نشأ مخيم شاتيلا من تجمع غير شرعي تكوّن سنة 1949. وبحسب المؤرخة وعالمة الأنثروبولوجيا روز ماري صايغ، فإنّ هذا التجمع أسسه شخص اسمه عبد بشر وهو فلسطيني من قرية مجد الكروم الواقعة في الجليل الأعلى.
لجأ بشر إلى لبنان عام نكبة 1948 مع عائلته (نحو 20 فرداً) واستأجر شقة مكوّنة من غرفة في بيروت. وبعد مضي بضعة أشهر نفدت منه النقود، ولم يعد بإمكانه دفع الإيجار فاشترى خيمة كبيرة ونصبها في حرش على أطراف العاصمة، وبدأ يبحث عن جيرانه السابقين الذين هجّروا من مجد الكروم كي يجمعهم في هذا المكان الذي انتقل إليه. وبعد أن جمع ما استطاع من أقارب وجيران سابقين، ذهب بشر إلى وجيه بيروتي اسمه سعد الدين باشا شاتيلا الذي سمح له أن ينتقل هو وعائلته وجيرانه الى أرض تبلغ مساحتها 40000 م 2. كانت ملكاً لمهاجر لبناني يقيم في البرازيل، وكان شاتيلا وكيله.
حصل بشر على عشرين خيمة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وبدأ يبحث عن سكان القرى المجاورة لمجد الكروم ويعمل على إقناعهم بالانضمام إلى التجمّع الجّديد. وفي سنة 1950، وبعد أن تمكن بشر من جمع عدد كبير من اللاجئين، صنّف الصليب الأحمر التجمع مخيماً، وفي العام التالي تولت وكالة الأونروا إدارته وأطلقت عليه اسم "مخيم شاتيلا" تيمناً باسم الوجيه اللبناني الذي سمح للاجئين الفلسطينيين بالإقامة في تلك البقعة. ويقال إنّ الفلسطينيين كانوا يريدون تسمية أخرى للمخيم هي "مخيم المجاهدين" (كلّم 2008، ص. 24). وفي أوائل الخمسينيات، كانت قرابة مئة عائلة تعيش في المخيم، لكن سرعان ما تمدد المخيم وازداد عدد الأشخاص فيه حتى وصل إلى 2000 فرد.
مرّ المخيم، منذ تأسيسه، بفترات مختلفة بحسب الجهة السياسية اللبنانية أو الفلسطينية التي كانت تسيطر عليه، واستتبعت كل فترة من هذه الفترات تغيرات اجتماعية، وديموغرافية، وعمرانية. فخلال الفترة الأولى، في الخمسينيات والستينيات، كانت السيطرة الأمنية على المخيم وسكانه للسلطات اللبنانية، فيما كانت الأونروا المصدر الرئيسي لعمليات الإغاثة للاجئين الذين كانوا يعتمدون بشكل أساسي على تلك المساعدات في معيشتهم. وحاول اللاجئون الفلسطينيون، في هذه الفترة، الحفاظ على تنظيمهم الاجتماعي السابق الذي كان يرتكز على الشيوخ التقليديين (وهم زعماء العائلات، والشيوخ وكبار السن في القرى) والقواعد الأخلاقية الدينية (Peteet 1987, p.30). وخلال العقدين الأولين، تطورت البيئة السكنية للمخيم ببطء لسببين: أولهما يرتبط بالقوانين والقيود التي فرضتها السلطات اللبنانية على اللاجئين لمنع إقامتهم الدائمة، والسبب الثاني يرتبط بشكوك اللاجئين تجاه مشاريع الأونروا لتطوير المخيمات، التي كان ينظر اليها كمحاولة غير معلنة لحل قضية اللاجئين وتوطينهم خارج فلسطين ( 2012 Al-Husseini). ومع مرور الوقت، تحوّلت الخيم إلى بناء حجري مع سقف زينكو، كما أن دخول اللاجئين بعض قطاعات سوق العمل اللبنانية، خفف من اعتمادهم الكامل على تقديمات الأونروا الإغاثية.
ونظراً إلى تجمع اللاجئين في المخيمات على أساس عائلي وجهوي، أطلقت على الأحياء أسماء القرى التي هجّروا منها، مثل "حيّ صفّورية" أو "حي كابري" على سبيل المثال. لكن هذا التقسيم لم يكن واضحاً في شاتيلا، لأن سكانه كانوا ينتمون إلى قرى متعددة، إذ فضلاً على مجد الكروم، التي انتمى اليها مؤسس التجمّع، كان سكانه ينتمون إلى نحو 25 قرية من قرى الجليل كما انتمت أقلية منهم إلى مدينة يافا (Sayigh 1994, p.37). فعلى الرغم من عنف الحروب والتهجير وتشتّت المجتمع الفلسطيني مع ولادة دولة اسرائيل على أرض فلسطين، فإن اللاجئين في المخيمات حافظوا على بنيتهم الاجتماعية والعائلية من خلال تكتلهم على أساس عائلي ومناطقي، وعلى قيمهم وتقاليدهم الاجتماعية، وحاولوا أن يخلقوا رابطاً بين الحياة ما قبل النكبة والحياة ما بعدها.
الفترة الثانية، 1969/1970-1982، وتمثلت بسيطرة الفصائل الفلسطينية على المخيمات، وبات اللاجئون خلالها أقل اعتمادا على برامج الأونروا الإغاثية. وأصبح الفلسطينون لاعبين سياسيين أساسيين في لبنان والإقليم، وأصبحت المخيمات رمزاً للقضية الوطنية الفلسطينية ولحق عودة اللاجئين إلى أراضيهم.
وشهدت هذه الفترة تغيرات اجتماعية وسياسية وسكانية مهمة داخل مخيم شاتيلا وجواره. فقد أنشأت منظمة التحرير الفلسطينية عدة مؤسسات في محيط المخيم، مثل مستشفيي عكا وغزة، ومصنع لمؤسسة صامد، وتعاونيات استهلاكية. وفتحت التنظيمات الفلسطينية مكاتب لها داخل المخيم، بحيث تمركز كل تنظيم في حي وأعطى اسمه له فعرفت الاحياء بـ "إقليم فتح" أو "إقليم الديموقراطية" على سبيل المثال (Sayigh 1994, p.92-93)، لكن هذه التسمية الجديدة لم تلغ تسميات الأحياء السابقة بل أضيفت إليها. وعلى صعيد الحركة السكانية والعمرانية لمخيم شاتيلا، فقد تطورت المنازل وحلّ سقف الباطون محل الزينكو وظهرت أبنية جديدة وازداد عدد السكان. وهكذا امتدّ المخيم خارج حدوده الأصلية وانتقل إليه وإلى جواره فلسطينيون كانوا يقيمون في مناطق أخرى في لبنان ومن خارج لبنان للالتحاق بمؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية والمشاركة في العملية الثورية.
ومثّل اندلاع الحرب في لبنان سنة 1975 واستمرارها إلى سنة 1990 فترة مفصلية في تاريخ مخيم شاتيلا الـذي استخدم كعامل ضغط على منظمة التحرير الفلسطينية من قبل أطراف لبنانية وإقليمية، كما أصبح ساحة للانقسامات الفلسطينية الداخلية. وخلال تلك الفترة، شهد المخيم حالات لجوء إليه من جانب فارين من ساحات الصراع وكذلك حالات هجرة منه بسبب الأحداث التي شهدها. ففي أوائل الحرب، استقبل المخيم فلسطينيين هُجّروا من مخيماتهم وتجمعاتهم بسبب المعارك الدامية والمجازر، كما حصل في مخيم تل الزعتر سنة 1976. وابتداءً من سنة 1982 انتقلت الحرب إلى قلب المخيم: أثناء الاحتلال الإسرائيلي لبيروت وارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا سنة 1982؛ وخلال الحرب على المخيمات (1985-1987) حيث حوصر مدة ثلاث سنوات؛ وفي سنة 1988، دارت معارك في شاتيلا بين الفصائل الفلسطينية الموالية لسورية وحركة فتح التي خسرت المعركة وتم طرد عناصرها وعائلاتهم من المخيم.
وفي أوائل التسعينيات كانت الأجواء شديدة التوتر في مخيم شاتيلا الذي خضع لسيطرة الفصائل الموالية لسورية، وتم نصب حاجز للقوات السورية على مدخل المخيم حتى سنة 1993. وبقي الأمر على هذه الحال حتى سنة 2005، حين انسحبت القوات السورية من لبنان وضعفت الفصائل الموالية لدمشق، وعادت حركة فتح للحضور رسمياً في المخيم، وشكلت فصائل منظمة التحرير لجنة شعبية منافسة للجنة فصائل التحالف الموالي لسورية.
ومنذ التسعينيات، عرف مخيم شاتيلا تغيرات عمرانية وسكانية جذرية. وفيما دمّرت الحروب شاتيلا بالكامل، أطلقت مشاريع لإعادة إعماره، توقفت مرات عديدة بسبب الخلافات بين الأطراف القائمين على تلك المشاريع. وعندما أعيد إعمار المخيم، شهد امتداداً عمودياً على شكل منازل مكوّنة من أكثر من ست طبقات، فيما كان شهد بعد سنة 1969 توسعاً أفقياً امتدّ إلى خارج نطاق حدوده، ولم تتجاوز المنازل أكثر من ثلاث طبقات. أما ديموغرافيا، فلم تعد أغلبية سكان شاتيلا إلى المخيم، إذ هاجر الكثيرون منهم إلى أوروبا وخصوصاً إلى الدانمارك والسويد وألمانيا (Doraï 2006, p.181) ، كما استقر آخرون في الأماكن التي هجروا إليها وبالتحديد في جنوب لبنان. وأعادت الأونروا إسكان مئات العائلات الفلسطينية في شاتيلا، والتي كانت قد تهجرت من منازلها خلال الحرب (من مخيمي تل الزعتر أو النبطية على سبيل المثال). وقد انضم أيضا إلى المخيم سكان آخرون باحثون عن إيجارات رخيصة، وبصورة رئيسية أفراد عائلات لبنانية من ذوي الدخل المنخفض، كانت هي أيضا قد تعرضت للتهجير أيام الحرب، كما انتقل إليه سوريون (معظمهم من العمال).
وتواصل ازدياد عدد السكان في مخيم شاتيلا بفعل حراكات الهجرة الداخلية والإقليمية والدولية إلى لبنان، من العراق، ومخيم نهر البارد، ومن بنغلادش ومصر وغيرها من البلدان. ومنذ بداية الثورة السورية وتحوّلها إلى حرب أهلية "دولية"، تدفّق آلاف السوريين واللاجئين الفلسطينيين في سورية إلى شاتيلا. وتشير نتائج تعداد السكان والمساكن الذي أشرفت عليه لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني وأعلن في أواخر سنة ٢٠١٧، إلى أن 14010 فرداً يقيمون في شاتيلا، ثلثهم من الفلسطينيين اللاجئين في لبنان وأكثر بقليل من نصفهم من السوريين. ومع هذا الازدياد السكاني، والزيادة في عدد الطبقات والأبنية الجديدة، وضيق المساحات المفتوحة وانتشار أسلاك الكهرباء والساتلايت والأنترنت، لم يعد في الإمكان رؤية السماء في المخيم، فضلاً عن تفاقم أزمات المياه والكهرباء والنفايات.
إنّ تحوّلات التركيبة السكانية للمخيم وتدهور الوضع الحياتي فيه، فضلاً عن التمييز الذي يمارسه القانون اللبناني ضدّ اللاجئين الفلسطينيين وعدم الاستقرار في البلد والمنطقة، كلها أمور تعزّز حالة الشك التي يعيشها الفلسطينيون في الحاضر، والتي ينظرون من خلالها إلى مستقبل يملأه الغموض.
المراجع:
Abou Zaki, Hala, « Chatila, le devenir d’un camp de réfugiés palestiniens », in Agier M. (dir.), Un monde de camps, Paris 2014, Editions La Découverte, p.35-46.
AL-HUSSEINI, Jalal, 2012, « Les camps de réfugiés palestiniens, soixante ans après : évolution des discours, adaptation des pratiques », dans Kamel Doraï, Nicolas Puig (dir.) L’urbanité des marges : Migrants et réfugiés dans les villes du Proche-Orient, Paris, Téraèdre, p.39-62).
Allan Diana, 2014, Refugees of the Revolution: Experiences of Palestinian Exile, Stanford, Stanford University Press.
DORAI
كلّم محمود عبدالله، 2008، مخيم شاتيلا: الجراح والكفاح، بيروت، لبنان : المنظمة الفلسطينية لحق العودة (ثابت)
الحوت, بيان نويهض ,2003، صبرا وشاتيلا، أيلول 1982. بيروت، لبنان : مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
Peteet Julie Marie, 2005, Landscape of hope and despair: Palestinian refugee camps, Philadelphia, Pa. : Bristol, University of Pennsylvania Press, University Presses Marketing.
Sayigh Rosemary, 1994, Too many enemies. The Palestinian Experience in Lebanon, Londres, Zed Books Ltd.