يُعد القلق الوجودي محوراً أساسياً في العملية الإبداعية ودافعاً لها، إذ اتسم الشِعر العربي منذ البدايات بالبحث عن ماهية الإنسان ووجوده وعلاقته بالزمان والمكان، وهذا اتجاه في تفسير "الوقوف على الأطلال" في القصائد الجاهلية. فهكذا كانت ولا تزال حياة الإنسان العربي؛ بلا استقرار، ودائم البحث عن معنى وهوية... أتذكر هذا الكلام وأنا الشاعر "العربي الفلسطيني"، أخوض أشرس حرب وجودية في غزة. فالكتابة قبل أن تتضمن وعياً جمالياً ولغوياً أعبّر به عن عاطفتي وحالاتي النفسية، كوّنت في دواخلي معادلاً للقلق، فمنذ الجملة الأولى التي كتبتها وأنا أبحث عن وجودي ومعنى الوطن بكل أبعاده الملتبسة، فالوطن لا يمكن أن يكون ذلك المكان الآمن الذي يضمن إنسانيتي فحسب، وإلاّ، فلماذا تسيل كل هذه الدماء من أجل حيز جغرافي يسمى فلسطين؟! الوطن هو المكان والزمان والتاريخ معاً... وعلاقة الفلسطيني بالمكان علاقة وجدانية عميقة؛ إذ إن قضيته مرتبطة أولاً بالمكان بكل أبعاده السياسية والثقافية والدينية، ولهذا، فالمكان/الوطن يشكّل هاجساً مصيرياً في حياة كل فلسطيني منذ تفتُح وعيه، ومن هنا، بدأ المكان يتخذ أهمية في الأدب الفلسطيني، لأن مصير الفلسطيني ارتبط به، فالمأساة تمثلت في اقتلاع الشعب من الوطن/المكان، فأصبح مشرداً يبحث عن كيانه ووجوده، متشظياً في المنافي.
وإن القارئ للأدب والشِعر لا يعدم رصد تجليات المكان وارتباط الأدباء به على مدار التاريخ. ففي شعر العرب قبل الإسلام، وصف الشعراء الأمكنة، وبَكَوْهَا بصفتها جزءاً من الذاكرة. وفي شِعر عصر الأندلس، ظهر فن رثاء المدن، التي شكّلت ملمحاً مهماً لشِعر تلك الحقبة. أمّا في العصر الحديث، فقد تجلت المدينة شِعراً في تجارب عديدة، إذ رأى بعض النقاد أن تجليات المدينة في الشعر العربي المعاصر تأثرت بأعمال غربية، كقصيدة "الأرض اليباب" لإليوت، ومع تعقد الحياة العربية، تجاوزت هذه التأثيرات الخارجية. أمّا في غزة، فإن تجليات المدينة تأتي من صميم المعاناة؛ من نبض الأرض، والارتباط الحميم بمدينة محاصرة. قبل أكثر من عامين، كتبت قصيدة بعنوان "المدينة"، جاء فيها: "أجلس وحيداً مع المدينة... لا البحر يصغي لغربةِ الأنين ولا دوي المذبوحين يصلُّ." إن المدينة جزء مني، وأنا جزء منها، نقارع معاً بالشِعر والصراخ والهتاف. أريد أن أعيش حُراً وهي كذلك، فتارة تتجسد قصيدة، وتارة أُخرى أمشي في شوارعها ليلاً، أمارس جنوني الشِعري، أو أفعل ذلك عند الفجر. وأكتب:
أمضي إلى نفْسي في فَجْرِ المدينةِ قبل أن تصحو
فترى رجفةَ قدميّ
واشتعالَ قلبي.
أنا واحدٌ من الناسِ الذين يخافون كثيراً
ليلها
وفجرَها
ونهارَها...
أنا لم أتوضأ بالدم يا سيدي
القصيدة والمدينة
علاقة الشعراء بالمكان والمدينة هي علاقة تمازج عميق بين الذات والذاكرة والزمان؛ إذ تحولت المدن إلى رموز لتجاربهم الذاتية والجماعية، ومسرحاً للحنين والذكريات والبحث عن الهوية. لم تعد المدينة في الشعر المعاصر خلفية جامدة لأحداث القصيدة، إنما أصبحت كائناً حياً يتداخل مع الشاعر، فيعبّر عن طريقه عن وجعه واغترابه وتوقه إلى ما لا يمكن تحقيقه. ويزداد تعقيد هذه العلاقة وإشكالياتها في ظل الحروب والتهديدات الوجودية، إذ تتحول المدن إلى أطلال، محملة بأشباح الموت والدمار ورماد الذكريات، وتغدو ذاكرة تتمازج فيها صور الماضي بأحلام الغد.
خان يونس هي مدينتي الجميلة التي لطالما حضنتْ أشعاري قمرَها المكتمل بالحكايات والوعود، فتعدني بالغد الأجمل وهي تشق طريقها نحو المستقبل، وتزهو وتجمح خارجةً من تاريخها العريق، وممتدة وموصولة بجذور عاداتها.
خان يونس مدينة فتية، تبقى إلى ساعة متقدمة من الليل نابضة بالحياة، وهي عادة المدن العاشقة المعشوقة، فتنام متأخرة وتصحو مبكراً، وتخرج العصافير من براح قلبها إلى حقول الأمل الشاسعة.
هذه المدينة كبرتْ فيَّ، ولم أدرك فاكتشفت أنني أحبها، ليس لأنها مسقط قلبي فحسب، بل أيضاً هي مدينة محبوبة لذاتها. لم أصارحها قبل الهلاك بذلك الحب الذي كان سهلاً ممكناً، ولم أعانق شوارعها بكلام يصير قصائد في فؤادي ورائحة ياسمين في زقاقها. لكنني أقول لها الآن:
خانيونس، يا حبيبتي البهيَّة
بسيطة كأول الشِعر، حنونة كأول القبلات
كان عليكِ أن تذوقي الموت وأذوق المرَّ؛ كي نعرف الحب المستحيل..
سأنجو من حربهم لأخوض حروبي الصغيرة مع الحياة، أكتب شِعراً عن العشق والليالي غير متورط في المأساة ولا رائحة للموت تملأ لغتي..
سأنجو وأسافر مع الحياة والقمر والحبيبة والبلاد، ولا أحمل في حقيبتي تعب السنوات أو لغة الجراح... سأخرج من حربهم إلى حربي شاهراً لغة بيضاء وقلباً طاهراً مطهراً.
يا خانيونس.. سافري في أعصابي ودمي، يا ذاكرتي الثقيلة، يا قسوة الأيام على قلب من أماني، يا براح العمر وضحكة الطفولة.
يا خانيونس القتيلة، كوني رصاصة أبدية في قلبي، قصيدة لا تُكتب، وحباً لا يفوح...
خان يونس الشاعرة الماهرة لم تقل الشِعر، ولم تثرثر كثيراً عن الحب والدفء، إنما كانت تفعل ذلك بصمت كعادة يومية للمدينة الأم، أو الأم المدينة تفتح صدرها للبحر فيناغي قلبها، وتضحك وتضج بالحياة طوال النهار، حتى إذا جاء الليل، نام على صدرها، ومسدته بأحلام أبنائها، إذ تنام الأحلام جهة الغرب، أمّا في الشرق، فتمتد حقول القمح على اتساع المدى، لإعلان أننا شعب يحب الحياة ويحلم كثيراً بالسلام والحرية.
وبعد، فأنا لا أعرف كيف أمست المدينة بأحلامها وعماراتها الشاهقة وحقولها كومة حجارة ورمال.. والبحر شاهد!
أطل على المدينة من شرفات ذاتي المسكونة بالتعب والهلاك والذكريات الثقيلة، فأدرك أن كل ما يحدث في المدينة الحزينة، والعريقة الفتية، هو معادل لما يحدث داخلنا، لأن من ينهار في الحرب هو الإنسان قبل الحجارة.
وأتحسس ألمي الشخصي ووجع التاريخ في شرايين خان يونس، وأسأل: "هل للكتابة معنى أمام الخراب الكبير؟ وهل تستطيع وصف سريالية المشهد؟"
لا أعرف إذا كانت كتابة الشعر في الوقت الراهن ممكنة، أم إنها ضرب من العبث. وهل تستطيع تجسيد الكارثة بكل أبعادها، وفضح آلامنا التي لا تستوعبها القصيدة، فتبقى في العراء تطفح بالدم؟
كيف يمكنني، وأنا الشاعر البائس الذي أعيش الحالة بكل تفاصيلها، أن أحوّل ركام المدن الهائل إلى مشاعر؟ ومن أي باب أعبر القصيدة؟ لا أعرف إجابات عن هذه الأسئلة، لكن كل ما أعرفه أن الشِعر الذي سيُكتب بعد وقوع هذه الكارثة يختلف كلياً عما قبلها؛ سيكون مليئاً بالركام، والدماء، والحزن الثقيل، والنكبات، والموت السريع، والصباح اليتيم، بكل مفردة لا جدار لها، وكل لغة تلتحف العراء.
إن القصيدة الوحيدة الممكنة الآن، والتي أراها في مخيلتي سماء واسعة، هي الشهادة؛ فحين أموت، ويكتمل موتي، يتوقف القلب عن النميمة، وتفرّغ الذاكرة أوجاعها، ويتلاشى الجسد في سفره.
حينئذٍ، اكتبوا على الشاهد:
هنا يرقد شاعر مجهول، قضى عمره في كتابة الوصايا الشعرية. لم يفهمه أحد، ولم يصدقه أحد. وحين فشل في اختراع معنى آخر للحرب، مات...
وإن فكّر أحد أصدقائي الأوفياء في نشر قصائدي، لا توقعوا عليها اسمي، فلا اسم لي؛ فأنا كل الناس، وكل المقهورين، وكل الموتى، وكل الضحايا الأطفال. وقلبي من بداية الأمر شهيد، لكنه يبحث عن لغة تليق بالمشهد.
ولأن هذه البلاد لا تليق بها إلاّ الحياة، فهي لن تموت، وستعانق أبناءها وتنهض.
المباني والشوارع تنهار، ويغيب الإخوة والأصدقاء والأبناء، ولا تموت البلاد!
ينهار كل شيء ولا تموت البلاد؛ فهي الإيمان المطلق بأننا شعب يستحق الحياة، ونحن نحب الحياة في سبيل البلاد، وفي سبيل أن نكبر ونغني ونكتب قصائد حب..
إن خان يونس ككل المدن الفلسطينية، مدينة لا تموت، بل تقارع الموت وتنهض من تحت الركام كما ينهض أبناؤها. الحروب ربما تقتل الجسد، لكنها لا تقتل الإصرار على الحياة التي تجسدها فلسطين بكل مدنها وقراها وأحيائها. وكما كتب أطفال خان يونس على ركام منازلهم: "أوقفوا الحرب.. السلام في كل مكان." نحن، الشعراء، نحمل هذه الرسالة، ونعيد بناء ما تهدم بالقصائد التي تكتب بالأمل والحب على الرغم من الخراب، فالكتابة في هذه المرحلة الحساسة بما فيها من خطر وجودي هي إحدى أدوات البقاء.