العقوبات الجماعية: العودة إلى سياسات كي الوعي والقبضة الحديدية الإسرائيلية في طولكرم وجنين
Auteur: 
Année de publication: 
Langue: 
Arabe
Anglais
Nombre de pages: 
11

شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي حملة تدميرية في جنين ومخيمها ومخيمي طولكرم ونور شمس، بالتزامن مع حرب الإبادة الجماعية المحتدمة في قطاع غزة، منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، طالت مساحات واسعة من البنية التحتية في سياق استراتيجية "كي الوعي" و"القبضة الحديدية" كـ"عقاب جماعي" للمجتمع في هذه المناطق، بعد تصاعد حالة المقاومة المسلحة على شكل مجموعات تتبع للتنظيمات الرئيسية في الغالب، ونفذت سلسلة عمليات خلال الأشهر السابقة على الحرب وخلالها.

لم تبدأ الحملة العدوانية الإسرائيلية على طولكرم وجنين ومخيماتها مع حدث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر؛ فقد نفذ جيش الاحتلال اقتحامات متكررة لها خلال الأشهر السابقة على عملية "طوفان الأقصى"، وكانت تأخذ منحى تصاعدياً بداية من حملات اغتيالات لشبان تقول إنهم "مطلوبون" لها، واعتقال آخرين، بعد محاصرتهم بمشاركة قوات خاصة، ثم شن عمليات أوسع تستمر لأيام كما في العملية التي أطلقت عليها "بيت وحديقة" في جنين ومخيمها، في تموز/ يوليو 2023، وشملت تدمير منازل ومنشآت مدنية وبنية تحتية ومساجد، وقتلت 12 فلسطينياً.[1]

وترافقت حملات الاقتحامات مع تفعيل الاغتيالات من الجو بأسلحة لم تعرفها الضفة الغربية من قبل، مثل الطائرات المسيّرة، بالإضافة إلى مداهمة البيوت، والاعتداء على ساكنيها، وتدمير محتوياتها، وفي عدة حالات أكدت العائلات تعرض مقتنيات ثمينة للسرقة من قبل جنود الاحتلال،[2] ويجري اعتقال مئات الشبان واحتجازهم في ظروف قاسية يرافقها الضرب والتهديد، والإخضاع للتحقيق الميداني، مع استهداف المسعفين والمسعفات والتضييق على حركة مركبات الإسعاف. وفي عمليات عدوانية مختلفة نشر الاحتلال قواته في محيط مستشفيات واغتال جرحى على أسرّة العلاج وحاول اعتقال آخرين، وأدخل الجرافات العسكرية بمختلف أنواعها، وبينها جرافات "D9"، التي عرفها المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة في انتفاضة الأقصى، وتكون المهمة الرئيسية في كل اقتحام تدمير النصب التذكارية الخاصة بالشهداء، والمعالم العمرانية التي أصبحت رموزاً معروفة في كل مدينة، وتجريف الطرق الرئيسية والبنية التحتية الخاصة بالمياه والكهرباء والاتصالات، بالإضافة إلى فرض عمليات حصار من خلال إغلاق الحواجز المحيطة بالمحافظتين والضغط على العامل الاقتصادي، عبر حرمانها من رافد اقتصادي مهم هو زيارات أهالي الداخل الفلسطيني 48 الذين اعتادوا على التسوق في هذه المناطق.

مجازر وتدمير

بلغ عدد الشهداء في الضفة الغربية، منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، 716 بينهم 195 من جنين و152 من محافظة طولكرم، ووثق نادي الأسير اعتقال أكثر من 10 آلاف فلسطيني من الضفة والقدس، خلال هذه الأشهر.[3] وفي الحملة العسكرية الأخيرة التي أطلقها جيش الاحتلال، في 28 آب/ أغسطس الماضي، وأطلق عليها "المخيمات الصيفية" ذكر النادي أن الاعتقالات طالت 80 فلسطينياً من جنين ومخيمها، و50 من طولكرم، وكشف عن جرائم تعذيب ارتكبها جنود الاحتلال بحق المعتقلين، وخصوصاً خلال التحقيق الميداني، كما في حالة الشهيد محمد إبراهيم عابد من كفردان غربي جنين، الذي أكدت مؤسسات الأسرى أنه تعرض لإعدام ميداني بعد اعتقاله من منزله، بالإضافة إلى استخدام معتقلين كدروع بشرية.[4]

وخلفت العمليات العسكرية المتواصلة دماراً واسعاً وخسائر على المستوى الاقتصادي والعمراني، ووصف رئيس بلدية جنين نضال العبيدي ما جرى في المدينة والمخيم بأنه زلزال،[5] وقدّر مدير البلدية أن عدد المنازل المدمرة في المدينة والمخيم نحو 400 منزل، ومساحة التدمير في البنية التحتية بلغ نحو 25 كيلومتراً،[6] وقال إن عمليات الإحصاء والرصد مستمرة. وتعرضت أيضاً أعداد كبيرة من المنازل في مخيم جنين والحي الشرقي من المدينة لخسائر أقل من التدمير الكامل، لكنها فادحة بعد أن اقتحمها الجنود ودمروا محتوياتها.

ووثقت محافظة طولكرم دماراً في البنية التحتية في المدينة والمخيمين بقيمة ما يقارب 38 مليون شيكل، وقالت إنها ما زالت توثق الأضرار الخاصة التي لحقت بالمنازل والمحلات التجارية والممتلكات، وذكرت أن عدد المنازل التي دُمرت كلياً في مخيم نور شمس ورحلت العائلات منها بلغ 186 منزلاً، وفي مخيم طولكرم 47 منزلاً، وهذه الإحصائية ليست نهائية، وتجري طواقمها فحصاً لمزيد من المنازل التي لحقت بها أضرار للتأكد من الحاجة إلى إخلاء العائلات منها خوفاً على حياتهم.[7]

وذكر رئيس اللجنة الشعبية في مخيم نور شمس، نهاد الشاويش، أن المخيم تعرض لنحو 30 عملية عسكرية من قبل جيش الاحتلال في هذه الأشهر، وأشار إلى أن معاناة قاسية تنتظر الأهالي بعد تدمير البنية التحتية والعائلات التي هُجرت من منازلها بعد تدميرها، وخصوصاً مع اقتراب فصل الشتاء.[8]

تحريض إسرائيلي على أعلى مستويات: "دمروا طولكرم وجنين"

أطلق وزراء في الحكومة الإسرائيلية حملة تحريض ضد جنين ومخيمها وطولكرم ونور شمس ومناطق أُخرى في شمال الضفة الغربية، وطالب وزير المالية والوزير في وزارة الجيش بتسلئيل سموتريتش[9] بتحويل طولكرم إلى خراب كما في حرب الإبادة الجماعية في غزة، بينما أخذ وزير الخارجية يسرائيل كاتس[10] القضية إلى أبعاد أُخرى مرتبطة بالصراع مع إيران، وزعم أن مجموعات المقاومة حصلت على السلاح بــ "تمويل إيراني" وهي تخطط لـ "فتح جبهة أُخرى ضد إسرائيل"، واعتبر أن الجيش سينفذ حملة عسكرية ضد المخيمات كما في القطاع.

وانطلقت شرعنة عمليات التدمير في هذه المناطق أيضاً من حملة "تخويف" نفذها قادة في الجيش الإسرائيلي تصوِّر أن مجموعات المقاومة تستعد لــ"شن هجوم على المستوطنات القريبة مشابه لعملية طوفان الأقصى"[11] التي نفذتها حركة "حماس" في مستوطنات "غلاف غزة"، واشترك في سلسلة التحريض هذه قادة مستوطنات طالبوا بشن حملات عسكرية على مخيمات الضفة الغربية.[12]

وتموضعت العمليات العسكرية لجيش الاحتلال في سياق ما يسميه "عقيدة الضاحية"،[13] التي صاغها كمفهوم رئيس الأركان السابق، غادي آيزنكوت، على ضوء الحرب في لبنان وقوامها الأساسي يقوم على الضغط على قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية أو أية قوة معادية لإسرائيل، من خلال الطبقات الاجتماعية التي يراها حاضنة شعبية لها من خلال استهدافها بكثافة وتدمير بنيتها التحتية والاقتصادية والعمرانية وتكبيدها خسائر على طريق إقناعها بعدم جدوى استمرار القتال والعمل العسكري.

وبما أن مجموعات المقاومة المسلحة في جنين وطولكرم والمخيمات لها امتداد في مجتمع محلي يعيش الاحتلال منذ عقود، وله ذاكرة جماعية زاخرة بقصص النضال ضد إسرائيل في مختلف الهبات الشعبية والانتفاضات، ويواجه تهديدات استعمارية تتعلق باستمرار الاستيطان والاحتلال، وبما أن جزءاً منه مجتمع لاجئ انتزع من قراه ومدنه وبلداته في حرب النكبة (1948)، فإنه يحمل دائماً معه خطاباً سياسياً واجتماعياً يطمح إلى إزالة حالة اللجوء والتشريد القسرية والعودة، وهو ما تراه المستويات السياسية والعسكرية الإسرائيلية دوافع تزيد في "مشروعية" عملية الاستهداف لهذه المجتمعات، بهدف خلق خوف دائم فيها، ودفعها أيضاً إلى اليأس من تحقيق المقاومة أو النضال أية أهداف سياسية على المدى القريب والبعيد.

أهداف إسرائيلية من "القبضة الحديدية"

دمج جيش الاحتلال عملياته العسكرية في حزمة من الأهداف السياسية والنفسية طمح إلى تحقيقها من الحرب المفتوحة على المجتمع الفلسطيني، وجاءت عمليات تدمير البنية التحتية والعمرانية في جنين وطولكرم ومخيماتهما ومناطق أُخرى في شمال الضفة الغربية، في أحد أبعادها، لتحفيز ذاكرة الفلسطينيين بمشاهد التدمير التي عاشها جيل منهم في انتفاضة الأقصى خلال الاجتياحات والعمليات العسكرية، وأضخمها في السور الواقي (نيسان/ أبريل 2002)، التي دفعت المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية فيها بسلاح المدرعات في قلب المدن والمخيمات الفلسطينية، وحرصت على إحداث دمار شامل ترى أنه قد يساهم في نزع شرعية شعبية عن أي عمل عسكري تنفذه الفصائل الفلسطينية.

تتشكل المجموعات المسلحة التي تأسست وتصدرت العمل العسكري، في شمال الضفة الغربية، منذ عام 2020، من شبان صغار لم يدرك أغلبهم سنوات انتفاضة الأقصى، وما عاشه المجتمع الفلسطيني فيها، لذلك فإن ذاكرة هذا الجيل يمكن اعتبارها متحررة من عمليات التدمير العدوانية الإسرائيلية، ذلك بأن الفصل الجديد من العمليات العسكرية الإسرائيلية في صيغتها الجديدة، التي تتزامن مع الحرب على غزة، هي هجوم نفسي وسياسي على جيل جديد تصدر في الغالب الموجة النضالية الفلسطينية المسلحة، بعد أن وصلت الأوضاع في الضفة الغربية إلى حواف اليأس جراء استمرار الاستيطان وتدمير الاحتلال لأي فرص لقيام دولة فلسطينية، والمجازر التي ارتكبت في السنوات الماضية، وخصوصاً في الحرب على القطاع.

إن سياسات "القبضة الحديدية" و"العقاب الجماعي" في المرحلة الحالية من العدوان على طولكرم وجنين وبقية مناطق الضفة الغربية تطال فئات متعددة من المجتمع، بعضها لم ينخرط في الحالة المسلحة أو المجموعات العسكرية، ولم يُعرف عنه انتماء سياسي في المجموع الحزبي الفلسطيني، مع المجموعات الاجتماعية التي خرج منها مقاتلون وأسرى وشهداء، وانضم أولادها إلى مجموعات المقاومة، في انقلاب مهم على العقيدة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية التي كانت تسعى إلى "تحييد" فئات من المجتمع الفلسطيني، من خلال منحها ما تسميها "امتيازات"[14] اقتصادية، مثل التصاريح، ومحاولة عدم المس بحياتها اليومية، في مقابل شن هجمة منظمة وشبه يومية على الفئات المنخرطة سياسياً في العمل الفلسطيني، وخصوصاً العسكري منه.

وفي دوامة الاقتحامات المستمرة التي يستمر بعضها أياماً متواصلة، تعمد قوات الاحتلال إلى تحويل المشهد العام والعمراني في المدن والمخيمات المستهدفة إلى خراب كبير، بعد أن تقوم بتدمير حتى النُصب التذكارية وتحول السير اليومي في الطرقات إلى معاناة لا تنتهي، في ظل تراكم الدمار في كل عملية عسكرية إلى حد قد يعطل أي فرصة حالية لإعادة الإعمار، إلاّ بتحقيق "الخضوع"، كما يخطط ويطمح الإسرائيلي الذي يرى في التنمية عملية في قلبها التسليم بالأمر الواقع الذي يقول إن الاستيطان ومحاصرة التجمعات الفلسطينية وعدم منح الفلسطينيين أفقاً سياسياً لقيام دولة سيستمر من دون أن تُقدِم أي مجموعة على مقاومة هذا الواقع.

ويرتبط مشهد الخراب في قلب طولكرم وجنين ومخيماتهما في العقل السياسي الإسرائيلي بربط أهالي الضفة نفسياً بما جرى في قطاع غزة من تدمير شامل خلال حرب الإبادة الجماعية، ولا أكثر دلالة على هذا المنحى من المنشورات التي يوزعها الجيش الإسرائيلي خلال الاقتحامات، والجوهر الأساسي منها تحميل مجموعات المقاومة المسؤولية عن عمليات التدمير، وربط المستقبل في حال استمرار العمليات بالواقع الذي وصل إليه القطاع بعد حرب الإبادة الجماعية، وفي الأفق الأوسع، بقية الفلسطينيين في الضفة الغربية، وخصوصاً في مناطق الوسط والجنوب (رام الله، وبيت لحم، والخليل، وغيرها) لمنع أي تأثر بتجربة مجموعات الفصائل العسكرية في الشمال، بما يصل إلى استنساخ التجربة أو على الأقل محاولة محاكاتها في بعض جوانبها، فيما يتعلق بتطوير بنية تنظيمية تسمح بتنفيذ عمليات مستمرة، وخصوصاً ضد الانتشار الاستيطاني والعسكري للجيش الإسرائيلي الذي يقيم قواعد عسكرية على الأراضي الفلسطينية في هذه المناطق لحماية أحزمة الاستيطان التي أصبحت شبكة متواصلة مع السنوات، في ظل تسمينها بالدعم المادي والبشري من الحكومة الإسرائيلية التي أصبح التيار الاستيطاني والصهيوني الديني يسيطر على وزارات مهمة فيها، ويرى فيها فرصة استراتيجية لتطبيق برنامجه لضم الضفة الغربية.

وفي البعد النفسي، يحضر هدف آخر هو تطبيع الوعي العالمي والعربي مع فكرة الدمار الدائم في الحواضر الفلسطينية، التي يراها منزوعة الإنسانية والحقوق البشرية وليست سوى مجموعة من "القتلة" أو "الإرهابيين"، بحسب توصيفه، الذين لا يعيشون إلاّ لقتل الإسرائيليين من دون أن يكون لنضالهم هدف سياسي وإنساني هو الاستقلال وتحقيق الذات الجماعية بعد عقود من الاحتلال في دولة مستقلة.

هذا مع اندفاع الكتلة الصهيونية الدينية التي يقودها وزير المالية والوزير في وزارة الجيش الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومي نحو تطبيق برنامج السيطرة التامة على الضفة الغربية وحسم الصراع بطريقة تمنع قيام أي مشروع قومي فلسطيني حتى لو على مساحة أقل من تلك التي احتلتها إسرائيل في عام 1967. وعمليات التدمير المستمرة في مدن شمال الضفة الغربية ومخيماتها، وخصوصاً في طولكرم وجنين، هي في المنظور الإسرائيلي قد تخدم هدف دفع الفلسطينيين إلى "الهجرة الطوعية"، كما يسميها سموتريتش الذي أعلن مشروعه في خطة الحسم[15] التي نشرها في مقال، عام 2017، بعد تدمير حاضرهم ومستقبلهم وبنيتهم التحتية والعمرانية والتضييق عليهم في تجمعات محاصرة بالمستوطنات وانعدام أي أمل بتحقيق طموحهم السياسي في دولة مستقلة تنعتق من الاستعمار.

وتأتي هذه الحملة في ظل عملية مزدوجة من إضعاف السلطة الفلسطينية التي يقودها سموتريتش أيضاً، من خلال الاستيلاء على أموال الضرائب الفلسطينية لتعزيز الأزمة الاقتصادية التي تمر بها، والتي أثرت في قطاعات واسعة من المجتمع الفلسطيني، في الضفة الغربية، وخصوصاً مع منع مئات آلاف العمال من الدخول للعمل في أراضي 1948، والهجمة على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) واستهداف وجودها[16] من قبل الحكومة الإسرائيلية التي أعلنت أنها ستعمل على تفكيكها ومنعها من العمل في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس لأهداف متعددة، أهمها إنهاء ملف اللاجئين الفلسطينيين. وقد كان أشد مظاهر الحملة هي عمليات القصف لمقدرات الوكالة ومراكزها وطواقمها في غزة، تزامناً مع حملة التدمير في المخيمات في الضفة الغربية، وهو ما يزيد من معاناة اللاجئين الذين يعيش جزء منهم على المساعدات الإنسانية جراء الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يمرون بها.

وفي الأبعاد العسكرية المباشرة، فإن الجيش الإسرائيلي يسعى من خلال إدامة العمليات في هذه المناطق لحرمان المجموعات العسكرية من إقامة بنية تحتية تتيح لها تطوير أدوات فتاكة، كما تراها المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، مثل العبوات الناسفة، وتنفيذ عمليات قد تصل إلى عمق المدن في أراضي 1948، وتؤثر في المفهوم الذي طوره الاحتلال مع انتفاضة الأقصى، وخصوصاً في عملية "السور الواقي"، وهو حرية الحركة الدائمة في قلب التجمعات الفلسطينية، من دون التأثير في هذه الحرية أو زعزعتها بأدوات قتالية قد تحدث خسائر في الأفراد أو المعدات، وهو ما تحدث عنه رئيس الأركان السابق أفيف كوخافي[17] في المقابلات التي سبقت رحيله عن المنصب.

ما العمل فلسطينياً؟

التحديات التي فرضتها على الفلسطينيين الحملة التدميرية الإسرائيلية تفرض عليهم حراكاً لبناء سياسات وبرامج على مستويات مختلفة، من السياسي إلى الاجتماعي والصحي، أولها توجيه حراك فصائلي وشعبي نحو بلورة قيادة وطنية فلسطينية موحدة تواجه بالعمل البرامجي المخاطر التي تخلقها وتزيدها العدوانية الإسرائيلية، في شمال الضفة الغربية، مع استمرار حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

وعلى المستويات الإعلامية الخطابية، تحضر أهمية ربط حملة التدمير الإسرائيلية مع مخططات الضم والسيطرة وتهجير الفلسطينيين التي يجاهر بها قادة "الصهيونية الدينية" وقوى اليمين التي تقود الائتلاف الحكومي الإسرائيلي، واستغلال حالة التضامن العالمية التي تبلورت في الأشهر الماضية مع الشعب الفلسطيني، ووصلت إلى مؤسسات مختلفة، أهمها الجامعات، لبناء حملة إعلامية عالمية في جوهرها الخطابي التركيز على أن حملات العدوان على طولكرم وجنين والمخيمات وغيرها من مناطق الضفة الغربية وغزة هدفها استعماري يتعلق بأصل الوجود الفلسطيني، وليس ردة فعل على عمليات عسكرية فلسطينية، كما تروج المؤسسة الإسرائيلية.

وهنا يحضر البعد القانوني الذي يتعلق بالحملة ضد الاحتلال، في المحاكم الدولية، التي تصاعدت في السنوات الماضية، وخلال حرب غزة وصلت إلى ذروتها بالدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا لمحاكمة القادة الإسرائيليين على ارتكاب جرائم إبادة جماعية، من خلال تحضير ملفات بالانتهاكات والجرائم التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين خلال العمليات العسكرية.

الدمار الكبير الذي ترزح تحته طولكرم وجنين والمخيمات يجب أن يدفع إلى تنظيم حراك تشترك فيه الأجهزة الحكومية مع المؤسسات الاجتماعية المختلفة، للبحث في برامج لإعادة الإعمار ومحاولة تخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية، ومساعدة العائلات التي تضررت بشكل كبير خلال الحرب، وضاعف من أزمتها عمليات التدمير الإسرائيلية.

الحصار الذي فرضته قوات الاحتلال على المستشفيات الفلسطينية، خلال كل عملية عسكرية تشنها في جنين وطولكرم ومناطق أُخرى في شمال الضفة الغربية، مع الاعتداء على الطواقم الطبية الذي يصل إلى إطلاق النار عليها، بعد تجربة تدمير القطاع الطبي في غزة، يجعل من الضرورة تشكيل لجان تضم خبراء في مجالات الطب والقانون والأكاديميا للبحث في قدرات القطاع الصحي في الضفة على مواجهة عمليات عدوانية أكبر في المستقبل، وحشد دعم دولي من جانب مناصري القضية الفلسطينية ، وبناء عملية إعلامية تظهر للعالم اعتداءات الاحتلال على المستشفيات ومحاصرتها وتنفيذ عمليات اغتيال واعتقالات لجرحى ومرضى بداخلها.

خاتمة: خيارات مفتوحة

يشن جيش الاحتلال حملة استنزاف قاسية ضد الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية، وخصوصاً في مناطقها الشمالية، وفي القلب منها المخيمات، تستهدف إحداث ضرر مادي طويل الأمد يخلق آثاراً نفسية في مجموع الساكنين فيها يدفعهم نحو الانفكاك عن أي مشروع للنضال الفلسطيني بكل أشكاله، سواء العسكرية أو على المستوى السياسي أو في إطار المقاومة الشعبية، من خلال تفعيل أدوات عسكرية ثقيلة بشكل متتال في صورة حملات اقتحامات ترى المؤسسة الإسرائيلية أنها قادرة على إنهاك الفلسطينيين، وخصوصاً مجموعات المقاومة المسلحة، على طريق حرمانها من قدرة بناء نسق عملياتي يستنزف القوات الإسرائيلية والمستوطنين، وفي النهاية تجفيفها نهائياَ أو تكبيدها ضربة تجعلها غير قادرة على العودة في المدى القريب وربما البعيد.

وتزامنت هذه الحملة مع حرب إبادة جماعية في قطاع غزة كسرت فيها إسرائيل جملة من القواعد في الحرب على الفلسطينيين، وشاهد العالم مساحات واسعة من المجازر اليومية، واستخدم جيش الاحتلال هذه العملية في الهجوم على الوعي الفلسطيني في الضفة الغربية. وليس من المؤكد أو المتاح معاينة أضرار أو تبعات عدوان الاحتلال على الفلسطينيين، سواء لجهة هل تحققت الأهداف الإسرائيلية أم أنها ستنقلب إلى فرصة تشكل مرحلة جديدة في النضال الوطني الفلسطيني؟

 

[1] عن عملية "بيت وحديقة"، انظر.

[2] عن التدمير والعدوان في الضفة وغزة، انظر.

[3] تقرير من نادي الأسير.

[4] مرصد شيرين المتخصص بمتابعة إحصاءات الشهداء والأسرى.

[5] تصريحات رئيس بلدية جنين نضال العبيدي عن الدمار بفعل العدوان الإسرائيلي.

[6] مقابلة خاصة مع بشير مطاحن، مدير بلدية جنين.

[7] مقابلة خاصة مع محافظ طولكرم.

[8] مقابلة خاصة مع رئيس اللجنة الشعبية في مخيم نور شمس نهاد الشاويش.

[9] تصريحات سموتريتش حول تدمير طولكرم خلال لقاء مع قادة المستوطنين.

[10] تصريحات كاتس حول التعامل مع الضفة الغربية كما في قطاع غزة.

[11] عن تصريحات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بشأن مخاوف من "سيناريو" 7 أكتوبر في الضفة، انظر.

[12] تصريحات رئيس مجلس مستوطنات شمال الضفة الغربية يوسي داغان بشأن الحرب على الضفة.

[13] عن عقيدة الضاحية، مقابلة مع اللواء غادي آيزنكوت الذي كان يشغل حينها منصب قائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي.

[14] عن العمالة الفلسطينية في إسرائيل، انظر.

[15] حول خطة الحسم التي أعلن عنها سموتريتش، انظر.

[16] تصريحات الأونروا بشأن الاستهداف الإسرائيلي لوجودها.

[17] عن تصريحات أفيف كوخافي في المقابلات الأخيرة معه قبل رحيله عن رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي.

1
À PROPOS DE L’AUTEUR:: 

أحمد العاروري: صحافي فلسطيني مهتم بالتاريخ والحروب العربية والإسرائيلية وتاريخ الجيش الإسرائيلي.