العائدون إلى الشمال
Date:
7 février 2025
Thématique: 

لم تكن فكرة النزوح سهلة مطلقاً؛ فأن تخرج تاركاً وراءك بيتاً جميلاً وأثاثاً وثيراً وأملاكاً مهمة لا يكون إلاّ بسبب أوضاع قاهرة، وخصوصاً أنك ذاهب إلى اللامكان، وتائه لا تهتدي إلى سبيل، من دون أن تعرف أين ستحط بك الدنيا، وفي أي مركز إيواء ستجلس؟ وما هي أوضاع الماء والنظافة هناك؟ وهل يتوفر صرف صحي وحمامات أم لا؟ ثم كيف ستتدبر أمر طعامك وشرابك وأنت بلا راتب؟ كيف ستتدبر أمر ملابسك وأغطيتك وفراشك؟ ومَن هم جيرانك في الصف المدرسي أو الخيمة؟ لكنك على الرغم من ذلك تقرر الهرب والفرار من الموت، وتبحث عن سبيل للنجاة بأي وسيلة، مهما يكلفك الأمر، مكرَهاً على الخروج من شمال القطاع ومدينة غزة إلى منطقة الوسطى (دير البلح والنصيرات والبريج والزوايدة...) والجنوب (خان يونس ورفح) في وقت شتوي بارد، لتعيش ولو يوماً إضافياً بسلام، ولا سلام في غزة التي تتعرض لإبادة جماعية بصورة سافرة أمام مرأى العالم.

وبعد عام وشهرين، ومع دخول الهدنة حيز التنفيذ وترقّب تسليم الدفعة الثانية من الأسرى الإسرائيليين، ينتظر الفلسطينيون على أحر من الجمر نجاح تلك المرحلة كي يتم الإفراج عن الأسرى ذوي المحكوميات العالية ثم السماح للنازحين الفلسطينيين بالعودة إلى بيوتهم، إلاّ إن شيمة الغدر في ذلك الاحتلال الفاشي هي عنوان أي مرحلة، إذ بعد تنفيذ المهمة وتسليم الأسيرات، تلكأ الاحتلال عن تنفيذ بند الموافقة على عودة سكان غزة وشمالها إلى بيوتهم، حين ألقى بقنبلة اسمها أربيل يهود، مدعياً أن المقاومة لم تسلّم أي مواطنة مدنية بحسب ادعائهم مع الأسيرات العسكريات اللواتي أُفرج عنهن، على الرغم من أن الاحتلال وافق على الأسماء وتم استلامهن من ميدان فلسطين (الساحة) بحضور الصليب الأحمر وانتهى الأمر، لكن تعنُّت الاحتلال ومماطلته دفعا المقاومة إلى تسوية الأمر وفق اتفاق جديد بين المفاوضين في الدوحة لتنفيذ ذلك البند المهم، والذي رشح عنه تحقيق مبدأ عودة النازحين، إذ تمت الموافقة على عودتهم إلى شمال غزة عبر شارع الرشيد (البحر) يوم الاثنين، في 27 كانون الثاني/يناير 2025 بدءاً من الساعة السابعة صباحاً، ودخول العربات عبر شارع صلاح الدين في اليوم ذاته، بدءاً من الساعة التاسعة، ومنذ ذلك الوقت، بدأ الزحف البشري نحو غزة.

وكان المشهد مهيباً، وكأنه مشهد الحجيج أو الصعود إلى عرفة. إنها مشاهد لا يمكن تخيلها لآلاف السكان من قطاع غزة، فهذا يجر الأب المبتور القدمين على كرسي متحرك، وتلك تجر نفسها بتعب شديد بعد قطع عشرات الكيلومترات مشياً على الأقدام، وهذا يحمل حقائب كثيرة، وآخرون يحملون أطفالهم، وهذه العجوز تتوكأ على كتف زوجها، وامرأة تتأوه من وعثاء الطريق، لكن في المقابل، هناك شبان آخرون يقبّلون تراب الأرض، بالإضافة إلى العناق حار لأزواج كانوا قد دفعوا زوجاتهم إلى الهرب من الموت إلى جنوب غزة إبان الحرب، فيبتسمون بشوق عارم للحياة والحب، ويصرخ بعضهم وكأنه وصل إلى الفردوس المفقود، أو الجنة المشتهاة. وآخر يهذي ويقول: "لو بدنا نموت بعد هيك مش طالعين من غزة." الطواف مستمر حول وادي غزة وصولاً إلى شارع الرشيد الذي يقود إلى مخيم الشاطئ، ومن هناك في اتجاه صيدلية طالب، أحد معالم المخيم، وامتداداً نحو قهوة غبن يقف الناس في المخيم مرحبين بالعائدين إلى البلد الذي طلب أهله، يقدمون إليهم الماء والطعام، ويسلمون على من يعرفون ومن لا يعرفون، إلى أن يأتي الليل محملاً بالعتمة، فننير الهواتف المحمولة بعشرات الآلاف من المصابيح المشتعلة، وكأن الجميع في كرنفال الحياة، واليوم عيد، والناس لا تزال غير مصدقة ما يجري، وكأنها تحلم، على الرغم من أنها مثقلة بهمومها، ولا شي يضيء غير الضجيج.

ثم تتأمل الوجوه تبصر معاناة لا يمكن رسمها بالحروف، فقد تغبرت الوجوه، واسودت الأجساد، وجحظت العيون، وكبرت اللحى، واشتعل رأس الشبان شيباً، على الرغم من أن الحال في الجنوب أحسن بعشرات المرات من شمال قطاع غزة، لكن البعد قاتل، والحنين إلى البيت شيء عظيم، إنه نوستالجيا لا يمكن رسمها بأي حال. والطريق إلى البيت كما قال محمود درويش أجمل من البيت، فيهاتفك أحد الأصدقاء وهو يبكي ويقول: "أين بيتي؟ أين الخرابيش التي رسمتها طفلتي التي استشهدت؟ أريد حبرها ودفاترها وملابسها. أريد أن أقبّل ما تبقّى منها كي لا تموت. كيف يمكن أن أبحث بين ركام برج ضخم لأحصل على ما أريد؟" ويهذي آخر: "جئت إلى البيت فما وجدت غير ركام يحتضن بيوت جيراني المدمرة.. وكأن غزة مدينة الركام العظيم." وآخر يحتضن صورة لأخيه الذي استشهد على قارعة الطريق ثم التهمته الكلاب ودُفنت العظام في متنزه مخيم الشاطئ، وآخرون يتحدثون عن حكايات تفوق الخيال في وجعها من دون أن تطفر دمعة لهول الفواجع.

المسير لا يتوقف، والناس تحتضن بقاياها، فهذا يبكي شوقاً، وذاك ألماً، وتلك حنيناً لزوج استشهد قبل أن تقبّله أو تلقي عليه نظرة الوداع الأخيرة. الناس تتلمس الجدران والشوارع قاتلة، تشترك في جريمتها بإيذاء الذين أحبوا السير فيها، بعدما صارت أخاديد، وانتشرت الحجارة وكتل الأسمنت وأسياخ الحديد والزجاج كي تحطم كبرياء العائدين. لقد تغيرت الشوارع ولم تعد تلك التي يعرفونها، ثم للحظة يسأل أحدهم رفيقه بدهشة: "هل هذا شارع حميد؟" ويجيب آخر: "تعال لننام تحت هذا الجدار إلى أن يأتي الصباح لنكمل مشوارنا إلى البيت." والبيت بعيد، ربما بيت لاهيا أو بيت حانون، والعربات تحتك بالأرض، والعتمة توغل في المخيم أكثر، والناس يزحفون بتثاقل، والأطفال يطلبون الماء، ولا شيء في المكان سوى الأنين.

إنه مشهد كأنه الحشر العظيم، ينبعث فيه الناس من رقادهم ليذهبوا إلى القيامة عبر ثقب سماوي يأخذهم إلى رحاب الفضاء، والطفل يقول: "أتمنى لو كان لي جناحان كي أطير نحو البيت، لقد اشتقت لألعابي وأقلامي وكتبي." بينما يجري الأطفال بين النازحين وكأنهم يمارسون طقوس الطفولة التي انتُهكت حين انتهكت الحرب كل الأزمنة والأمكنة، فصار الأطفال شيوخاً قبل أوانهم. وفي المشهد نفسه تنفذ رائحة الطلاء في أنوف المارة، فترى رسومات وجداريات ترحب بهم، مع شعارات كبيرة تقول: "لقد فشلت خطة الجنرالات، وبقيت غزة."

وعلى هامش العبور الكبير، يجر ذلك الشاب الملتحي دراجة هوائية، وعلى كتفيه طفلة تحمل علم فلسطين، وترفع شارة النصر بإصبعين صغيرين يستجديان الحياة الكريمة، وفي جوارهما طفلان يحملان حقيبتين على ظهريهما، ويسيران ببطء كأنهما يؤديان مشهداً سينمائياً بين الجموع التي تحمل في جعبتها ملايين القصص والحكايات. وإلى الأمام قليلاً، يحمل شاب فوق رأسه فرشة مغبرة تغطي جزءاً من وجهه، بينما ينظر في اتجاه البحر الذي بدا ساكناً بلا مد أو جزر، وكأنه يريد الراحة أيضاً قبل مجيء العاصفة، والوجوه تستمر في المسير في اتجاه الشمال. وهنا ترى الملابس التي علقت بها الهزائم والانكسارات، والأحذية التي تمزقت ولم تجد من يستبدلها بعد حصار القطاع، والأحذية التي باتت بأسعار تفوق الخيال، على الرغم من رداءتها وسوء رائحتها، لكن الحاجة هي ابنة ستة وستين.

ثم تختم مشاهداتك وأنت تبصر المارة بجدران الذاكرة بأن تتأمل الأشخاص، وملامحهم الباهتة، وأنفاسهم اللاهثة، لتشكر الله على نعمة الصمود في شمال غزة التي مُنيت بأوجاع الدهر، وكادت تزهق روحها، لولا تحقُق الهدنة التي جاءت كطوق النجاة بعد وصول جيش الاحتلال إلى مشارف حي الشيخ رضوان. لقد مُني النازحون بألم الخيام والحنين، ومُني أهل الشمال بالموت الزؤام والدمار والجوع العظيم، لتُعزف أوركسترا الوجع على إيقاع الأسلاك الكهربائية مزيداً من الهزائم والانكسارات والخيبات.