من حيث التوقيت ولا المصطلحات.
40 راجع مثلاً:
Neve Gordon & Moriel Ram, «Ethnic Cleansing and Formation of Settler Colonial Geographies,» Political Geography, vol. 35, no. 2 (2016), pp. 20-29.
انظر كذلك: ينون كوهين ونيف غوردون: «السياسة المكانية – الحيوية التي تنفذها إسرائيل: الأرض، الديموغرافيا والسيطرة الفعلية»، «قضايا إسرائيلية»، العدد 70 (2018)، ص 81.
41 ران من أوائل الكتّاب الذين استعملوا هذا المنظور، ووجوده في جنوب أفريقيا منذ عشرين عاماً ودراساته المقارنة لمسألة جنوب أفريقيا مع فلسطين كانت مركزية جداً. إلاّ إن غرينشتاين يتحفظ من الاستعمال غير النقدي للمصطلح علماً بأنه يغطي كثيراً من الحالات التي من غير الواضح وجه الشبه بينهما.
راجع:
Ran Greenstein, «Colonialism, Apartheid, and the Native Question: The Case of Israel / Palestine,» in Racism after Apartheid: Challenges For Marxism and Anti Racism, edited by Vishwas Stagar (Johannesburg: Wits University Press, 2018).
راجع كذلك:
Ran Greenstien, Genealogies of Conflict: Class, Identity and State in Palestine / Israel and South Africa (Illinois: Wesleyan University Press, 1955).
وانظر مقالته بالعربية مؤخراً: ران غرينشتاين، الصهيونية، الاستيطان والاحتلال: الاستمرارية والتغيير، «قضايا إسرائيلية»، العدد 68 (2017)، ص 9.
42 راجع:
Marcelo Svirsky & Ronen Ben-Arie, From Shared Life To Co-Resistance in Historic Palestine (London: Rowan & Little Field, 2018).
43 انظر مثلاً:
Nadim Rouhana, «Homeland Nationalism and Guarding Dignity in a Settler Colonial Context: The Palestinians of Israel Reclaim Their Home Land,» Borderlands, vol. 14, no. 1 (2015).
انظر أيضاً: نديم روحانا وأريج صباغ خوري، «مواطنة كولونيالية استيطانية: ماهية العلاقة بين إسرائيل ومواطنيها الفلسطينيين»، في: «قضية فلسطينية ومستقبل المشروع الوطني الفلسطيني»، الجزء الثاني، «الكولونيالية الاستيطانية وإعادة تصور مستقبل المشروع الوطني» (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016).
44 راجع: هنيدة غانم، «تحويل القدس لأورشليم: عن سياسات التهويد، المحو والاحتلال»، مجلة «سياسات»، العدد 33، ص 30.
راجع كذلك: هنيدة غانم «المحو والإنشاء في المشروع الاستعماري الصهيوني»، «مجلة الدراسات الفلسطينية»، العدد 96 (خريف 2013)، ص 118.
45 راجع مثلاً:
Nadera Shalhoub, «Necropolitical Debris: The Dichotomy of Life and Death», State Crime, vol. 4, no.1 (Spring 2015), p. 34.
46 راجع:
Nahla Abdo, Captive Revolution: Palestinian Women’s Anti - Colonial Struggle within the Israeli Prison System (Northhampton: Pluto Press, 2014).
47 إسماعيل ناشف، «اللغة العربية في النظام الصهيوني: قصة قناع استعماري» (بيروت والدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018).
48 انظر:
Ahmad Sa’di, Thorough Surveillance: The Genesis of Israeli Policies of Population Management (Manchester: Manchester University Press, 2014).
49 انظر:
Rana Barakat, «Writing / Righting Palestine Studies: Settler Colonialism, Indigenous Sovereignty and Resisting the Ghost(s) of History,» Settler Colonial Studies, vol. 8, issue 3 (2018), pp. 349-369.
50 أمنون راز – كراكوتسكين، «منفى داخل السيادة: نحو نقد (نفي المنفى) في الثقافة الإسرائيلية»، «تيئوريا فبيكورت»، العدد 4 (1993)، ص 23. انظر كذلك بشأن فكرة نفي المنفى لدى الصهيونية الدينية: يوسف غروني، «نفي المنفى والعودة للتاريخ»، في: أيزنشتاد وليساك، مصدر سبق ذكره، ص 349 – 360.
Eliezer Don-Yehiya, «The Negation of Galut in Religious Zionism,» Modern Judaism, vol. 12 (May 1992), pp. 129-155.
51 عن مميزات الصهيونية كمزيج من كونها حركة استيطانية وقومية في الوقت نفسه، انظر:
Raef Zreik, «When Does the Settler Become a Native,» Constellations, vol. 23, no. 3 (2016), p. 351.
52 المسيري، «الأيديولوجية الصهيونية...»، مصدر سبق ذكره، ص 182.
53 انظر: بنيامين بيت – هلحمي، «التاريخ يطارد الصهيونية ويلحق بها»، مجلة «الكرمل»، العدد 55 – 56 (ربيع وصيف 1998)، ص 56 – 79.
54 راز – كراكوتسكين، «منفى داخل السيادة...»، مصدر سبق ذكره، ص 44.
55 Anita Shapira, Land and Power: The Zionist Resort to Force, 1881-1948 (Oxford: Oxford University Press, 1992), p. 356.
56 شموئيل أيزنشتاد، «الصراع على رموز الهوية الجماعية وحدوده في المجتمع الإسرائيلي»، في: بنحاس غينوسار وأفي باريلي، «الصهيونية خلاف معاصر: اتجاهات بحثية وأيديولوجية» (تل أبيب: جامعة بن – غوريون، 1996) (بالعبرية)، ص 23.
57 Sternhell, op. cit., chapter 1.
58 يمينه روزنتال وإيلي سالتيئيل (تحرير)، «دافيد بن – غوريون، رئيس الحكومة الأولى: شهادات مختارة» (القدس: أرشيف الدولة، 1996) (بالعبرية)، ص 511.
59 David Ben- Gurion, «Israel among the Nations,» in State of Israel, Government Yearbook, 1952 (Jerusalem: Government Printer, 1952), p. 39.
لمراجعة أقوال بن – غوريون عن الثورة المستمرة في جميع مناحي الحياة، انظر:
David Ben-Gurion, «The Imperatives of the Jewish Revolution,» in The Zionist Idea, edited by Arthur Hertzberg (New York: Doubleday,1959), pp. 606-619.
60 كمثال لهذه الدراسات:
Dan Horowitz and Moshe Lissak, Origins of the Israeli Polity: Palestine under the Mandate (Chicago: Chicago University Press, 1977).
61 نموذج لقراءة من هذا النوع والتي تقرأ تاريخ الصهيونية، وتاريخ المقاومة الفلسطينية بنفس واحد، وإن كان كل منهما قد أثّر في تطور الآخر، يمكن مراجعة كتاب: هيليل كوهين، «هبة البراق 1929: سنة الصدع بين اليهود والعرب»، ترجمة سليم سلامة (رام الله: مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2018).
62 بشأن دراسات جديدة عن وعد بلفور، راجع: مجلة «قضايا إسرائيلية»، العدد 65 (رام الله: مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2017).
63 عن التغييرات القانونية التي أدخلها الانتداب البريطاني على قوانين امتلاك الأراضي، راجع:
Alexandre Kedar, Ahmad Amarah, Oren Yiftachael, Emptied Lands: A Legal Geography of Bedouin Rights in the Negev (Stanford: Stanford University Press, 2018), chaps. 2 & 3.
64 بشأن دور بريطانيا بصورة عامة في تأسيس الوطن اليهودي في فلسطين، وخصوصاً في أثناء فترة هربرت صامويل، يمكن مراجعة سحر الهنيدي، «التأسيس البريطاني للوطن القومي اليهودي» (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2003).
65 بشأن أهمية الاعتراف، انظر:
Horowitz and Lissak, op. cit., pp. 45-49.
66 انظر بصورة عامة في هذا الصدد: Ibid.
67 بشأن دور رجال القانون اليهود ومساهمتهم في المشروع القومي اليهودي خلال فترة الانتداب من خلال بناء نوع من محكمة الصلح العبرية لحل النزاعات الداخلية وفقاً لقانون بديل من الانتداب، راجع:
Ronen Shamir, The Colonies of Law: Colonialism, Zionism and Law in Early Mandate Palestine (New York: Cambridge University Press, 2000).
68 Great Britain, Commission of Enquiry into the System of Education of the Jewish Community in Palestine, The System of Education of the Jewish Community in Palestine (London: H.M. Stationery Office, 1946), p. 5.
69 بشأن سياسة اللغة وحقوقها في فترة الانتداب، يمكن مراجعة:
Mala Tabory, «Language Rights in Israel,» 11 Israel Year Book on Human Rights (1981), pp. 272-306.
70 Baruch Kimmerling, Zionism and Territory: The Socio-Territorial Dimensions of Zionist Politics (Berkeley: Institute of International Studies, 1983).
71 راجع في هذا المجال الأعمال التالية التي تتميز بتحليلها الاقتصادي لطبيعة العلاقة بين الاستيطان اليهودي وبين السكان الفلسطينيين:
Baruch Kimmerling, Zionism and Economy (Cambridge: Schenkman, 1983); Michael Shalev, «Jewish Organized Labor and the Palestinians: A Study of State / Society Relations in Israel,» in The Israeli State and Society: Boundaries and Frontiers, edited by Baruch Kimmerling (New York: New York Press, 1989), pp. 93-133; Gershon Shafir, Land, Labor and the Origins of the Israeli-Palestinian Conflict, 1882-1914 (Berkeley: University of California Press, 1996).
72 Shafir, op. cit. pp. 7-17.
73 هذا أمر يستدعي التوضيح لأنه يتعارض مع الشعور والانطباع العام عن جنوب أفريقيا بصفتها المثال الأكثر وضوحاً وسطوعاً لمجتمع أبارتهايد انفصالي. إلاّ إن الصورة مركبة وهي تجمع بين علاقتي الوحدة والإقصاء. إذ يُعتبر نموذج جنوب أفريقيا مزيجاً بين رغبة في التواصل الاقتصادي القائم على استغلال السكان الأصليين وخلق نوع من الاقتصاد المشترك، وبين رغبة عنصرية في إبقاء حواجز عنصرية بين المجموعتين. إن هذه الوحدة الاقتصادية كانت واحداً من العوامل التي ساهمت في إنشاء أمة جنوب أفريقيا التي ينتمي إليها البيض والسود معاً، والتي تحتضن بداخلها رغبة البيض في إقصاء نفسهم عن السود. في المقابل، لم يكن هنالك في فلسطين وحدة اقتصادية، ولم تنشأ أمة إسرائيلية تحوي بداخلها اليهود والفلسطينيين، بعد أن طردت إسرائيل معظم الفلسطينيين. وبالتالي، لم تنشأ الحاجة إلى نظرية أبارتهايد.
74 Shalev, op. cit., p. 95.
75 المقصود أن واحداً من الإمكانات التي كانت متاحة لها كان تبنّي استراتيجيا الإقصاء. هناك طبعاً استراتيجيات أُخرى لم يتم اختيارها.
76 Kimmerling, Zionism and Economy, op. cit., p. 19.
للتوسع في طبيعة المقارنة بين الحالتين راجع: رائف زريق وعازر دكور «حول التشابه والاختلاف: عن فلسطين / إسرائيل راهناً والأبارتهايد في جنوب أفريقيا سابقاً»، في: «إسرائيل والأبارتهايد»، إعداد وتحرير هنيدة غانم وعازر دكور (رام الله: مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2018).
77 Sternhell, op. cit.; Shafir, op. cit., pp. 187-198.
78 Kimmerling, Zionism and Territory, op. cit., pp. 4-6.
79 Shafir, op. cit., p. 195.
80 Moshe Syrquin, «Economic Growth and Structural Change: An International Perspective», in The Israeli Economy: Maturing Through Crisis, edited by Yoram Ben-Porath (Cambridge: Harvard University Press, 1986), pp. 42-74.
81 دون – يحيى، مصدر سبق ذكره؛ Friedman, op. cit.
عن تطورات علاقة الدين بالدولة بعد قيام إسرائيل، راجع: يائير شيلغ، «المتدينون الجدد: نظرة راهنة على المجتمع الديني في إسرائيل»، ترجمة سعيد عياش (رام الله: مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2002).
82 Friedman, op. cit., pp. 167-170.
83 Ibid., pp. 176-180.
84 Ibid., p. 182.
85 Ibid., p. 187.
86 Ibid., p. 186.
87 دون – يحيى، مصدر سبق ذكره، ص 436.
88 شيلغ، مصدر سبق ذكره، ص 33.
89 Friedman, op. cit., p. 71.
90 انظر: دون – يحيى، مصدر سبق ذكره، ص 442.
91 بشأن تأثير حرب 1967، انظر: بشارة، مصدر سبق ذكره. Friedman, op. cit.
92 Herzl, The Jewish State, op. cit., p. 72.
93 يورد نور الدين مصالحه عدداً لا حصر له من المحاضر والأقوال التي لا تدع مجالاً للشك في مركزية الفكر الترانسفيري في الصهيونية. انظر: «طرد الفلسطينيين: مفهوم (الترانسفير) في الفكر والتخطيط الصهيونيين، 1882 – 1948» (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1992)؛ نور الدين مصالحه، «أرض أكثر عرب أقل: سياسة (الترانسفير) الإسرائيلية في التطبيق، 1949 – 1996» (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط2، 2002). انظر أيضاً: إيلان بابه، «التطهير العرقي في فلسطين» (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2007).
94 Shapira, op. cit.; Lissak and Horowitz, op. cit., p. 5.
95 تورد شابيرا اقتباسات من أحاد هعام الذي رأى أن فلسطين ليست بلداً خالياً، وأن سكانه لن يتنازلوا عنه. ولم يكن أحاد هعام نفسه مؤيداً للعنف لكنه رأى بأم عينيه أن المشروع الصهيوني لا يمكن أن يكون مشروعاً سلمياً. وتورد شابيرا كذلك من أقوال يتسحاق إبشتاين الذي رأى أن البلد آهلاً، وليس من المتوقع أن يرحل سكانه عنه بسهولة. ومن أوائل الصهيونيين الذي رأوا أن العنف هو السبيل الوحيد كان بير بورخوف العمالي وزئيف جابوتنسكي التنقيحي. انظر: Shapira, op. cit., pp. 42-48.
96 انظر: أوري بن – إليعيزر، «من فوهة البندقية: إنتاج العسكرية الإسرائيلية، 1936 – 1956» (تل أبيب: دفير، 1995) (بالعبرية).
97 المصدر نفسه، ص 28.
98 Benny Morris, The Birth of the Palestinian Refugee Problem, 1947-1949 (Cambridge: Cambridge University Press, 1988), p. 286; Benny Morris, The Birth of the Palestinian Refugee Problem Revisited (Cambridge: Cambridge University Press, 2004), p. 588.
99 لقراءة تحليلية للعنف المتأصل والكامن في نص هيرتسل: «Altneuland» راجع:
Raef Zreik, «Theodore Herzl (1860-1904): Sovereignty and the Two Palestines,» in Makers of Jewish Modernity, Thinkers, Artists, Leaders, and the World They Made, edited by Jacques Picard, Jacques Revel, Michael Steinberg, Idith Zertal (Princeton: Princeton University Press, 2016).
100 وليد الخالدي، «الصهيونية في مئة عام: من البكاء على الأطلال إلى الهيمنة على المشرق العربي، 1879 – 1997» (بيروت: دار النهار للنشر، 1998)؛ إلياس شوفاني، «الموجز في تاريخ فلسطين السياسي: منذ فجر التاريخ حتى سنة 1949» (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1998).
101 الخالدي، مصدر سبق ذكره، ص 61.
102 المصدر نفسه.
103 يهوشواع فرويندلخ، «من الخراب إلى النهضة: السياسات الصهيونية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى إقامة دولة إسرائيل» (تل أبيب: جامعة تل أبيب، 1994) (بالعبرية).
104 انظر النص الإنكليزي للوثيقة في موقع الكنيست.
105 أوريت كامير، «الوجهان لوثيقة الاستقلال: الرواية المثيرة لوثيقة الاستقلال الصهيونية ووثيقة الاستقلال الديمقراطية»، «عيوني مشباط»، المجلد 23، العدد 2 (آذار / مارس 2000)، ص 473.
106 انظر أيضاً أقوال بن – غوريون في:
Ben-Gurion, The Imperatives, op. cit., p. 604.
107 أمنون روبنشتاين، «القانون الدستوري في دولة إسرائيل» (تل أبيب: شوكن، ط6، 2005)، (بالعبرية)، ص 54.
108 Erik Cohen, «Israel As a Post-Zionist Society,» in The Shaping of Israeli Identity: Myth, Memory and Trauma, edited by Robert S.Wistrich, and David Ohana (London: Frank Cass, 1995), pp. 156-166.
109 روبنشتاين، مصدر سبق ذكره، ص 43 – 53.
110 بشأن موضوع «الخلق القانوني» الذي يؤسس نفسه من العدم، انظر:
Ulrich Preuss, «Constitutional Powermaking for the New Polity: Some Deliberations on the Relations between Constituent Power and the Constitution», in Constitutionalism, Identity, Difference and Legitimacy: Theoretical Perspectives, edited by Michael Rosenfeld (Durham: Duke University Press, 1994), pp. 143-165.
111 Hans Kelsen, General Theory of Law and State (New Brunswick, New Jersey: Transaction Publishers, 2006);
Hans Kelsen, Pure Theory of Law (Berkeley, California: University of California Press, 1978); Graham Hughes, «Validity and the Basic Norm», in Essays in Honour of Hans Kelsen, edited by California Law Review, vol. 59, no. 3 (1971).
112 Bruce Ackerman, We the People: Foundations (Harvard, Massachusetts: Harvard University Press, 1993).
113 يعني «الأمر» هنا تشريعاً بدرجة قانون (ordinance) صادراً عن السلطات الإسرائيلية في مرحلة ما قبل تشكيل الكنيست الأول، وكان يصدر تحت هذه التسمية عن المندوب السامي البريطاني خلال الانتداب. انظر نص الأمر باللغة الإنكليزية.
114 روبنشتاين، مصدر سبق ذكره، ص 37.
للتوسع في قضية المبنى الدستوري للدولة، انظر:
Gideon Sapir, The Israeli Constitution: From Evolution to Revolution (New York: Oxford University Press, 2018).
وفيما يتعلق بالمبنى الدستوري وعلاقة الدولة بالمواطنين الفلسطينيين بصورة خاصة، انظر:
Mazin Masri, The Dynamics of Exclusionary Constitutionalism: Israel as a Jewish and Democratic State (Bloomsbury: Hart Publisher, 2018).
115 انظر أيضاً لدى روبنشتاين فصل النظام القانوني (مكانة القوانين الأساسية في هرم التشريعات). للاستزادة والتوسع في موضوع الدور الثنائي للكنيست كمشروع قوانين وحيثية تأسيسية في الوقت نفسه، انظر:
Claude Klein, «A New Era in Israel’s Constitutional Law,» Israel Law Review, vol. 6, issue 3 (1971), p. 376.
116 روبنشتاين، مصدر سبق ذكره، ص 45.
117 المصدر نفسه، ص 37.
كذلك يمكن مراجعة سليم سلامة، «قوانين الأساس وسؤال الدستور»، «قضايا إسرائيلية»، العدد 59 (رام الله: مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2015)، ص 18.
118 بشأن تبرير يغآل عمير في هذا الصدد يمكن مراجعة: ليف غرينبرغ، «ذاكرة في خلاف: أسطورة، وقومية وديمقراطية: تأملات في إثر مقتل رابين» (جامعة بئر السبع، 2000) (بالعبرية)، ص 130، 145، 160.
119 انظر قانون القومية في موقع الكنيست (نص إنكليزي)، وللنص العربي انظر (ترجمة غير رسمية)
120 كمدخل مفهومي وإطار تحليلي للتطورات الجارية في إسرائيل في العقد الأخير، وصعود اليمين الجديد الذي يحاول الاستيلاء لا على السلطة فقط، بل على الهيمنة الأيديولوجية في المجتمع أيضاً، راجع: رائف زريق، «قراءة في الراهن الإسرائيلي»، «مجلة الدراسات الفلسطينية»، العدد 106 (ربيع 2016)، ص 11.
121 لنظرة من داخل المؤسسة بشأن سياسة الأراضي، راجع:
Rachelle Alterman, Planning in the Face of Crisis (London: Routledge, 2002).
لنظرة أكثر نقدية، انظر: يفتاحئيل، مصدر سبق ذكره. وبشأن سياسة الأراضي للاستيلاء على أملاك الفلسطينيين أساساً، انظر:
Sandy Kedar and Geremy Forman, «From Arab Land to ‹Israel Lands›: The legal Dispossession of the Palestinians Displaced by Israel in the Wake of 1948,» Environment and Planning, vol. 22, no. 6 (2004), pp. 809-830.
راسم خمايسي، «أيديولوجية، سياسات وأدوات السيطرة على الأرض وتهويد المكان»، «قضايا إسرائيلية» (رام الله: مدار، المركز الفلسطيني للسياسات الإسرائيلية، 2014)، العدد 54، ص 13.
122 لتحليل متحمس لسياسة الخصخصة النيوليبرالية، يمكن مراجعة تقرير نائب بنك إسرائيل السابق:
Zvi Eckstein and Tamar Ramot - Nyska, «Twenty Years of Financial Liberation In Israel, 1987-2007,» BIS Papers, no. 44 (2008), p. 289.
لنظرة نقدية للسياسة النيوليبرالية وسياسة الخصخصة ممكن مراجعة التقرير الذي أصدره معهد فان لير في القدس في هذا الشأن:
يتسحاك غال – نور، أمير باز – فوكس، نعوميكا تسيون (تحرير)، «سياسة الخصخصة في إسرائيل: مسؤولية الدولة والحدود بين العام والخاص» (2015)، (بالعبرية).
123 لمراجعة طبيعة ومصير حركة الاحتجاج الاجتماعي في إسرائيل في سنة 2012 يمكن مراجعة مجلة «قضايا إسرائيلية»، العدد 45 (2012)، والذي خُصص لمعالجة هذا الموضوع. عدد المجلة متوفر في الموقع الإلكتروني لمركز مدار.
124 بشأن ازدياد دور الدين في حياة الجيش، راجع:
Yagil Levy, «The Theocratization of the Israeli Military,» Armed Forces & Society, vol. 40, no. 2 (2014), pp. 269-294.
لمراجعة عامة عن ازدياد دور الدين راجع:
Yoav Peled & Horit Peled, The Religionization of Israeli Society (New York: Routledge, 2019).
125 المصادر بشأن مسألة بوتقة الصهر، ومحاولة قمع ثقافة اليهود الشرقيين عديدة ومتنوعة. راجع منها ما يلي:
Ella Shohat, «Sephardim in Israel: Zionism From the Stand Point of It’s Jewish Victims,» Soicial Text, no. 19 / 20 (Autumn 1988), pp. 1-35,
Yehuda Shenhav, The Arab Jews: A Post Colonial Reading of Nationalism, Religion and Ethnicity (Stanford: Stanford University Press, 2006).
126 لمراجعة الهجوم على المحكمة العليا وعلى القيم الليبرالية، باسم إرادة الشعب، راجع تقرير جمعية حقوق المواطن، موجود على الموقع التالي.
وبشأن الهجوم على جمعيات حقوق الإنسان في إسرائيل، راجع التقرير التالي:
David Palumbo - Liu, «Israel Unleashes an Onslaught on Human-Rights NGO’S, Artists and Writers,» The Nation (February 26, 2016).