صدر مؤخراً كتاب "حوارات في مسألة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين" عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وهو عبارة عن نصوص لمقابلات (تحرير د. جابر سليمان)،[1] أجراها الدكتور محمد الحلاج قبل 43 عاماً مع ثُلّة من المشتغلين في الحقل السياسي الفلسطيني، من قيادات في م.ت.ف، والفصائل الفلسطينية، ومحللين، وأكاديميين، وكتّاب، وصحافيين مهتمين بالقضية الفلسطينية وتطوراتها. وتمت المقابلات في بيروت في الفترة آذار/مارس - نيسان/أبريل 1982، أي قُبيل اجتياح جيش الاحتلال الإسرائيلي لبنان في حزيران/يونيو من السنة نفسها.
وقد أبرز الكتاب رأي 19 شخصية في شعار الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين، وهُم: منير شفيق، وشفيق الحوت، وجميل هلال، وبسام أبو شريف، وداود تلحمي، وصخر حبش (أبو نزار)، وياسر عبد ربه، وفيصل حوراني، وصلاح الدباغ، وبلال الحسن، ومحمد أبو ميزر (أبو حاتم)، ويوسف صايغ، وإلياس شوفاني، وأحمد نجم (أبو علاء)، وتيسير قبعة، وسمير غوشة، وإبراهيم أبو لغد، وعبد الجواد صالح، وكميل منصور.
كما كشف عن تصوُر الشخصيات للشعار، وآرائهم بشأن العديد من القضايا المرتبطة به، ونذكر على سبيل المثال: أسباب ظهوره، ومَن كان وراء طرحه أول مرة، وحدود تفاعُل المستوى الرسمي الفلسطيني معه، ومواقف بعض الفصائل منه، ومدى قربه أو بُعده عن الخط النضالي لـ م.ت.ف ووثائقها التأسيسية، وإمكان تطبيقه في ضوء تطورات القضية الفلسطينية والواقعَين الإقليمي والدولي، وعلاقته بالبرامج السياسية الأُخرى لـ م.ت.ف، وخصوصاً برنامج الحل المرحلي والدولة الفلسطينية المستقلة.
وقد تفاوتت نصوص المقابلات المنشورة من حيث حجمها وعُمق مضمونها، فبعضها طويل، كما في المقابلة مع إلياس شوفاني ويوسف صايغ وإبراهيم أبو لغد، وبعضها الآخَر مقتضب، كالمقابلة مع كميل منصور ومنير شفيق وشفيق الحوت، وبعضها توسع في التنظير للشعار، وغاص في خلفياته الأيديولوجية والسياسية، وعرض مبررات طرحه، وتصور إمكان تطبيقه، كالمقابلات مع إلياس شوفاني وبسام أبو شريف ويوسف صايغ وجميل هلال وياسر عبد ربه، ومنها ما تناول الموضوع في إطار دراسة تاريخ الفكر السياسي الفلسطيني المعاصر، كما في مقابلة فيصل حوراني.
شعار الدولة الديمقراطية الواحدة.. وقفة مع لحظة إطلاقه
أكد المقابَلون، بمَن فيهم الذين بادروا إلى طرح الشعار أول مرة، أنه لم يسبق طرْحَه علناً نقاش معمق داخل الأوساط السياسية الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية، إنما طُرح بمبادرة شخصية، ثم تسلل إلى الفكر السياسي الفلسطيني، ولقي تجاوُباً من النخبة السياسية، وخصوصاً ذات التوجهات اليسارية، إذ منحته تنظيراتها أبعاداً فكرية وسياسية واجتماعية، وربطته بالنضال "التقدمي" العربي.[2]
أمَّا بدايات طرحه، فكانت مع محمد أبو ميزر" أبو حاتم"، ممثل حركة "فتح" في أوروبا، الذي وصل إلى باريس وأجرى حواراً مع اليسار الفرنسي الجديد سنة 1968، وكان هذا اليسار يضغط في اتجاه تبنّي الحركة الفدائية برنامجاً سياسياً، فلمعت في ذهن أبو ميزر فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة، وناقشها مع أعضاء لجنة العمل العربية التي ضمت مناضلين جزائريين ومصريين وعرب، ثم صاغ الفكرة في بيانٍ، واستأذن في نشره فاروق القدومي، ثم دفعه إلى وكالة الصحافة الفرنسية، فأصدرته في ساعة متأخرة من مساء 31 كانون الأول/ديسمبر 1968، وذُكر أن صلاح خلف "أبو إياد" أشار إلى الموضوع في معرض حديث له في القاهرة بعد أشهر من بيان أبو ميزر،[3] ويقال إن عبد الوهاب الكيالي كتب في لندن مقالة بالمضمون نفسه، ونشرها في نشرة "Free Palestine"، وكان وقتها يعمل في إطار حركة "فتح". وقال إبراهيم أبو لغد إنه كتب إعلاناً لمصلحة جمعية الخريجين العرب الأميركيين ونَشَره في "نيويورك تايمز"، وطالب فيه بالدولة الديمقراطية في فلسطين. أمّا فصائلياً، فقد أصدرت الجبهة الديمقراطية بياناً بشأن الموضوع، وقدّمت ورقة عمل بشأن الشعار في الدورة السادسة للمجلس الوطني سنة 1969، وكذلك فعلت الجبهة الشعبية التي أصدرت بيانات ووزعت نشرة بعنوان "حول فلسطين الديمقراطية" سنة 1970. ثم طرح وفد فلسطيني برئاسة خالد اليشرطي وشفيق الحوت الشعار في مؤتمر لدول عدم الانحياز في بلغراد سنة 1970، وكتب نبيل شعث كتيّبه "نحو فلسطين ديمقراطية الثورة الفلسطينية واليهود إزاء المجتمع الديمقراطي واللاطائفي في فلسطين الغد" والذي صدر باسم مستعار، "محمد رشيد"، عن مركز أبحاث منظمة التحرير سنة 1970.
لكن الشعار أخذ في التراجع مع ظهور برنامج الحل المرحلي سنة 1974، مع بقائه متداوَلاً ضمن صِيغ توفيقية، فعلى سبيل المثال؛ دعا خالد الحسن "أبو السعيد" إلى إقامة دولة فلسطينية[4] تكون مقدمة لدولة فلسطينية موحدة، وأطلق عليها شفيق الحوت "دولة الدور" التي ستكون، في رأيه، رافعة للوصول إلى الدولة الديمقراطية الواحدة، وفي المقابل، تشبث اليسار بالشعار، وخصوصاً الجبهة الشعبية، في مواجهة المؤيدين للحل المرحلي.
الدولة الديمقراطية الواحدة... أسباب الطرح
تفيد المقابلات بأن إطلاق شعار الدولة الديمقراطية الواحدة جاء تعبيراً عن رغبة المؤمنين به في تصفية الكيان الصهيوني، وإلغاء الصهيونية وما أنتجته من مؤسسات ونظم وقوانين، وتجريمها كعقيدة، وتطلُّعهم إلى إنشاء مجتمع فلسطيني يتعايش فيه اليهود والفلسطينيون باعتبارهم مواطنين من دون تمييز على أساس الدين أو الجنس أو العِرق، وجاء انبثاقه نتيجة احتكاك كوادر في الحركة الوطنية كانوا متواجدين على الساحة الأوروبية باليسار العالمي، وإلحاح هذا اليسار على ضرورة وضع الفلسطينيين تصوراً لمصير اليهود في فلسطين، وقد ظهر إلى الوجود لأول مرة في إطار القناعة المتزايدة لدى قيادات في الحركة الوطنية وكوادرها في ذلك الوقت بجملة التغيرات الجوهرية التي أحدثها المشروع الصهيوني في فلسطين، وخصوصاً تلك المتعلقة بالواقع الديموغرافي، وتحوُل "اليهود في فلسطين إلى قومية"،[5] والحاجة إلى طمأنتهم لأي حل مستقبلي. ووفق أصحاب هذا الطرح، فإنه لم يعد في الإمكان العودة إلى الهدف التاريخي للحركة الوطنية كما فهمه الشعب الفلسطيني ونخبته السياسية التاريخية، وأصبحت هناك ضرورة للبحث عن شعار جديد يأخذ بعين الاعتبار هذه التغيرات، ويكون قابلاً للتطبيق.
وقد اعتبر مؤيدو الشعار أنه صيغة يمكن الالتقاء عندها فلسطينياً وعربياً وعالمياً، وهو بديل مناسب لشعار "رمي اليهود في البحر"، الذي صُنف غيرَ إنساني،[6] وبديل لشعار إزالة "إسرائيل". وعلى الرغم من أن الشعار جاء ليخدم "غرضاً إعلامياً"، كما قال فيصل حوراني، ولم يتحول إلى برنامج سياسي أو مشروع،[7] فإن منظّريه اعتبروه شعاراً عملياً، بل أيضاً الحل العملي الوحيد،[8] وهو الصيغة الوحيدة التي تُمَكِّنُ الشعب الفلسطيني من العودة إلى بلده وممارسة حقه فيه "من دون أن تؤذي السكان الآخرين"،[9] وهو حل ثوري وعصري يلغي ما سمّوه بـ "الشوفينية العربية" والعنصرية الصهيونية.[10]
وتطبيق الشعار، من وجهة نظر البعض، يحتاج إلى توفُر أربعة شروط أساسية، وهي: تحقيق الحركة الوطنية جملةً من الانتصارات، وحدوث تغيرات في المجتمع الصهيوني لمصلحة فكرة التخلي عن المشروع الصهيوني، وإحداث تغييرات ديمقراطية في المنطقة العربية، وإحداث تحوُل نوعي في ميزان القوى العالمي، وهناك مَن اشترط استمرار النضال السياسي بالتوازي مع الخيار العسكري،[11] بينما رأى آخرون ضرورة الاستمرار في الكفاح المسلح والتحول مستقبلاً إلى حرب التحرير الشعبية.[12]
انحسار شعار الدولة الديمقراطية الواحدة
أكد المقابَلون أن الشعار واجه انحساراً في وقت مبكرٍ بعد إطلاقه، ويعود ذلك في رأيهم إلى عدة أسباب، نجملها فيما يلي: عدم وضوح شعار الدولة الديمقراطية الواحدة، وعدم طرْحه بصورة جدية على صانع القرار الفلسطيني والقوى العربية المؤثرة في القضية الفلسطينية، وتبنّي م.ت.ف برنامج الحل المرحلي وشعار السلطة الوطنية، الذي اعتُبر بديلاً للشعار،[13] وضعْف علاقات م.ت.ف الدولية. كما أن توقيت طرحه أدى دوراً في إضعافه، إذ طُرح في ظل تركيز المقاومة على الدفاع عن وجودها، ورفضته بعض الفصائل،[14] وخصوصاً التي اعتبرته تنازُلاً عن عروبة فلسطين والحق العربي فيها،[15] وانجذاب بعض الدول إلى مشاريع وشعارات أُخرى، كرغبة مصر في تطبيق القرار رقم 242، وإصرار سورية والعراق على فكرة التحرير، والخلاف على المضمون الاجتماعي للدولة الديمقراطية (اشتراكي/علماني/لا علماني)، ورفْضه من جانب دولة الاحتلال، وكونه لم يكن مقنعاً للجمهور الفلسطيني ولا للرأي العام العالمي.
[1] بلغ مجموع المقابلات "المخطوطة" 21 مقابلة، حُذفت اثنتان منها، لأنهما - وفق المحرر - لا تمتان بِصِلَةٍ إلى موضوع الدولة الديمقراطية الواحدة.
[2] على سبيل المثال: انظر: مقابلات بسام أبو شريف وجميل هلال وياسر عبد ربه.
[3] ذكر نبيل شعث في مقالة له في العدد الثاني من مجلة "شؤون فلسطينية" أن ممثل فتح في مؤتمر في القاهرة لنصرة الشعوب العربية الذي عُقد سنة 1969 كان قد صرح أن هدف الحركة الفدائية هو تحقيق فلسطين الديمقراطية الواحدة التي يعيش فيها مجتمع ديمقراطي تقدمي.
[4] هاجم نبيل شعث في مقالته المذكورة أعلاه فكرة الدولة الفلسطينية التي اعتبرها بديلاً للدولة الديمقراطية الواحدة، وأطلق عليها مصطلحَي "دولة فلسطينستان" و"الدولة الفلسطينية العميلة".
[5] إبراهيم أبو لغد.
[6] صخر حبش.
[7] بسام أبو شريف، وجميل هلال، وياسر عبد ربه. وكان نبيل شعث قد أطلق على شعار الدولة الديمقراطية الواحدة صفة الرؤية وليس البرنامج.
[8] صلاح الدباغ.
[9] يوسف صايغ.
[10] ياسر عبد ربه.
[11] على سبيل المثال شفيق الحوت.
[12] على سبيل المثال بسام أبو شريف وصخر حبش.
[13] محمد أبو ميزر.
[14] على سبيل المثال: جبهة التحرير العربية التي أعلنت معارضتها الشعار، وعبَّرت عن ذلك في مجلتها "الأحرار".
[15] ذَكَرَ شفيق الحوت في مقابلته أن أبو عمار قال ذات مرة: "لو كان أبي حياً لأطلق النار عليَّ لطرحي شعار الدولة الديمقراطية."