اندرجت الصهيونية، التي اعتمدت في تصوّرها الأمة على المكوّن الإثني والثقافي اللغوي، وشكّلت نوعاً من أنواع القومية الحصرية، في إطار المشروع الإمبريالي الأوروبي، الذي مثّلت العنصرية، المتجاهلة حقوق السكان الأصليين وتطلعاتهم، واحداً من أسسه. فالصهيونية هي، في الواقع، حركة معاصرة لم تنبثق عن تقاليد بائدة أو مقدسة، بل نمت جنباً إلى جنب مع حركات قومية أخرى في أوروبا، وارتبطت تطلعاتها، ارتباطاً وثيقاً، بثقافة أوروبا القومية الامبريالية في القرن التاسع عشر[1]. كما ارتبطت ببروز ظاهرة حارقة في الغرب، بعد قرن من الثورة الفرنسية التي عتقت اليهود وسرّعت اندماجهم في المجتمع، تمثلت في حركة مناهضة لليهود من نمط جديد، هي معاداة السامية، التي شهدت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تطوراً ليس فقط في روسيا القيصرية الأوتوقراطية وإنما أيضاً في أوروبا "الديمقراطية والمتقدمة"، في ألمانيا وفرنسا والنمسا، ولم يكن هدفها الرئيسي، في الواقع، اليهودي التقليدي في الغيتو وإنما اليهودي المنعتق، أي البنكي، والصحافي، والضابط في الجيش والأديب والفنان[2].
اكتشف تيودور هرتزل (1860-1904)، عندما كان يعمل في باريس مراسلاً لصحيفة نمساوية، الظاهرة االتي شهدها في فيينا: صعود معاداة السامية، وعلم، في 22 كانون الأول/ديسمبر 1894، بإدانة الكابتن ألفريد دريفوس بتهمة الخيانة، وشهد، في 5 كانون الثاني/يناير 1895، تخفيض رتبته في الكلية العسكرية، أمام جمع من الضباط والجنود الذين كانوا يصرخون في وجهه "يهودي خائن"، مستغرباً أن تقع هذه الحادثة ليس في روسيا أو حتى في النمسا، وإنما في فرنسا، "فرنسا الجمهورية، الحديثة والمتحضرة، بعد قرن من صدور إعلان حقوق الإنسان"[3]. وقد عززت قضية دريفوس قناعته بأن معاداة السامية ظاهرة "أزلية"، وأن عليه واجباً "خلاصياً" هو أن يبحث عن "حل" للمسألة اليهودية، وتصوّر أن هذا الحل يمكن أن يتمثل في إقامة دولة يهاجر إليها اليهود في العالم بصورة جماعية، ولا تقوم على أساس الدين والثقافة اليهوديين، وإنما تُمكّن اليهود من العيش حياة طبيعية على غرار الأوروبيين الآخرين.
"هل نفضّل فلسطين أو الأرجنتين؟"
ظهرت الطبعة الأولى من "دولة اليهود. محاولة لحل المسألة اليهودية" باللغة الألمانية في 14 شباط/فبراير 1896 في فيينا، بعد أن وجد تيودور هرتزل صعوبة كبيرة في نشر مؤلفه. وبرزت مشكلة العنوان في الترجمة الفرنسية الأولى للكتاب، التي حملت عنوان: "الدولة اليهودية"، إذ إن دولة يهودية تعني أنها ستكون متطبعة بالثقافة اليهودية، وبقيم خاصة يشكّل الدين اليهودي مكونها الجوهري إن لم يكن الحصري، بينما دولة اليهود، تعني أن اليهود سيكونون أغلبية فيها، ويقيمون دولة "على غرار الدول الأخرى". ومما لا شك فيه، فإن الأمر بالنسبة إلى هرتزل كان يتعلق بدولة اليهود وليس بدولة يهودية، وهو ما ظهر في الفقرة المتعلقة بمكانة الدين والحاخامين في الكتاب "الذين يجب أن يبقوا في الكنس كما يبقى الجنود في الثكنات"[4].
أكد تيودور هرتزل، في مقدمة كتابه، أن المسألة اليهودية قائمة، و"سيكون بلا طائل تجاهل ذلك، ذلك إنها من بقايا العصور الوسطى، التي لم تستطع الشعوب المتمدنة تقديم حلول لها، رغم إرادتها الطيبة"، معتبراً أن هذه المسألة "مهما يكن الطابع الذي تتطبع به"، ليست "مسألة دينية ولا اجتماعية، وإنما مسألة قومية، ومن أجل حلها، يتوجب علينا، قبل كل شيء، أن نطرحها بتعابير سياسية، على الصعيد العالمي، بحيث يمكن حينئذِ حلها في إطار مجلس شعوب متمدنة"[5]. ثم انتقل إلى عرض ظاهرة معاداة السامية وأسبابها، فاعتبر أن هذه الظاهرة الحديثة تختلف عن "الكره الديني لليهود الذي شاع في الماضي"، وأنها نتجت، في البلدان الرئيسية التي شاعت فيها، عن "تحرر اليهود"، وهي تمنع اليهود من الذوبان في مجتمعاتهم، واقترح، بغية التخلص من هذه "المحنة" الناجمة عن معاداة السامية، حلاً "براغماتياً" للمسألة اليهودية، تمثّل في منح اليهود "السيادة على قطعة من سطح الأرض بما يتوافق مع حاجاتنا المشروعة بصفتنا شعباً، ونحن نتكفل بالباقي"، بحيث نقوم بتشكيل هيئتين كبيرتين: "جمعية اليهود وشركة يهودية، وما تقوم جميعة اليهود بتهيئته بصورة علمية وسياسية، تنجزه الشركة اليهودية بصورة عملية"[6].
ثم طرح تيودور هرتزل السؤال التالي: "هل نفضّل فلسطين أو الأرجنتين؟"، وأجاب "إن الجمعية ستأخذ ما يُعطى لها، مع الأخذ في الحسبان موقف الرأي العام اليهودي بهذا الخصوص"؛ فالأرجنتين "واحد من البلدان الأكثر ثراء في الأرض، ومساحته هائلة، ويضم عدداً ضئيلاً من السكان ويتمتع بمناخ معتدل، وسيكون للجمهورية الأرجنتينية مصلحة كبيرة في أن تتنازل لنا عن قطعة من إقليمها، علماً بأن التسلل اليهودي الحالي إلى البلد خلق فيه، في الحقيقة، مزاجاً سيئاً، وسيتوجب علينا أن نشرح لجمهورية الأرجنتين الفرق الجوهري بين هذا التسلل وبين الهجرة اليهودية الجديدة". أما فلسطين "فهي وطننا التاريخي الذي لا ينسى، والاسم في حد ذاته سيكون بمثابة صرخة حاشدة قوية لشعبنا؛ وإذا جلالة السلطان [العثماني] أعطانا فلسطين، يمكننا أن نملك القوة الكافية لتنظيم أمور تركيا المالية بصورة كلية؛ وبالنسبة لأوروبا، سنشكّل هناك قطعة من المتراس ضد آسيا، ونكون الحارس المتقدم للحضارة ضد البربرية". وتابع قائلاً: "سنظل، بصفتنا دولة محايدة، على علاقات ثابتة مع كل أوروبا، التي عليها أن تضمن وجودنا"، ويمكننا أن نجد، بخصوص الأماكن المقدسة المسيحية، "شكلاً من أشكال الولاية خارج الحدود الإقليمية وذلك بالتناغم مع القانون الدولي، ونشكّل حرس الشرف حول الأماكن المقدسة"، وهو ما "سيكون بالنسبة إلينا الرمز الكبير لحل المسألة اليهودية، بعد 18 قرناً من المعاناة القاسية"[7].
المؤتمر الصهيوني الأول يختار فلسطين
بعد نشر "دولة اليهود"، طمح تيودور هرتزل إلى جمع ممثلين عن الشعب اليهودي في مؤتمر يٌعقد في ميونيخ، لكن المؤتمر عُقد أخيراً في مدينة بال السويسرية في الكازينو البلدي، ما بين 29 و 31 آب/أغسطس 1897، وذلك بمشاركة 197 مندوباً قدموا من 15 بلداً، بما فيها انكلترا، وألمانيا، والولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وفلسطين وروسيا[8].
افتتح تيودور هرتزل المؤتمر بخطاب مطوّل أشار فيه إلى أن مهمة المؤتمر هي "وضع اللبنة الأولى للبيت الذي سيضم، في يوم ما، الأمة اليهودية "، ثم حدد المهمات الرئيسية الملقاة على عاتق المؤتمر، ومن ضمنها "تأسيس منظمة يدرك كل واحد منا مدى الحاجة إليها"، و"تطوير الوعي القومي اليهودي"، والسعي إلى "اكتساب ثقة الحكومة التي نريد أن نبحث معها مسألة استيطان الجماهير اليهودية"، وإبراز "المنافع التي يمكن أن يقدمها شعبنا لها في المقابل"، بما يضمن "تقدم مباحثات جدية الطابع معها"[9]. وكان من الواضح من خطابه أن فلسطين هي خياره، وأن الحكومة التي يريد اكتساب ثقتها والتباحث معها هي الحكومة العثمانية.
قرر المؤتمر الصهيوني الأول، في ختام أعماله أن الصهيونية "تسعى للحصول للشعب اليهودي في فلسطين على وطن يضمنه القانون العام، وستعمل، لهذا الغرض، على استخدام الوسائل التالية: 1-التشجيع المبدئي لاستيطان فلسطين من جانب يهود من العمال الزراعيين، والصنّاع وأصحاب المهن الأخرى؛ 2 -توحيد جميع الجاليات اليهودية وتنظيمها في مجموعات محلية واسعة بالتوافق مع قوانين بلدانها؛ 3-تعزيز الوعي اليهودي والوعي القومي؛ 4- القيام بإجراءات تحضيرية بغية الحصول من الحكومات المختلفة على القبول اللازم لتحقيق أهداف الصهيونية"[10]. وتحسباً من ردات فعل السلطات العثمانية، اختفى من قرارات المؤتمر الخامية مصطلح "دولة"، واكتفي بمصطلح "وطن".
أعلن المؤتمر قيام المنظمة الصهيونية العالمية، وانتخب المندوبون لجنة تنفيذية لها من 23 عضواً لمتابعة الشؤون السياسية. وفي 3 أيلول/سبتمبر 1897، بعد انتهاء المؤتمر مباشرة، كتب هرتزل في يومياته: "لو كان عليّ أن ألخص مؤتمر بال بكلمة، سأتجنب ذكرها أمام الجمهور، لقلت ما يلي: في بال، قمت بتأسيس الدولة اليهودية؛ وإذا ما قلت هذا القول اليوم بصوت عالٍ، فمن المؤكد أنني سأثير ضحكاً عاماً، لكن في غضون خمس سنوات ربما، أو خمسين سنة بكل تأكيد، سيدرك كل واحد هذه الحقيقة"[11].
مساعي تيودور هرتزل الدبلوماسية
سعى تيودور هرتزل، خلال نشاطه السياسي الذي دام نحو سبعة أعوام عقب انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول، إلى الحصول على اعتراف دولي بمشروعه، يتجسد في "ميثاق"، أو في تعهد دولي من إحدى القوى الدولية الكبرى. وبعد أن بذل جهوداً مكثفة لدى السلطات العثمانية لدفعها إلى الموافقة على بيع فلسطين إلى اليهود، نجح، بمساعدة الحاخام الأكبر في استانبول، بمقابلة السلطان عبد الحميد في 17 أيار/مايو 1901، وعرض عليه أن تسعى المنظمة الصهيونية إلى تصفية الدين العثماني، وأن يعمل اليهود الذين سيقيمون داخل أراضي السلطنة على إحياء اقتصادها، لكن السلطان أبدى استعداده لاستقبال المهاجرين اليهود شريطة أن يتوزعوا على كل أراضي السلطنة، وأن يحملوا الجنسية العثمانية ويقوموا بتأدية الخدمة العسكرية. وكان هرتزل قد سعى إلى الحصول على دعم إمبراطور ألمانيا غيوم الثاني، الذي التقاه في استانبول، في 17 تشرين الأول/أكتوبر 1798، على رأس وفد صهيوني صغير، لكن من دون نتيجة إيجابية[12]. وعندما فقد أمله في الحصول على الدعم الألماني، توّجه صوب بريطانيا، وحذّر، في سنة 1902، المسؤولين البريطانيين من خطر تدفق أعداد كبيرة من يهود أوروبا الشرقية إلى بريطانيا وبلدان أوروبا الغربية الأخرى، في حال عدم فتح أبواب فلسطين أمامهم. ونجح، في 22 تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، في عقد لقاء مع جوزيف تشامبرلين وزير المستعمرات البريطاني، الذي رحب بطروحات هرتزل وتناقش معه في مشروع هجرة اليهود إلى جزيرة قبرص وما ينطوي عليه من تعقيدات، ثم رتّب له، بعد يومين من الاجتماع به، موعداً مع وزير الخارجية البريطاني، اللورد لانسدون، الذي وعده بعرض مشروع هجرة اليهود إلى صحراء سيناء، وإقامتهم مستوطنة في منطقة العريش، على اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر. وقد أوفد هرتزل مبعوثاً إلى مصر لمقابلة نائب الملك اللورد كرومر، الذي أكد للمبعوث الصهيوني أن من غير الممكن أن يتمتع المهاجرون إلى مصر بحقوق مختلفة عن حقوق عموم المصريين، وذلك بعد أن كان رئيس الوزراء المصري، بطرس غالي، قد رفض أي ميثاق يمنح حقوقاً مميّزة للمهاجرين الأجانب[13].
أوغندا أو فلسطين؟
في اجتماع جديد عقده هرتزل مع تشامبرلين، عرض عليه هذا الأخير مشروع إقامة وطن لليهود في شرق أفريقيا، وتحديداً في أوغندا، إلا أن هرتزل رفض آنذاك ذلك المشروع، ولم يقبله إلا في آب/أغسطس 1903، وذلك بعد أن اندلعت في روسيا موجة جديدة من "البوغرومات" ضد اليهود، كان أخطرها البوغروم الذي وقع ما بين 6 و 8 نيسان/أبريل 1903، في كيشينف، وقُتل فيه نحو خمسين يهودياً وسقط عدد كبير من الجرحى، وهو ما شكّل منعطفاً في تاريخ يهود أوروبا الشرقية، وبداية الدفاع الذاتي اليهودي[14].
تسلح هرتزل بهذا المشروع خلال الاتصالات المباشرة التي أجراها، في تلك الفترة، مع المسؤولين الروس، الذين كانوا على استعداد للسماح بحرية عمل المنظمة الصهيونية في بلادهم ما دامت تسعى إلى تهجير اليهود منها. وبعد عودته من روسيا، افتتح هرتزل في مدينة بال، في 23 آب/أغسطس 1903، المؤتمر الصهيوني العالمي السادس، بخطاب استعرض فيه جملة المساعي الدبلوماسية التي بذلها، بما فيها مساعيه مع الحكومة الروسية، ودافع فيه عن فكرة قبول مشروع أوغندا، مؤكداً أن أوغندا "ليست ولن تصبح أبداً صهيون، وإنما هي حل مؤقت لمساعدة اليهود المكرهين على الهجرة في الحال، وكي لا يتشتتوا في العالم، ومن أجل تنظيم استيطان على قاعدة قومية ودولانية"، لكن هذا المشروع أدى إلى بروز انقسام بين "الإقليميين"، أو البراغماتيين، المناصرين له وبين "صهيونيي صهيون"، أو الإيديولوجيين، المكوّنين في الأساس من مندوبي بلدان شرق أوروبا، وخصوصاً من روسيا. وأخيراً، واحتراماً لرئيسهم، صوّت المندوبون على إرسال بعثة خبراء إلى أفريقيا الشرقية، كي تدرس على أرض الواقع شروط الاستيطان اليهودي المقبل، وذلك بتأييد 295 مندوباً ومعارضة 178، وامتناع 143 مندوباً عن التصويت، وتم الحفاظ بذلك على الوحدة داخل المؤتمر ظاهرياً[15].
بعد انتهاء المؤتمر الصهيوني السادس، دارت نقاشات حامية حول مشروع أوغندا بين ممثلي "الإقليميين" من أنصار المشروع، وممثلي "الإيديولوجيين" من أنصار معارضيه، وكان الأديب الإنكليزي، المقرّب من هرتزل، يسرائيل زانغويل (1864-1926)، من أنصار المشروع الحازمين، إذ رأى في أوغندا وسيلة لتحقيق مطلب الصهيونية بإقامة دولة، وذلك على حساب "الإرث الثقافي" الذي يربطها بـ "أرض إسرائيل"[16]. وبعد أن عرض زانغويل الأوضاع الديموغرافية في فلسطين، حيث "كثافة السكان في قضاء القدس أكبر بمرتين من كثافة السكان في الولايات المتحدة"، وهو ما يعني أن "علينا أن نتحضّر إما لطرد القبائل التي تحتلها بالسيف كما فعل أجدادنا، أو مجابهة مسألة وجود أعداد مهمة من السكان الغرباء، مكوّنين خصوصاً من محمديين، معتادين منذ قرون على ازدراءنا"، خلص إلى أنه يميل إلى النظر إلى "فلسطين مؤقتة، بحيث يقوم أي إقليم، ما دام يهودياً ويرفع عليه علم يهودي، بإنقاذ الجسم اليهودي والروح اليهودية، ويصبح نقطة تجمع بالنسبة إلى الصهيونية، ومركزاً للتدرب على الحكم الذاتي"، مؤكداً أن "أفريقيا الشرقية، أو أي إقليم مشابه، باستثناء فلسطين، يملك في البدء ميزة ضمان تحررنا من المسائل اللاهوتية والسياسية الهائلة التي ستواجهنا في فلسطين"، وأن توجّه "نحو عشرين مستوطناً يهودياً إلى أفريقيا الشرقية، سيكون أهم بكثير من عشرين خطاباً صهيونياً"[17].
أما تيار المعارضين لمشروع أوغندا، فقد عبّر عنه الاشتراكي الصهيوني يوسف حاييم برينر (1881-1921)، الذي قدّر أنه ليس هناك "نزل مؤقت" بالنسبة إلى "شعب لم يكن تاريخه سوى تاريخ ليل طويل"، وأن "صهيون" وحدها هي "البلد الذين يحمل آمالنا بحياة شعب حر"، مؤكداً "أننا بصفتنا صهيونيين نوجّه أنظارنا نحو أرض إسرائيل"، و "سنذهب إلى وطننا المقبل، وسنجعل حقول بيت لحم تزهر"، ومعتبراً أن "اختيار أرض إسرائيل يستند، في نظري، إلى أسباب حسنة، ذلك إن توطيننا في أي أرض أخرى نجدها بالصدفة لن يكون له المعنى نفسه فيما يتعلق بالإنكار التام للمنفى"، و"لن يلبي كلية تطلعاتنا"، و"الأمل لشعبنا منذ آلاف السنين"[18]. كما عبّر عن موقف المعارضين لمشروع أوغندا اشتراكي صهيوني آخر هو دوف بير بوروخوف (1881-1919)، الذي أرجع موقف "الإقليميين"، المناصرين للمشروع، إلى المأزق الذي وصلت إليه حياة اليهود في المنفى، والأخطار المحيقة بهم في المستقبل، وكتب: "إن الإقليميين يطالبون بالشفاء العاجل من المرض ويرون في الاستقلال الذاتي الإقليمي، المضمون بميثاق [تعهد دولي] الدواء الوحيد"، وهم "يرون في صهيونية صهيون إيديولوجية لأناس عاطلين عن العمل يرفهون عن أنفسهم بالانغماس في رؤى تطال العودة إلى صهيون والتمسك بتقليد تاريخي وروحي يعود إلى العصر القديم"، بينما أنصار الخيار الفلسطينيي يعتبرون "أن أرض إسرائيل تشكّل جزءاً لا يتجزأ من المثل الأعلى القومي"، وظل "تاريخ الحركة الصهيونية، حتى انعقاد المؤتمر السادس [الصهيوني]، يشهد لصالحهم"، ذلك "إن صهيون كانت الهدف الطبيعي لحركتنا، في حين أن النزعة الإقليمية التي وردت الإشارة إليها عند [ليو] بنسكر وحتى عند هرتزل شخصياً لم يكن من الممكن إدراجها ضمن وعي الحركة"، وذلك إلى "أن وقعت لصالحها أحداث خارجية إكراهية تمثلت في البوغرومات التي لحقت بنا"[19]. وخلص بوروخوف إلى "أن مثل صهيون الأعلى يجب تلمسه كثالثوث حي، يشمل، في آن معاً، تحرر الشعب اليهودي، وبعث الثقافة اليهودية والعودة إلى الوطن القديم"، متوقعاً، على سبيل المثال، أن "تنمحي الثقافة العبرية في أوغندا أمام الثقافة الأنكلو-سكسونية أو أن تتطور بصورة غير طبيعية"، وأن لا تتطور الهجرة وتتجه "إلى أي مكان آخر غير أرض إسرائيل"، وأن لا ينجح "انتماء الشعب ومشاركته" سوى في هذه الأرض؛ ومع أن ليس هناك علاقة نظرية ومنطقية بين هذه العناصر الثلاثة –كما ختم- فإنها "مرتبطة فيما بينها على المستوى النفسي، ذلك إن حبنا للشعب، وحبنا للثقافة وحبنا للوطن لا ينفصل واحدها عن الآخر"[20].
طرح مشروع أوغندا على بساط البحث مسألة تتعلق بمعنى الصهيونية، إذ هو لقي دعماً غير منتظر من الشخص الذي "أحيا" اللغة العبرية المحكية، وهو إليعزر بن يهودا (1858-1922)، الذي رأى "أن اللغة والشعب لهما أولوية على الإقليم"؛ وإذا "كانت الأرض-أرض إسرائيل- مقدسة، فإن الإقليم ليس سوى أمر سياسي". كما أيدّه آخرون، مثل يسرائيل زانغويل، لأنهم رأوا فيه "فرصة لبناء حياة قومية بعيداً عن "الطغيان الديني"[21].
بعد جولة أخيرة من المساعي الدبلوماسية، في مطلع سنة 1904، لدى حكومة إيطاليا، وبابا الفاتيكان، توفي تيودور هرتزل في 3 تموز/يوليو 1904 ودفن في مدينة فيينا، بينما استخلصت لجنة الخبراء التي أرسلت إلى أفريقيا الشرقية في ربيع سنة 1905 أن مشروع أوغندا غير قابل للتطبيق؛ وبذلك أُسدل الستار عليه، وتكرّس، بصورة نهائية، الخيار الفلسطيني.
وتتأكد مما سبق حقيقة أن الصهيونية لم تكن أكثر من تعبير من تعبيرات الحركة الاستعمارية الأوروبية التي كانت تبحث عن أرض كي تستعمرها؛ وهذه الأرض إذا لم تكن فلسطين، يمكن أن تكون الأرجنتين، أو قبرص، أو صحراء سيناء، أو حتى أوغندا التي اختارها تيودور هزتزل قبل وقت قصير من رحيله!
*من كتاب يعدّه الباحث عن الصهيونية وموقفها من العرب الفلسطينيين عبر مراحل تطوّرها التاريخي.
[1] شموئيل، أمير."عن الأيديولوجيا الصهيونية بين الاستعمار الأوروبي وما بعد الصهيونية "، "قضايا إسرائيلية"، رام الله، العدد 13، شتاء 2004، ص 7-22.
[2] Abitbol, Michel. ”Histoire d'Israël” . Paris: Perrin, 2018, p. 16-17.
[3] Ibid, p.62.
[4] Herzl, Théodore.” L’ Etat des juifs”, suivi de essai sur le sionisme de Claude Klein, Paris: La Decouverte, 1990, p.10.
[5] Ibid, p. 22-23.
[6] “Le Sionisme dans les textes”. Préface de Dominique Bourel. Textes choisis et édités par Delphine Bénichou: Paris, CNRS éditions, 2008, p.160-163.
[7] Ibid, p. 163-164.
[8] Abitbol, op.cit, p.66.
[9] “Le Sionisme dans les textes”, op.cit, p.188-190.
[10] Laqueur, Laqueur, Walter. “Histoire du sionisme”. Paris: Gallimard, 1972, p. 165-166.
[11] Laurens, Henry. “La Question de Palestine, tome premier 1799-1922 . L’invention de la Terre sainte”. Paris: Fayard, 1999, p. 174-176.
[12] Ibid, p.179.
[13] Ibid, p. 182-183 et 187-188.
[14] Laqueur, op.cit, p.190.
[15] Ibid, p. 198.
[16] “Sionismes”. Textes fondamentaux, réunis et présentés par Denis Charbit, Paris, Albin Michel,1998, p. 308.
[17] Ibid, p.311-312.
[18] Ibid, p. 318.
[19] Ibid, p.319-320.
[20] Ibid, p.321-323.
[21] Bensoussan Georges. “Une histoire intellectuelle et politique du sionisme 1860-1940”. Paris: Fayard, 2002, p.146-147.