مع بداية شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وقبل أن تُتِم الحرب الطاحنة شهرها الأول على غزة، كان الأب السبعيني يجمع أولاده الذكور الستة مع زوجاتهم وأحفاده الكثيرين، ويقول لهم جميعاً عبارة مختصرة شرحت لهم الكثير وهو يوزع على أبناءه بعض المال الذي كان قد ادخره لمصاريف موته وتكلفته، كما يفعل كل كبار السن: "اللقا.... يوم اللقا......."، وهو يقصد أن اللقاء القادم ربما لن يكون على وجه هذه الأرض. وهكذا، حمل الأبناء متاعهم القليل، وتوجهوا نحو جنوب القطاع، وتركوا مع الأب المسن المريض أصغر إخوتهم مع زوجته وأطفاله ليقوم برعايته، وذلك بناء على طلبه.
غادر الأبناء مع عائلاتهم مخيم الشاطئ للمرة الأخيرة، وأصبحوا نازحين في خيام يتنقلون من مكان إلى آخر، بين مواصي خان يونس ورفح، ولا يزالون كذلك وهم ينفذون وصية الأب الذي ربما فعل ما فعله النبي يعقوب؛ حين طلب من أولاده ألاّ يدخلوا مصر من باب واحد، لكي يدرأ عنهم الحسد، وخوفاً من أن يصيبهم مكروه جميعاً، فيفقدهم كلهم، وهكذا أصبح الأب بعيداً مع ابن واحد، وقد صدق حدسه، لكنه لم يفقد ابناً بعيداً، إنما فَقَدَ ابنه الذي آثر البقاء لرعايته، وذلك في قصف مباغت لما تبقّى من بيتهم الذي قُصف سابقاً، وهكذا ظل الأب المسن وحيداً بلا عائلة حوله، بينما يتجرع هو وعائلته ألم البُعد والفراق، وكأن مقولته قاربت أن تَصْدُق بشأن استحالة اللقاء مرة ثانية.
ولم يتوقف الأمر وهذا الاتجاه عند هذا الأب السبعيني، فقد غادرت الجدة الستينية منطقة "بيت لاهيا" شمالي قطاع غزة بصحبة زوجها المريض، وكذلك زوجة ابنها الوحيد وثلاثة من أطفاله، بينما أصر ابنها على عدم مغادرة شمال القطاع، والبقاء في البيت الذي أمضى والده جلّ عمره في بنائه وتأسيسه، وجرّاء إصراره هذا، أشار عليه أبوه أن يبقى معه اثنان من الأطفال، وذلك كي لا تفنى كل العائلة. ثم قال الأخير والمرض أنهكه، وهو يجر قدمَيه بصعوبة متجهاً سيراً عليهما نحو حاجز احتلالي يقطع شمال القطاع عن جنوبه: "لا أتخيل أن تسجَّل عائلتي كالعائلات التي سُجلت بأنها قد تم محوها من السجل المدني، لذلك طلبت من ابني أن يُبقي اثنين من أطفاله معه، واستغربت أن الطفلين قَبِلَا البقاء مع أبيهما، وكأنهما يفهمان مقصدي، لكني رأيت فيهما حُباً وتمسُكاً بالبيت أكثر، وهو البيت الذي وُلدا فيه، ودرجا بين جنباته، وأعتقد أنهما سمعا ما تبادلته من حديث مع زوجتي بكل ألم عما ينتظرنا من تشرُد ومعاناة، بعيداً عن مسقط رأسنا في بلدة ’بيت لاهيا‘."
وبدورها، تقول الشابة رنين إن فراق والدها كان صعباً، وها هو العام يقارب أن ينتهي، ولم تَرَهُ، أو تنعم بحبه وحنانه، فقد غادروا إلى جنوب القطاع تاركين الأب في الشمال، ولم يفعلوا ذلك إلاّ خوفاً عليه من الاعتقال على حاجز الاحتلال الذي يقطع الشمال عن الجنوب؛ إذ سمعوا عن كثير من حوادث اعتقال للرجال والصبية، ولذلك، فهي تعيش مع باقي إخوتها وأمها في خيمة في مواصي خان يونس، وعلى الرغم من الأوضاع الصعبة التي يمرون بها يومياً، وقيامها بدور الأب لإخوتها الصغار، فإن الخوف والقلق على الأب هو الشعور المسيطر. وترى رنين أن بقاء والدها في شمال غزة ربما يعني ألاّ تنتهي كل العائلة، وأن يبقى فيها ناجٍ وحيد إن حدث لهم مكروه هنا؛ إذ تتعرض الخيام للقصف العشوائي، لكن الأكثر مرارة بالنسبة إليها هو أن والدها يعيش وسط مجاعة حقيقية بسبب قلة الغذاء وارتفاع أسعاره في شمال غزة مقارنة بجنوبها.
وعلى الجانب الآخر، فإن لدى الأم "أم يحيى" سبباً آخر لخروجها من شمال غزة مع بناتها وبقاء الأب مع أولاده الذكور، وهي أنها دائماً ما كانت تتفق مع زوجها في أيامهما الخوالي على "قسمة العرب عربين"، فحين تقرر الذهاب في نزهة، يطلب منها أن تأخذ البنات، وتترك الذكور معه، كي يرعاهم في البيت إلى حين عودتها، والأمر نفسه حين يخرج إلى الصيد مع رفاقه على شاطئ بحر غزة وفي منطقة مينائها بصورة خاصة. ولذلك، فإنه حين طلب الاحتلال من العائلات النزوح إلى جنوب وادي غزة، قال لها زوجها العبارة نفسها، لكن بكل ألم: "دعينا ’نقسم العرب عربين‘." وهكذا، توجهت مع عائلتها وبناتها الثلاث اللواتي لا تتجاوز أكبرهن العاشرة من عمرها نحو جنوب غزة، كي تمر الأيام والأشهر وهي لم ترَ زوجها وأولادها الذكور، وكلما تحين فرصة للاتصال، يقول لها زوجها: "من الأفضل ألاّ نموت جميعاً"، فتردف هي بحزن وصوت خافت: "كيف سنعيش إذا فقدنا نصف العائلة......؟"
لا تتردد أم يحيى في الحديث عن المعاناة التي تعيشها من دون زوجها وأولادها، لكنه صاحب الفكرة التي أصر عليها. وفي هذا الوقت، تسرد أم عمرو بألم، وهي تجلس في جوارها، كيف نزحت مع زوجها وولدَيها إلى جنوب القطاع، بينما بقيت ابنتها المتزوجة مع عائلة زوجها في الشمال، وخصوصاً في مخيم جباليا، وقالت بألم: "لست حزينة على الرغم من شوقي لابنتي، لأنها لم تلتحق بنا في النزوح، وربما كُتبت لها النجاة، على الرغم من أنه لا يوجد أمان في أي مكان في القطاع"، وتردف أنها حزينة لأن ابنتها فقدت نصف وزنها بسبب الجوع في الشمال وارتفاع الأسعار وعدم حصولها على أي طعام مفيد وصحي منذ أشهر طويلة.
وتعود أم يحيى إلى الحديث عن ألم الفراق بينها وبين زوجها وأولادها الذكور، وكيف تقطع مسافات طويلة كي تستطيع الوصول إلى شبكة إنترنت قريبة تَطْمَئِنُ عن طريقها على زوجها وأولادها، وتشير إلى أنها تتفاجأ حين ترى صورهم عبر الاتصال المرئي بمدى شحوبهم وهزلهم، وبأن زوجها تغير، وأصبح كرجل عجوز أشيب الشعر، على الرغم من أنه لم يكمل الأربعين من عمره. وحين يرى دموعها، يمازحها قائلاً: "بكرا بنقسم العرب عربين وبتروحي على البحر مع البنات، وبتتركينا في البيت أنا والولاد..."
وتسرح أم يحيى وهي تجلس في الخيمة المهترئة التي تطل على شاطئ البحر، وتقول بصوت هامس: "لم أعد أحب البحر، لأنه لم يعد مكاناً للنزهة، إنما صار شاهداً على نزوحنا وتشرُدنا، وقبل أيام، امتدت المياه لتغمر خيمتي التي أنام فيها مع طفلاتي الصغيرات ووالد زوجي وشقيقاته، فظللتُ أصرخ طوال الليل إلى أن أنقذنا الناس من الغرق، إذ قارب الموج أن يسحبنا إلى داخله."
كما تقول أم يحيى إن عائلتها ليست العائلة الوحيدة التي انقسمت بين شمال غزة وجنوبها، وتضحك في سخرية وألم وتقول: "لا مفر من الموت ولا أمان، لكنها قلة حيلتنا هي التي تدفعنا إلى أن نفعل ذلك، ففي الشمال، هناك قصف وموت كالجنوب تماماً، والحديث عن المنطقة الآمنة هي أكبر كذبة سمعتها منذ بدأت الحرب."
وتنهدت أم يحيى ونظرت ثانية نحو البحر ثم قالت: "لو كُتبت لنا الحياة، واللقاء بزوجي وأولادي ثانية، فسوف يكون ذلك بمثابة المعجزة، وفي وقتها لن أوافق زوجي على أن ’نقسم العرب عربين‘، أبداً........"