في داخل السجون، حيث تكتظ الأيام بالفراغ وتواجهنا جدرانٌ من القسوة واللامبالاة، لم يكن لدينا خيار آخر سوى أن نُربيَ الأمل في قلوبنا. فالأمل هنا ليس مجرد كلمة، إنما هو الحياة ذاتها، هو القوة التي تجعلنا نتنفس على الرغم من العدم. في السجون، كان الأمل هو الذي يحمينا من العنف والتعذيب، وهو الذي يجعلنا نتحمل القسوة من دون أن نفقد إنسانيتنا. وعندما تمر سنوات المعاناة، تكتشف أن الأمل هو ما يصنع الفرق بين الحياة والموت. ولولاه لما تحملنا، ولما استطعنا أن نواجه هذا الاحتلال الذي يعصف بكل شيء حولنا.
وفي تلك اللحظات القاسية في الأَسر، في تلك الفترة الممتدة منذ لحظة الأسر حتى نيل الحرية، وما بين لحظات من الموت والحياة، والكرامة واليأس والأمل، كنت أتذكر صديقي الأسير ناصر أبو سرور، الذي رفض أن يترك اليأس ليسيطر عليه. إذ إن الموت لم يكن هو الخيار، وكان الأمل هو الطريق. وفي كل لحظة من الزمن، كنا نعيد معاً زرع الأمل في أنفسنا وفي الآخرين، كنت أتذكر حديثاً دار بيننا إذ قال لي حينها: "رائد ما تفعله ليس مجرد صمود، بل أيضاً هو بيع الأمل للآخرين. أنت تمنحهم الحياة عبر كلماتك هذه."
في السجون يولد الأمل كل يوم في قلب الأسير، حتى وإن كانت السماء ضبابية، وتلك اللحظات التي يرى فيها الأسرى الشمس تشرق لأول مرة من خارج السجون؛ هي لحظات تستدعي التضحية وتعيد تشكيل الأمل فينا.
أول يوم في الأسر ويوم للحرية:
مع الحظات الأولى من دخول السجن، تحوّل المعتقل إلى فرصة للاستفادة من الوقت والفراغ، فقد سعينا لتعبئتها بالكثير من الإيجابية والانشغال، عبر أسئلة كنا نطرحها وكانت كالآتي: ما الذي يجعلنا نتعلم وندرس من أجل نيل الشهادات الجامعية، ونقرأ ونكتب، ونلتزم بقوانين وطنية تنظيمية معينة ونمارس الرياضة؟ كل هذه الأسئلة يمكننا أن نرد عليها بكلمة واحدة "الأمل".
ماذا فعلت لرائد عبد الجليل؟
منذ اليوم الأول، اعتبرت الأَسر فرصة لا أريد ضياعها. وكان لبعض القادة الوطنيين كالأسير مروان البرغوثي (أبو القسام) تأثير كبير في كثير من الأسرى في سجن هداريم. فقد كان الأسرى يعيشون آنذاك لحظات قمع من سلطات الاحتلال، فجاء أبو القسام إليّ في غرفة الأَسر وطلب مني النزول في اليوم التالي إلى "الفورة"، بعد أن أعطاني اللائحة التنظيمية. وفعلاً، بدأت بتنظيم وقتي في المعتقل، وكانت أولى وأهم نصائحه مقولته الأكيدة: "إحنا مروحين، بكرة بعد سنة بعد سنين إحنا مروحين، بدك تبني نفسك على هذا الأساس، اهتم بالتعليم والقراءة وعلاقاتك الجيدة مع الناس." وفعلاً، أبو القسام هو أول مَن اهتم بتدريسنا، ووضعنا على أول درب التعليم، وله فضل فيما وصلنا إليه من اجتهاد ومثابرة طوال حياتنا في السجن. فقد أصبح السجن مدرسة وجامعة بالمفهوم النضالي والتعبئة الوطنية، إذ استطاع أبو القسام تحويل الأَسر إلى جامعة بالمفهوم الأكاديمي، ليتخرج أكثر من 300 أسير من مختلف الفصائل الوطنية في السجون ويحملوا شهادة الماجستير، بالإضافة إلى عدد كبير من الأسرى الذين تمكنوا من استكمال درجة البكالوريوس.
ميسرة أبو حمدية.. مؤسس الكتيبة الطلابية:
عرض عليّ ميسرة أبو حمدية فكرة قراءة الرواية، بعد نقاش معه بشأن ماهية الكتابة الروائية. وبعد قراءة عدد من الروايات كان لذلك انعاكس واضح فعلاً على تفسيري لمعنى الوطن وتعاملي معه، وذلك بعد أن استفدت من طريقة الكاتب الروائي في عرض الأفكار الوطنية والإنسانية في حوارات تجمع أبطال الرواية، تفيد بمعنى الوطن "أنا وأنت، ونحن جميعاً نشكل الوطن."
البداية مع الكتابة في الأَسر:
بدأت بالكتابة عن طريق مجموعة قصص قصيرة، وكان هدفي من الكتابة الوصول إلى صفحة الإهداء لأسجل أسماء مَن أحبهم حتى يذكرهم الآخرين، مخلداً وجودهم بالكتابة عبر الزمن. حاولت تجسيد الأفكار التي أحملها في الكتابة، وخصوصاً في الرواية، وهي أفكار تتعلق بمواضيع مقاومة الاحتلال والعملية السليمة والقضاء والقدر. فأنا أعتقد أنه إذا كان الاحتلال قضاء فالمقاومة قدر. ويجب ألاّ يكون هناك استسلام للواقع الذي نعيشه، فعلى الإنسان مقاومة الظلم حتى يسير الكون في الاتجاه الصحيح. وقد وجدت العديد من الدورات المكثفة في السجن للشباب المعتلقيين تحمل الأفكار ذاتها؛ بخصوص استمرارية مسيرة مواصلة الصمود وحماية الوعي..
إن الحركة الصهيونية حركة إحلال تحمل فكرة محاربة وجودنا، فالوجود الفلسطيني في فلسطين وفي المنفى هو فشل مستمر للحركة الصهيونية التي ترفض العيش مع الآخر وترفض السلام. نحن نعرف مَن نحارب ونقاوم، فمَن ناضل وعاش تجربة الكفاح المشروع، يعرف معنى السلام الذي يضمن الحقوق الأساسية المسلوبة. وإذا سألتني فأنا أكثر مَن يتمنى تحقيق السلام. فالمناضلون والمقاتلون يدركون معنى السلام. فقد عشت الحرب وبكاء أمي، وفقدت أصدقائي وتعرّضت للتعذيب في السجون، وما يهمني هو العيش بسلام، لكن مَن لم يعش التجربة النضالية والفكرية، لا في القلم ولا في الحجر، فهو لم يعش الوجع الأساسي، فالمناضل يبحث عن السلام، ويحمل البندقية وهو ليس خياره. إذ لا يمكن أن يروق لي أن تفقد أمّ أبناءها على سبيل المثال، لكن أُجبرنا أن نقاتل ونقاوم قدَر الاحتلال المفروض علينا، وذلك واجب. وللأسف يسألنا بعض المنهزمين أصحاب الواقعية السياسية، وهو أبعد ما يكون عن الواقعية، وأقرب ما يكون إلى الرجعية، عن نجاعة فعل المقاومة، فنردّ بأن قرارنا يأتي بهدف الدفاع عن الكرامة الوطنية والوجود الفلسطيني قدر المستطاع، وذلك من أجل حماية أرضي وأمي وشعبي من الاحتلال، وتوفير حياة أفضل للأجيال القادمة التي ستدرك حتماً ما قمنا به.
سنوات مع وليد دقة ورسائله:
في المعتقل، هناك طريقة لتقسيم الأمور: منها الفصائل الوطنية في غرف منفصلة، وإجراء انتخابات كل 6 أشْهر، مَن يقرر الإضراب المفتوح عن الطعام، ومَن هو مسوؤل عن الجوانب اليومية والإشراف عليها، وكل ذلك عن طريق فعل منظَّم بين الأسرى..
يلتقي الأسرى الجدد عند دخولهم إلى سجون الاحتلال، وتنقل الأسرى الموجودين بين المعتقلات وأقسام السجون، بالأسرى القدامى، وهنا تبدأ بصورة عاجلة عملية إعطائهم التوجيهات اللازمة واللائحة التنظيمية التي تقودهم نحو رؤية واضحة وتفيدهم بشأن طبيعة الحياة داخل المعتقل.
في سنة 2013، التقيت بوليد دقة داخل سجن هداريم، وكان ذلك أول لقاء بيننا، وكان قد مرّ على اعتقالي عشر سنوات. في ذلك العام، انتقلت إلى سجن هدرايم بعد أن شجعني أبو القسام على استكمال درجة البكالوريوس، وكان وليد دقة من المحاضرين الذين عملوا على تدريس الأسرى في المعتقل، إذ تخصص بتدريس مساق "الدين والقومية والفلسفة". ومع مرور الوقت، انتقلت إلى سجن جلبوع، وفي سنة 2017 انتقل وليد دقة من سجن هداريم إلى سجن جلبوع كذلك. جاء وليد دقة ومعه رسائل كتبها بالمشاركة مع أبو القسام وكانت تحثّ على التوجه نحو إضراب الحرية والكرامة. كان وليد بحد ذاته رسالة كبيرة لنا في الأَسر، فقد أكد على ضرورة التحضير للإضراب والعمل على تهيئة وتعبئة الأوضاع اللازمة لذلك الأمر. أصبحت علاقتي بوليد دقة أكثر قوة داخل سجن جلبوع في ذلك العام، وتلك الأيام كانت من أصعب اللحظات في مسيرة وليد دقة، نتيجة لوضعه الصحي الصعب. فاقترحنا عليه أن لا يدخل معنا في الإضراب عن الطعام، حفاظاً على صحته التي يلزمها العناية وتناول الأدوية باستمرار، لكنه رفض بشدة. كانت لي جلسات طويلة معه امتدت إلى ساعات، وكانت أقرب إلى لقاءات يومية، الأمر الذي جعل العلاقة بيننا أكثر قوة.، والعلاقات في السجن تُبنى على الكثير من المتغيرات؛ منها الجغرافيا والتنظيم، والفكر والثقافة والمعتقدات. ومن منطلق النقاش والحوار والأفكار تأسست علاقتي به، فقد كان لديه ذاكرة قوية وقدرة معرفية وثقافية وطنية هائلة في تعريف وربط الأحداث والمفاهيم مع بعضها بعضاً. فعلى سبيل المثال، حين يتسنى لنا طهي وجبة طعام، كان وليد دقة يأخذ بتعريفها بوعي ثقافي صادق وواضح، فيناقش وجبة الطعام ودلالاتها وارتباطاتها الثقافية بالإرث الشعبي في فلسطين وعلاقتها بأهلها لساعة من الزمن.
وليد ودروس الفلسفة الثقافية:
كان يبدأ وليد من أدق التفاصيل ويُبسط في شرحها وتفسيرها، فاتحاً الحوار والنقاش بشأن "الحداثة" وصولاً إلى رأي الفارابي في "الحضارة" إلى شرح وصف الحضارة العربية والغربية والفرق بينهما. وقد كان يرى أن الحضارة العربية دائرية تقترب وتبتعد أحياناً عن الأخلاق والقيم، أمّا الحضارة والحداثة الغربية فتسير في اتجاه واحد، فكلما تطورت ابتعدت عن القيم والأخلاق. اهتم وليد دقة ببناء محاضراته والأحاديث التي تدور معه والعلاقات مع الآخرين، على أساس الخير والشر والعدالة والعطاء، كما اهتم ببناء الفعل الدال على الخير.
كانت الرسائل بيني وبين وليد دقة وسيلة التواصل بعد أن فرقتنا السجون. فكان يرسل إليّ رسائل من سجن ريمون، وحملت الرسالة الأولى عناوين كتب طلب مني قراءتها. فقد اهتم بالمقام الأول حين كان ينتقل من سجن إلى آخر بنقل الكتب معه، وتخليه بالمقابل عن مستلزماته الشخصية إذا اضطر إلى ذلك.
لقد شهدت داخل السجن تحول بعض الأسرى بسبب القراءة والنقاشات التي كانت تجري والتعليم، وهو ما يدلل على الاستثمار في توسيع ثقافتهم الشخصية، والتفكير في السياسة والاقتصاد والفلسفة والشريعة والأدب والشعر والفنون والمسرح.
ناصر أبو سرور:
ناصر أبو سرور إنسان عظيم بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولديه القدرة على تفسير أي واقع نعيشه عبر عالم الفلسفة. فهو يملك القدرة على طرح القضايا بعمق كبير، ويعطي الأحداث والمواقف تعريفها النظري والتطبيقي، ويقرأ بشغف غير موصوف، كان يقول لي: سجون الاحتلال لديهم سياسات ومنهجية واضحة لتجهيل الأسرى. ولدى ناصر أبو سرور رؤية وقناعة بأنه يتوجب الامتناع عن نزع الإنسانية من العدو حتى نتمكن من محاكمته على الجرائم التي يرتكبها باستمرار بحق الأسرى وبحق شعبنا..
الحب والبندقية:
حاولت في روايتي "الحب والبندقية" أن أكتب لصديق عمري رامي نور(أبو الفضل)، وهو لا يزال على قيد الأَسر ومحكوم بمؤبَدين و40 عاماً.. وقد مضى في السجن حتى الآن 24 عاماً. في الحقيقة، أعطاني رامي روحه بالمعنى الفعلي وليس بالمجاز والبلاغة. وقد كُتِبت له الحياة والعيش بعد أن قدّم الفداء والتضحية النضالية من أجل وطنه.. فالرواية واقعية، وقد استخدمت الخيال قليلاً وفق أهمية الاستدعاء والحاجة. وجسّدتُ فيها حوار مبني على الأمل والحرية والحب بين رامي نور وكريم يونس داخل غرف التحقيق، كما اهتمت أفكار الرواية بمعالجة القضاء والقدر والتضحية من أجل الآخرين والأفكار الانهزامية.
سأستمر في الكتابة بكل تأكيد، وخصوصاً عن أعوامي الأخيرة في السجن، وحياة المعتقل التي نقلتني إلى عالم أوسع؛ فلسطين والنضال الذي أعطانا أكثر بكثير مما نحن أعطيناه، ولو يعود الزمن إلى الوراء سأختار نفس الطريق؛ طريق الفداء والنضال...
التجربة والنهج والثورة:
ياسر أبو بكر: من الشخصيات الفاعلة في تحريك السجن من أجل تحقيق هدف. أمّا القدوة الكبيرة التي تَعلّمنا منها، فهي زكريا الزبيدي: إنسان من نوع مختلف، فهو المناضل الذي مرّ بحياة قاسية، لكنه استمر في اختياره النضال والمقاومة. فهو لا يعرف العيش إلاّ ثائراً، وعلاقته بوليد دقة كانت صلبة ومميزة، وانعكست في النقاش والحوار والجلسات التي طرحت الأفكار وشارك فيها أشخاص قابلتهم في المعتقل. أمّا داود الزبيدي، فهو إنسان كبير تشعر معه بالأمان والمرح، وقد تعلّم الكثير من الصبر داخل السجن.. بينما مثّل كمال أبو وعر مجموعة من القيم والمبادئ الثورية والأخلاق، في حين تميَّز سامي العمور بقلبه النقي وكان لي شرف لقائه في بداية الاعتقال.
آخر يوم في السجن أول أيام الحرية:
في آخر يوم في السجن انتابني الخوف الذي لا يزال مستمراً معي حتى هذه اللحظة. فأنا إلى اليوم أستخدم المصطلحات ذاتها، تلك التي كنت أستخدمها في المعتقل. إذ إننا لم نتحرر في صفقة تبادل بالواقع الفعلي، نحن تحررنا بفداء ودماء أبناء شعبنا في غزة، وهذه مسؤولية حقيقية تقع على كاهلنا. وسيرة النضال والاعتقال على الرغم من كل ما يمر بها، فهي تجعل مَن يعيشها يتحمل المسؤولية ليكون قدوة ونموذجاً أخلاقياً ونضالياً للآخرين من أبناء شعبه.