"وأنا تحت الركام، لم أستطع تحريك جسمي، وكنت أشعر بالجروح والحروق وقد غزت جسدي، وكنت أشعر بوجود أشلاء بجواري، ولم أعلم حينها هل هي مني أم إنها من جسد آخر. حاولت أن أصدر نداء استغاثة، لكنني ما لم أقوَ على هذا أيضاً. ومرت دقائق قبل أن يتم انتشالي، ولم أستطع الرؤية جيداً، لكن أصوات البكاء والصراخ كانت تتحدث عن هول المجزرة، وترسم صورة ما يحيط بي من مأساة."
بهذه الكلمات يختصر النازح الفتى محمد الديراوي (17 عاماً) ما عاشه تحت أنقاض مدرسة الجاعوني في مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة، وما طاله من إصابة خطِرة، وكسور في القفص الصدري، ونزيف شديد، جرّاء قصف طائرات الاحتلال الحربية للمدرسة، عصر الأربعاء، 11 أيلول/سبتمبر، 2024، في المجزرة الخامسة داخل أسوار المدرسة منذ بداية الحرب.
تصوير محمد النعامي
واستخدم جيش الاحتلال في قصفه للمدرسة صاروخين شديدَي الانفجار، استهدفا مركز توزيع المساعدات في المدرسة، وصفوفاً مجاورة له، وراح ضحية الاستهداف 18 شهيداً، وأصيب 44 من النازحين في المدرسة. وبحسب الأونروا، فإن المدرسة كانت تؤوي أكثر من 10,000 نازح في وقت الاستهداف.
النازح هاني أبو هنية (42 عاماً)، هو رب أسرة كانت تقطن في المبنى المستهدف نفسه في الجانب الشرقي للمدرسة، وأصيب 3 من أطفاله بإصابات متفاوتة، وشهد المجازر الثلاثة الأخيرة التي ارتكبها الاحتلال في المدرسة.
وقال هاني في حديث لـ "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" إن أحد الصواريخ التي استهدفت المبنى اخترق سقف الصف وأرضيته، حيث كانوا يقيمون، وانفجر في الطبقتين الأرضية والأولى، حيث كان العدد الأكبر من الشهداء، وكان الهدف مركز المساعدات، وفي حينها كان يتم توزيع الأرز على النازحين داخل المدرسة.
وأضاف: "كنت أتحدث إلى زوجتي وأطفالي حين حدث الاستهداف، فلاحظنا اختراق الصاروخ للصف، ثم دوى الانفجار، وأصيب اثنان من أطفالي بجروح، لكنها ليست خطِرة، وابنتي الكبرى أصيبت في الرأس جرّاء حجر أصاب رأسها، فحملتها وخرجت فوراً، وكانت الأرضية آيلة للسقوط، فسمعت صوت صراخ من أحد النازحين بألاّ يتحرك أحد، فربما يحدث قصف آخر، ومن المعروف أن الاحتلال يستهدف المدارس مرة أُخرى، بعد ثوانٍ أو دقائق من الاستهداف الأول، ليوقع عدداً أكبر من الشهداء حينما يصل الناس لإنقاذ المصابين، ومع ذلك، فقد خاطرت وواصلت التحرك، لأن ابنتي كانت تنزف."
تصوير محمد النعامي
وأوضح هاني أن المشهد الذي شاهده على درج المدرسة وفي ساحتها كان مرعباً، إذ حدث الانفجار في وقت الذروة، وقد سقط العشرات بين شهيد وجريح، وكان عاجزاً عن مساعدة أحد وهو يحمل ابنته المصابة.
وتابع: "ما آلمني هو استغاثة أحد الأطفال من جيران لي، وكان الجزء السفلي من جسمه مغطى بالركام، وينزف من رأسه، وصاح بي: "عمو هاني تعال شيلني"، لكنني لم أستطع فعل شيء له، فَبِيَدٍ كنت أحمل ابنتي، وبالأُخرى أضغط على جرحها لتخفيف النزيف. وقطعت المسافة تجاه مستشفى العودة جرياً في دقائق، وبحمد الله، تم علاج ابنتي وتضميد جرحها. ومع اكتظاظ المستشفى جرّاء الإصابات، طُلب منا أن نغادر، والآن، نبحث عن مكان نزوح جديد."
أمّا عائلة أم علي البرديني، فكان لها نصيب وافر من الدم المسفوك في آخر مجزرتين قام بهما الاحتلال في المدرسة؛ إذ أصيبت حفيدتها ريتال البردويل بالقصف الإسرائيلي الرابع على المدرسة في 9 حزيران/يونيو 2024، وفي إثر ذلك، بُترت يدها. وفي الاستهداف الأخير، دُمر الصف الذي كانت تنزح فيه العائلة المكونة من 18 فرداً، وأُصيب الجميع، وعَلِقَ بعضهم تحت الأنقاض.
وقالت أم علي البرديني، في حديث لـ "فلسطين الميدان"، إن القصف الإسرائيلي حدث حينما كانت عائلتها مجتمعة لتناول طعام الغداء، وفجأة انهار سقف الصف وجداره، ووجدت نفسها أسفل الركام، ورأسها ينزف.
وروت أهوال ما عاشته قائلة:" كل شيء حولنا انهار مع الانفجار، والغبار حجب ضوء الشمس، وكان كل شيء مظلماً، وكان جزء من جسمي عالقاً تحت الأنقاض، إلى أن أتى ابني وأخرجني، وكل عائلتي أصيبت، ومنهم أحفادي الأطفال بعمر العام والـ 3 أعوام، فخرجت من المكان المستَهدف، وحاولت العودة للبحث عن بقية عائلتي، لكن قدرتي على التنفس لم تسعفني، ونُقلت إلى المستشفى."
وأوضحت أن من المصابين في عائلتها كانت زوجة ابنها الحامل في الشهر السادس، والتي تسببت الإصابة بإحداث خطر على حياة جنينها، وزادت فرص الإجهاض، وفي إثرها نُقلت إلى مستشفى الأقصى نظراً إلى خطورة حالتها.
وتابعت: "أكثر ما أصابني بالذعر هو تجدد إصابة حفيدتي ريتال (6 أعوام)، والتي فقدت كف يدها جرّاء الإصابة في المجزرة السابقة لهذه المجزرة، وكذلك أصيبت مرة أُخرى، وكان الرعب مسيطراً عليها، وهي التي منذ إصابتها الأولى لا تنام ليلة من دون الكوابيس والمضاعفات النفسية التي تلازمها. ولطالما اعتصرني الألم، ولم أجد إجابة حين تسأل عن يدها التي بُترت، ’أين ذهبت؟‘."
وقبل دقائق من حدوث المجزرة، كان النازح عبد المالك المَساعده قد جلس أمام خيمته داخل أسوار المدرسة، وكان يشاهد الأطفال الذين يلعبون كرة القدم في الساحة، ثم وقع القصف بالصاروخين، في اللحظة التي كان فيها الأطفال ملاصقين لمنطقة الاستهداف.
تصوير محمد النعامي
وقال عبد المالك إنه شاهد الجريمة أمام عينيه، وشاهد كيف فتك القصف بالأطفال الذين كانوا يلهون في الساحة، وبُترت أطراف عدد منهم، ومنهم 2 على الأقل استشهدوا، وطالت هذه المجزرة النازحين في مباني المدرسة كافة، وحتى الخيام وصلتها الشظايا وتساقطت عليها الحجارة جرّاء القصف.
وأضاف في حديث لـ "فلسطين الميدان": "جيش الاحتلال كذب حينما زعم أن الاستهداف كان لمطلوبين، إنما تركز القصف على مسؤولي مركز الإيواء، وهم موظفو وكالة الغوث، واستشهد مسؤول المخيم، وقد كان في السابق مدير المدرسة، وحينها كانوا يشرفون على توزيع مواد غذائية، وفي اللحظة نفسها، كان الأطفال يلعبون أمام نقطة التوزيع مباشرة."
وشدد عبد المالك على أن الاحتلال قصد قتل الأطفال في أثناء لعبهم بالكرة، إذ جرت الغارة حينما اقتربت الكرة من نقطة المساعدات.
وتابع: "لا تزال ذاكرتي تحتفظ بمشهد الأطفال وهم يلعبون بالكرة بسعادة، وبعد لحظات، بات المشهد دموياً وهم محالين إلى أشلاء، ودماؤهم صبغت لون أرضية ملعبهم، وبعد مرور أيام على المجزرة، لم تعد هذه المباراة تُجرى وهي التي كانت عادة في عصر كل يوم. وغادر عدد كبير من النازحين المدرسة نتيجة معرفتهم أن المكان الذي يُفترض أنه المكان الأكثر أمناً، بات الأكثر خطراً."
وبدورها، أعلنت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" أن 6 من موظفيها استشهدوا في القصف على مدرسة الجاعوني.
وأكدت "الأونروا" في بيان عقب المجزرة أن "هذا هو أعلى عدد من القتلى بين موظفينا في حادث واحد، وكان من القتلى مدير ملجأ الأونروا، وآخرون ممن يقدّمون المساعدة إلى النازحين".
كما أوضحت الوكالة أن المدرسة المستهدَفة "تعرضت للقصف خمس مرات منذ بدء الحرب. وهي تؤوي نحو 12,000 نازح، معظمهم من النساء والأطفال".
وبدوره، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إن عدم المساءلة عن قتل موظفي الأمم المتحدة وعمال الإغاثة الإنسانية في غزة "أمر غير مقبول مطلقاً".
وأضاف غوتيريش أن "ما يحدث في غزة غير مقبول مطلقاً، ولقد تعرضت مدرسة تؤوي 12,000 شخص لقصف جوي إسرائيلي مرة أُخرى. وفي عداد القتلى، هناك 6 من زملائنا في وكالة الأونروا، وهذه الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي يجب أن تتوقف الآن."
وعلى الرغم من الإدانات، فإن إسرائيل ما زالت تواصل مجازرها بحق النازحين في المدارس، إذ استهدف الاحتلال في الأيام التالية لمجزرة الجاعوني مزيداً من المدارس؛ فارتكب مجزرة في مدرسة الفلاح، في ليلة 21 أيلول/سبتمبر، والتي كانت تؤوي مئات النازحين في حي الزيتون جنوبي مدينة غزة، وهو ما أسفر عن استشهاد 21 نازحاً، بينهم 13 طفلاً و6 سيدات وجنين، وإصابة 30 آخرين.
وكذلك، استُهدفت مدرسة "كفر قاسم"، والتي تؤوي مئات النازحين في مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة، وهو ما أدى إلى استشهاد 7 نازحين، وإصابة آخرين، بينهم حالات خطِرة، ثم قُصفت مدرسة خالد بن الوليد شرقي مخيم النصيرات وسط القطاع، وهو ما أدى إلى ارتقاء 3 شهداء، وهم طفلة ووالداها.
المصادر:
"مجزرة جديدة بمدارس النازحين.. شهداء وإصابات بينهم امرأتان و5 أطفال بقصف إسرائيلي على مدرسة ومنزل وسط قطاع غزة". "رأي اليوم". 23/9/2024.
"الاحتلال الإسرائيلي يقصف مدرسة الفلاح في غزة ويحصد أرواح 21 نازحاً بينهم أطفال ونساء". "الهدف". 21/9/2024.
"لا أماكن آمنة للنازحين.. مجزرة جديدة في مدرسة ’كفر قاسم‘ بغزة". "العربي". 22/9/2024.