رحلة الحاج أبو عمر نحو الخضروات
Date:
11 septembre 2024
Auteur: 
Thématique: 

كانت غزة قبل حرب الإبادة الجماعية تمثل ثورة زراعية، إذ تحولت الأراضي الصلبة فيها إلى مزارع خصبة؛ فالفراولة الحلوة كانت تتنافس مع الطماطم، والخيار كان يزيّن الموائد الغزية الفلسطينية، وعلى الرغم من قلة المياه وملوحة التربة وقلة وجود الأسمدة والمبيدات الحشرية بسبب الحصار الخانق الذي فرضه الاحتلال الصهيوني على القطاع، فإن المزارعين الفلسطينيين تمكنوا من تطوير طرق مبتكرة لزراعة الأرض، وتقنيات ري جديدة، فضلاً عن استخدام الأسمدة العضوية، وتحسين سلالات البذور. وكانت صادراتهم الزراعية تشق طريقها إلى الأسواق العربية والأوروبية، وهو ما جعل غزة معروفة بجودة منتوجاتها الزراعية قبل أن تكتسي بعباءة الحرب القاتمة، التي لم تقتصر على إبادة الشعب فقط، بل أيضاً طالت الحيوان والشجر والحجر. لكن بين أنقاض هذه الحرب وصرخات الألم، تتسلل شرارة الأمل.

ففي شمال قطاع غزة، بين أشجار بيته التي لم يتبقَ منها إلاّ أفرعها، إذ لا تحمل أي ثمار أو أوراق، يجلس الحاج أبو عمر (72 عاماً)، وهو شيخ هزيل، يحدق في الأفق، وعيناه تحمل عمراً من التحدي والصمود، وتتذكر أيام السلم؛ عندما كان بيته عامراً بأبنائه وأحفاده، فتحول إلى سجن من الخرسانة المتهالكة، بعدما نزحت زوجته وأبناؤه وأحفاده إلى جنوب القطاع بحثاً عن ملاذ آمن، فوجد نفسه وحيداً يواجه شبح الجوع والموت في بيته الذي رفض تركه... واليوم، لا يوجد شيء سوى الهدوء المخيف، مصحوباً بأصوات القصف التي تشتد وتيرتها ليلاً، وأصوات الطيور التي تحلق نهاراً فوق أنقاض البيوت. مرت 4 أشهر على الحاج أبو عمر كأربع قرون، في كل يوم كان يلفظ أنفاسه الأخيرة ببطء، ومع اقتراب أصوات الرصاص والقصف من بيته في حي الجلاء، غربي مدينة غزة، وفي لحظة لم يتوقعها، اقتحم جيش الاحتلال الصهيوني الحي ليداهم البيوت فيه، ويقوم بقتل أي شخص متواجد في هذه المنازل، وبقي الحاج أبو عمر مختبئاً في غرفة صغيرة في بيته، وقلبه يخفق رعباً، وكان يشعر بأن العالم انكمش إلى تلك الغرفة الصغيرة، وكأن الزمن توقف، إلى أن سمع صوتاً بعد أسبوع يعلن انتهاء تلك الليالي السوداء، فخرج إلى حديقته، واستنشق الهواء العليل، وكأنه يخطو من صفحة مأساوية إلى فصل جديد. ولم يمض وقت طويل حتى طُرق بابه، وحمل معه الأمل على هيئة ابن أخته عبد الرحمن وزوجته عُلا الدحدوح، الصحافية التي تحولت قصتها إلى عنوان عريض في الصحف، وابنهما كرم ذي العامين، والذي لم يعرف الحياة إلاّ في ظل الحرب، فنزحوا إلى بيته، ليجد نفسه محاطاً بأمل جديد بعد تهديد بيتهم في حي الزيتون. وبعد أسابيع، بعد أن عانت الأسواق جرّاء ندرة الخضروات وارتفاع أسعارها بجنون، إذ كان يصل سعر الكيلو الواحد من الطماطم إلى 100 شيكل، وبدأت الأمور تستقر بالتدريج؛ فاستغل الحاج أبو عمر هذه الفرصة ليشتري بعض البذور، وطلب من عُلا مساعدته في زراعتها، وقد كانت تعتبر الحاج أبو عمر أباً لها، فلم تتردد لحظة في مساعدته، وكانت تعمل بجد واجتهاد، وكأنها تزرع مستقبلاً أفضل لهم جميعاً، ولم تكن تبخل بوقتها أو جهدها، إنما كانت تسعى دائماً لإسعاد الآخرين، وتزرع البذور بفرح وحماسة، وكأنها ترسم لوحة جميلة في الحديقة. لقد زرعا بذور الملوخية والباذنجان والطماطم وغيرها في تلك الأرض التي شهدت الكثير من المعاناة. وبينما كانت الشتلات الصغيرة تخرج من الأرض، كان الحاج أبو عمر يجلس على الأرض، ويشعر بفرحة غامرة، فنظر إلى صفوف الطماطم الخضراء التي بدأت في النمو، وابتسم قائلاً: "هذه الأرض مباركة يا عُلا، ستطعمنا جميعاً"، فابتسمت عُلا، وردّت: "نعم، ستكون جنتنا الصغيرة" ، وكأن هذه البذور هي التي ستنقذهم من هذا الوضع الصعب. لكن وراء هذا الأمل، كان هناك خوف من المستقبل، ومن أن تفقد هذه البذور أملها وتذبل، فلم يكونا يعلمان أن هذا الأمل الصغير سيتحول قريباً إلى ألم كبير.

في 30 أيار/مايو، هز الحيَ دوي انفجارات عنيفة بثلاثة صواريخ باغتت المنزل المجاور لبيت الحاج أبو عمر، فهرعت عُلا لاحتضان صغيرها كرم كي لا يصيبه أي أذى، فطالت قذائف الصواريخ عُلا، ولقيت حتفها على الفور، لتلحق بموكب الصحافيين الذين تم اغتيالهم لعدم إيصال الحقيقة إلى العالم، ونجا صغيرها، لكن لم يسلم الحاج أبو عمر أيضاً، فقد قضى نحبه وهو يشاهد الفاجعة. أمّا عبد الرحمن، فقد نجا بأعجوبة، لكنه فقد الوعي في إثر إصابة بليغة في قدمه. استشهد الحاج أبو عمر والصحافية عُلا قبل أن يتذوقا من ثمار زرعهما في الحديقة، ودُفن في اليوم التالي، ولم يودع الحاج أحداً من عائلته الذين بقوا في الجنوب. وهكذا، فقد تتكررت مأساة ما حدث مع والده الذي استشهد في سجون الاحتلال بعد أسره في حرب النكسة سنة 1967، ودُفن من دون أن يودعه أحد من أفراد عائلته.

واستمرت الحياة في الحديقة على الرغم رحيل من زرعها، شاهدةً على عطاء أبو عمر وإيمانه بالأرض، وأصبحت ملاذاً آمناً للجيران، يلتقون فيه، ويستعيدون ذكرياتهم معه. وعلى الرغم من أن أسعار الخضروات عادت إلى الغلاء الفاحش أكثر من السابق، إذ أصبح سعر حبة الطماطم الواحدة يصل إلى 70 شيكلاً، فإن ثمار الحديقة أصبحت مصدر طعام لأهل المنطقة. أمّا عبد الرحمن، فكان غارقاً في بحر من الحزن والألم على رحيل زوجته عُلا، وكانت إصابته في قدمه تذكّره يومياً بفاجعة فقدانها، فيشعر بالعجز أمام مصاعب الحياة، لكنه كان يجد في تربية ابنه كرم قوةً تدفعه إلى المضي قُدُماً؛ فكان يرى في عينيه انعكاساً لزوجته، إذ يحاول أن يكون له الأب والأم معاً. وعلى الرغم من التحديات التي يواجهها، فإنه يجد في الحديقة ملاذاً آمناً، ودائماً يحلم بمستقبل أفضل لكرم، ويأمل أن يتمكن من توفير حياة كريمة له.

Yasser Manna
نجوم منتخب كرة الطائرة إبراهيم قصيعة (يمين) وحسن زعيتر (مواقع التواصل) استشهدا بقصف إسزائيلي على مخيم جباليا.
Ayham al-Sahli
Maher Charif
Uday al-Barghouthi
Kareem Qurt
Yumna Hamidi