"كنت أنتقل من جثمان إلى آخر بحثاً عن ابني، وأفتش في وجوه المصابين والناجين، وأنتظر أن يقول لي أحدهم إنه بخير، إلى أن وصلت إلى جثمان معدم المعالم، قذفه الانفجار إلى خارج المبنى، وما بقيت عليه من ملابس ممزقة ومحترقة، كانت نفسها ملابس ابني."
هكذا تستذكر أم محمد عيسى نظرتها الأخيرة لابنها محمد، وهي تجلس في باحة المدرسة، وتستعرض سنوات حياته الاثنتي عشرة التي أنهتها الطائرات الإسرائيلية بقصفها مدرسة ذكور النصيرات الإعدادية، وأحد مراكز الأونروا الرسمية لإيواء النازحين بثلاثة صواريخ حربية على المبنى الرئيسي في المدرسة، فجر السادس من حزيران/يونيو 2024.
وقد باتت المدارس ومراكز الإيواء هدفاً مفضلاً لقوات الاحتلال لتنفيذ المجازر الكبرى بغارات جوية، واقتحامها في العمليات البرية، وتنفيذ جرائم الإعدام والتعذيب والاغتصاب والاعتقال للنازحين الذين احتموا فيها بحثاً عن الأمان.
المكان الآمن
قالت أم محمد إنها ظنت أن المدرسة مكان آمن، ومع كل غارة قريبة، كانت تُطَمْئِنُ أطفالها أنهم في أمان هناك، وأن الحرب على وشك الانتهاء، وعودتهم إلى منزلهم في مخيم جباليا شمالي القطاع قريبة، لكن الموت وصل إليهم في قلب المكان الآمن.
وأضافت بصوتها المتعب الذي تقطعه شهقات البكاء: "لطالما وعدت أطفالي الأربعة بأننا سننجو، وسيلتم شملنا مع والدهم الصامد في الشمال، لكن في غارة من طائرات الاحتلال تبدد هذا الوعد، وفقدت ابني الأكبر، وأصيبت ابنتي وبُترت قدمها، واجتمع عليها مصاب الفقد وألم الإصابة والخوف من المستقبل."
وحولت قوات الاحتلال المدارس التي تؤوي النازحين إلى ما يشبه المقابر الجماعية، بعد أن اتبعت سياسة دموية تستبيح بها دماء الأطفال والنساء والمدنيين، وخلال الأشهر الأخيرة من الحرب، كثفت إسرائيل هجماتها على المدارس ومراكز الإيواء.
وخلال الأيام العشرة الأولى من آب/أغسطس الماضي، قصفت إسرائيل 8 مدارس تؤوي نازحين، وهو ما أسفر عن استشهاد أكثر من 179 فلسطينياً، بينهم أطفال ونساء، بالإضافة إلى مئات الجرحى، وفق بيانات رسمية فلسطينية.
كما قصف الاحتلال خلال الفترة 4 تموز/يوليو - 10 آب/أغسطس 2024 فقط نحو 21 مدرسة، وهو ما أسفر عن استشهاد المئات، معظمهم من النساء والأطفال.
مجزرة الفجر
والمجزرة الكبرى في 10 آب/أغسطس وقعت باستهداف الجيش الإسرائيلي مدرسة التابعين وسط غزة، فاستشهد أكثر من 100 مدني، وأصيب عشرات بينهم أطفال ونساء.
كان الشاب أحمد الحرز الله أحد الناجين من مجزرة مدرسة التابعين، التي فقد فيها 15 شهيداً من عائلته وأقاربه، وعاش لحظات قاسية وهو يشاهد شقيقه يحتضر بين يديه في إثر إصابته بحروق شديدة غطت جسده.
وسجل أحمد شهادته قائلاً: "أسكن في حي الدرج بالقرب من المدرسة المستهدَفة، واعتدت أنُ أصلي في مصلاها، وفي فجر ذلك اليوم، كالمعتاد، خرجت إلى المدرسة حيث تقام صلاة الجماعة، وتأخرت قليلاً عن أخي محمد الذي سبقني، وعندما وصلت إلى مدخل المدرسة، وقع القصف، وكانت 3 صواريخ حارقة أضاء لهبها المنطقة."
وتابع: "انبطحت أرضاً، وتطايرت بجانبي الأشلاء، وساد مزيج من رائحة البارود والأشلاء المحروقة، ولم تمهلني الصدمة لحظات حتى تذكرت أن أخي في المصلى، فهرعت إلى الداخل، وكان كل شيء يحترق، والدخان يحجب الرؤية. ولتصل إلى المصلى، كان عليك أن تعبر فوق أرضية مرصوفة بالأشلاء والشهداء، واستوقفني طفل مصاب يستغيث، فحملته، وأوصلته إلى الخارج، وعدت لأبحث عن أخي، فمررت بكثير من الجثث حتى وصلت إليه، وكان عبارة عن جسد محترق يأن من شدة الألم، فحملته، وكان جلده يلتصق بملابسي، وكنت أبكي وأصرخ، وحاولت أن أبعد نظري عنه، ونقلناه على عربة يجرها حصان تجاه المستشفى المعمداني، وكان صوت أنينه أصعب ما سمعته في حياتي، وقبل الوصول إلى المستشفى، كان قد لفظ أنفاسه الأخيرة."
أخفى أحمد خبر ارتقاء أخيه عن والدته لساعات، وهي التي فقدت ابنها الثاني خلال هذه الحرب، و3 من أخواتها وعائلاتهن، لكن في النهاية علمت، وأسكته البكاء في تلك اللحظة.
وعن مزاعم الاحتلال أن المدرسة كانت تحوي غرفة سيطرة للمقاومة، فقد نفاها أحمد، الذي اعتاد منذ أشهر زيارة المدرسة يومياً، كونه يعمل في "تكية"، ويقوم بنقل الطعام إلى النازحين فيها.
وأضاف: "المجزرة كانت بهدف قتل العدد الأكبر من الناس، ولا صحة لوجود أي مسلح. المكان كانت تسكنه عائلات دمر الاحتلال منازلها، وخصوصاً في مناطق شرق مدينة غزة، وكنت أدخل كل مرافق المدرسة، وأوصل الطعام إلى النازحين، لكن إسرائيل لا تزال متعطشة للدماء، ولا تحتاج إلى تبرير لقتل أي عدد في أي مكان."
ومن جانبه، قال الطبيب جمال العصار، مسؤول قسم الحروق في مستشفى العودة في مخيم النصيرات، إن العامل المشترك في الصواريخ الموجهة إلى المدارس أنها ذخائر حارقة، وتسبب درجات حرارة عالية جداً، وتُحدث حروقاً خطِرة بسائر الجسد، وتسبب حالات بتر لمعظم المصابين، وألم شديد ومزمن.
وأضاف: "استقبل مستشفى العودة الآلاف من المصابين بالحروق، إذ قُصفت معظم المدارس التي تؤوي النازحين في المخيم، ووصلت إلينا حالات حرجة، ومن التشخيص الأولي، يتبين حدوث حروق شديدة من الدرجة الثالثة في أكثر الحالات، وفي حالة قصف المدارس، يكون العدد الأكبر من المصابين من الأطفال."
وشدد العصار أن حالة الطفل المصاب بالحروق جرّاء القصف لها معاناة خاصة؛ فهي تسبب آلاماً شديدة، وتشوهات مزمنة، إلى جانب الكثير من حالات البتر، فالجسد الصغير للطفل أضعف من أن يقاوم هذه الإصابات والتشوهات، إلى جانب الأثر النفسي المؤلم جداً، بحسب الطبيب.
وتابع: "في كثير من الحالات، يكون الموت أكثر رحمة من النجاة، بفعل الأسلحة الإجرامية التي تُلقى على أماكن مكتظة بالنازحين، وتسبب إصابات لم يسبق أن شاهدناها في أي من الحروب السابقة، وتستمر مضاعفاتها لزمن طويل."
قبور المدارس
كانت مدارس المغازي الإعدادية التابعة للأونروا على موعد مع سلسلة من المجازر، راح ضحيتها أكثر من 40 شهيداً، وعاش النازحون فيها أوقاتاً عصيبة من الموت والخوف والجوع.
ويروي تامر الأخرس من مخيم المغازي تفاصيل أليمة حدثت أمام عينيه، عجز في حينها عن تقديم أي مساعدة، فقد كان نازحاً في مدرسة البنات الإعدادية حين هاجم جيش الاحتلال المدرسة والعائلات المحتمية فيها.
وقال: "إن جيش الاحتلال هاجم المدرسة بصواريخ الطائرات المسيّرة، وبالرصاص، وقنابل طائرات الكواد كابتر، والقذائف المدفعية، والدبابات، ورصاص القناصة، خلال حملته على مخيم المغازي من دون إنذار، في مطلع كانون الثاني/يناير الماضي."
وأضاف: "بدأت قذائف المدفعية توجَه مباشرة تجاه الصفوف المكتظة بالنازحين، وارتقى 6 شهداء في الطبقة الثانية، وأصيب عدد كبير، وكانت طائرات الكواد كابتر قريبة تطلق النار تجاه المدرسة، والرصاص كان يخترق الصفوف، ونفذت الطائرات المسيّرة غارتين على الأقل في مبنى المدرسة الرئيسي وساحتها، فكان الجميع مذعوراً، ولم نكن قادرين على إسعاف المصابين وسط هذا الحصار."
وتابع: "كانت رائحة الموت تملأ المدرسة، وفي كل ركن هناك من يودع أباً أو أماً أو طفلاً، بينما يسمع صوت أنين مصاب، وبعدها يسمع صراخ أحبته لفراقه، والبكاء في كل مكان. وأصعب ما شاهدته في حياتي إصابة طفلة في ظهرها أمام مدخل المدرسة برصاص طائرة كواد كابتر، ولم يتمكن أحد من الوصول إليها، وذلك لاستهداف الاحتلال كل من يقترب، وظلت كذلك حتى فارقت الحياة، ولم نتمكن من الوصول إلى جثتها إلاّ بعد انسحاب الاحتلال."
وأوضح تامر أنه على مدار 12 يوماً، كانت المدارس محاصرة، ومن يخرج يتم استهدافه، وكان الطعام والشراب شحيحاً، وحتى عندما خفت وتيرة استهداف المدرسة، استمرت القذائف المدفعية في التساقط على سائر أرجاء المخيم.
وكشف الأخرس أنه بعد انسحاب قوات الاحتلال، قام أهالي الشهداء بأخذ جثامين ذويهم ودفنها في المقابر أو في أراضٍ خاصة، لكن بعض الشهداء الذين لم تُعرف هويتهم، ومنهم أطفال، دُفنوا داخل المدرسة، ولا تزال قبورهم فيها.
ويواصل الاحتلال حربه ضد المدارس بعد أن دمر أكثر من 80% منها في غزة، بحسب بيان مجلس حقوق الإنسان في جنيف في نيسان/أبريل 2024، ويواصل ملءها بالجثث والدماء والقصص المأساوية.
ماجد، محمد. "7 مجازر في 10 أيام.. إسرائيل تصر على ضرب مدارس غزة مأوى النازحين(إطار)". الأناضول. 11/8/2024.
أبو العلا، عبد الرحمن. "مدارس غزة.. فصول يومية من مجازر الاحتلال". "الجزيرة". 21/8/2024.