مجدداً، لبنان تحت النيران الإسرائيلية، وهذه ليست المرة الأولى التي تنقضّ فيها إسرائيل عليه؛ إذ إنها لم تتأخر في انتهاك سيادته منذ السنوات الأولى بعد النكبة، وزادت من وتيرتها مع مرور الوقت، فكان الاعتداء الكبير على مطار بيروت الدولي سنة 1968 وتحطيم عشرات الطائرات التابعة لشركة طيران الشرق الأوسط، ثم اجتياح سنة 1978، مروراً بغزو 1982 عندما احتُلت بيروت كثاني عاصمة عربية بعد القدس، ثم حلول عدوانَي 1993 و1996، وصولاً إلى حرب تموز/يوليو 2006 التي دامت 33 يوماً، وانتهت بالتوصل إلى اتفاق لوقف الأعمال العدائية وصدور القرار الدولي رقم 1701.
ولا شك في أن تحرير الأراضي اللبنانية سنة 2000 من دون قيد أو شرط أو توقيع اتفاقية سلام شكّل منعطفاً مهماً، ومحطة مضيئة في تاريخ لبنان والصراع العربي- الإسرائيلي، وبقيت مزارع شبعا، التي يتواصل التباين بشأن هويتها، وما إذا كانت لبنانية أم سورية، تحت الاحتلال. وتصاعدت السجالات الداخلية اللبنانية إزاء سلاح حزب الله، وزادت مطالبة مختلف القوى بصوغ خطة وطنية للدفاع، بحيث يكون للدولة وحدها قرار الحرب والسلم أسوة بسائر دول العالم التي يتولى جيشها وظيفة الدفاع عن أراضيها.
ولم تفلح الجهود السياسية في تحقيق التقارب بين اللبنانيين إزاء الخطة الاستراتيجية للدفاع، وتعمقت الانقسامات فيما بينهم، وانعكست شللاً في المؤسسات الدستورية، فطال الشغور في الرئاسة الأولى منذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 31 تشرين الأول/أكتوبر 2022، ولا تزال الحكومة القائمة حكومة تصريف أعمال غير مكتملة الصلاحيات، ويقاطعها عدد من الوزراء، بينما مجلس النواب لا يلتئم لأسباب سياسية.
في هذا المناخ، كثفت إسرائيل حربها ضد لبنان، ووسعت نطاقها. وبعد مضي عام على اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة في إثر عملية طوفان الأقصى، ودخول حزب الله في لبنان معركة إسناد غزة، يمكن الوقوف عند المحطات التالية:
معركة الإسناد: تصعيد متدرج
بدأت معركة إسناد غزة بعمليات محدودة جداً اقتصرت على بضعة قذائف متبادلة في المناطق الحدودية على الجانبين اللبناني والإسرائيلي. لكن كرة الثلج بدأت تتدحرج لتشمل مزيداً من القرى والبلدات الجنوبية، مؤدية إلى عمليات نزوح متتالية، حتى بدت القرى الحدودية شبه خالية ومدمرة في مقابل مستوطنات إسرائيلية شبه خالية أيضاً.
هنا ربما يصح القول إن الإسناد بدأ على شكل مشاغلة حدودية محدودة ليتطور إلى عمليات قصف متواصلة بين الطرفين، لكن كل ذلك بقي تحت إطار "المحافظة على قواعد اللعبة"، وهو أمر متوقع في ظل عدم توقف الحرب الإسرائيلية على غزة، أو التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادُل الأسرى، وانطلاقاً من ربط الجبهتين؛ لبنان وغزة.
ومع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية، أخذ خطاب حزب الله، في المقابل، منحى تصعيدياً وصل إلى ذروته في معادلة الجنوب اللبناني في مقابل المستوطنات في الشمال، وهي معادلة لن تتحقق في نظر حزب الله إلاّ بتوقف العدوان على غزة. وفي خطابه الأخير، أكد السيد حسن نصر الله "أن حرب إسناد غزة مستمرة أياً تكن التضحيات"، وتحدى الإسرائيليين أن يعيدوا سكان المستوطنات الشمالية قبل وقف إطلاق النار في غزة.[1]
لكن الرهان على استمرار قواعد اللعبة وحصر الرد بين الطرفين في هذا الإطار لا يبدو منطقياً في ظل حكومة يمينية متطرفة بزعامة بنيامين نتنياهو، تحظى بدعم أميركي – دولي غير محدود، ويحق لها تخطي القواعد والخطوط الحمراء. ومن هنا، بدأت إسرائيل تصعّد اعتداءاتها ضد حزب الله والأراضي اللبنانية، وكانت عمليات الاغتيال التي طالت عناصر حزب الله وحركة "حماس" طوال هذه السنة محطة بارزة وخطِرة رسمت علامات استفهام حولها، وكانت مؤشراً لما ينتظر لبنان وحزب الله في قادم الأيام.
عمليات الاغتيال: مؤشرات ودلالات
لم يكتفِ الجانب الإسرائيلي بقصف القرى والبلدات الجنوبية، واعتمد أسلوب الاغتيالات التي تدرجت من استهداف عناصر تتولى مسؤوليات معينة إلى قيادات ذات رتب أعلى، وصولاً إلى قيادات الصف الأول. والجدير بالذكر هنا أن عمليات الاغتيال التي تمت عبر المسيّرات اقتصرت في البداية على المناطق الجنوبية، لتمتد في خط تصاعدي إلى مناطق أكثر عمقاً في الجنوب والبقاع وبيروت.
وبينما بدأت هذه السلسلة باغتيال أفراد يستقلون سياراتهم أو دراجاتهم النارية، فقد أخذت لاحقاً منحى مغايراً عبر استهداف المباني السكنية. وهذه الضربات لا شك في أنها أشد وقعاً من حيث الأضرار، إذ لم تعد تقتصر على شخص بمفرده، بل أيضاً باتت تطال مدنيين يقيمون بهذه المباني ويسكنون فيها.
لكن الحدث الذي شكّل سابقة في عمليات الاغتيال تمثّل في تفجير أجهزة "البيجر" وأجهزة الاتصال اللاسلكية التي يستخدمها عناصر حزب الله ومدنيون أيضاً، وهو تطوّر نوعي له دلالات خطِرة جداً؛ فهو أولاً أظهر تفوقاً إسرائيلياً تكنولوجياً، وقوة استخباراتية قادرة على اختراق شبكات التواصل التي يستخدمها حزب الله. ثانياً، أحدث هذا الاختراق صدمة معنوية كبيرة في صفوف الحزب والجمهور المؤيد له، الذي أدرك فجأة أنه بات مكشوفاً أمام العدو. ثالثاً، دلّت العملية، أكثر من أي وقت مضى، على نيّة إسرائيلية في حرب وشيكة على لبنان.
وسيظل الأسبوع الأخير من شهر أيلول/سبتمبر محفوراً في ذاكرة اللبنانيين؛ إذ تمكنت إسرائيل خلاله من اغتيال عدد من قيادات الصف الأول في حزب الله، وصولاً إلى اغتيال الأمين العام للحزب، السيد حسن نصر الله، يوم الجمعة في 27 أيلول/سبتمبر، عندما قُصفت الضاحية الجنوبية بأطنان من القنابل، مدمِرة عدة مبانٍ دفعة واحدة.
المواقف اللبنانية في مواجهة الحرب: انقسام وتبايُن
على الرغم من أنها ليست الحرب الإسرائيلية الأولى على لبنان، فإن أوضاع كل مرحلة تختلف عن الأُخرى، لتكون المرحلة الحالية أشدها وأكثرها خطورة؛ فلبنان يواجه أزمة اقتصادية حادة منذ 2019، وأزمة نزوح سورية باتت تهدد بانفجار ديموغرافي، وأزمة سياسية بسبب خلو كرسي الرئاسة منذ سنتين، وانقسام زعمائه وجمهوره. وفي خضم كل هذه الأزمات؛ كيف له أن يواجه حرباً إسرائيلية جديدة؟
فاللبنانيون ينقسمون انقساماً حاداً في السياسة؛ إذ إن معارضي حزب الله، الذين يعتبرونه ينفذ سياسة إيران التي تقحم لبنان في سياسة المحاور الإقليمية، وتقوده إلى حروب لا دخل للّبنانيين بها، يؤكدون وجهة نظرهم الآن بعد أن أصبح لبنان في أتون حرب تدميرية تشنها إسرائيل، لا تختلف عن حرب الإبادة في غزة. بينما في المقلب الآخر، يرى حزب الله ومؤيدوه أن الحزب يدافع عن لبنان في وجه الأطماع الإسرائيلية، وأن لبنان لا يمكن أن يفك ارتباطه بالقضية الفلسطينية.
الاغتيال: مواقف وتداعيات
لا شك في أن اغتيال الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في 27 أيلول/سبتمبر 2024، شكّل نقطة تحوّل كبيرة في الصراع بين الحزب وإسرائيل، وإن كانت تداعياته لم تتبلور بعد، لكن يمكن في هذا الإطار، وعلى المستوى اللبناني، رصد مواقف متباينة إزاء العملية.
فجمهور الحزب على المستويين السياسي والشعبي تلقّى ضربة قاسية غير متوقعة، حتى إن كثيرين في الأواسط الشعبية ما زالوا يرفضون تصديق الحدث، بينما تمكنت قيادات الحزب من التعامل نوعاً ما بواقعية ورباطة جأش مع الأمر.
وعلى المستوى السياسي اللبناني، فقد نعى رئيس مجلس النواب نبيه بري، الأمين العام للحزب بكلمات مؤثرة،[2] وأعلن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الحداد الرسمي ثلاثة أيام. كما انسحب الأمر على شريحة واسعة من السياسيين، على رأسهم رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط، الذي توجه بالتعزية إلى حزب الله وجمهوره، معتبراً أن "نصر الله التحق بقافلة طويلة من الشهداء على طريق فلسطين."[3] وكذلك كان موقف رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل.
أمّا خصوم الحزب، وفي مقدمتهم حزب القوات اللبنانية، وحزب الكتائب، وغيرهم، فلم تَصدر عنهم تصريحات بشأن عملية الاغتيال، حتى إن حزب القوات اللبنانية أصدر تعميماً داخلياً طلب فيه "الامتناع بشكل كامل عن نشر المواقف والتعليقات والآراء الشخصية على كافة وسائل التواصل منعاً لتفسيرات خاطئة."[4]
لكن تصريح رئيس الحكومة السابق، سعد الحريري، وهو أبرز خصوم نصر الله، شكّل مفاجأة للكثيرين، إذ دان عملية الاغتيال واصفاً إياها بالعمل الجبان، وأضاف: "اختلفنا كثيراً مع الراحل وحزبه والتقينا قليلاً لكن كان لبنان خيمة الجميع."[5] وصبّت كلمة البطريرك الراعي خلال قداس الأحد في الاتجاه نفسه، إذ اعتبر أن "اغتيال نصر الله فتح جرحاً في قلب اللبنانيين، ولتكن هذه الحلقة من الشهادة باباً نستفيد منه لتعميق وحدتنا."[6]
المواقف الشعبية
ولرصد المواقف الشعبية من عملية اغتيال الأمين العام لحزب الله، تكفي متابعة مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يبرز حجم التباين والاختلاف داخل المجتمع اللبناني بمختلف شرائحه؛ فبينما عبّرت بيئة الحزب عن مشاعر الحزن العميق والغضب، لم تخفِ الفئات المعارضة للحزب مواقفها، وامتلأت المواقع بالأخبار والتعليقات المعارضة لنهج الحزب، محمِّلة إياه مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع. وتبيّن عبر هذه التعليقات التناقض الكبير في الشارع إزاء الحزب وخياراته.[7]
وقد اعتاد اللبنانيون عدم الاتفاق، وتعايشوا مع اختلاف وجهات نظرهم إزاء الأزمات، وهذا هو الحال نفسه إزاء الحرب التي بدأت أتونها تحرق اللبنانيين مرة جديدة. وفي المقابل، يحاول بعض السياسيين جاهدين إيجاد مخارج على الأقل فيما يتعلق بالأزمة السياسية، ومن هنا، جاء الاجتماع الثلاثي بين رئيس مجلس النواب، نبيه بري، ورئيس الحكومة، نجيب ميقاتي، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، الذي صدر عنه بيان دعا فيه إلى وقف فوري لإطلاق النار، وتطبيق القرار رقم 1701، وإرسال الجيش اللبناني إلى منطقة جنوب الليطاني، والدعوة إلى التقاء جميع القوى والشخصيات المكونة للنسيج الوطني، وانتخاب رئيس وفاقي للجمهورية.[8]
وعلى الرغم من أهمية هذه الخطوة، فإنها على الأرجح لن تؤثر في مجريات الأمور على الأرض، وخصوصاً في ظل إصرار إسرائيلي على تنفيذ مخطط شرق أوسط جديد. لكن من ناحية ثانية، يمكن البناء على بوادر تفاهمات داخلية ربما تؤدي إلى توافق على الأقل في ملف رئاسة الجمهورية، ليؤسَس على ذلك في مواجهة الخطر الإسرائيلي. لكن تحقيق ذلك يبقى رهناً بتجاوب الأطراف الأُخرى مع هذه المبادرة.
النازحون
لا يمكن الحديث عن المشهد الداخلي اللبناني من دون التطرق إلى واقع جديد فرضته الحرب الإسرائيلية، يتعلق بنزوح ما يزيد على مليون لبناني من بيوتهم في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت ومناطق أُخرى، وهو واقع مؤلم مع تحوّل قسم كبير من المدارس الحكومية إلى مراكز إيواء غير مجهزة بطبيعة الحال لإقامة العائلات والأُسر والأفراد، كما أن إشغالها الموقت يطرح إشكالية جدية تتعلق باستئناف العام الدراسي إذا ما جرى وقف قريب لإطلاق النار. كما أدت بعض الحالات الفردية، كدخول بعض البيوت المقفلة في بيروت عنوة لتوفير الإيواء لأُسر باتت في الشوارع وعلى الأرصفة، إلى مناخات مشحونة فاقمت حالة التوتر العام التي يعيشها البلد نتيجة الحرب.
لبنان أمام منعطفات خطِرة، ليس سهلاً التنبؤ بمآلاتها المستقبلية، لكن الأكيد هو أن لا شيء سيعود كما كان، على الأقل في المدى المنظور.
[1] "نصر الله: لا عودة لمستوطني الشمال"، "الأخبار"، 20/9/2024.
[2] "بري تلقى اتصالات تعزية ونعى السيد نصر الله: كل الكلمات التي يمكن أن تقال تعجز عن وصف حبك للوطن"، الوكالة الوطنية للإعلام، 28/9/2024.
[3] "وليد جنبلاط للتلفزيون العربي: اغتيال نصر الله محطة كبيرة ومفصلية"، "العربي"، 28/9/2024.
[4] "كيف علق الشارع اللبناني على اغتيال نصر الله"، "مونت كارلو الدولية"، 28/9/2024.
[5] "سعد الحريري: اغتيال نصر الله أدخل لبنان في مرحلة جديدة.. والحفاظ عليه يتم بوحدتنا جميعاً"، "مستقبل ويب"، 28/9/2024.
[6] "الراعي: اغتيال نصر الله فتح جرحاً في قلب اللبنانيين ولتكن هذه الحلقة من الشهادة باباً نستفيد منه لتعميق وحدتنا"، الوكالة الوطنية للإعلام، 29/9/2024.
[7] "مونت كارلو الدولية"، مصدر سبق ذكره.
[8] "بري وميقاتي وجنبلاط: إدانة العدوان ولوقف فوري لإطلاق النار وتطبيق الـ 1701 وانتخاب رئيس وفاقي"، "الأنباء"، 2/10/2024.