خرجت من الحرب، لكنها لم تخرج مني، ونجوت من الإبادة، لكن الوجع بقي متورطاً فيَّ، يسري في دمي، ويعيد صوغ ملامحي على إيقاع الفقد والخذلان. خضت معركة وجودي وقاومت الفناء بالكتابة والجسد والروح، متنقلاً بين فصول الوجع بإيمان ثابت بأن استراحة المحارب قادمة، ولو بعد حين. لم يكن سهلاً أن أقطع المسافات بين الموت والحياة، وبين الدمار والأمل، وبين النزوح والبحث عن وطن صغير في قلب فتاة تمنحني امتداداً آخر للحياة.
حين توقفت الحرب، دخلت بيت الفتاة التي أحبها، وقلت لها: "فلنكمل المعركة معاً، سننتصر على الموت والقهر، وسأعبر بكِ الطوفان إلى بلادٍ آمنة كأول نظرة حبٍّ."
كانت الفتاة نقاءً مفرطاً، فصرنا قلباً واحداً، واسمين طائرين على جناح الكلام، وصار لي سلاح آخر إلى جانب الكتابة أقاتل به وأستمر، فلا أسقط حتى لو واجهت العالم كله وحدي.
لكن الإبادة، وإن توقفت، فإنها لم تنهِ معركة شعبنا الوجودية، فما زال خطر الإلغاء وشطب الكيانية الوطنية والانقضاض على الحلم يترقب اللحظة المناسبة للحسم. ولم يعد السؤال متعلقاً بمصير فرد أو مدينة، بل أيضاً بمصير فلسطين كلها: "هل نملك خطة واضحة لمواجهة هذا الخطر؟"
إن النكبات التي حلت بنا ليست محطات عابرة، إنما استراتيجيات مدروسة تهدف إلى محو وجودنا خطوة بعد أُخرى.
من النكبة الأولى إلى النكسة، ومن الاحتجاجات إلى الحصار، ومن القتل المباشر إلى القتل البطيء عبر إغراء الفلسطيني بالرحيل، وبث الشعور بالعجز واليأس؛ إنها معركة استنزاف طويلة، والأخطر أنها معركة إعادة تعريف للهوية الوطنية، إذ يُراد لنا أن نصبح شعباً بلا قضية، ولا تاريخ، ولا انتماء واضح، وكأننا حالة إنسانية تستدعي الإغاثة فقط لا التحرير.
الآن، بعدما وضعت الحرب أوزارها، صار التعب شديداً، نفسياً وجسدياً، وصارت الرؤية أكثر ضبابية، ليس لأن ما يخطط له العالم لفلسطين غير واضح، بالعكس، فالخطة مكشوفة تماماً؛ إلغاء وجودنا، لكن المعضلة تكمن في أننا كفلسطينيين لا نملك حتى الآن خطة عملية عاجلة وواضحة لمواجهة هذا الخطر وتثبيت شعبنا على أرضه. والمغريات تُطرح على الفلسطينيين في كل اتجاه: عروض بالرحيل نحو أماكن جديدة في مقابل وعود بالسلام والاستقرار، في محاولة لإعادة إنتاج نكبة جديدة بوسائل أكثر دهاءً، وهذا وحده يكشف زيف الادعاءات الدولية بشأن حل الدولتين، ويؤكد أن العالم لا يرى فلسطين إلاّ مساحة يجب أن تُمحى أو تُختزل في كيان مشوَّه.
لم تكن النكبة حدثاً وقع وانتهى، بل كانت أيضاً مشروعاً مستمراً، يعمل بكل السبل على إعادة إنتاج نفسه.
كانت الخطة الأولى تقوم على التهجير المباشر، لكنها اليوم تنفَذ بأساليب أُخرى أشد خطورة وأطول نفساً. وقد أصبح استهداف الفلسطيني في هويته وثقافته وسلوكياته اليومية جزءاً من هذه الحرب الطويلة، فضلاً عن تحويله إلى رقم في طوابير المساعدات، وإرهاقه بالبطالة والجوع، وإخضاعه للقهر السياسي، ودفعه ليبحث عن خلاص فردي بدلاً من مواجهة المصير الجماعي. كل ذلك ليس عشوائياً، إنما هو جوهر المشروع الذي يريد إنهاء القضية من دون الحاجة إلى صواريخ وقنابل.
لم يعد التهجير القسري يتم عبر مذابح فقط، بل أيضاً عبر دفع الإنسان إلى اختيار الرحيل بنفسه، وهذه أخطر أشكال الهزيمة.
ما يحدث في مخيمات اللاجئين داخل فلسطين وخارجها، من تدميرٍ ممنهجٍ كما في مخيم جباليا،
أو محاولات السيطرة الأمنية كما في مخيمات الضفة، ليس سوى ترجمة واضحة لقرار إنهاء قضية اللاجئين من جذورها، لأن قضية اللاجئين هي الورقة الوحيدة القادرة على تهديد الوجود الإسرائيلي إذا ما فُرضت تسويات نهائية وفق القوانين الدولية والحقوق التاريخية.
فإذا كان المشروع الصهيوني قد قام على الاستيلاء والإقصاء، فإن معركته الأخيرة ستكون مع اللاجئين وحق العودة؛ فإمّا أن يُمحى المخيم ومعه ذاكرة التهجير، وإمّا أن يُمحى الاحتلال ذاته.
ولهذا، فإنه لا يمكن النظر إلى العدوان الأخير على غزة، ولا إلى التصعيد في الضفة، في معزل عن هذه المعركة المصيرية.
إننا اليوم أمام لحظة مفصلية، أصبح واضحاً فيها أن مشاريع التسوية لا تحمل للفلسطينيين أي أفق حقيقي للحرية والاستقلال، إنما بالعكس؛ فهي محاولات لتصفية القضية عبر تفكيكها إلى ملفات منفصلة: القدس، واللاجئون، والدولة، والحدود... بحيث يمكن التعامل مع كل ملف على حدة، وتمييع جوهر القضية الوطنية، حتى فكرة الدولة المستقلة، التي كانت في السابق مطلباً سياسياً، أصبحت اليوم غطاء لواقع الاحتلال، يُراد خلالها للفلسطيني أن يكتفي بسلطة شكلية، من دون سيادة حقيقية، وبلا حق تقرير المصير.
ما نحتاج إليه اليوم ليس صموداً اضطرارياً، إنما استراتيجيا مواجهة شاملة، تعيد الاعتبار إلى المشروع الوطني الفلسطيني بكل أبعاده. يجب أن ندرك أن البقاء على الأرض هو جوهر المعركة، وأن كل أشكال النضال يجب أن تصب في هذا الاتجاه؛ دعم صمود الناس، وحماية الهوية الثقافية، وتعزيز الوعي الوطني، ورفض كل أشكال الإغراءات التي تستهدف تفكيك المجتمع الفلسطيني، وهذه كلها ليست تفاصيل هامشية، إنما أدوات المقاومة الحقيقية في هذه المرحلة، فلا يمكننا مواجهة مشروع بحجم المشروع الصهيوني من دون مشروع مقابل بالقوة والإصرار نفسهما.
المعركة لم تنتهِ، إنما دخلت مرحلة أخطر، والرهان اليوم ليس فقط على مَن يملك القوة، إنما على مَن يملك النفس الأطول في الصمود. أمّا فلسطين، فهي كما كانت دائماً، باقيةٌ مهما يحاولون شطبها من الخرائط، ومهما يتآمر العالم على اقتلاع جذورها. ليس المهم أن تتوقف الحرب فقط، بل أيضاً أن يتوقف مشروع التصفية، ونستعيد زمام المبادرة بدلاً من أن نبقى أسرى ردات الفعل.
المعركة المستمرة: بين استراحة المحارب وخطة المواجهة
Date:
13 février 2025
Thématique: